تفصیل الشریعة فی شرح تحریرالوسیلة: الاجارة

اشارة

سرشناسه : فاضل لنکرانی، محمد، 1310 - 1386.

عنوان قراردادی : تحریر الوسیله . برگزیده. شرح

عنوان و نام پديدآور : تفصیل الشریعة فی شرح تحریرالوسیلة: الاجارة/ تالیف محمد الفاضل اللنکرانی ؛ تحقیق مرکز فقه الائمةالاطهار.

مشخصات نشر : قم: مرکز فقهی ائمه اطهار (ع)، 1392.

مشخصات ظاهری : 688 ص.

شابک : 978-964-7709-09-5

وضعیت فهرست نویسی : فیپا

يادداشت : عربی.

يادداشت : کتابنامه: ص. [669]- 676؛ همچنین به صورت زیرنویس.

موضوع : خمینی، روح الله، رهبر انقلاب و بنیانگذار جمهوری اسلامی ایران، 1279 - 1368 . تحریر الوسیله -- نقد و تفسیر

موضوع : فقه جعفری -- رساله عملیه

موضوع : اجاره (فقه)

شناسه افزوده : خمینی، روح الله، رهبر انقلاب و بنیانگذار جمهوری اسلامی ایران، 1279 - 1368 . تحریر الوسیله. برگزیده. شرح

شناسه افزوده : مرکز فقهی ائمه اطهار (ع)

رده بندی کنگره : BP183/9/خ8ت30237212 1392

رده بندی دیویی : 297/3422

شماره کتابشناسی ملی : 3392331

[القسم الأول من كتاب الإجارة]

اشارة

كتاب الإجارة

تعريف الإجارة

[تعريف الإجارة] و هي إمّا متعلّقة بأعيان مملوكة من حيوان أو دار أو عقار أو متاع أو ثياب و نحوها، فتفيد تمليك منفعتها بالعوض. أو متعلّقة بالنفس، كإجارة الحرّ نفسه لعمل، فتفيد غالباً تمليك عمله للغير بأُجرة مقرّرة، و قد تفيد تمليك منفعته دون عمله، كإجارة المرضعة نفسها للرضاع لا الإرضاع (1).

______________________________

(1) الكلام في الإجارة تارةً في معناها اللغوي و أُخرى في معناها الاصطلاحي:

أمّا الأوّل: فهي على ما صرّح به البعض بل الكثير بمعنى الأُجرة و كراء الأجير «1»، و ليست مصدراً ثلاثياً أو مزيداً و قد حكي عن الصحاح: أنّه اقتصر على ذكر الأجر مصدراً لأجَرَ الثلاثي و ذكر الإيجار مصدراً لآجر من باب الإفعال «2» لكن المحكي عن نجم الأئمّة أنّه مصدر لأجر الثلاثي «3»، و عليه فمعناه معنى الأجر الذي هو مصدر آخر له، كالكتب و الكتابة، و كيف كان فلم يثبت كون الإجارة في اللغة بمعنى الإيجار الذي هو متعدّ. نعم، ظاهر رواية تحف العقول المعروفة الواردة في أقسام المكاسب و أحكامها أنّها بهذا المعنى، حيث قال: و أمّا

______________________________

(1) معجم مقاييس اللغة: 1/ 63، قاموس المحيط: 1/ 376، لسان العرب: 1/ 43، مسالك الأفهام: 5/ 171.

(2) الصحاح: 1/ 480.

(3) شرح شافية ابن الحاجب: 3/ 54.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 8

..........

______________________________

تفسير الإجارات فإجارة الإنسان نفسه أو ما يملك «1» .. كما أنّه ربما يستعمل في كلمات الفقهاء رضي اللّٰه عنهم أيضاً بهذا المعنى كما في عبارة المتن، لكن الرواية غير ثابتة، و على تقدير الثبوت لا تكون كاشفة عن كونه بحسب اللغة كذلك؛ لأنّه ربما يرى في الروايات ألفاظ مستعملة على غير ما هو

المذكور في اللغة، مثل استعمال الإجناب متعدّياً مع أنّه في اللغة لازم.

و استفادة صحّة استعمال الإجارة بمعنى الإيجار من كلمة «الأجير» التي يتداول استعمالها نظراً إلى كون المراد به هو من آجر نفسه للغير، أو من قوله تعالى حكاية عن قصّة موسى عليه السلام عَلىٰ أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمٰانِيَ حِجَجٍ .. «2» نظراً إلى كون المراد به هو أخذه أجيراً و استئجاره لتلك المدّة، ممنوعة، فإنّه ليس المراد بالأجير من آجر نفسه، بل من خدم بعوض، و كذلك معنى الآية الشريفة، فلا يستفاد منهما كون الإجارة بمعنى الإيجار.

نعم، لا ينبغي الإشكال، في أنّ الاستعمال العرفي مساعد لذلك، و لكنّه لا ينتج فيما يهمّنا من التمسّك بالإطلاق على فرض وجوده إلّا بعد ثبوت كون الاستعمال العرفي في زمان صدور الإطلاق أيضاً كذلك، و لا سبيل لنا إلى إثباته بعد عدم مساعدة اللغة.

فانقدح أنّه على فرض وجود الإطلاق و كون المستعمل لفظ الإجارة لا مجال للتمسّك به أصلًا، فتدبّر.

و أمّا الثاني: أي الإجارة بمعناها الاصطلاحي فقد عرّف بتعاريف مختلفة

______________________________

(1) تحف العقول: 333، وسائل الشيعة: 17/ 85، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب 2 ح 1.

(2) سورة القصص 28: 27.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 9

..........

______________________________

من تمليك المنفعة بعوض كما هو المشهور «1» أو التسليط على العين للانتفاع بها «2» أو جعل العين بالأُجرة «3»، أو كونه عقداً ثمرته نقل المنفعة «4»، و نحو ذلك.

و الإنصاف أنّ جعل الإجارة بمعنى العقد المساوق في اصطلاح الفقهاء للإيجاب و القبول ممنوع جدّاً، فإنّها ليست من مقولة اللفظ بل من المعاني الاعتبارية، المتداولة بين العقلاء قبل أن يتديّنوا بدين أو يلتزموا بشريعة، غاية الأمر أنّ الشارع

قد اعتبرها و أمضاها من دون أن يتصرّف في حقيقتها، فلا ريب في كونها من الأُمور الاعتبارية المتحقّقة باللفظ و مثله، فهو أي اللفظ و ما يشابهه له دخل في تحقّق ذلك الأمر الاعتباري و حصوله من دون أن يكون نفسه.

و أمّا سائر التعاريف فالظاهر أنّها ليست تعريفاً للإجارة، بحيث يكون الحمل حملًا أوّلياً ذاتيّاً، نظير حمل الحيوان الناطق على الإنسان، أ ترى كون الإجارة مساوقة لتمليك المنفعة بعوض، خصوصاً بعد إمكان انتقاضها بالعارية المعوّضة بناءً على صحّتها، كما ربما يحكى عن العلّامة في بعض كتبه «5» فالإنصاف عدم كون التعريفات المذكورة تعريفاً بالحدّ، كما أنّ الظاهر أنّه لا يمكن التعبير بما هو حقيقتها إلّا بنحو الإشارة المخرجة له عن التعريف.

و حينئذٍ ينقدح أنّ الأسلم من الجميع ما في الجواهر من أنّ الإجارة ما شرّع

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 2/ 179، اللمعة الدمشقية: 94، المهذّب البارع: 3/ 17. و قال في التذكرة ج 2/ 291: «أطبق عليه الجمهور».

(2) العروة الوثقى: 5/ 8.

(3) مستمسك العروة الوثقى: 12/ 4، و انظر حاشية كتاب المكاسب للآخوند الخراساني: 32.

(4) قواعد الأحكام: 2/ 281، مناهج المتّقين: 307.

(5) تذكرة الفقهاء: 2/ 211.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 10

..........

______________________________

لنقل المنفعة بعوض «1» بعد ظهور أنّه لا يكون المراد بالتشريع هو التشريع من قبل الشارع؛ لعدم كونها من الماهيات المجعولة الشرعية كما عرفت، بل المراد به هو الاعتبار العقلائي الممضى في الشريعة.

و حينئذٍ فالإجارة هي التي يكون الغرض الأصلي منها هو نقل المنفعة بذلك، و لا ينتقض بالعارية المعوّضة بعد وضوح كون الاعتبار الأوّلي في العارية هو النقل مجّاناً و في الإجارة خلافه. نعم، جعل الغرض من الإجارة خصوص نقل

المنفعة مخدوش، فإنّه ربما تكون فائدة الإجارة تمليك العمل، كما في إجارة الحرّ نفسه للخياطة و نحوها، فالأولى في التعريف ما أفاده سيّدنا المحقّق الأُستاذ البروجردي قدس سره في التعليقة على العروة من أنّ الإجارة بمعناها الاسمي إضافة خاصّة يعتبرها العقلاء في العين المستأجرة بالنسبة إلى المستأجر، مستتبعة لملكه، أو استحقاقه لمنفعتها أو عملها، أو لتسلّطه عليها بتلك الجهة، و لذلك لا تستعمل إلّا متعلّقة بالعين «2».

و ظاهر المتن الموافقة معه، حيث إنّه بيّن في هذه العبارة الغرض المترتّب على الإجارة، و صرّح في المسألة الأُولى بكونها عبارة عن الإضافة الخاصّة، و الفرق بينهما إنّما هو في أنّ ظاهر المتن الجزم بكون الفائدة هي الملكيّة. غاية الأمر أنّه قد يكون المملوك هي المنفعة، و قد يكون هو العمل، و ظاهر عبارة التعليقة الترديد في أنّ الفائدة هل يكون هو الملكيّة، أو يكون هو الاستحقاق، أو يكون هو التسلّط، و الأمر سهل.

______________________________

(1) جواهر الكلام: 27/ 204.

(2) العروة الوثقى: 5/ 7، التعليقة 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 11

[عقد الإجارة]

مسألة 1: عقد الإجارة: هو اللفظ المشتمل على الإيجاب الدّال بالظهور العرفي على إيقاع إضافة خاصة مستتبعة لتمليك المنفعة أو العمل بعوض و القبول الدّال على الرضا به و تملّكهما بالعوض. و العبارة الصريحة في الإيجاب: «آجرتك أو أكريتك هذه الدار مثلًا بكذا». و تصحّ بمثل «ملّكتك منفعة الدار» مريداً به الإجارة، لكنّه ليس من العبارة الصريحة في إفادتها. و لا يعتبر فيه العربيّة، بل يكفي كلّ لفظ أفاد المعنى المقصود بأيّ لغة كان. و يقوم مقام اللفظ الإشارة المفهمة من الأخرس و نحوه كعقد البيع. و الظاهر جريان المعاطاة في القسم الأوّل منها؛

و هو ما تعلّقت بأعيان مملوكة، و تتحقّق بتسليط الغير على العين ذات المنفعة قاصداً تحقّق معنى الإجارة أي الإضافة الخاصّة و تسلّم الغير لها بهذا العنوان. و لا يبعد تحقّقها في القسم الثاني أيضاً بجعل نفسه تحت اختيار الطرف بهذا العنوان، أو بالشروع في العمل كذلك (1). عقد الإجارة

______________________________

(1) يقع الكلام في هذه المسألة في مقامين:

المقام الأوّل: في جريان المعاطاة و صحّتها في الإجارة، و الظاهر أنّه لا ينبغي الإشكال فيه كما في البيع و أمثاله؛ و وجهه أنّ المعاملات كما مرّت الإشارة إليه إنّما هي الأُمور الاعتبارية المتداولة بين العقلاء قبل الشريعة، و الشرع إنّما هو ناظر إليها بالكيفية المتعارفة بينهم. غاية الأمر تصرّف الشارع أحياناً في بعض خصوصيّاتها، فلا بدّ حينئذٍ من النظر في أنّ الأصل الأوّلي الملحوظ لدى العقلاء هل هو التوسّل بأغراضهم المختلفة في باب المعاملات من ناحية الفعل الخارجي، أو أنّ الطريق عندهم في الأوّل كان هو اللفظ؟

قد يقال كما قيل: بأنّ الفعل حيث يكون أقرب إلى الغرض ضرورة أنّ النقل

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 12

..........

______________________________

الخارجي و إعطاء المبيع للمشتري مثلًا أقرب إلى ما هو الغرض في البيع؛ من حصول التمليك و التملّك من التلفّظ بكلمة «بعتُ» التي لا ملائمة بينها و بين ذلك الغرض تكويناً، و كذلك سائر المعاملات، فلذلك يكون الطريق الأوّلي عند العقلاء هو العمل و الفعل بداعي الوصول إلى الغرض المقصود، و أمّا الوصول إليه من ناحية اللفظ فيمكن أن يقال بعدم ثبوته بينهم و انحصار الطريق في العمل، و عليه فيحتاج دعوى تحقّق الغرض في الشرع بإيجاد اللفظ بداعي حصوله إلى قيام الدليل عليه، كما أنّه قام الدليل

في النكاح، فعلى هذا المبنى الاكتفاء باللفظ إنّما يفتقر إلى الدليل لا أنّه مسلّم، و صحّة المعاطاة مشكوكة كما عليه الفقهاء رضوان اللّٰه عليهم جلّهم لولا كلّهم، و ليس المراد بالعقود في آية وجوب الوفاء بها خصوص الألفاظ المركّبة من الإيجاب و القبول، فإنّ المراد بالعقد هو العهد و القرار المرتبط بقرار آخر أعمّ ممّا إذا كان لفظاً، بل يمكن أن يقال بالاختصاص بغير اللفظ؛ لأنّ النظر في الآية إنّما هو إلى العقود المتعارفة بين العقلاء، و قد عرفت أنّ المتعارف بينهم إنّما هو الوصول إلى الأغراض من طريق العمل الخارجي، الذي هو أقرب إليها بل هو القريب دون اللفظ.

و الظاهر أنّ دعوى اختصاص التعارف بغير اللفظ مجازفة، فإنّ ما نراه بالوجدان أنّ الالتزامات اللفظية بين العقلاء شائعة جدّاً، و ليست في طول الأفعال الخارجية، بحيث كان الانتقال إليها في مورد عدم التمكّن من الفعل لأجل اختلاف المكان و نحوه، بل الظاهر كون الألفاظ في عرض الأفعال لا في طولها، و حينئذٍ فلا حاجة في الاكتفاء باللفظ إلى إقامة دليل خاص عليه. نعم، يبقى الإشكال على الفقهاء رضوان اللّٰه عليهم على حاله، حيث إنّ ظاهرهم التسلّم على كفاية اللفظ و الاستشكال في كفاية الفعل.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 13

..........

______________________________

و دعوى أنّه يمكن أن يكون السرّ فيه أنّ دلالة اللفظ على المقصود أقوى من دلالة الفعل؛ لأنّه يحتمل فيه ما لا يحتمل في اللفظ، مدفوعة بأنّ ذلك خروج عن محلّ البحث؛ لأنّ مورده ما إذا كان المقصود معلوماً غير محتمل الخلاف، و حينئذٍ يشكل كون الحكم في الفعل أصعب من اللفظ.

ثمّ إنّه على تقدير لزوم إقامة الدليل على كفاية اللفظ في

المعاملات نقول: إنّه بعد الفحص و التتبّع في الروايات الواردة في الإجارة لم يظهر من شي ء منها دلالة على ذلك، بل و لا إشعار. نعم، هناك رواية واحدة مذكورة في الوسائل في باب الإيجاب و القبول من الإجارة؛ و هي رواية أبي حمزة، عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن الرجل يكتري الدابّة فيقول: اكتريتها منك إلى مكان كذا و كذا فإن جاوزته فلك كذا و كذا زيادة، و يسمّي ذلك قال: لا بأس به كلّه «1». و ربما تتوهّم دلالتها على ذلك و لكنّه مدفوع، كما يظهر بالتأمّل فيها.

و كيف كان، فلا إشكال في جريان المعاطاة في الإجارة كسائر المعاملات. غاية الأمر إنّه فيما إذا كان متعلّق الإجارة عيناً مملوكة كالدار و شبهها تكون كيفيتها بتسليط الغير على العين، قاصداً تحقّق معنى الإجارة و تسلّم الغير لها بهذا العنوان، كتسليط الغير على العين في باب البيع قاصداً تحقّق معناه. و أمّا فيما إذا كان متعلّقها هي النفس التي لا يمكن أن تكون مملوكة فيشكل جريان المعاطاة فيه، و قد نفى البعد عن تحقّقها في هذا القسم في المتن، بأن يجعل نفسه تحت اختيار الطرف بهذا العنوان أو بالشروع في العمل كذلك، و الوجه فيه أنّ متعلّق الإجارة هي النفس، فجعلها تحت اختيار الطرف مع قصد الإجارة

______________________________

(1) الكافي: 5/ 289 ح 2، التهذيب: 7/ 214 ح 938، وسائل الشيعة: 19/ 111، كتاب الإجارة ب 8 ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 14

..........

______________________________

يكفي في تحقّقها.

نعم، على تقدير عدم الكفاية يمكن أن يقال بعدم كفاية الشروع في العمل، بل اللازم إيجاده بتمامه حتّى يعدّ ذلك إعطاء للعمل، كما أنّ ما

ذكر مبنيّ على اعتبار التعاطي من الطرفين، أو اعتبار الإعطاء من جانب الموجب، و أمّا على تقدير الاكتفاء بالإعطاء من جانب القابل أيضاً فيمكن فرض المعاطاة في هذا القسم من ناحية الأُجرة إذا كانت عيناً.

المقام الثاني: في عقد الإجارة، و ليعلم أنّه قد وقع الخلاف في صيغ العقود على أقوال و احتمالات ستّة أوردها المحقّق الرشتي قدس سره في كتابه في الإجارة:

الأوّل: اعتبار الصراحة؛ بمعنى اعتبار كون اللفظ موضوعاً لعنوان ذلك العقد لغة أو شرعاً، فلا ينعقد بالمجازات و لو مع القرائن الصريحة، و لا بالكنايات كذلك، حكى هذا القول عن العلّامة الطباطبائي في مصابيحه، و أرجع إليه ما عن الفخر في الإيضاح «1»: من أنّ كلّ عقد مخصوص له صيغ مخصوصة شرعاً، فلا بدّ من الاقتصار على القدر المتيقّن، بناءً على أنّ ما عداه ليس منه.

الثاني: الاقتصار على خصوص ألفاظ الكتاب و السنّة في التعبير عن العقد في مقام بيان أحكام العقود، قال: و هو محتمل الإيضاح «2» و المسالك «3».

الثالث: عدم اعتبار الصراحة بشي ء من احتمالاتها، قال: و لم أجد مصرّحاً به، لكن في كتاب الأُستاذ العلّامة رفع اللّٰه مقامه أنّ المستفاد من النصوص في أبواب

______________________________

(1) إيضاح الفوائد: 3/ 12.

(2) إيضاح الفوائد: 2/ 291.

(3) مسالك الأفهام: 5/ 172.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 15

..........

______________________________

العقود و قوّاه جماعة من متأخّري المتأخّرين «1» الاكتفاء بكلّ لفظ له ظهور عرفيّ «2»، و يمكن استفادته أيضاً من القول بجواز الإجارة ب «أعرتك» كما عن الإرشاد «3» و الروض «4» و مجمع البرهان «5»، و بجواز البيع بالسلم كما عن الأكثر «6»، و بجواز النكاح بالمتعة كما عن جماعة «7»، خلافاً للمحكي عن

الأكثر «8»، و من التوسّع في عقد القرض و الرهن و المزارعة كما هو المعروف «9»؛ لأنّها عقود لازمة.

أقول: اختار هذا الاحتمال المحقّق الإصفهاني قدس سره في كتابه في الإجارة، نظراً إلى عدم مدخلية شي ء من القول و الفعل في حقيقة العقد و العهد، فضلًا عن اعتبار كونه من الحقائق أو الأعمّ منها و من المجازات الشائعة. قال: و منه تعرف أنّ التسبّب إلى حقيقة الإجارة بقوله: «أعرتك الدار شهراً بعوض كذا» لا مانع منه فضلًا عن «بعت سكنى الدار» «10».

______________________________

(1) كالمقدس الأردبيلي في مجمع الفائدة و البرهان: 10/ 7 9، و المحدّث البحراني في الحدائق الناضرة: 18/ 350 351، و المحقّق النراقي في مستند الشيعة: 14/ 248 249.

(2) كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري: 3/ 120.

(3) إرشاد الأذهان: 1/ 422.

(4) حكى عنه في مفتاح الكرامة: 7/ 74.

(5) مجمع الفائدة و البرهان: 10/ 9، لكن قيّده بما إذا ضمّ إليه شي ءٌ يدلّ على الإجارة.

(6) منهم: العلّامة في قواعد الأحكام 2: 44، و الشهيد في الدروس الشرعية: 3/ 247، و المحقّق الكركي في جامع المقاصد: 4/ 207، و نسبه الشهيد الثاني إلى الأكثر في مسالك الأفهام: 3/ 405.

(7) كالمحقّق في شرائع الإسلام: 2/ 273، و المختصر النافع: 271، و العلّامة في قواعد الأحكام: 3/ 9 و إرشاد الأذهان: 2/ 6، و الشهيد في اللمعة: 109.

(8) رياض المسائل: 6/ 339.

(9) كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري: 3/ 123 124.

(10) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 8.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 16

..........

______________________________

الرابع: مثل الثالث باستثناء المجازات بالمعنى الأعمّ الشامل للكناية بمعنى التعبير باللّازم، و قد استظهره من بعض مشايخه.

الخامس: مثل الثالث أيضاً باستثناء المجاز البعيد. قال: و قد

سبق نقله «1» عن المحقّق الثاني في نكاح جامع المقاصد «2»، و سَلَمِه «3».

السادس: مثل الثالث أيضاً باستثناء التعويل على القرائن غير اللفظية «4»، و الظاهر أنّ الاقتصار على القدر المتيقن يقتضي اختيار الوجه الأوّل، إلّا أنّ ملاحظة ما هو المتعارف بين العقلاء بضميمة عدم نهوض دليل على اعتبار أمر زائد عليه تقتضي الاكتفاء بكلّ ما كان له ظهور عرفيّ في الغرض المقصود، و لم يكن مستنكراً عندهم، و عليه فالمجازات البعيدة كالتعبير في مقام الإجارة بالعارية، و في مقام البيع بالصلح بناءً على كونه عقداً مستقلا عند العقلاء في قبال سائر العقود لا تكفي في تحقّق ذلك الغرض؛ لعدم التعارف و وجود الاستنكار.

و ممّا ذكرنا ظهر أنّ التعبير في مقام الإجارة بقوله: «ملّكتك منفعة الدار» لا مانع منه أصلًا، كما أنّه من جميع ما ذكرنا ظهر عدم اعتبار العربية، و قيام الإشارة المفهمة من الأخرس مقام العقد.

______________________________

(1) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 34.

(2) جامع المقاصد: 12/ 70.

(3) جامع المقاصد: 4/ 207 208.

(4) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 34 35.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 17

[شرائط صحّة الإجارة]

مسألة 2: يشترط في صحّة الإجارة أُمور: بعضها في المتعاقدين؛ أعني المؤجر و المستأجر، و بعضها في العين المستأجرة، و بعضها في المنفعة، و بعضها في الأُجرة.

أمّا المتعاقدان، فيعتبر فيهما ما اعتبر في المتبايعين: من البلوغ، و العقل و القصد، و الاختيار، و عدم الحجر لفلس أو سفه أو نحوهما.

و أمّا العين المستأجرة: فيعتبر فيها أُمور:

منها: التعيين، فلو آجر إحدى الدارين أو إحدى الدابّتين لم تصحّ.

و منها: المعلوميّة، فإن كانت عيناً خارجيّة؛ فإمّا بالمشاهدة، و إمّا بذكر الأوصاف التي تختلف بها الرغبات في إجارتها. و كذا لو

كانت غائبة أو كانت كلّية.

و منها: كونها مقدوراً على تسليمها، فلا تصحّ إجارة الدابّة الشاردة و نحوها.

و منها: كونها ممّا يمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها، فلا تصحّ إجارة ما لا يمكن الانتفاع بها، كما إذا آجر أرضاً للزراعة مع عدم إمكان إيصال الماء إليها و لا ينفعها، و (أو ظ) لا يكفيها ماء المطر و نحوه. و كذا ما لا يمكن الانتفاع بها إلّا بإذهاب عينها، كالخبز للأكل، و الشمع أو الحطب للإشعال.

و منها: كونها مملوكة أو مستأجرة، فلا تصحّ إجارة مال الغير إلّا بإذنه أو إجازته.

و منها: جواز الانتفاع بها، فلا تصحّ إجارة الحائض لكنس المسجد مباشرة.

و أمّا المنفعة: فيعتبر فيها أُمور:

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 18

منها: كونها مباحة، فلا تصحّ إجارة الدكّان لإحراز المسكرات أو بيعها، و لا الدابّة و السفينة لحملها، و لا الجارية المغنّية للتغنّي و نحو ذلك.

و منها: كونها متموّلة يبذل بإزائها المال عند العقلاء.

و منها: تعيين نوعها إن كانت للعين منافع متعدّدة، فلو استأجر الدابّة يعيّن أنّها للحمل، أو الركوب، أو لإدارة الرحى و غيرها. نعم، تصحّ إجارتها لجميع منافعها، فيملك المستأجر جميعها.

و منها: معلوميّتها، إمّا بتقديرها بالزمان المعلوم، كسكنى الدار شهراً، أو الخياطة، أو التعمير و البناء يوماً. و إمّا بتقدير العمل، كخياطة الثوب المعيّن خياطة كذائية فارسية أو رومية؛ من غير تعرّض للزمان إن لم يكن دخيلًا في الرغبات، و إلّا فلا بدّ من تعيين منتهاه.

و أمّا الأُجرة: فتعتبر معلوميّتها، و تعيين مقدارها بالكيل أو الوزن أو العدّ في المكيل و الموزون و المعدود، و بالمشاهدة أو التوصيف في غيرها. و يجوز أن تكون عيناً خارجيّة، أو كلّيّاً في الذمّة، أو

عملًا، أو منفعة، أو حقّا قابلًا للنقل؛ مثل الثمن في البيع (1).

______________________________

(1) الكلام في هذه المسألة المفصّلة بعد ملاحظة أنّ شرائط المتعاقدين في باب الإجارة هي الشرائط المتقدّمة في باب البيع، ضرورة أنّ تلك الشرائط إنّما تعتبر في المتعاقدين بما هما كذلك، و لا خصوصيّة للبيع في اعتبارها يقع في مقامات ثلاثة:

المقام الأوّل: في الأُمور المعتبرة في العين المستأجرة، و هي كثيرة:

الأوّل: التعيين، فلو آجر إحدى الدارين أو إحدى الدابّتين لم تصحّ، و اعتباره زائداً على اعتبار المعلومية يعطي أنّ ملاك البطلان مع عدم التعيين ليس هو الجهل المقابل للعلم، و لذا اعترض المحقّق الإصفهاني قدس سره على من استدلّ للبطلان مع عدم

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 19

..........

______________________________

التعيين بالتجهّل بما يرجع إلى أنّ الجهل هو عدم العلم بنحو العدم المقابل للملكة، فما لم يكن له واقع لا معنى للعلم به تارةً، و للجهل به اخرى، و عدم العلم بعدم المعلوم لا يكون من الجهل المقابل للعلم، و المقام من هذا القبيل؛ لعدم ثبوت الواقعية للماهية غير المتعيّنة بشي ء من التعيّنات، فيستحيل أن تكون مقوّمة لصفة الملكيّة «1».

و يرد عليه: أنّ ما أفاده من عدم ثبوت الواقعيّة مع عدم التعيّن بحسب الخارج ممنوع؛ لأن واقعية كلّ شي ء إنّما هي بحسبه، فإذا كان الشي ء من الموجودات الخارجية و الأُمور الجزئية الشخصية فواقعيته مساوقة للتعين الخارجي، و لا يعقل أن يكون غير متعيّن، و لا أن يكون مقوّماً لصفة الملكيّة أو غيرها من الصفات الأُخر مع وصف عدم التعيّن، فلا معنى لتعلّق العلم أو الجهل به مع هذه الصفة، و أمّا إذا لم يكن الشي ء من الموجودات الخارجية، بل كان ظرف وجوده

الذهن، فواقعيته إنّما تلاحظ بالإضافة إلى الذهن، و لا يكون التردّد بحسب الخارج قادحاً في تعلّق العلم به بالنظر إلى واقعيته، فإذا كانت العين المستأجرة إحدى الدارين المعلومتين من جميع الجهات، و المتماثلتين في الصفات الموجبة لاختلاف الرغبات لكان اللّازم تعلّق العلم بهذا العنوان المتعلّق للإجارة؛ و هو عنوان أحدهما الذي لا يكون ظرف وجوده و وعاء تحقّقه إلّا الذهن، و من الواضح إمكان تعلّق العلم بهذا العنوان و كذا الجهل.

و بالجملة: فما هو متعلّق الإجارة و طرف الإضافة الخاصّة هو عنوان أحدهما الذي يكون متحقّقاً في الذهن، و متّصفاً بوصف المعلوميّة لثبوت الواقعيّة له

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 76.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 20

..........

______________________________

بالإضافة إلى ظرف وجوده، و ما لا يمكن تعلّق العلم به لأجل عدم ثبوت الواقعية له هو المردّد الخارجي، و هو لا يكون متعلّقاً للإجارة و طرفاً للإضافة، فما أفاده قدس سره من قبيل الخلط بين المفهوم و المصداق الذي ربما يتّفق كثيراً.

و يدلّ على ما ذكرنا أنّه لا خلاف بينهم في أنّه يجوز أن تكون الأُجرة في الإجارة كليّة، كما أنّه يجوز أن تكون جزئية شخصية مع جريان ما ذكره من الإشكال في الأُجرة الكليّة، ضرورة أنّ ما هو المجعول اجرة هو الأمر الكلّي الذي لا يكون متعيّناً في الخارج، و لا يكون ظرف وجوده إلّا الذهن، و ما هو الموجود في الخارج الذي يكون متعيّناً لم يجعل أُجرة، فكما أنّ معلومية ذلك الأمر الكلّي الذي تلاحظ واقعيته بالإضافة إلى ظرف وجوده تكفي في جعله أُجرة، و لا معنى لدعوى عدم إمكان تعلّق العلم به كذلك عنوان أحدهما في المقام. غاية الأمر أنّ

هذا العنوان لا تتجاوز مصاديقه عن اثنين، و هذا لا يكون فارقاً بل مؤيّد لتحقّق وصف المعلومية.

فانقدح ممّا ذكرنا أنّه لا مانع من كون متعلّق الإجارة مثل إحدى الدارين؛ لما عرفت من أنّ عنوان «أحدهما» كسائر العناوين الكليّة له واقعية، و يمكن تعلّق العلم به، و لا دليل على اعتبار أزيد من ذلك، و منه يظهر أنّه لو آجر العبد من العبدين المعلومين من حيث الصفات و الخصوصيات يكون جائزاً بطريق أولى.

و أمّا لو آجر هذا أو ذاك مشيراً إليهما فربما يقال بعدم الجواز، نظراً إلى أنّه لا يكون متعلّق الإجارة حينئذٍ أمراً ذهنيا يكون ظرف وجوده و وعاء تحقّقه النفس، كما لو جعل الأُجرة أو متعلّق الإجارة عنوان أحدهما، بل هو أمر خارجيّ مردّد بين أمرين، و لا يكون له واقعية حتّى يتعلّق بها العلم تارة و الجهل اخرى، ضرورة أنّ الموجود في الخارج متعيّن، فالمردّد بما هو مردّد لا يكون موجوداً في

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 21

..........

______________________________

الخارج حتّى يكون متعيّناً، فالإيجار بهذا النحو محكوم بالبطلان.

و ربما يجاب عن ذلك بأنّه لا مانع من الإجارة بهذه الكيفية أيضاً؛ لأنَّ المقام حينئذٍ يصير كالعلم الإجمالي المتعلّق بأحد الشيئين، فكما أنّ تردّد المعلوم في موارد العلم الإجمالي لا يمنع عن تعلّق العلم به. غاية الأمر كونه موجباً لاتصاف العلم بالإجمال في مقابل العلم التفصيلي الذي لا تردّد في معلومه، كذلك التردّد في المقام لا يقدح في تعلّق العلم بما هو متعلّق الإجارة، غاية الأمر كونه معلوماً بنحو الإجمال. و كذلك المقام نظير الواجب التخييري بناءً على كونه سنخاً من الوجوب متعلّقاً بأمرين أو أزيد فكما أنّه لا مانع من إيجاب

أمرين أو أزيد بنحو الوجوب التخييري الذي مرجعه إلى عدم لزوم الإتيان بأزيد من أحدهما مثلًا بواسطة الإتيان بكلمة «أو» و نحوها، كذلك لا مانع من جعل المتعلّق في المقام كذلك.

و يرد على هذا الجواب بطلان مقايسة المقام بموارد العلم الإجمالي، و ذلك لأنّه في تلك الموارد يكون المعلوم بالإجمال له واقعية و تعيّن. غاية الأمر أنّ المكلّف مردّد لا يعلم بأنّ هذا الطرف من العلم الإجمالي هو ذلك المعلوم أو ذاك الطرف، و أمّا في المقام فالمفروض أنّ متعلّق الإجارة لا يكون متعيناً بحسب الواقع؛ لأنّه مردّد من أوّل الأمر، و قد تعلّق به الإجارة كذلك، فلا يعقل أن يتّصف بالمعلومية و المجهوليّة.

و أمّا تنظير المقام بالواجب التخييري فمحل نظر بل منع أيضاً؛ لأنّه هناك يكون كلّ واحد من الأمرين أو الأُمور معروضاً للوجوب و متصفا بكونه واجباً. غاية الأمر أنّه لا يجب الإتيان بالجميع؛ لأنّ هذا أيضاً سنخ من الوجوب مغاير للوجوب التعييني، و هنا لا تكون الإجارة متعلّقة إلّا بأحد الأمرين لا بعنوان أحدهما، بل

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 22

..........

______________________________

بالمردّد بينهما، و هو كما عرفت لا يكون له واقعية حتّى يتعلّق بها العلم تارة و الجهل أُخرى، فالإنصاف أنّه لا مجال للحكم بالصحّة في هذا الفرض.

الثاني: أن يكون معلوماً، و المراد به المعلوميّة بالإضافة إلى الصفات التي تختلف بها الرغبات من حيث إجارتها، و قد استدلّ على اعتباره تارةً بالإجماع على أنّ الجهالة مبطلة للإجارة كما عن المختلف «1»، و بأنّا لا نعلم فيه خلافاً كما عن التذكرة «2». و أُخرى بكون بناء العقلاء على ذلك «3». و ثالثة بما أرسله الشهيدان 0 في القواعد «4»

و المسالك «5» من أنّه نهى النبيّ صلى الله عليه و آله عن الغرر «6»، أو بقوله عليه السلام: نهى النبيّ صلى الله عليه و آله عن بيع الغرر «7»، بناء على إلغاء خصوصية البيع و استفادة المناط.

أقول: أمّا الإجماع، فالظاهر عدم كونه دليلًا مستقلا بعد وضوح كون المستند سائر الوجوه.

و أمّا بناء العقلاء، فهو لا ينطبق على المدّعى؛ لأنّه عبارة عن كون العين معلومة من جميع الجهات التي لها دخل في اختلاف الرغبات، و يختلف بحسبها الأغراض

______________________________

(1) مختلف الشيعة: 6/ 105 مسألة 4.

(2) انظر تذكرة الفقهاء: 2/ 300، و لكن ليس فيه نفي الخلاف.

(3) مستند العروة الوثقى، كتاب الإجارة: 33.

(4) القواعد و الفوائد: 2/ 61.

(5) مسالك الأفهام: 5/ 178 179.

(6) و كذا ذكره الشيخ في الخلاف: 3/ 319، مسألة 13، و العلّامة في مختلف الشيعة: 5/ 267 مسألة 235، و لكن لم توجد في كتب حديث الخاصّة و العامّة، و إنّما الموجود النهي عن بيع الغرر.

(7) عيون أخبار الرضا عليه السلام: 2/ 45 ح 168، دعائم الإسلام: 2/ 21 ح 34، وسائل الشيعة: 17/ 448، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة ب 40 ح 3، عوالي اللئالي: 2/ 248 ح 17.

و انظر صحيح مسلم: 3/ 932 ح 1513، و سنن ابن ماجة: 3/ 36 ح 2195، و سنن أبي داود: 3/ 435 ح 3376، و السنن الكبرى للبيهقي: 8/ 93 ح 10554، و الموطأ: 430 ب 34 ح 1370.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 23

..........

______________________________

و المالية، و المعلومية بهذا المعنى لم يثبت بناء العقلاء عليها.

و أمّا النهي عن الغرر، فيرد عليه مضافاً إلى كونه مرسلًا لا يصحّ الاعتماد عليه، و

انجباره بعمل الأصحاب غير معلوم. نعم، ذكر الشيخ الأعظم قدس سره: إنّ اشتهار الخبر بين العامّة و الخاصّة يجبر إرساله «1» أنّ الغرر ليس بمعنى الجهالة، بل هو عبارة عن الخطر و التعرض للمهلكة، و عليه فالظاهر كون النهي نهياً مولويّاً مفاده حرمة التعرّض للمهلكة و لا ارتباط له بباب المعاملات، بل هو نظير قوله تعالى وَ لٰا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ «2».

و أمّا النهي عن بيع الغرر فلا يمكن أن يكون مستنداً في باب الإجارة إلّا بعد إلغاء الخصوصية، و دعوى كون ذكر البيع إنّما هو لأجل كونه الغالب في باب المعاوضات، و هي غير ثابتة كما لا يخفى، و لكنّها تؤيّد بفهم الأصحاب على ما سيجي ء. ثمّ إنّه لو كانت العين المستأجرة عيناً خارجية حاضرة فطريق العلم بها إمّا المشاهدة الرافعة للجهالة، و إمّا ذكر الأوصاف التي تختلف بها الرغبات في إجارتها، و أمّا إذا كانت غائبة أو كانت كلية فالطريق منحصر بذكر الأوصاف؛ لعدم إمكان المشاهدة للغيبة، أو لعدم كونها جزئية.

الثالث: أن تكون العين المستأجرة مقدوراً على تسليمها، فلا تصحّ إجارة الدابّة الشاردة و نحوها، و قد جعله في الشرائع من شرائط المنفعة «3»، و لا بأس بالتعرّض لاعتبار هذا الأمر مفصلًا، فنقول:

قد وقع الاتفاق من العامّة و الخاصّة على اعتبار القدرة على تسليم العوضين في

______________________________

(1) كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري: 4/ 176.

(2) سورة البقرة 2: 195.

(3) شرائع الإسلام: 2/ 186.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 24

..........

______________________________

المعاوضات، بيعاً كان أو إجارة أو غيرهما «1». نعم، حكي عن الفاضل القطيفي المنع عن ذلك «2»، لكنّ العبارة المحكية عن إيضاح النافع «3» لا تكون صريحة في مخالفة المشهور بل المجمع

عليه؛ لإمكان حملها على بعض الفروض التي لا يختص القائل بالصحّة فيها به، و كيف كان فمدرك اعتبار هذا الأمر في المعاوضات أُمور:

الأوّل: ما استدلّ به الفريقان العامّة و الخاصّة على اعتبار القدرة على التسليم؛ و هو النبوي المتقدّم الدالّ على النهي عن بيع الغرر أو عن الغرر، و هذا هو العمدة في الباب، و قد عرفت ما أفاده الشيخ الأعظم قدس سره من أنّ الاشتهار بين الفريقين يجبر إرساله، و لكنّه يقع الكلام فيه من حيث الدلالة في ثلاث جهات:

الجهة الاولى: في معنى الغرر، و الظاهر أنّ معناه الحقيقي عبارة عن الخديعة الملازمة للغفلة و عدم الالتفات، و لأجله يفسّر بالغفلة أيضاً. قال في الصحاح: «الغِرّة: الغفلة. و الغارّ: الغافل، و اغتَرَّهُ: أي أتاه على غِرَّةٍ منه، و اغترّ بالشي ء: أي خدع به» «4» و يشهد له حديث الغرور المعروف، و هو أنّ المغرور يرجع إلى من غرّه «5». و أمّا تفسيره بالخطر كما عن غير واحد من كتب اللغة

______________________________

(1) راجع الخلاف: 3/ 168 مسألة 274، و غنية النزوع: 211 و 285، و تذكرة الفقهاء: 1/ 466، و مجمع الفائدة و البرهان: 10/ 58.

(2) حكى عنه الشيخ الأنصاري في كتاب المكاسب: 4/ 190.

(3) حكى عنه في مفتاح الكرامة: 4/ 224.

(4) الصحاح: 1/ 622.

(5) لم يوجد في كتب الحديث، لكن حكي انتسابه إلى النبيّ صلى الله عليه و آله عن المحقّق الثاني في حاشية الإرشاد، راجع حاشية المكاسب للسيّد اليزدي: 1/ 179. و ذكره صاحب الجواهر بعنوان النصّ من أحد المعصومين عليهم السلام، جواهر الكلام: 37/ 145. و الظاهر أنّ إسناده كان مستنداً إلى ما هو المعروف لا إلى الوجدان في بعض كتب الحديث،

راجع القواعد الفقهية للمؤلّف دام ظلّه 1/ 216.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 25

..........

______________________________

كالصحاح «1» و الأساس «2» و المصباح «3» و المغرب «4» و المجمل «5» و المجمع «6»، فالظاهر أنّه لا يكون تفسيراً بالمعنى المطابقي بل تفسير باللّازم، كالتفسير المرويّ عن أمير المؤمنين عليه السلام من أنّه عمل ما لا يؤمن معه الغرور «7»، و كالتفسير المحكيّ عن الأزهري من أنّه ما كان على غير عهدة و لا ثقة «8».

و لكن الظاهر أنّ المراد من النبويّ هو هذا المعنى؛ لعدم كون الغرر بمعناه المطابقي موجباً لفساد المعاملة؛ لأنّ الخديعة بمعنى التدليس لا توجب إلّا الخيار لا البطلان و الفساد، مضافاً إلى فهم علماء المسلمين هذا المعنى من الحديث.

نعم، ربما يقال «9»: إنّ المنساق من الغرر المنهي عنه الخطر من حيث الجهل بصفات المبيع و مقداره، لا مطلق الخطر الشامل لتسليمه و عدمه، ضرورة حصوله في بيع كلّ غائب، خصوصاً إذا كان في بحر و نحوه، بل هو أوضح شي ء في بيع الثمار و الزرع و نحوهما، و بالجملة: لا تكون مخاطرة في بيع ما يكون مجهولًا بالإضافة إلى التسليم، خصوصاً بعد الجبر بالخيار عند التعذّر المحتمل.

______________________________

(1) الصحاح: 1/ 622.

(2) أساس البلاغة: 448.

(3) المصباح المنير: 445.

(4) المغرب في ترتيب المُعرَب: 189.

(5) مجمل اللغة: 532.

(6) لم نجد على التصريح به، نعم فيه ما يفيد ذلك، انظر مجمع البحرين: 2/ 1313.

(7) المغرب في ترتيب المُعرَب: 189 و قال في جواهر الكلام: 22/ 387: «و روى ابن أبي المكارم الفقهي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّ الغرر عمل ما لا يؤمن معه الضرر».

(8) حكى عنه ابن الأثير في النهاية: 3/ 355.

(9) القائل هو

صاحب الجواهر ج 22 ص 388.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 26

..........

______________________________

و يرد عليه: أنّ الخطر الناشئ من الجهل بحصول المبيع في يد المشتري أعظم من الجهل بالصفات مع العلم بالحصول، مع أنّ أهل اللغة قد مثّلوا للغرر بالمثالين المعروفين: و هما بيع السمك في الماء، و الطير في الهواء «1». و من الواضح أنّ الخطر فيهما ليس لأجل الجهل بصفاتهما، بل لأجل الجهل بأصل الحصول في اليد، فالإنصاف أنّه لا مجال للمناقشة في الاستدلال بالرواية من هذه الجهة.

الجهة الثانية: في دلالة النهي على الفساد، الذي هو المطلوب، و يكفي في هذه الجهة أنّ النواهي الواردة في باب المعاملات التي يكون المقصود من إيجادها الوصول إلى غرض خاص و هدف مخصوص لها ظهور ثانويّ في الإرشاد إلى الفساد على ما هو المتفاهم منها عند العرف و العقلاء، فالنهي الوارد في النبوي لا يراد به الحرمة التكليفيّة، بل الحرمة الوضعيّة الراجعة إلى فساد المعاملة مع ثبوت الغرر و عدم ترتّب الأثر المقصود منها عليها.

نعم، يمكن أن يناقش في الاستدلال به بعد تسليم ظهور النهي في الإرشاد إلى الفساد بأنّ غاية ما يدلّ عليه النبوي هو فساد البيع، بمعنى عدم كونه علّة تامّة لترتّب الأثر المقصود، فلا ينافي وقوعه مراعى بانتفاء صفة الغرر، و عليه فلا مانع من التزام وقوع بيع كلّ ما يعجز عن تسليمه منه مع رجاء التمكّن منه مراعى بالتمكّن منه في زمان لا يفوت الانتفاع المعتدّ به.

و لكن الظاهر أنّ هذا الاحتمال مخالف للظاهر، خصوصاً بعد ثبوت الاتّفاق من العلماء على فساد بيع الغرر، بمعنى عدم تأثيره رأساً، كما صرّح به فخر الدين في

______________________________

(1) الصحاح: 1/ 622، و

المغرب في ترتيب المُعرَب: 189، و لسان العرب: 5/ 23، و تاج العروس: 7/ 300، و مجمع البحرين: 2/ 1312.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 27

..........

______________________________

موضع من محكي الإيضاح «1». و بعد منع كون معنى فساد البيع هو عدم كونه علّة تامّة لترتّب الأثر المقصود، بحيث يلائم ذلك مع ثبوت الاقتضاء فيه، و إن توقّف تأثيره على حصول شرط أو ارتفاع مانع، فتأمّل.

الجهة الثالثة: في جريان النبوي في باب الإجارة، الذي هو محلّ كلامنا، و يكفي في ثبوت هذه الجهة على تقدير كون المنهيّ عنه هو بيع الغرر لا الغرر مطلقاً إلغاء الخصوصية و عدم اختصاص المناط بالبيع، و يؤيّده أنّ الأصحاب لم يفهموا منه الاختصاص، بل فهموا أنّ الخطر مانع عن تحقّق كلّ معاوضة، فالإنصاف تماميّة الاستدلال بالنبويّ لاعتبار القدرة على تسليم العوضين في جميع المعاوضات.

الأمر الثاني: الروايات المتضمّنة لنهي النبي صلى الله عليه و آله و سلم عن بيع ما ليس عنده «2».

قال الشيخ الأعظم قدس سره في تقريب الاستدلال بها: بناء على أنّ كونه عنده لإيراد به الحضور الذي هو المعنى الحقيقي لجواز بيع الغائب و السلف إجماعاً، فهي كناية لا عن مجرّد الملك؛ لأنّ المناسب حينئذٍ ذكر لفظة «اللام»، و لا عن مجرّد السلطنة عليه و القدرة على تسليمه؛ لمنافاته لتمسك العلماء من الخاصّة و العامّة على عدم جواز بيع العين الشخصية المملوكة للغير، ثمّ شرائها من مالكها خصوصاً إذا كان وكيلًا عنه في بيعه و لو من نفسه، فإنّ السلطنة و القدرة على التسليم حاصلة هنا، مع أنّه مورد الرواية عند الفقهاء، فتعيّن أن يكون كناية عن السلطنة التامّة الفعلية التي تتوقّف على الملك، مع كونه

تحت اليد حتّى كأنّه عنده و إن كان غائباً، و على أيّ

______________________________

(1) إيضاح الفوائد: 1/ 430.

(2) الفقيه: 4/ 4 ح 1، وسائل الشيعة: 17/ 357، كتاب التجارة، أبواب عقد البيع و شروطه ب 12 ح 12، سنن ابن ماجة: 3/ 32 ح 2187، السنن الكبرى للبيهقي: 8/ 95 ح 10559، المستدرك على الصحيحين: 2/ 21 ح 2185.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 28

..........

______________________________

حال فلا بدّ من إخراج بيع الفضولي عنه بأدلّته، أو بحمله على النهي المقتضي لفساده؛ بمعنى عدم وقوعه لبائعه لو أراد ذلك، و كيف كان فتوجيه الاستدلال بالخبر على ما نحن فيه ممكن «1».

و لكن الظاهر أنّ هذا التعبير كناية عن مجرّد عدم الملك، كما يشهد به التتبع في الروايات التي استعلمت فيها هذه العبارة، و أُريد بها عدم الملك في كلام السائل أو الإمام عليه السلام، و لا بأس بنقل جملة منها، فنقول:

منها: رواية ابن سنان، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: لا بأس بأن تبيع الرجل المتاع ليس عندك تساومه، ثمّ تشتري له نحو الذي طلب، ثمّ توجبه على نفسك، ثمّ تبيعه منه بعد «2».

و منها: رواية أُخرى لابن سنان قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الرجل يأتيني يريد مني طعاماً أو بيعاً نسيئاً و ليس عندي، أ يصلح أن أبيعه إيّاه و أقطع له سعره ثمّ أشتريه من مكان آخر فأدفعه إليه؟ قال: لا بأس به «3».

و منها: رواية عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الرجل يأتيني يطلب مني بيعاً و ليس عندي ما يريد أن أُبايعه به إلى السنة أ يصلح لي أن

أعده حتّى أشتري متاعاً فأبيعه منه؟ قال: نعم «4».

و منها: رواية معاوية بن عمّار قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: يجيئني الرجل يطلب

______________________________

(1) كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري: 4/ 183 184.

(2) التهذيب: 7/ 49 ح 212، الكافي: 5/ 201 ح 7، وسائل الشيعة: 18/ 48، كتاب التجارة، أبواب أحكام العقود ب 8 ح 1.

(3) التهذيب: 7/ 49 ح 213، وسائل الشيعة: 18/ 49، كتاب التجارة، أبواب أحكام العقود ب 8 ح 2.

(4) التهذيب: 7/ 50 ح 217، وسائل الشيعة: 18/ 50، كتاب التجارة، أبواب أحكام العقود ب 8 ح 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 29

..........

______________________________

منّي بيع الحرير و ليس عندي منه شي ء، فيقاولني عليه و أُقاوله في الربح و الأجل حتّى نجتمع على شي ء، ثمّ أذهب فأشتري له الحرير فأدعوه إليه، الحديث «1».

و منها: رواية إسحاق بن عمّار و عبد الرحمن بن الحجاج جميعاً قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الرجل يشتري الطعام من الرجل ليس عنده فيشتري منه حالّا؟ قال: ليس به بأس، قلت: إنّهم يفسدونه عندنا، قال: و أيّ شي ء يقولون في السلم؟ قلت: لا يرون به بأساً يقولون: هذا إلى أجل، فإذا كان إلى غير أجل و ليس عند صاحبه فلا يصلح، فقال: فإذا لم يكن إلى أجل كان أجود (أحقّ به خ ل) ثمّ قال: لا بأس بأن يشتري الطعام و ليس هو عند صاحبه حالّا، و إلى أجل، فقال: لا يسمّي له أجلًا، الحديث «2».

و منها: غير ذلك من الروايات الظاهرة في أنّ المراد بهذه العبارة مجرّد عدم الملكيّة، و عليه فالنبويّ الدالّ على النهي عن بيع ما ليس عنده لا يرتبط

بالمقام بوجه، بل يرتبط بباب الفضولي الذي لا يكون العاقد فيه مالكاً و لا مأذوناً من قبله.

إن قلت: إنّ هذه الروايات التي استشهد بها لا تنافي ما أفاده الشيخ الأعظم في عبارته المتقدّمة في معنى كونه عنده، فإنّه اعتبر في جانب الوجود أمرين: الملكيّة، و كونه تحت اليد حتّى كأنّه عنده، و يكفي انتفاء أحدهما في جانب السلب و صدق كونه ليس عنه، فإذا انتفت الملكيّة يتحقّق هذا العنوان، و الروايات المذكورة لا تنافي ذلك.

______________________________

(1) التهذيب: 7/ 50 ح 219، وسائل الشيعة: 18/ 50، كتاب التجارة، أبواب أحكام العقود ب 8 ح 7.

(2) التهذيب: 7/ 49 ح 211، الفقيه: 3/ 179 ح 811، وسائل الشيعة: 18/ 46، كتاب التجارة، أبواب أحكام العقود ب 7 ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 30

..........

______________________________

قلت: ظاهر الروايات كما ذكرنا دوران هذا العنوان مدار الملكيّة و عدمها، لا مجرّد التحقّق مع عدم الملكيّة كما لا يخفى.

و من الأُمور التي استند إليها لاعتبار القدرة على التسليم أنّ بذل المال بإزاء ما لا يقدر على تسليمه و تسلّمه سفه غير عقلائي، فلا تعمّه الإطلاقات الدالّة على نفوذ المعاملات العرفية العقلائية، بل يكون مصداقاً لأكل المال بالباطل، المنهي عنه في الكتاب العزيز.

و يرد عليه مضافاً إلى أنّه ربما لا يكون الانتفاع متوقّفاً على حضور المبيع كما في عتق العبد الآبق-: أنّ بذل المال القليل في مقابل المال الكثير المحتمل الحصول ليس سفهاً، بل تركه اعتذاراً بعدم العلم بحصول العوض ربما يعدّ سفهاً عند العقلاء.

و قد تنظّر في هذا الجواب المحقّق الرشتي قدس سره بعد النقض بشراء مجهول الصفة كمّاً أو كيفاً الممنوع اتّفاقاً في العوضين، و ما في

حكمهما كالمحلّ و الشروط على الأشهر بأنّ المخاطرة حكمة في النهي عن الغرر، و هي سدّ باب التنازع و التشاجر بين المتعاقدين و ليست بعلّة. قال: و هذه الدعوى و إن كانت بنفسها منافية للوصف العنواني الملحوظ في النهي عن الغرر، إلّا أنّ بناء العامّة و الخاصّة على فهم الحكمة شاهد عليها «1».

و ليت شعري أنّه كيف يمكن أن يكون العنوان المتعلّق للنهي الذي يدور النهي مداره كما في كلّ عنوان حكمة، بحيث لم يكن الحكم دائراً مداره، أو لا يكون الموضوع مقوّماً للحكم، فالإنصاف أنّ بحث الحكمة لا يرتبط بمثل هذا المورد.

الأمر الثالث: أنّ لازم العقد وجوب تسليم كلّ من المتعاملين العوض إلى

______________________________

(1) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 293.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 31

..........

______________________________

صاحبه، فيجب أن يكون مقدوراً، لاستحالة التكليف بغير المقدور، و مع عدم اللّازم يستكشف عدم تأثير العقد، لامتناع انفكاك الملزوم عن لازمه.

و قد أجاب عن هذا الوجه المحقّق الإصفهاني قدس سره بما حاصله:

أنّ المراد من كون لزوم التسليم من لوازم العقد إمّا كونه من مقتضيات العقد عند الإطلاق، و إمّا كونه من لوازم المعقود عليه و هو الملك، و إمّا كونه من أحكام العقد؛ لكون التسليم مصداقاً للوفاء الذي وجوبه من أحكام العقد، و الكلّ مخدوش.

أمّا الأوّل: فلأنّ مدلول العقد في البيع تمليك العين و في الإجارة تمليك المنفعة، لا التمليك و اعتبار وضعي أو تكليفي آخر.

و أمّا الثاني: فهو صحيح بمقتضى دليل السلطنة، إلّا أنّ حرمة الامتناع و وجوب التسليم فرع التمكّن منه، فاللّازم ليس من اللوازم غير المفارقة حتّى يستحيل انفكاكه و يكون عدمه كاشفاً عن عدم الملزوم.

و أمّا الثالث: فهو مدفوع:

أوّلا: بابتنائه على

كون الأمر بالوفاء تكليفياً لا إرشاداً إلى اللزوم الوضعي، و أن يكون المراد به هو التكليف بالوفاء عملًا لا القيام بعهده بعدم حلّه.

و ثانياً: بأنّه لو كان دليل الوفاء دليلًا على صحّة العقد، بحيث تنتزع صحّته عن لزوم الوفاء به، كان عدم لزوم الوفاء عملًا لعدم القدرة كاشفاً عن عدم الصحّة، و أمّا إذا كان الأمر بالوفاء من أحكام العقد الصحيح فاشتراطه بالقدرة و تخلفه عند عدمها لا يكشف عن عدم صحّة العقد «1».

و منها: غير ذلك من الامور التي لا تنهض لإثبات الاعتبار، كأكثر الامور المتقدّمة.

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 250 251، مع تلخيص و اقتباس.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 32

..........

______________________________

و قد انقدح ممّا ذكرنا أنّ المستند في هذا الباب ينحصر في دليل الغرر المتقدّم.

و ينبغي التنبيه على أُمور: الأمر الأوّل: ذكر المحقّق الإصفهاني قدس سره إنّ الحاجة إلى دليل اعتبار القدرة على التسليم إنّما هو فيما كان لوجود المملوك مقام، و لتسليمه مقام آخر؛ كالعين في البيع، فإنّ المفروض وجودها إلّا أنّه مقدور على تسليمه تارةً و غير مقدور على تسليمه أُخرى، و كالمنفعة، فإنّها موجودة بوجود الدابّة مثلًا، إلّا أنّ تسليمها بتسليم الدابّة مقدور عليه تارةً و غير مقدور أُخرى، بخلاف الأعمال، فإنّ إيجادها و وجودها و تسليمها و تسلّمها واحد، فعدم القدرة على تسليم العمل مرجعه إلى عدم القدرة على إيجاده، و ما يمتنع إيجاده غير قابل للملكية، من دون حاجة إلى دليل آخر كدليل الغرر و غيره، كما أنّ العمل الذي يشك في القدرة عليه لا يمكن تمليكه منجّزاً، و تمليكه معلّقاً فاسد «1».

أقول: ما أفاده في الإجارة على الأعمال صحيح فيما إذا كان

العمل المستأجر عليه خصوص العمل الصادر من الأجير مباشرة، فإنّه مع امتناع صدور الخياطة عن الأجير لعدم اطّلاعه على فنّها أصلًا أو لجهة أُخرى لا يعقل تمليكها من الغير، فلا يصحّ الاستئجار عليه، و أمّا إذا لم يكن المستأجر عليه خصوص العمل الصادر من الأجير، بل كان الاستئجار واقعاً على خياطة الثوب و لو من غير الأجير، فإنّه حينئذٍ يعقل الانفكاك بين الملكيّة و القدرة على التسليم؛ لأنّه ربما لا يكون قادراً على التسليم مع ثبوت القابلية للملكيّة، نظير بيع السلف الذي يكون المبيع أمراً كليّاً ثابتاً في ذمة البائع، و هو قد يكون قادراً على تسليمه في

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 253.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 33

..........

______________________________

ظرفه، و قد لا يكون كذلك.

و بالجملة: فلا يرى فرق بين هذا القسم من الإجارة و بين بيع السلف أصلًا، و في كليهما نحتاج إلى الدليل على اعتبار القدرة على التسليم زائداً على حقيقة البيع و الإجارة المتقوّمة بالتمليك و التملّك.

الأمر الثاني: قد عرفت أنّ المستند الوحيد في باب اعتبار القدرة على التسليم إنّما هو دليل النهي عن الغرر، و عليه فالمدار على تحقّق هذا العنوان الذي مرّ أنّ المراد به هو الخطر «1»، و من الواضح أنّ الخطر عبارة عن عدم الوثوق بالحصول في اليد، و هو أمر وجداني لا يعقل الشكّ فيه، فإنّه على تقدير تحقّق الوثوق وجداناً لا يكون هناك غرر، و على تقدير عدمه يتحقّق هذا العنوان، و ليس للنفس حالة ثالثة، خصوصاً بعد ملاحظة كون الموضوع هو الغرر الشخصي، فلا مجال للشك أصلًا، كما أنّه لا يبقى حينئذٍ مجال للبحث عن أنّ القدرة شرط أو أنّ

العجز مانع؛ لعدم تعرّض الدليل لشي ء من القدرة و العجز، بل المدار على صدق عنوان الغرر كما عرفت.

نعم، بناء على كون القدرة شرطاً فربما يتخيّل الفرق بينه و بين مانعية العجز كما عن الجواهر «2»، نظراً إلى أنّه لا بدّ في الشرط من إحرازه، و يكفي في المانع عدم إحرازه لكون عدمه مطابقاً للأصل.

و يرد على هذا الكلام وجوه من الإشكال:

الأوّل: أنّ القدرة التي تحتمل شرطيّتها هل هي القدرة الواقعية بمجرّدها، أو

______________________________

(1) في ص 23.

(2) جواهر الكلام: 22/ 385.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 34

..........

______________________________

بضميمة العلم بها، أو أنّ الشرط هو العلم بالقدرة و لو لم يكن هناك قدرة واقعاً، و المراد بالعلم هو الوثوق لا خصوص اليقين القطعي؟ لا مجال للاحتمال الأوّل لعدم الدليل عليه، و الإجماع لا يكون له أصالة في مثل المقام، الذي يكون مستند المجمعين معلوماً، و حديث نهي الغرر قد عرفت أنّه لا دلالة له على ذلك «1»، كما أنّه لا وجه للاحتمال الثاني لعين الوجه المذكور، فالمتعيّن هو الاحتمال الثالث، و عليه لا يبقى موقع للترديد و الشكّ كما مر.

ثمّ إنّه ذكر الشيخ الأعظم قدس سره بعد اختياره شرطية القدرة و نفيه مانعية العجز في آخر كلامه: إنّ الشرط هي القدرة المعلومة للمتبايعين؛ لأنّ الغرر لا يندفع بمجرّد القدرة الواقعية «2».

و ظاهره اعتبار القدرة الواقعية و العلم معاً، مع أنّ الاستدلال بحديث الغرر لا يجدي في إثبات ذلك؛ لأنّ الحديث كما عرفت أجنبيّ عن الدلالة على اعتبار الأمر الواقعي.

الثاني: أنّ العجز لا يعقل أن يكون مانعاً، إمّا لأنّ المانع عبارة عن الأمر الوجودي الذي يلزم من وجوده العدم، و العجز لا يكون أمراً وجوديّاً؛

لأنّه عبارة عن عدم القدرة عمّن من شأنه صنفاً أو نوعاً أو جنساً أن يكون قادراً، و إمّا لأنّ المانع عبارة عمّا يقتضي ضدّ ما يقتضيه المقتضي الآخر، و العجز بالإضافة إلى عقد البيع لا يكون كذلك؛ لأنّه ليس له أثر هو ضدّ الملك الذي هو أثر العقد حتّى يمنع عن تأثيره.

______________________________

(1) في ص 23 24.

(2) كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري: 4/ 193.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 35

..........

______________________________

و قد ذكر من فسّر المانع بهذا التفسير: أنّ غاية ما في الباب أنّ عدم العجز شرط تأثير العقد، و ليس كلّ ما كان عدمه شرطاً يكون وجوده مانعاً. نعم، كلّ ما كان مانعاً بحقيقة المانعية يكون عدمه شرطاً لتأثير السبب الآخر عقلًا، و إلّا لزم انفكاك المعلول عن علّته التامّة «1».

و العجب منه أنّه ناقش في التفسير المعروف نظراً إلى أنّ استلزام الوجود للعدم محال، سواء كان بنحو الاقتضاء، أو بنحو الشرط، أو بنحو المعدّ؛ لأنّ العدم ليس بشي ء حتّى يكون أثر المقتضي، أو محتاجاً إلى فاعل أو قابل، أو إلى مؤثِّر «2»، مع أنّه اختار شرطيّة العدم في كلامه المذكور، فإنّ العدم كيف يعقل أن يكون مصحّحاً لفاعلية الفاعل أو متمّماً لقابلية القابل، حتّى يكون عدم المانع شرطاً لتأثير السبب، أو يقال: إنّ كلّ ما كان عدمه شرطاً لا دليل على كون وجوده مانعاً.

الثالث: الفرق بين الشرط و المانع، بأنّه يعتبر في الأوّل إحرازه و يكفي في الثاني عدم إحرازه محلّ نظر بل منع، فإنّ المانع أيضاً لا بدّ من إحراز عدمه، و كيف يكفي مجرّد الشكّ في ثبوت الممنوع، مع أنّ المانع أمر واقعي كما هو المفروض؟ نعم، يكفي إحراز عدمه

بسبب الأصل، و لا يحتاج إلى اليقين أو الطريق المعتبر، و هذا يجري في الشرط أيضاً، فلم يتحقّق الافتراق بينهما من هذه الجهة.

نعم، حيث إنّ العدم يكون مطابقاً للأصل غالباً بخلاف الوجود يكون إحراز العدم بالأصل أمراً سهلًا بخلاف إحراز الوجود.

الأمر الثالث: أنّ العبرة في الشرط المذكور إنّما هو بالوثوق بالحصول في اليد في زمان استحقاق التسليم، فلا ينفع الوثوق به حال العقد مع العلم بعدمه حال

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 254 255.

(2) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 254.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 36

..........

______________________________

استحقاق التسليم، بل و مع عدم العلم و الوثوق به حاله، و يترتّب على ذلك عدم اعتبار هذا الشرط أصلًا فيما إذا كانت العين المبيعة أو المستأجرة في يد المشتري أو المستأجر، و كذا فيما لا يستحقّ فيه التسليم رأساً، كما إذا اشترى من ينعتق عليه، فإنّه ينعتق بمجرّد الشراء و لا سبيل لأحد عليه أصلًا.

و ربما نوقش في هذا الفرض بأنّ انعتاق المبيع على المشتري الموجب لعدم استحقاقه التسليم من أحكام البيع و آثاره، و لا يكاد يترتّب عليه آثاره إلّا إذا كان واجداً لشرائط الصحّة، و منها القدرة على التسليم، فكيف يسقط ما يعتبر في صحّته بما يترتّب عليها من الآثار.

و لكنّ المناقشة مدفوعة بقصور الدليل عن الدلالة على الاعتبار في مثل هذا الفرض، و بعبارة اخرى انعتاق المبيع على المشتري الموجب لعدم استحقاقه التسليم و إن كان من أحكام البيع و آثاره، إلّا أنّ الدليل الدالّ على اعتبار القدرة على التسليم في صحّة البيع و كونها من شرائطها لا يدلّ على ذلك في مثل المقام؛ لعدم كون البيع غررياً أصلًا لتحقّق الانعتاق

بمجرّده.

و كذا لا يعتبر هذا الشرط فيما إذا لم يستحقّ التسليم بمجرّد العقد، إمّا لاشتراط تأخيره مدّة، و إمّا لتزلزل العقد كما إذا اشترى فضولًا، فإنّه لا يستحقّ التسليم في الأوّل إلّا بعد مجي ء المدّة، و في الثاني إلّا بعد إجازة المالك، فلا تعتبر القدرة على التسليم قبلهما.

بقي الكلام في هذا المقام في سائر الأُمور التي اعتبرها في المتن في العين المستأجرة، فنقول: أمّا اشتراط كونها مملوكة أو مستأجرة فهو يبتني على مسألة الفضولي المتقدّمة في البيع، فإن قلنا ببطلانها من رأس فلا تصحّ إجارة مال الغير رأساً، و إن قلنا بالصحّة و التوقّف على الإجازة فتصحّ معها، و أمّا سائر الشرائط

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 37

..........

______________________________

و الأُمور فقد ذكر المحقّق الإصفهاني قدس سره: إنّه لا حاجة إلى هذه الإضافات، لأنّ بعضها من مقوّمات الإجارة و بعضها مندرج في أحد الشرائط السابقة أو اللّاحقة، أمّا مسألة إجارة الخبز للأكل فهي خارجة عن حقيقة الإجارة؛ لأنّ المنافع حيثيات و شؤون للعين تستوفى منها تدريجاً، و ليس للخبز هذا الشأن، و أكله إتلافه لا استيفاء شأن من شؤونه.

و أمّا إجارة الأرض للزراعة، فإنّ استيفاء المنفعة تابع لإمكانها في مدّة الإجارة، و حيث لا تصلح الأرض للزراعة فعلًا فهي غير واجدة لهذه المنفعة، و الكلام في شرائط نفوذ الإجارة لا في مقوّمات حقيقة الإجارة، فما لا منفعة له لا تعقل في حقّه حقيقة الإجارة.

و أمّا مسألة كنس الحائض فهي منفعة غير مباحة، و إذا عمّمنا المملوكية إلى ملك التصرّف فهي لا تملك هذه المنفعة من نفسها حتّى تملّكها، فهي داخلة في سائر الشرائط «1».

[قال المؤلّف دام ظلّه في كتاب الإجارة الثاني]: ما

تصحّ إعارتها تصحّ إجارتها و هذه القاعدة معروفة من زمن الشيخ رحمه الله إلى هذه الأزمنة، و قد حكي عن المبسوط «2» و السرائر «3» نفي الخلاف فيها، و عن الغنية «4» نفي الخلاف

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 46 47.

(2) المبسوط: 3/ 221.

(3) السرائر: 2/ 456 قال فيه: «بلا خلاف، بل الإجماع منعقد على ذلك».

(4) غنية النزوع: 285.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 38

..........

______________________________

ممّن يعتدّ به و الإجماع أيضاً، و كذا عن الخلاف «1»، و قد وقع التصريح بها في الشرائع «2» و النافع «3» و التذكرة «4» و التحرير «5» و الإرشاد «6» و غيرها «7».

و المهمّ في هذا المقام أنّ هذه القاعدة هل هي قاعدة شرعية دلّ عليها دليل شرعي من نصّ أو غيره، حتّى يتكلّم في مفادها و يجوز التمسّك بها في موارد الشكّ في صحّة إجارة شي ء بعد الفراغ عن صحّة إعارته، أو أنّها قاعدة اصطيادية مأخوذة من ملاحظة موارد الإعارة و الإجارة، نظراً إلى تقاربهما من حيث عدم نقل العين، و كون الغرض الانتفاع بالمنافع و إن كان بينهما فرق من جهة ثبوت العوض في الإجارة دونها، و من جهة كون الإجارة مؤثِّرة في ملكيّة المنفعة و الإعارة في ملكيّة الانتفاع دون المنفعة، و لذا لا يجوز إجارة العين المستعارة، و من غيرهما من الجهات الأُخر؟ و الظاهر هو الوجه الثاني و أنّه لم يقم دليل شرعي على الملازمة، فلا مجال حينئذٍ لتفصيل الكلام فيها و النقض و الإبرام لعدم حجّيتها، و لكنّه حيث وقع التعرّض لها في عبارات القوم فنحن نتعرّض لها إجمالًا و نقول:

إنّ هذه القاعدة حيث تكون مذكورة بعنوان الضابطة و

لازمها حينئذٍ كليّة العكس؛ أعني ما لا تصحّ إعارتها لا تصحّ إجارتها، فلذا قد أورد عليها

______________________________

(1) الخلاف: 3/ 485 مسألة 1.

(2) شرائع الإسلام: 2/ 179.

(3) المختصر النافع: 247.

(4) تذكرة الفقهاء: 2/ 295.

(5) تحرير الأحكام: 1/ 242.

(6) إرشاد الأذهان: 1/ 425.

(7) كقواعد الأحكام: 2/ 282، و رياض المسائل: 6/ 17.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 39

..........

______________________________

بعدم كونها جامعة و مانعة أصلًا و عكساً؛ لتصريح الشيخ رحمه الله في الخلاف «1» و المبسوط «2» بعدم صحّة إجارة حائط مزوّق للنظر إليه و التفرّج و التعلّم منه؛ لأنّ المنع قبيح فأُجرته قبيحة، مع أنّ هذه العلّة لا تجري في العارية كما هو واضح، و قد صرّح الحلّي بصحّة إعارة الدراهم و الدنانير، و قوّى في آخر كلامه عدم صحّة إجارتهما «3»، و قد حكى المحقّق الأردبيلي عن التذكرة و غيرها الإجماع على عدم صحّة إجارة المنحة للحلب «4»، و إن ناقش فيه في مفتاح الكرامة و قال: قد تتبّعنا التذكرة فرأيناه قد ذكر في عدّة مواضع أنّه لا يجوز استئجار الشاة للحلب «5»، من دون حكاية إجماع صريح و لا ظاهر، و كذلك غير التذكرة «6» «7»، انتهى. و قد صرّحوا بجواز استئجار المرأة للإرضاع و الحرّ للعمل، مع أنّه لا تجوز إعارتهما.

و لأجل ذلك صرّح في جامع المقاصد «8» بأنّ هذه القاعدة أكثرية، و قيّد في التنقيح عبارة النافع بقوله: مع بقاء عينه «9»، و في المسالك عبارة الشرائع بقوله: بحسب الأصل أي القاعدة «10»، و كذا في غيرهما «11»؛

______________________________

(1) الخلاف: 3/ 501 مسألة 24.

(2) المبسوط: 3/ 240.

(3) السرائر: 2/ 475.

(4) مجمع الفائدة و البرهان: 10/ 68.

(5) تذكرة الفقهاء: 2/ 210 و

296.

(6) كقواعد الأحكام: 2/ 287.

(7) مفتاح الكرامة: 7/ 82.

(8) جامع المقاصد: 7/ 87.

(9) التنقيح الرائع: 2/ 255.

(10) مسالك الأفهام: 5/ 175.

(11) كاللمعة الدمشقية: 94، و مجمع الفائدة و البرهان: 10/ 67.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 40

..........

______________________________

و لأجل ذلك أيضاً صرّح المحقّق الرشتي رحمه الله «1» بأنّه لا يراد بذلك إعطاء الميزان و بيان الضابط، بل المراد هو بيان اشتراط صحّة إجارة الأعيان المملوكة بما يشترط به العارية، و هو كونها ذات منفعة مقصودة و أنّ المراد بالموصول كلّ عين مملوكة، و هذا لا ينافي أوسعية دائرة الإجارة من حيث ثبوتها في غير الأعيان المملوكة أيضاً و لا اشتراطها في الأعيان بشروط زائدة.

هذا، و التحقيق أنّ هذه القاعدة على فرض ثبوتها لا مانع من الأخذ بمقتضى ظاهرها، نظراً إلى أنّه لا دليل على المنع من الإجارة في الموارد المنقوضة، فإنّه لم يقم دليل على المنع من إجارة المنحة للحلب، و أيّ فرق بينه و بين إجارة الفحل للضراب و نحوها، و دعوى عدم بقاء العين فيها و هو شرط في صحّة الإجارة مدفوعة بأنّ العين المستأجرة هي المنحة، و هي باقية، و اللّبن إنّما يعدّ من منافعها، و مجرّد كون المنفعة هنا عيناً لا يمنع عن ذلك؛ لأنّ العين التي تعتبر بقاؤها هي ما اشتملت على المنفعة لا نفسها، و قد عرفت أنّ ما حكاه المقدس الأردبيلي عن التذكرة من الإجماع على عدم الجواز غير ثابت؛ لعدم حكاية إجماع فيها صريحاً و لا ظاهراً، كما ذكره صاحب المفتاح.

و كذا لا دليل على المنع من العارية في الموارد المنقوضة، فإنّ عدم تعارف استعارة المرأة للإرضاع و الحرّ للأعمال لا يوجب المنع، إذ

لم يقم دليل عليه بعد اجتماع الشروط المعتبرة في العارية فيها، فالإنصاف عدم تمامية شي ء من تلك النقوض، لكن قد عرفت أنّه لا فائدة في البحث عن هذه القاعدة بعد عدم كونها قاعدة شرعية؛ لعدم الدليل عليها مضافاً إلى

______________________________

(1) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 44.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 41

..........

______________________________

ما مرّ من اختلافهم في بيانها إطلاقاً و تقييداً، ضرورة أنّه لو كانت قاعدة شرعيّة لم يكن مجال لتقييدها من دون دليل عليه كما هو واضح، و لعلّ هذا هو السرّ في عدم تعرّض المحقّق الأصفهاني لهذه القاعدة أصلًا. [انتهى كلامه دام ظلّه من كتاب الإجارة الثاني].

المقام الثاني: فيما يعتبر في المنفعة، و هي أُمور متعدّدة أيضاً:

الأوّل: كونها مباحة، فلا تصحّ إجارة الدكّان لإحراز المسكرات أو بيعها و لا الدابّة و السفينة لحملها، و لا الجارية المغنّية للتغنّي و نحو ذلك.

و قد صرّح المحقّق قدس سره في الشرائع «1» بأنّه مع عدم وجود هذا الشرط لا تنعقد الإجارة، و عليه فهو من الشرائط المعتبرة في أصل الصحّة و الانعقاد، فما في شرح المحقّق الرشتي قدس سره عليه من تعليل عدم الانعقاد: بأنّ المحرّم غير مملوك للمؤجر، و من شرائط الإجارة ملكيّة المنفعة و وجودها، و أنّه كان على المصنّف ذكرهما أوّلًا «2»، يمكن الإيراد عليه بأنّ اعتبار كون المؤجر مالكاً للمنفعة إنّما هو في لزوم العقد لا في أصل الصحّة و الانعقاد؛ لعدم كون المعاملات الفضولية باطلة عنده من رأس، بل موقوفة على الإجازة، و عليه فاعتبار الإباحة يغاير اعتبار ملكيّة المؤجر، إلّا أن يقال إنّ مراده من ذلك عدم كون المنفعة المحرّمة مملوكة أصلًا، لا للمؤجر و لا لغيره، و

ذكر المؤجر ليس لأجل تخصيص عدم المملوكية به، ضرورة أنّه إذا لم تكن المنفعة المحرمة مملوكة لمالك العين فكيف يمكن أن تكون مملوكة لغيره، و من المعلوم أنّ اعتبار أصل ملكيّة المنفعة إنّما هو في الانعقاد

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 2/ 186.

(2) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 290.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 42

..........

______________________________

و الصحّة دون اللزوم.

و كيف كان، فالظاهر اتّفاق أصحابنا الإماميّة رضوان اللّٰه عليهم «1» على اعتبار هذا الشرط في صحّة الإجارة، و أنّه لا تنعقد مع حرمة المنفعة. نعم، عن الشهيد رحمه الله «2»: أنّه نسب إلى ابن المتوج القول بالتحريم و انعقاد الإجارة، كما عن أبي حنيفة و الشافعي من العامّة «3».

و الكلام في هذا البحث قد يقع فيما هو مقتضى القواعد، و قد يقع فيما يستفاد من الروايات الواردة في الباب:

أمّا الأوّل: فقد استدلّ على اعتبار هذا الشرط بلحاظه بوجوه:

منها: أنّ المنفعة المحرّمة لا تكون مملوكة بوجه، و لا يتعلّق بها ملك المؤجر حتّى يملكها غيره.

و يرد عليه: أنّه لم يقم دليل على تقابل الحرمة و الملكيّة و تنافيهما و عدم إمكان اجتماعهما، و ما ذكره المستدل مجرّد ادّعاء من دون بيّنة و برهان، مع أنّه في مثل الدار و الدكّان تكون المنفعة من شؤون العين القائمة بها، و المعروض للحرمة هو عمل المكلّف القائم به، فلا تكون المنفعة معروضة للحرمة حتّى تنافي مع الاتّصاف بالملكية، و في مثل الأجير و العمل المستأجر عليه يمكن أن يقال: بأنّ الحرمة تلائم الملكيّة و تؤيّدها، لا أنّها تنافيها و تضادّها، نظراً إلى أنّ مرجع ملكيّة العمل إلى كونه عملًا له، و له إضافة إليه يمكنه إيجاده و يعدّ من شؤونه

و من الأُمور القائمة به، و هذه الجهات لها دخل في الاتصاف بالحرمة، فإنّه لو لم يكن عملًا له و مضافاً إليه

______________________________

(1) راجع الخلاف: 3/ 508 مسألة 37، و غنية النزوع: 285، و نهج الحقّ و كشف الصدق: 508.

(2) حكى عنه في مفتاح الكرامة: 7/ 135.

(3) الخلاف: 3/ 508 مسألة 37، المبسوط للسرخسي 16/ 38.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 43

..........

______________________________

لما كان وجه لتوجّه التحريم إليه و اتّصافه بكونه فاعلًا للحرام، فالملكية لا تنافي الحرمة بوجه، بل هي دخيلة في ترتّبها و ثبوتها.

و منها: أنّ المنفعة المحرّمة لا ماليّة لها أصلًا، فلا تكون قابلة للمعاوضة عليها.

و يرد عليه: ما عرفت من عدم قيام الدليل على تقابل الحرمة و المالية، و النهي عن إيجادها في مثل العمل المستأجر عليه لا يرجع إلى سلب المالية و نفي كونها متّصفة بها، بل مرجعه إلى النهي عن إيجاد ما هو مال لأجل الملاك المقتضي للنهي، كما هو ظاهر.

و منها: أنّ حرمة المنفعة تسلب القدرة شرعاً، و الممنوع شرعاً كالممتنع عقلًا، و قد مرّ أنّ القدرة على التسليم من شرائط صحّة المعاوضة و نفوذها.

و فيه: ما عرفت في مبحث اعتبار القدرة على التسليم من أنّه لا منافاة بين ما هو المعتبر من القدرة بلحاظ دليل الغرر، و بين اتصاف المنفعة بكونها محرّمة.

و منها: قوله تعالى وَ لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ .. «1» حيث إنّه يدلّ على النهي عن أكل المال بالباطل، و ظاهره الحكم الوضعي بمعنى كونه إرشاداً إلى الفساد و البطلان. و ضعف الاستدلال به على المقام ظاهر.

و أمّا الثاني: فقد ورد في المنفعة المحرّمة روايتان:

إحداهما: رواية ابن أُذينة قال: كتبت إلى أبي

عبد اللّٰه عليه السلام: أسأله عن الرجل يؤاجر سفينته و دابّته ممّن يحمل فيها أو عليها الخمر و الخنازير؟ فقال: لا بأس «2».

ثانيتهما: ما عن صابر أو جابر، قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الرجل يؤاجر

______________________________

(1) سورة البقرة 2: 188.

(2) الكافي: 5/ 227 ح 6، التهذيب: 6/ 372 ح 1078، الاستبصار: 3/ 55 ح 180، وسائل الشيعة: 17/ 174، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب 39 ح 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 44

..........

______________________________

بيته فيباع فيه الخمر؟ قال: حرام أُجرته (أجره خ ل) «1».

و قد جمع المشهور بين الروايتين بحمل الاولى على ظاهرها؛ و هي الإجارة للحمل ممّن يفعل ذلك لا الإجارة لحمل الخمر و الخنزير، و الثانية على الإجارة لهذا الغرض «2» و إن كان هذا الحمل مخالفاً لظاهرها، إلّا أنّ الجمع بينهما يعينه كما صنعوا نظيره في باب البيع، حيث حملوا الأخبار الدالّة على صحة بيع العنب ممّن يجعله خمراً على ما إذا لم يكن البيع مقيّداً بهذه الغاية، و الأخبار الناهية على ما إذا كان لهذه الغاية «3».

و أمّا ما ورد في العمل فهي رواية تحف العقول المعروفة، المشتملة على قوله عليه السلام: و كلّ أمر منهيّ عنه من جهة من الجهات فمحرّم على الإنسان إجارة نفسه فيه أو له أو شي ء منه أو له ..

و قد ورد قبل هذه الفقرة قوله عليه السلام: فأمّا وجوه الحرام من وجوه الإجارة؛ نظير أن يؤاجر نفسه على حمل ما يحرم أكله أو شربه، أو يؤاجر نفسه في صنعة ذلك الشي ء .. «4»، و مع صراحة هذه الرواية في حرمة الاستئجار للعمل المحرّم لا يبقى مجال لما

عن مفتاح الكرامة من قوله: و لا أجد ذلك يعني الاستئجار للعمل المحرّم في أخبارنا. نعم، يستفاد ذلك من خبر جابر «5». و لعلّه لم يعتمد على رواية

______________________________

(1) الكافي: 5/ 227 ح 8، التهذيب: 6/ 371 ح 1077 و ج 7/ 134 ح 593، الاستبصار: 3/ 55 ح 179، وسائل الشيعة: 17/ 174، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب 39 ح 1.

(2) راجع التهذيب: 6/ 372، و الاستبصار: 3/ 56، و مجمع الفائدة و البرهان: 8/ 46 47، و رياض المسائل: 5/ 15.

(3) كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري: 1/ 123 125 و 129.

(4) تحف العقول: 334، وسائل الشيعة: 19/ 101، كتاب الإجارة ب 1 ح 1.

(5) مفتاح الكرامة: 7/ 135 136.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 45

..........

______________________________

تحف العقول، و إلّا فمن البعيد أن لا يكون مطّلعاً عليها.

ثمّ إنّه أورد على الجمع المشهور في باب البيع بوجهين:

أحدهما: ما أفاده سيّدنا العلّامة الأُستاذ الماتن دام ظله فيما صنّفه في المكاسب المحرّمة: من أنّ الروايات الدالّة على جواز بيع العنب ممّن يجعله خمراً مخالفة للكتاب «1» الدالّ على النهي عن التعاون على الإثم، و للسنّة المستفيضة الحاكية للعن رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله الخمر و غارسها «2» .. و لحكم العقل، و لروايات النهي عن المنكر، بل مخالفة لأُصول المذهب، و لقداسة مقام المعصوم عليه السلام، حيث إنّ الظاهر منها أنّ الأئمّة عليهم السلام كانوا يبيعون تمرهم ممّن يجعله خمراً و شراباً خبيثاً، و هو ممّا لا يرضى به الشيعة الإمامية، كيف! و لو صدر هذا العمل من أواسط الناس كان يعاب عليه، فالمسلم بما هو مسلم و الشيعي بما هو

كذلك يرى هذا العمل قبيحاً مخالفاً لرضى الشارع، فكيف يمكن صدوره من المعصوم عليه السلام «3»، و على تقدير رفع اليد عمّا ذكر نقول: إنّها معارضة مع ما يدلّ على المنع عن بيع الخشب ممّن يصنعه صليباً أو صنماً «4».

و مع رواية صابر المتقدّمة، الواردة في الإجارة، و الترجيح لهذه الروايات بالوجوه المذكورة.

و عليه فلا محيص من الالتزام بالحرمة مطلقاً، و لكنّها لا تقتضي فساد

______________________________

(1) سورة المائدة 5: 2.

(2) الكافي: 6/ 398 ح 10 و 429 ح 4، الفقيه: 4/ 4 ح 1، وسائل الشيعة: 17/ 224، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب 55 ح 3 و 4 و 5.

(3) المكاسب المحرّمة للإمام الخميني: 1/ 146 147.

(4) وسائل الشيعة: 17/ 176، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب 41.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 46

..........

______________________________

المعاملة، سواء وقعت معاطاة أو بالصيغة، و إن كان بينهما فرق من بعض الوجوه.

ثانيهما: ما أفاده المحقّق الإصفهاني قدس سره في كتاب الإجارة، و حاصله: أنّ الأعيان على قسمين:

منها: ما تتمحّض جهة الانتفاع به في الحرام كالخمر و الخنزير، فإنّ المنفعة المترقّبة من الاولى الشرب و من الثاني الأكل و هما محرّمان.

و منها: ما لا يكون كذلك، كالأعيان المباحة التي يمكن الانتفاع بها على جهة الحلال و الحرام كالعنب، فيؤكل تارةً و يعمل خمراً اخرى، و كالخشب يجعل سريراً تارةً و صليباً اخرى، و قد استفيد من رواية تحف العقول أنّ ما تمحّض في الجهة المحرّمة لا يجوز إيقاع أيّ عقد عليه، فيفهم منه أنّ تمحّضه في الانتفاع المحرّم يوجب سقوطه عن المالية شرعاً؛ لتقوّمها بالمنفعة الخاصّة به، و المفروض أنّ الشارع أسقط هذه المنفعة

عن درجة الاعتبار، و أنّ ما لم يتمحّض في الجهة المحرّمة باق على ماليّته، و إن انتفع به المشتري مثلًا في جهة الحرام، و من البيّن أنّ قصد الغاية المحرّمة لا يضيّق دائرة العين، كليّة كانت أو شخصيّة، كما أنّ المفروض عدم انحصار جهة الانتفاع به في الحرام.

و مجرّد قصد الغاية المحرّمة لا يوجب إلّا تحقّق عنوان الإعانة على الإثم، و البيع مع هذا العنوان و إن كان حراماً إلّا أنّ مثل هذه الحرمة لا يوجب فساد البيع، و ليس في أخبار باب بيع العنب رواية تدلّ على حرمة بيع العنب ليعمل خمراً، بل الموجود حرمة بيع الخشب ممّن يعمل صنماً أو صليباً «1»، مع دلالة الروايات المستفيضة

______________________________

(1) وسائل الشيعة: 17/ 176، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب 41.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 47

..........

______________________________

على جواز بيع العنب ممّن يعمل خمراً «1»، بل على جواز بيع الخشب ممّن يعمله برابط «2»، فحمل المشهور على التفصيل بين قصد الغاية المحرّمة و عدمه بلا وجه «3». هذا ما أفاده في مورد البيع.

و يرد عليه: أنّ عدم تمحض جهة الانتفاع بالعين في المنفعة المحرّمة و إن كان يوجب عدم سقوطه عن المالية شرعاً، و كذا قصد الغاية المحرّمة و إن كان لا يؤثّر في تضيق دائرة العين، كليّة كانت أو شخصية، إلّا أنّ ذلك لا يمنع من تعلّق النهي ببيعه مطلقاً، أو مع الاقتران بقصد الغاية المحرّمة، فإنّ ملاك النهي و تعلّق التحريم لا يدور مدار المالية وجوداً و عدماً، كما أنّه لا ينحصر بعنوان الإعانة على الإثم و حينئذٍ فيبقى عليه هذا السؤال؛ و هو أنّ ما يدلّ على النهي عن

بيع الخشب ممّن يعمل صنماً أو صليباً على ماذا يحمل؟ و كيف يجمع بينه و بين ما يدلّ على جواز بيع العنب ممّن يعمل خمراً؟ فهل يجمع بينهما باختلاف المورد، كما أفاده الشيخ الأعظم قدس سره «4»، و جعله قولًا فصلًا لو لم يكن قولًا بالفصل؟ أو بوجه آخر غير مذكور في كلامه. نعم، إيراده على المشهور بأنّ الجمع بنحو التفصيل بلا وجه حقّ؛ لعدم الشاهد عليه.

مع أنّه في صحيحة عمر بن أُذينة جمع بين الحكم بالجواز في البرابط و النهي في الصلبان، حيث قال: كتبت إلى أبي عبد اللّٰه عليه السلام: أسأله عن رجل له خشب فباعه ممّن يتّخذ برابط؟ فقال: لا بأس به، و عن رجل له خشب فباعه ممّن يتّخذ

______________________________

(1) وسائل الشيعة: 17/ 229، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب 59.

(2) وسائل الشيعة: 17/ 176، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب 41 ح 1.

(3) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 248 249.

(4) كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري: 1/ 131 132.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 48

..........

______________________________

صلباناً؟ قال: لا «1».

و من المعلوم أنّ الفارق بحسب هذه الصحيحة ليس وجود القصد و عدمه، بل كونه متّخذاً برابط أو صلباناً، فكيف يجمع بين الروايات بالنحو المشهور؟! كما أنّه بهذه الصحيحة يقع الإشكال فيما أفاده سيّدنا الأستاذ أيضاً، فإنّ إلغاء روايات الجواز نظراً إلى الوجوه التي أفادها لا يلائم مع الجمع بينه و بين النهي في رواية واحدة كما في الصحيحة، إلّا أن يلتزم بإلغاء صدرها أيضاً، و لكنّه لا يناسب مع ما هو المستفاد منها من كون الفارق اختلاف المحرّمات، و وقوع بعضها في مرتبة من الاهتمام دون البعض الآخر.

و بعبارة اخرى الصحيحة ناظرة إلى التفصيل و حاكمة بالفرق بين الصورتين، و معه لا يبقى مجال للإلغاء كما لا يخفى.

و بالجملة: هذه الصحيحة شاهدة على ما أفاده الشيخ الأعظم ممّا عرفت، و استبعاد التفصيل بين الصليب و الخمر مدفوع بما أفاده المستبعد في آخر كلامه من أنّ الصليب و إن كان عبارة عمّا يصنع شبيه ما صلب به المسيح على زعمهم و تخيّلهم إلّا أنّ صيرورته شعاراً لهم أوجبت الاهتمام به، و تحريم التسبّب إليه زائداً على غيره «2».

و ما أبعد بين ما أفاده سيّدنا الأُستاذ في مقام الجمع بين الروايات، و بين ما أفاده بعض الأعلام من أنّه على فرض تماميّة عدم الفصل بين موارد الروايات المجوّزة و المانعة يكون المقام من قبيل تعارض الدليلين، فيؤخذ بالطائفة المجوّزة؛ لموافقتها لعمومات الكتاب، كقوله تعالى أَوْفُوا بِالْعُقُودِ «3» و أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ «4» و تِجٰارَةً

______________________________

(1) الكافي: 5/ 226 ح 2، التهذيب: 6/ 373 ح 1082 و ج 7: 134 ح 590، وسائل الشيعة: 17/ 176، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب 41 ح 1.

(2) المكاسب المحرّمة للإمام الخميني: 1/ 148.

(3) سورة المائدة 5: 1.

(4) سورة البقرة 2: 275.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 49

..........

______________________________

عَنْ تَرٰاضٍ «1» «2» و تمام الكلام في باب البيع موكول إلى محلّه.

و أمّا الإجارة التي هي محلّ البحث هنا وردت في خصوصها روايات فالظاهر اختلاف حكمها مع البيع و عدم جواز قياس أحدهما بالآخر؛ لأنّ الأعمال ليست كالأعيان بحيث لا تكون قابلة للتقييد و التضييق، بل هي قابلة لأن تصير حصّة خاصّة كالكتابة المقيّدة بنسخ كتب الضلال، و الحمل المقيّد بكونه حراماً كحمل الخمر و الخنزير

مثلًا، و كذا المنافع، فإنّها أيضاً قابلة للتوسعة و التضييق، فمع التقييد بالجهة المحرّمة تكون هذه الحصّة كالخمر و الخنزير في سقوطها عن المالية شرعاً. نعم، لا بدّ من الجمع بين الروايات الواردة في خصوص الإجارة، و قد عرفت أنّ الجمع بالكيفية المشهورة ممّا لا شاهد له أصلًا.

و التحقيق أن يقال: أمّا رواية تحف العقول الواردة في الإجارة على الأعمال «3» فلا معارض لها فيه، فلا محيص عن الالتزام بالحرمة في باب الأعمال؛ لأنّها متلقّاة بالقبول عندهم.

و أمّا الروايتان المتقدّمتان «4» الواردتان في المنافع فيمكن الجمع بينهما بحمل الاولى على الحكم التكليفي، و الثانية على الحكم الوضعي؛ لأنّ الحكم بحرمة الأُجرة في الثانية صريح في البطلان و عدم الانعقاد، و أمّا نفي البأس الواقع في الرواية الأُولى و إن كان ظاهره أيضاً الصحّة و النفوذ، إلّا أنّ الظهور لا يقاوم الأظهر و النص، فيحمل بقرينة المقابل على خلاف الظاهر، و يحكم بكون المراد هو نفي

______________________________

(1) سورة النساء 4: 29.

(2) مصباح الفقاهة: 1/ 175.

(3) تقدّمت في ص 44.

(4) في ص 43 44.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 50

..........

______________________________

البأس بالنظر إلى التكليف، و لا ينافي البطلان و عدم النفوذ.

و على تقدير دعوى كون هذا الجمع تبرّعياً و لا شاهد عليه و لا يكون مقبولًا عند العقلاء نقول: لا بدّ من ترجيح الرواية الثانية؛ لكونها موافقة للمشهور «1» بل المجمع عليه «2»، و قد ثبت في محلّه أنّ الشهرة الفتوائية أوّل المرجّحات، و على كلا التقديرين يثبت المطلوب؛ و هو فساد الإجارة مع حرمة المنفعة و عدم حلّيتها.

ثمّ إنّه بناءً على لزوم الأخذ بمقتضى الرواية الدالّة على الفساد لا بدّ من الالتزام بفساد

الإجارة، و لو مع عدم تحقّق التضييق و التقييد بالجهة المحرّمة، فإذا آجر بيته ممّن يبيع فيه الخمر تكون الإجارة فاسدة و الأُجرة محرّمة، و لو مع عدم التقييد ببيع الخمر فيه، و عدم تحقّق القصد و التوصّل بالإجارة إلى وقوع الأمر المحرّم، بل هذه الصورة هي مورد الرواية، فإنّه لا يكاد يتّفق من المسلم مثل هذا التقييد، خصوصاً المسلم الذي يكون متقيّداً بالأحكام الشرعية، بل لا يبعد أن يقال بشمول الرواية لما إذا استفاد المستأجر المنفعة المحرّمة و لو لم يكن المؤجر عالماً به، بل و لا محتملًا له أصلًا؛ لأنّ إجارة البيت الواقعة في الرواية مطلقة، و مبايعة الخمر فيه أمر متفرّع عليه خارجاً، و هو يصدق مع عدم العلم، بل و مع عدم الاحتمال أيضاً، فتدبّر. هذا تمام الكلام في اعتبار إباحة المنفعة.

الثاني: من الأُمور المعتبرة في المنفعة أن تكون متموّلة يبذل بإزائها المال عند العقلاء، و الوجه فيه أنّ الإجارة من المعاوضات المالية عندهم، و قد مرّ أنّ الشارع لم يتصرّف في حقيقة الإجارة، بل غاية الأمر أنّه اعتبر بعض الخصوصيّات غير المرعيّة

______________________________

(1) راجع رياض المسائل: 6/ 33 34، و الحدائق الناضرة: 21/ 552.

(2) راجع الخلاف: 3/ 508 مسألة 37، و غنية النزوع: 285.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 51

..........

______________________________

لدى العقلاء «1»، فلا بدّ أن تكون المنفعة متموّلة لئلّا يكون بذل المال بإزائها سفهاً.

[قال المؤلّف دام ظلّه في كتاب الإجارة الثاني]:

استئجار الدرهم و الدينار قد تعرّض في الشرائع «2» بعد اعتبار إباحة المنفعة في صحّة الإجارة لحكم استئجار الحائط المزوّق للتنزّه بالنظر إليه، و تردّد في الحكم بالجواز و العدم بعد ما حكى الأوّل و نسبه

إلى قائل غير معلوم، و هذا يشعر بل يدلّ على كون هذا من فروع اعتبار إباحة المنفعة، مع أنّه ليس الأمر كذلك، فإنّ التنزّه الحاصل بمجرّد النظر لا يكون فيه شبهة الحرمة؛ لأنّه من قبيل الاستظلال بالحائط بدون إذن مالكه، بل الشبهة على تقديرها إنّما هي مع عدم الإذن، و المفروض الاستئجار الملازم لثبوت الإذن، و الحقّ أنّ هذه المسألة نظير استئجار الدينار و الدرهم للتزيين و أشباهها، و كان ينبغي على صاحب الشرائع ذكرها في طيّ نظيرها.

و كيف كان، فقد ذهب المشهور إلى جواز استئجار الدينار و الدرهم «3»، و حكيت المخالفة لهم صريحاً عن ابن إدريس «4»، و عن جماعة آخرين التردّد في الجواز و عدمه «5»، و ما يستفاد من الكلمات في وجه المنع أمران

______________________________

(1) مرّ في ص 11.

(2) شرائع الإسلام: 2/ 186.

(3) الخلاف: 3/ 510 مسألة 41، المبسوط: 3/ 250، شرائع الإسلام: 2/ 185، تذكرة الفقهاء: 2/ 294، إرشاد الأذهان: 1/ 423، جامع المقاصد: 7/ 127، مجمع الفائدة و البرهان: 10/ 22.

(4) السرائر: 2/ 479.

(5) كالعلّامة في قواعد الأحكام: 2/ 287، و نسب في الحدائق الناضرة: 21/ 609 الترديد إلى الشرائع و المختلف: 6/ 127 مسألة 27.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 52

..........

______________________________

أحدهما: عدم ثبوت أصل المنفعة، و لأجله لا يصحّ وقفهما.

ثانيهما: عدم كون منفعتهما متموّلة، و لأجله لا تضمن بغصبهما.

أمّا الأمر الأوّل: فقد أجاب عنه المحقّق الإصفهاني قدس سره بما ملخّصه: إنّ المنافع على قسمين: مقصودة و غير مقصودة، و المراد بالأُولى هي المنافع المترقّبة من الأعيان كلّ عين بحسبها، و هي المصحّحة لماليّة الأعيان، بحيث لولاها لم تكن العين ذات مالية، و بالثانية هي

المنافع الجزئية التي لا تناط مالية العين بوجودها، كالشمّ في التفّاح مع كون منفعته المقصودة هي الأكل، و حينئذٍ فمراد المانع من عدم ثبوت المنفعة إن كان عدم المنفعة رأساً فهو خلاف الواقع و خلاف المفروض، إذ الكلام فيما لو استأجر لمنفعة من المنافع كالتزيين و إن كان عدم المنفعة المقصودة فهو حقّ، إلّا أنّه لا دليل على اعتبار المنفعة المقصودة في باب الإجارة، و إن كانت معتبرة في باب البيع الذي هو مبادلة مال بمال؛ لأنّ الإجارة عبارة عن تمليك المنفعة، و هي مطلقة غير مقيّدة بما تكون مصحّحة لماليّة العين، فإنّه ربّما تكون المنفعة مع عدم كونها مقصودة للعقلاء يتعلّق بها غرض عقلائي يخرج المعاملة عن السفاهة.

و لذا ورد أنّ الأئمّة سلام اللّٰه عليهم كانوا أحياناً يستقرضون إظهاراً للغنى «1»، بل ربما يبعثون به إلى عمّال الصدقات إظهاراً لكونه زكاة أموالهم «2».

و أمّا عدم صحّة الوقف بلحاظ هذه المنافع غير المقصودة فغير مسلّم، بل السيرة العملية من صدر الإسلام إلى يومنا هذا على وقف بعض الأعيان لمجرّد التزيين، فهذا ثوب الكعبة فإنّه لمجرّد التزيين لا أنّه وقاية

______________________________

(1) راجع وسائل الشيعة: 5/ 9، كتاب الصلاة، أبواب أحكام الملابس ب 3.

(2) راجع وسائل الشيعة: 5/ 9، كتاب الصلاة، أبواب أحكام الملابس ب 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 53

..........

______________________________

لها عن الحرّ و البرد، و هذه القناديل المصوغة من الذهب و الفضّة المعلّقة في المشاهد المشرّفة ليست إلّا للتزيين، مع أنّ منافعها المترقّبة منها هي الإسراج و الإضاءة، و أمّا ما يقال بالنقض بإجارة الحرّ و أُمّ الولد مع أنّه لا يصحّ وقفهما فلا ملازمة بين الوقف و الإجارة، فهي غفلة

عن وجه الاستدلال، فإنّ الملازمة باعتبار وجود المنفعة و عدمها، لا دعوى الملازمة الكلّية حتّى ينتقض بهما، و يؤيّد ما ذكرناه من كفاية مطلق المنفعة في الإجارة كفايتها في العارية بلا خلاف ظاهراً، و قد ادّعي أنّ كلّ ما تصحّ إعارته تصحّ إجارته «1»، انتهى ملخّصاً.

و أمّا الأمر الثاني: فقد أجاب عنه المحقّق الرشتي قدس سره بعد منع الملازمة بين عدم الضمان و عدم كونها متموّلة مستشهداً له بمنافع الحرّ، حيث إنّها لا تضمن بالفوات تحت يد الغاصب مع جواز استئجاره بمنع عدم كونها متموّلة؛ نظراً إلى أنّه لا يكون معنى لمالية الشي ء إلّا كونه بحيث يبذل في مقابله المال، و أمّا كون ذلك متعارفاً بين الناس قبل البذل فلا، قال: و إن شئت قلت: إنّ المالية على قسمين: مالية جعلية تتحقّق باقتراح من يبذل في مقابله مالًا لحاجة عقلائية، و مالية منجعلة متحقّقة متعارفة بين الناس قبل اقتراح المقترح، و صحّة المعاملة بيعاً أو إجارةً أو نحوهما إنّما تتوقّف على أحدهما من غير فرق. نعم، فرق بينهما في الضمان، فإنّ الأوّل لا يضمن بخلاف الثاني «2» انتهى.

و أورد على هذا الجواب المحقّق الإصفهاني قدس سره بما يرجع إلى أنّ الاعتبارات العقلائية لا معنى لإناطتها باعتبار شخص لمسيس حاجته إلى

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 192 194.

(2) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 266.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 54

..........

______________________________

بذل المال بإزائه، فلا معنى لتقسيمها إلى قسمين: جعلية و منجعلة.

ثمّ أجاب نفسه عن الدليل تارةً بمنع الكبرى، و أنّ حقيقة الإجارة لغةً و عرفاً و شرعاً تمليك المنفعة من دون تقيّد بكونها مقصودة و لا كونها متموّلة، و الإجارة تغاير البيع من

هذه الجهة، فإنّ الغرض في البيع ينحصر بإقامة مال مقام مال، و في الإجارة ربّما يكون المصحّح للبذل تحصيل غرض عقلائيّ بالانتفاع بالعين، كما أنّه لا ملازمة بين صحّة الإجارة لهذا الغرض و ضمان المنفعة، حتّى يستكشف من عدم الضمان عدم المالية، فيحكم بعدم صحّة الإجارة، فإنّ الضمان عند حصول موجبه؛ من يد و استيفاء و إتلاف و إن كان منوطاً بمالية المضمون إلّا أنّ دعوى أنّ ما لا ضمان له لعدم كونه مالًا لا تصحّ إجارة مثله دعوى بلا بيّنة من لغة أو عرف أو شرع، و المراد من الملازمة بين الضمان و المالية و عدمه و عدمها هي الملازمة مع تحقّق موجبات الضمان؛ من يد أو استيفاء أو إتلاف، فالنقض بعمل الحرّ غير وارد؛ لأنّ عدم ضمانه ليس من ناحية عدم المالية، بل من ناحية عدم موجب الضمان.

و أُخرى بأنّ المنافع المقصودة حيث إنّها من لوازم وجود العين نوعاً، فهي مقدّرة الوجود دائماً بتبع وجود العين تحقيقاً، فهي مصحّحة لمالية العين بقول مطلق، و أمّا المنافع غير المقصودة فإنّها مقدّرة الوجود أحياناً عند مسيس الحاجة إليه، فهي مال في فرض خاصّ لا بقول مطلق، و الشاهد عليه أنّها مقوّمة عند العرف و بلحاظه يدخل فيها الغبن، و هذه القيمة ليست بالاقتراح كما في بذل المال بإزاء الخلع، فإنّه تابع لاقتراح الزوج، من دون أن يكون له في العرف و العادة ملاك و ميزان «1»، انتهى

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 194 195.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 55

..........

______________________________

ملخّص موضع الحاجة من كلامه زِيدَ في علوِّ مقامه.

ثمّ إنّ هذا كلّه بناءً على مسلك المشهور في باب الإجارة «1»، حيث

إنّ حقيقتها عندهم عبارة عن تمليك المنفعة في إجارة الأعيان، و أمّا بناءً على ما اخترناه سابقاً «2» من أنّ حقيقتها ترجع إلى نقل حقّ الانتفاع الثابت للمؤجر إلى المستأجر، فعدم صحّة الأمرين اللذين استند إليهما المانع واضح لا ارتياب فيه أصلًا، كما هو أوضح من أن يخفى. [انتهى الكلام من كتاب الإجارة الثاني].

الثالث «3»: أنّه إذا كانت للعين منافع متعدّدة، فإن كان الغرض متعلّقاً بواحدة منها فلا بدّ من تعيينها، فلو استأجر الدابّة لمنفعة خاصة من الحمل أو الركوب، أو إدارة الرحى و نحوها لا بدّ من التعيين في العقد لاختلاف الأغراض و الرغبات و المالية باختلاف المنفعة؛ لئلّا يتحقّق الغرر الناشئ عن الجهل، و إن كان الغرض متعلّقاً بالجميع فلا يلزم التعيين. نعم، في صحّة الإجارة في هذا الفرض مع ثبوت التضادّ بين المنافع كلام يأتي تفصيله في حكم الأجير الخاصّ إن شاء اللّٰه تعالى.

الرابع: أن تكون المنفعة معلومة، إمّا بتقديرها بالزمان المعلوم كسكنى الدار شهراً، أو الخياطة أو التعمير و البناء يوماً، و إمّا بتقدير العمل كخياطة الثوب المعيّن خياطة كذائية فارسية أو رومية، من غير تعرّض للزمان إن لم يكن دخيلًا في الرغبات، و إلّا فلا بدّ من تعيين منتهاه.

و الدليل على اعتبار المعلومية التي يكون المراد بها هو العلم المقابل للجهل نفي

______________________________

(1) تقدّم في ص 8 10.

(2) تقدّم في ص 8 10.

(3) أي من الأُمور المعتبرة في المنفعة.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 56

..........

______________________________

الخلاف، بل الإجماع بقسميه كما في الجواهر «1»، و حديث الغرر «2»، و بعض الروايات الخاصّة، مثل رواية أبي الربيع الشامي الواردة في الجواب عن سؤال الأرض، يريد الرجل أن يتقبّلها فأيّ

وجوه القبالة أحلّ؟ حيث قال عليه السلام: يتقبل الأرض من أربابها بشي ء معلوم إلى سنين مسمّاة، فيعمر و يؤدّي الخراج، فإن كان فيها علوج فلا يدخل العلوج في قبالته فإنّ ذلك لا يحلّ «3». مضافاً إلى بناء العقلاء الذين هم الأساس في باب المعاملات، فإنّهم لا يقدمون على بذل الأُجرة بإزاء منفعة مجهولة غير معلومة. و قد مرّ الكلام في هذه الوجوه عدا الرواية في بحث اعتبار معلومية العين المستأجرة.

و أمّا الرواية، فدلالتها على اعتبار المعلومية التي هي مراد المشهور «4» ممنوعة؛ لأنّ غاية مفادها اعتبار العلم مقابل الجهل المطلق، مع أنّ التعبير في السؤال بقوله: «أحلّ» ظاهر في عدم كون سائر الوجوه محرّمة إلّا أن يكون بصيغة الماضي المبني للمفعول، أو يقال بعدم كون المراد جهة الفضيلة، كما في غير واحد من الموارد التي استعملت فيها صيغة أفعل التفضيل.

و بالجملة: رفع اليد عمّا هو الشائع بينهم فتوًى و عملًا مشكل جدّاً، بل قيل: إنّ العامّة الذين اكتفوا بالمشاهدة في البيع وافقوا هنا على وجوب العلم بقدر المنفعة «5»، و إن كانت هذه المقايسة في غير محلّها، ضرورة أنّ الغرض في باب البيع تعلّق بنفس

______________________________

(1) جواهر الكلام: 27/ 260.

(2) تقدّم في ص 22.

(3) التهذيب: 7/ 201 ح 887، وسائل الشيعة: 19/ 60، كتاب المزارعة و المساقاة ب 18 ح 5.

(4) غنية النزوع: 285، شرائع الإسلام: 2/ 182، قواعد الأحكام: 2/ 291، رياض المسائل: 6/ 27.

(5) مفتاح الكرامة: 7/ 171، راجع المجموع للنووي: 15/ 333 334، و المغني لابن قدامة: 6/ 5 و 8، و البحر الرائق لابن نجيم: 7/ 507 508، و أسهل المدارك للكشناوي: 2/ 117.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة،

ص: 57

..........

______________________________

العين، فيمكن أن يكتفى فيها بالمشاهدة، و هذا بخلاف المقام فإنّ متعلّق الغرض إنّما هي المنفعة التي ليست بموجودة في الخارج بتمامها، بل توجد جزء فجزء، فلا معنى للاكتفاء بالمشاهدة فيها. هذا بالنظر إلى الكبرى.

و أمّا بلحاظ الصغرى، فلا بدّ من التنبيه فيه على أمر؛ و هو أنّ البحث في الموضوعات غير المستنبطة ليس من وظيفة الفقيه، بل اللّازم فيها الإرجاع إلى نظر العرف بنحو الإجمال، بل ربما يكون نظر الفقيه مخالفاً لنظر العرف، و يكون إظهاره موجباً للإغراء بالجهل، و عليه فاللّازم في المقام أن يقال: بأنّه تعتبر معلومية المنفعة من كلّ جهة له مدخلية في اختلاف القيمة و الرغبة، و من المعلوم أنّ معلومية كلّ شي ء بحسبه، فربما تكون بتقدير المدّة، و أُخرى بتقدير العمل، و ثالثة بهما، و رابعة بالمرّة و المرّات، و خامسة بغيرها من الطرق الأُخر، فإنّه لا ينحصر فيما ذكره الأصحاب، كما أنّ ما يكون العلم فيه بتقدير المدّة مثلًا، كسكنى الدار يكون هذا التقدير فيه رافعاً للجهالة من جهة.

و أمّا من الجهات الأُخر فلا بدّ أيضاً من أن تكون معلومة من تلك الجهات بالوصف أو غيره، فإنّه في مثل الدار التي تستأجر للسكنى، كما أنّه لا بدّ من أن تكون نفس الدار معلومة بالمشاهدة أو الوصف، و أن تكون المدّة مقدّرة بالشهر و الشهرين أو أزيد مثلًا، كذلك لا بدّ من معلومية عدد أفراد الساكنين قلّة و كثرة، و من معلومية كون الغرض هو سكنى نفسه و من يتعلّق به، أو كون الغرض إسكان الغير و جعل الدار فندقاً أو مدرسة مثلًا، فإنّه يختلف الأغراض بذلك جدّاً، و بسببها يتحقّق الاختلاف في القيمة اختلافاً فاحشاً.

و لأجل

ذلك لا محيص عمّا ذكرنا من الإرجاع إلى العرف و عدم التعرّض لبيان الطرق الرافعة للجهالة و تعيين الموارد لها، فإنّه كما عرفت ربما يكون موجباً للإغراء

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 58

..........

______________________________

بالجهل أ لا ترى أنّهم اكتفوا في مقام بيان معلومية المنفعة في مثل الدار المستأجرة للسكنى بتقدير المدّة فقط، مع أنّك عرفت في المثال أنّه لا يرتفع به إلّا الجهالة من جهة واحدة فقط، و حينئذٍ فربما يتخيّل أنّ تقدير المدّة فيه كاف في رفع الجهالة و انتفاء الغرر، نظراً إلى عدم تعرّض الأصحاب لغيره، مع أنّه من الواضح أنّه لا يكون هذا المعنى مراداً لهم أصلًا، فالأولى التجنّب عن ذلك و الإحالة إلى أهله.

ثمّ إنّه ممّا ذكرنا ظهر أنّ الأسوء من التعرّض لبيان الصغريات جعل الضابط لها في بعض المقامات كما في المقام، حيث حكي عن بعضهم «1» أنّه ذكر في مقام بيان الضابط أنّ المنفعة إذا كانت غير العمل، كالسكنى و نحوه يكون تقديره بتقدير الزمان خاصة، و إذا كانت عملًا صحّ تقديره بالمحل أو بالزمان أو بهما معاً، مضافاً إلى ما أورد عليه من النقض بالإرضاع نظراً إلى أنّه عمل، و لا يمكن تقديره إلّا بالزمان و النقض بضراب الفحل أيضاً، فإنّه لا يجوز تقديره بالزمان إلّا في ضراب الماشية، بل لا بدّ من تقديره بالعدد «2».

كما أنّ ما أفاده في «العروة» من لزوم تعيين الزمان أيضاً في مثل خياطة الثوب من الإجارة على الأعمال، كأن يقول: إلى يوم الجمعة «3»، لا يكاد يساعد عليه الدليل بنحو الإطلاق؛ لعدم مدخليّة الزمان غالباً فيما هو الغرض من الإجارة في مثل الخياطة، مضافاً إلى أنّه لو كان

التقدير بالزمان أيضاً شرطاً في صحّة هذا القسم من الإجارة كيف يمكن الحكم بالصحّة مع الإطلاق، كما ذكره بعد ذلك بقوله: و إن أطلق اقتضى التعجيل على الوجه العرفي «4»، فإنّ لازم ما أفاده أوّلًا

______________________________

(1) راجع السرائر: 2/ 457، و تحرير الأحكام: 3/ 85، و جامع المقاصد: 7/ 157، و الحدائق الناضرة: 21/ 550.

(2) الحاكي هو المحقّق الرشتي في كتاب الإجارة: 210.

(3) العروة الوثقى: 5/ 14 15 مسألة 5.

(4) العروة الوثقى: 5/ 15 مسألة 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 59

..........

______________________________

الحكم بالبطلان مع الإطلاق و عدم التقدير بالزمان كما هو ظاهر.

ثمّ إنّه لو قدَّر العمل و المدّة في الإجارة على الأعمال، فتارة يكون على نحو الظرفية؛ بأن كان الغرض متعلّقاً بوقوع ذاك العمل في ذاك الزمان، من دون ملاحظة التطبيق بينهما أوّلًا أو آخراً أو كليهما، و أُخرى يكون على نعت التطبيق بنحو من أنحائه الثلاثة. و على كلا التقديرين، تارة يكون الزمان مأخوذ بنحو التقييد و أُخرى يؤخذ بنحو الاشتراط، الذي هو التزام في التزام آخر. و على كلّ من التقادير إمّا أن يعلم بسعة الزمان للعمل، أو إمكان التطبيق بينهما، و إمّا أن يعلم الخلاف، و إمّا أن يكون مجهولًا.

و قد أفاد صاحب الجواهر قدس سره أنّه لا ريب في الصحّة مع العلم بسعة المدّة أو إمكان التطبيق، كما لا ريب في الفساد مع العلم بالقصور، أو عدم الإمكان للعجز عن العمل المفروض، قال: و الأقوى الصحّة في صورة الشكّ؛ لأنّ المسلّم خروجه من عموم الأدلّة معلوم العجز، خصوصاً فيما كان من قبيل الشرط «1».

و يرد عليه مضافاً إلى أنّ تعليل الفساد في صورة العلم بالقصور بالعجز عن

العمل ليس على ما ينبغي؛ لأنّه مع العلم بالقصور لا يكاد يتحقّق القصد من المتعاقدين، ضرورة أنّه كيف يتمشّى قصد إنشاء الإجارة ممّن يعلم بعجزه عن الإتيان بمتعلّقها، و هذا نظير بعث العاجز في باب التكاليف، فإنّه كيف يمكن صدور البعث الحقيقي ممّن يعلم بأنّ المبعوث غير قادر على المبعوث إليه، مع أنّ مجرّد العجز الواقعي حال الإجارة لم يقم دليل على اعتبار عدمه فيها، فإنّه إذا تحقّق منه الإنشاء في حال الغفلة عن عجزه، ثمّ زال العجز و تمكّن في ظرف العمل لم يدلّ دليل على بطلان هذه الإجارة-: أنّ التمسّك بعموم الأدلّة في صورة الشكّ من قبيل

______________________________

(1) جواهر الكلام: 27/ 261 262.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 60

..........

______________________________

التمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة للمخصّص، و هو غير جائز على ما هو التحقيق، إلّا أن يقال: إنّ عنوان العلم مأخوذ في المخصّص، و لكنّه ليس كذلك؛ لأنّ العنوان المأخوذ فيه هو العجز لا معلومه.

و التحقيق في هذا المقام ما أفاده المحقّق الإصفهاني قدس سره و إن كان مورد كلامه خصوص صورة التطبيق على المدّة ابتداءً و انتهاءً، إلّا أنّ الحكم لا يختصّ بهذه الصورة بل يجري في جميع الصور، و ملخّص ما أفاده أنّه مع تعلّق غرض عقلائيّ بالتطبيق لا إشكال في صحّته مع العلم بإمكانه، و في بطلانه مع العلم بعدمه، و أمّا صورة الشكّ، فإن كان التطبيق ملحوظاً قيداً للخياطة فالعمل الخاصّ لم يحرز إمكان حصوله فهو غرريّ، و إن كان بنحو الاشتراط فالشرط غرريّ، و تبتني الصحّة و الفساد على سراية الغرر من الشرط إلى المشروط و عدمها، و المستفاد من نهي النبيّ صلى الله عليه و

آله و سلم عن بيع الغرر «1» إن كان خصوص ما إذا كان البيع أو الإجارة غررياً فلا خفاء في أنّ غررية البيع و الإجارة بما هما بيع و إجارة لا تكون إلّا بملاحظة الخطر في أحد العوضين، و مع عدم التقييد كما هو المفروض لا خطر فيهما، فلا معنى للسراية و إن كان حرمة الإقدام المعاملي البيعي الغرري فلا تبعد دعوى السراية، لأنّ الإقدام المعاملي مشتمل على الخطر «2».

أقول: و الظاهر أنّ المستفاد منه عرفاً هو الاحتمال الثاني، و عليه فلا فرق بين صورتي التقييد و الاشتراط من حيث الحكم بالبطلان.

[قال المؤلّف دام ظلّه في كتاب الإجارة الثاني]:

اعتبار مملوكية المنفعة؛ و هو الشرط الثاني من شروط العوضين

______________________________

(1) تقدّم في ص 22.

(2) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 128 129.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 61

..........

______________________________

و الثالث من شرائط الإجارة بحسب عبارة الشرائع «1»، و الظاهر أنّ مراده بهذا الشرط هو اعتبار كون المنفعة لها إضافة ملكيّة إلى مالك، كاعتبار ملكيّة العين في باب البيع، من دون فرق بين أن يكون المالك هو المؤجر أو غيره، و عليه فيخرج بهذا الشرط إجارة المباحات الأصليّة، التي يتساوى نسبتها بأعيانها و منافعها إلى الجميع، من دون ترجيح لأحد على آخر، و ليس المراد بملكية المنفعة هي ملك التصرّف فيها حتّى يكون المخرج بهذا الشرط تصرّف الفضولي و الغاصب، و إن كان يؤيّده تفريع بطلان الفضولي عليه في آخر كلام الشرائع «2» لأنّه مضافاً إلى أنّ لازم هذا المعنى التخصيص بالمؤجر، مع أنّه ليس في العبارة إشعار بالاختصاص به يرد عليه أنّ تصرّف الفضولي و الغاصب قد خرج باعتبار كون المتعاقدين جائزي التصرّف، فلا

حاجة إلى إخراجه ثانياً بهذا القيد، كما أنّه ليس المراد بمملوكية المنفعة كونها متموّلة قابلة لأن يبذل المال بإزائها؛ لأنّه مضافاً إلى بعد هذا المعنى في نفسه؛ إذ لا وجه للتعبير عن المتموّلة بالمملوكة؛ و لذا جعل العلّامة في القواعد «3» و محكي التذكرة «4» كلّاً من المتموّل و الملكيّة شرطاً مستقلا، و احترز بالثاني عن إجارة الغاصب و الفضولي، و بالأوّل عن إجارة التفّاح للشمّ و نحو ذلك ينافيه تفريع الفضولي بعد ذلك كما عرفت.

و كيف كان، فالظاهر أنّ المراد بهذا الشرط ما في الجواهر بعد ذكر عبارة الشرائع من قوله: للمؤجر أو لمن هو فضول عنه كما ستعرف، أو

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 2/ 182.

(2) شرائع الإسلام: 2/ 182.

(3) قواعد الأحكام: 2/ 286 و 287.

(4) تذكرة الفقهاء: 2/ 290 و 294.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 62

..........

______________________________

نائب عنه لوكالة أو ولاية «1»، و الظاهر عدم مساعدة الدليل عليه؛ لأنّ اللّازم مجرّد خروجها عن حدّ التساوي لا اعتبار الملكيّة، ضرورة صحّة إجارة الحرّ نفسه كما سيأتي.

ثمّ إنّه استدلّ في الجواهر على اعتبار هذا الشرط بعد نفي وجدان الخلاف فيه بقوله: بل هو من الواضحات، ضرورة عدم تحقّق المعاوضة في غير المملوكة التي يكون المؤجر و المستأجر فيها على حدٍّ سواء، كمنافع الأعيان المباحة «2».

و أورد عليه المحقّق الأصفهاني رحمه الله بأنّ معنى كون البيع معاوضة و الإجارة معاوضة ليس لزوم قيام كلّ من العوضين مقام الآخر فيما له من إضافة الملكيّة حتّى يلزم كون كلّ منهما مملوكاً قبلًا، ضرورة صحّة بيع الكلّي الذمّي مع أنّه غير مملوك قبلًا للبائع، و صحّة تمليك الحرّ لعمله بالإجارة، مع أنّ عمله غير مملوك له

قبلًا، بل لمكان سلطنة الإنسان على نفسه له أن يتعهّد بكلّي في ذمّته أو بعمل على نفسه، بل معنى كون البيع و الإجارة معاوضة، صيرورة كلّ من العوضين ملكاً للآخر بإزاء صيرورته ملكاً له، فلا يلزم سبق إضافة الملكيّة للمملّك «3».

أقول: لم يظهر لي دلالة عبارة الجواهر على اعتبار سبق إضافة الملكيّة في تحقّق المعاوضة، حتّى يورد عليه بما ذكر، بل غاية مفادها عدم تحقّق المعاوضة في مثل منافع الأعيان المباحة ممّا يكون الطرفان فيه على حدٍّ سواء، و أمّا كون الوجه فيه اعتبار السبق فلا، فيمكن أن يكون الوجه فيه مجرّد تساوي النسبة و عدم وجود مرجّح في البين، بل الظاهر

______________________________

(1) جواهر الكلام: 27/ 257.

(2) جواهر الكلام: 27/ 257.

(3) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 106 107.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 63

..........

______________________________

أنّ مراد صاحب الجواهر هو هذا الوجه، كما لا يخفى.

ثمّ إنّ المنفعة تارةً تكون مملوكة بتبع ملك العين، و أُخرى بالاستقلال و الانفراد، و في هذه الصورة قد يكون المالك لها مالكاً للعين أيضاً، كما إذا استأجر داراً في مدّة معيّنة ثمّ اشتراها من المؤجر قبل انقضاء مدّة الإجارة، فإنّه يكون في المدّة الباقية مالكاً للعين و المنفعة معاً، من دون أن تكون المنفعة مملوكة بتبع ملك العين؛ لما عرفت سابقاً من عدم التنافي بين البيع و الإجارة، و قد يكون المالك لها غير مالك للعين، كما إذا أوصى له بمنفعتها أو كانت العين موقوفة بالوقف العام، بناءً على كون العين فيه ملكاً للّٰه تعالى، أو يقال بعدم ثبوت مالك للعين فيه أصلًا، و من هذا القبيل ملك المستأجر، فإنّه لا يكون مالكاً إلّا للمنفعة غالباً. [انتهى الكلام

من كتاب الإجارة الثاني].

المقام الثالث: في الأُمور المعتبرة في الأُجرة، و البحث فيها من جهة اعتبار المعلومية، و كذا التعيين فيما إذا كانت الأُجرة جزئية شخصية، الذي كان ينبغي للماتن بيان اعتباره هنا أيضاً؛ لعدم اختصاص اعتباره بالعين المستأجرة فإنّ الملاك في الاعتبار على تقديره واحد هو البحث في العين المستأجرة من جهة الكبرى. غاية الأمر أنّه حيث تكون الأُجرة مكيلة أو موزونة أو معدودة أحياناً فطريق رفع الخطر و انتفاء الغرر إنّما هو الكيل و الوزن و العد، و لا يكفي مجرّد المشاهدة أو الوصف. نعم، لا يبعد الاعتماد على إخبار المستأجر بأحد المذكورات، كما يعتمد على إخبار البائع به في باب البيع، و إن وقع الخلاف بينهم في ذلك، حيث إنّهم بين من صرّح بعدم كفاية المشاهدة في المذكورات، كالمحكي عن السرائر «1» و كشف

______________________________

(1) السرائر: 2/ 459.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 64

..........

______________________________

الرموز «1» و التذكرة «2» و جامع المقاصد «3» و جمع آخر «4»، و بين من استشكل في الاكتفاء بها، كالعلّامة في القواعد «5» و الشهيد في بعض كتبه «6» و بين من صرّح بكفايتها أو استحسنها، كالشيخ في المبسوط «7»، و المحكي عن المرتضى «8» و المحقّق في الشرائع «9» و الأردبيلي في مجمع البرهان «10» و السبزواري في الكفاية «11»، و حكي عن حواشي الشهيد أنّ به رواية حسنة «12»، و لكن ذكر في المفتاح أنّه بعد التتبّع الوافي في مظانّه لم يظفر بها، و لو كانت ما عدل القوم عنها و لطفحت عباراتهم بها «13».

أقول: بعد البناء على اعتبار معرفة الأُجرة و معلوميّتها كما هو المفروض، إن كان الوجه في عدم الاكتفاء

بالمشاهدة أو الاستشكال فيه عدم كون المشاهدة رافعة للجهالة، و محقّقة للمعرفة المعتبرة في الأُجرة، نظراً إلى أنّ المشاهدة لا تجدي في

______________________________

(1) كشف الرموز: 2/ 31.

(2) تذكرة الفقهاء: 2/ 291.

(3) جامع المقاصد: 7/ 103.

(4) منهم: فخر المحقّقين في إيضاح الفوائد: 2/ 247، و الفاضل المقداد في التنقيح الرائع: 2/ 261، و ابن فهد الحلّي في المقتصر: 205، و الشهيد الثاني في مسالك الأفهام: 5/ 178 و الروضة البهية: 4/ 333، و الطباطبائي في رياض المسائل: 6/ 20.

(5) قواعد الأحكام: 2/ 284، و كذا في تحرير الأحكام: 3/ 80، و إرشاد الأذهان: 1/ 424.

(6) غاية المراد: 2/ 312 313.

(7) المبسوط: 3/ 223.

(8) مسائل الناصريات: 370 مسألة 175.

(9) شرائع الإسلام: 2/ 180.

(10) مجمع الفائدة و البرهان: 10/ 26.

(11) كفاية الأحكام: 124.

(12) حكى عنه في مفتاح الكرامة: 7/ 103.

(13) مفتاح الكرامة: 7/ 103.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 65

..........

______________________________

حصول هذا الغرض، فمع تسليم الصغرى لا مجال للمناقشة في ذلك، بل لا بدّ من الجزم بعدم كفايتها و لزوم كون الاعتبار بمثل الوزن أو الكيل، و إن كان الوجه فيه عدم الاكتفاء بها. و لو ارتفعت الجهالة بسببها و تحقّقت المعلومية بها فلا وجه له، لأنّ مرجع ذلك إلى مدخلية حصول المعرفة من سبب خاصّ، و كما أنّ أصل اعتبار المعرفة لو شك فيه يكون مرفوعاً بحديث الرفع «1»، كذلك مدخلية سبب خاصّ بعد الفراغ عن اعتبار المعرفة مرفوعة؛ لعدم قيام الدليل عليها.

اللهمّ إلّا أن يقال بعد الاستناد في باب اعتبار المعلومية إلى حديث النهي عن الغرر، بناءً على عموميّته و صلاحيّته للاستناد، و عدم الاستشكال في الاستدلال به: إنّ طريق رفع الغرر مختلف

في نظر العرف، و لا يرتفع الخطر عندهم في المكيل و الموزون إلّا بالكيل و الوزن؛ لأنّ الأغراض النوعيّة كما أنّها مختلفة من حيث الذات و الحقيقة و من حيث الكيف و الصفة، كذلك تختلف من حيث المقدار و الكمّية، و طريق رفع الخطر من هذه الحيثية منحصر بمثل الكيل و الوزن.

و بالجملة: فما لا تكون المشاهدة فيه طريقاً للمعلومية في عرض الطرق الأُخر و رتبتها، بل لو اكتفى بها العقلاء في بعض الموارد فإنّما هو لأجل كونها طريقاً إلى الطريق الأصلي، لا لأجل كونها طريقاً في رتبته، فالظاهر عدم الاكتفاء فيه بالمشاهدة، و ليس هذا إسراء لأدلّة اعتبار الكيل و الوزن في المقام، حتّى يقال باختصاصها بالبيع و أنّه لا موجب للإسراء إلى غيره، مضافاً إلى ما في دعوى اختصاص تلك الأدلّة بالبيع من المنع؛ لأنّ كونها بصدد إفادة أمر زائد على ما هو المعتبر عند العقلاء بعيد جدّاً.

بقي الكلام في الأُجرة في أنّه يجوز أن تكون الأُجرة عيناً خارجية، أو كليّاً في

______________________________

(1) الكافي: 2/ 463 ح 2، الخصال: 2/ 417 ح 9، وسائل الشيعة: 15/ 369، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس ب 56 ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 66

[إجارة الدابّة]

مسألة 3: لو استأجر دابّة للحمل لا بدّ من تعيين جنس ما يحمل عليها؛ لاختلاف الأغراض باختلافه، و كذا مقداره و لو بالمشاهدة و التخمين، و لو استأجرها للسفر لا بدّ من تعيين الطريق و زمان السير من ليل أو نهار و نحو ذلك، بل لا بدّ من مشاهدة الراكب أو توصيفه بما يرفع به الجهالة و الغرر.

[إجارة المنفعة بحسب الزمان]

مسألة 4: ما كانت معلوميّة المنفعة بحسب الزمان لا بدّ من تعيينه يوماً أو شهراً أو سنة أو نحو ذلك، فلا تصحّ تقديره بأمر مجهول (1).

______________________________

الذمّة، أو عملًا، أو منفعة، أو حقّا قابلًا للنقل؛ مثل الثمن في البيع، و ذلك لأنّ العبرة فيها بأن تكون متّصفة بالمالية حتّى يصحّ وقوعها بإزاء المنفعة و العمل، و في جميع الفروض تكون هذه الصفة موجودة.

و أمّا العين المستأجرة فقد ظهر ممّا ذكرناه في بيان حقيقة الإجارة لزوم كونها عيناً. غاية الأمر أنّه لا فرق بين أن تكون جزئيّة أو كليّة، فالفرق بين الأُجرة و طرف إضافة الإجارة من هذه الجهة موجود.

(1) قد ظهر البحث في هذه المسألة و المسألة المتقدّمة ممّا تقدّم؛ و حاصله: أنّ تشخيص الموضوع غير المستنبط لا يكون على عهدة الفقيه، بل اللّازم الإرجاع إلى العرف، فكلّ ما يكون ترك التعرّض له موجباً لحصول الغرر و الخطر من الجهات المختلفة، التي لها دخل في اختلاف الأغراض و تفاوت المالية فاللازم التعرّض، و ربّما يختلف ذلك باختلاف الأمكنة و الأزمنة أيضاً، فبيان الضابط في الصغريات ممّا لا وجه له أصلًا.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 67

[إجارة الدار]

مسألة 5: لو قال: كلّما سكنت هذه الدار فكلّ شهر بدينار مثلًا بطل إن كان المقصود الإجارة، و صحّ ظاهراً لو كان المقصود الإباحة بالعوض، و الفرق أنّ المستأجر مالك للمنفعة في الإجارة دون المباح له، فإنّه غير مالك لها، و يملك المالك عليه العوض على تقدير الاستيفاء، و لو قال: إن خطت هذا الثوب فارسياً فلك درهم، و إن خطته رومياً فلك درهمان بطل إجارة و صحّ جعالة (1).

______________________________

(1) في هذه المسألة فرعان:

الفرع الأوّل: ما

لو قال: كلّما سكنت هذه الدار فكلّ شهر بدينار مثلًا، فتارةً يكون المقصود الإجارة، و أُخرى يكون غيرها، فالكلام يقع في مقامين:

المقام الأوّل: ما إذا كان المقصود الإجارة، و الكلام فيه يقع تارةً في الأقوال و الآراء الواردة فيه، و أُخرى في الفروض المتصوّرة و بيان حكمها:

أمّا الأوّل: فالظاهر أنّها عبارة عن القول بما جعله المحقّق في الشرائع أشبه؛ و هي الصحّة في الشهر و ثبوت اجرة المثل في الزائد إن سكن «1»، كما عن المقنعة «2» و النهاية «3» و مجمع البرهان «4» و الكفاية «5». غاية الأمر التصريح في الأوّل بما إذا لم يبيّن

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 2/ 181.

(2) المقنعة: 642.

________________________________________

لنكرانى، محمد فاضل موحدى، تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، در يك جلد، مركز فقهى ائمه اطهار عليهم السلام، قم - ايران، اول، 1424 ه ق

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة؛ ص: 67

(3) النهاية: 444، و كذا المبسوط: 3/ 223.

(4) مجمع الفائدة و البرهان: 10/ 23 24.

(5) كفاية الأحكام: 125.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 68

..........

______________________________

ابتداء المدّة و لا آخرها. و القول بالصحّة مطلقاً حتّى في الشهر الثاني و الثالث و هكذا، كما عن الغنية «1» و الإسكافي «2» و الخلاف «3». و القول بالبطلان مطلقاً، كما عن العلّامة في كثير من كتبه «4» و جماعة من المتأخّرين عنه «5». و القول المنسوب في محكي مفتاح الكرامة «6» إلى الحلّي «7»؛ و هو التفصيل بين صورة الإطلاق و عدم تعيين الابتداء، و بين صورة التعيين بالفساد في الأوّل و الصحّة في الثاني، فالأقوال في المسألة أربعة.

و أمّا الثاني: أي الفروض المتصوّرة، فقد قال المحقّق

الإصفهاني قدس سره: إنّ الوجوه المتصوّرة في تمليك منفعة الدار كثيرة:

منها: أن يكون المراد من قولهم: «آجرتك الدار كلّ شهر بدرهم» تمليك المقدار الذي يختاره المستأجر خارجاً، فإنّه لا محالة متعيّن مع فرض الاستيفاء، فيكون محذورة جهالة المنفعة و الأُجرة حال العقد، و هذا أحسن وجه لمن يختار الصحّة و يوافق تعليل القائل بالبطلان بلزوم الجهالة.

و منها: أن يكون المراد تمليك المنفعة الأبدية أي الماهية بشرط شي ء بنحو

______________________________

(1) غنية النزوع: 286.

(2) حكى عنه في مختلف الشيعة: 6/ 106 مسألة 5.

(3) الخلاف: 3/ 490 مسألة 5.

(4) قواعد الأحكام: 2/ 285، تحرير الأحكام: 3/ 86، مختلف الشيعة: 6/ 106 مسألة 5، تذكرة الفقهاء: 2/ 317.

(5) كولده في إيضاح الفوائد: 2/ 249، و الفاضل المقداد في التنقيح الرائع: 2/ 269، و المحقّق الكركي في جامع المقاصد: 7/ 109، و الشهيد الثاني في مسالك الأفهام: 5/ 182.

(6) مفتاح الكرامة: 7/ 111.

(7) السرائر: 2/ 461.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 69

..........

______________________________

الاستغراق، فيكون قوله: «كلّ شهر بدرهم» ميزاناً للأُجرة، و هذا أيضاً محذورة الجهالة حال العقد، إلّا أنّه غير مفروض المسألة، فإنّ فرض صحّته فرض ملكية المنفعة الأبديّة، و لا يقولون بخروج المنفعة عن ملكه أبداً، و لا يكون المستأجر ملزماً بذلك.

و منها: أن يكون المراد تمليك المنفعة الملحوظة لا بشرط من حيث المدّة طولًا و قصراً، و مقتضاه استحقاق طبيعي المنفعة القابلة لتطبيقها على شهر أو أكثر، و لازمه وحدة الأُجرة لا كلّ شهر بدرهم كما هو مفروض المسألة.

و منها: أن يكون المراد تمليك المنفعة في الشهر الأوّل بدرهم و ما زاد بحسابه، و هذا يصحّ في الشهر الأوّل دون بقيّة الأشهر، إلّا أنّه أيضاً

خلاف مفروض هذه العبارة.

و أمّا ملاحظة المنفعة من دون التعيّن اللّابشرطي و لا التعيّن بشرط شي ء، عموماً أو خصوصاً و لو بملاحظة ما يختاره المستأجر، فلا يجدي شيئاً لما عرفت من أنّ الماهية غير المتعيّنة بأحد التعيّنات لا واقعية لها، فتستحيل أن تكون مقوّمة لصفة الملكيّة، و هذا هو الوجه في عدم صحّة مثل هذه الإجارة، لا لزوم جهالة الأُجرة و المنفعة «1».

أقول: أمّا خروج الفرض الأخير عن مفروض المقام فلا ينبغي الارتياب فيه، و لذا تعرّض له العلّامة في محكي القواعد «2» مستقلا، و اختار الصحّة فيه بعد ما كان مختاره في المقام البطلان، و نحن أيضاً نتعرّض له بعد الفراغ عن هذا الفرض

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 78.

(2) قواعد الأحكام: 2/ 285.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 70

..........

______________________________

إن شاء اللّٰه تعالى.

و هكذا لا ريب في خروج الفرض الثاني، و هو تمليك المنفعة الأبدية لما أفاده قدس سره في وجهه.

و أمّا الفرض الثالث: و هو تمليك المنفعة الملحوظة لا بشرط من حيث المدّة فلم يعلم المراد منه؛ لأنّه إن كان تطبيق طبيعي المنفعة، القابل للتطبيق على شهر أو أكثر بيد المستأجر فمرجعه إلى الفرض الأوّل؛ و هو تمليك المقدار الذي يختاره المستأجر خارجاً، و إن لم يكن التطبيق بيده بل كان الانطباق متحقّقاً قهراً فلازمه ملكيّة آنٍ من أوّل زمان المنفعة فقط، و إن لم يكن محتاجاً إلى التطبيق و لم يتحقّق الانطباق قهراً فاللّازم ملكيّة المنفعة إلى آخر الأبد، و يرجع هذا الفرض إلى الفرض الثاني مع اختلاف في أنّ الدوام في الفرض الثاني قد وقع مورداً للتعرّض، و في هذا الفرض هو مقتضى الإطلاق و أخذ

المنفعة بلا شرط.

و كيف كان، فلا إشكال في خروج هذا الفرض أيضاً لو لم يرجع إلى الفرض الأوّل عن المسألة المفروضة في المقام.

إذا عرفت ما ذكرناه فاعلم أنّ ما يمكن أن يكون وجهاً للقول بالبطلان في مفروض المقام أُمور تستفاد من كلام المحقّق الرشتي قدس سره.

منها: الجهالة، قال في تقريبها: إنّ الجهالة المانعة في المعاوضات اللّازمة ليست هي خصوص الإبهام كمّاً أو كيفاً، كالصبرة المجهولة الوزن أو الشي ء المجهول الطعم مثلًا؛ بل ما يعمّ ذلك و الكلّي غير المعيّن، كأحد هذين أو شاة من هذه الشياه، و غير ذلك ممّا لا يرجع إلى كلّي موصوف، و قد يطلق الإبهام على هذا أيضاً.

و منها: أنّ المنفعة شي ء معدوم لا يقبل التمليك إلّا بعد التحديد أوّلًا و آخراً حتّى تنزّل منزلة الموجود، فبدونه باق تحت العدم البحت لا يحكم عليه شي ء

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 71

..........

______________________________

و لا به على شي ء.

و منها: أنّه على تقدير القول بالصحّة لو مات المستأجر فأيّ شي ء ينتقل إلى الوَرَثَة من منفعة الدار؟ لا سبيل إلى تعيّن شهر واحد لعدم المرجّح، و لا على جميع الشهور كما لا يخفى. و أيضاً لو قيل بالصحّة ففي أيّ وقت يستحقّ الأُجرة، أو أيّ مقدار منها يملكها؟ «1» و الكلام في تماميّة هذه الوجوه و عدمها سيأتي في توجيه القول بالصحة.

و أمّا التفصيل كما هو مختار الشيخين و المحقّق و بعض آخر، فالوجه فيه أنّ الشهر الأوّل الذي هو مرادهم و إن وقع التعبير بالشهر في عبارة المحقّق «2» بنحو النكرة يكون معلوماً تفصيلًا؛ لأنّ الشكّ فيما زاد عنه من الشهور المتأخّرة عنه، فالإجارة بالنسبة إليه لا مانع عن صحّتها

و بطلانها بالإضافة إلى الشهور المتأخّرة، لأجل الجهالة لا يقتضي البطلان من رأس؛ لأنّ التفكيك في العقد الواحد كثير، كضمّ غير المملوك إلى المملوك في البيع، حيث إنّه يصحّ بالنسبة إلى الثاني و يبطل بالإضافة إلى الأوّل.

و أُجيب عنه تارةً بأنّ أدلّة الجهالة تقتضي فساد العقد بمجرّد الجهالة في مورده و لو في الجملة، و ليست هي كضمّ غير المملوك إلى المملوك.

و أُخرى بأنّ نسبة الإجارة إلى الواحد كنسبتها إلى الاثنين، فتعيين شهر واحد إن جاء من جانب الإجارة فالمفروض خلافه، إذ الكلام فيما إذا آجرها من غير تعيين شهر أو شهرين، و إن جاء من الاقتراح فهو تحكّم.

______________________________

(1) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 106.

(2) شرائع الإسلام: 2/ 181.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 72

..........

______________________________

و يدفع الأوّل: منع كون الجهالة في مورد العقد و لو في الجملة موجباً للفساد؛ لأنّ المسلّم هو فساد العقد بالنسبة إلى ما هو موصوف بالجهالة، و لا وجه لاقتضائها الفساد رأساً، و لو بالنسبة إلى ما هو خارج عن دائرة الجهالة. و بالجملة: لا يرى فرق بين المقام و بين ما إذا ضمّ غير المملوك إلى المملوك، و يدفع الثاني منع تساوي النسبتين بعد كون الشهر الأوّل معلوماً تفصيلًا و ما بعده من الشهور مشكوكاً.

و التحقيق في الجواب أن يقال: إنّه إن كان المراد من قوله: «آجرتك كلّ شهر بدرهم» إنّ الشهر الأوّل بتمامه هو أقلّ الأزمنة المتصوّرة، بحيث كان مرجع ذلك إلى الفرض الآتي؛ و هو إجارة الدار مثلًا شهراً بكذا و ما زاد فبحسابه، فالظاهر أنّه لا مناص عن الحكم بالصحّة في الشهر الأوّل، و لكن الظاهر أنّه خلاف ما يظهر من هذه العبارة.

و إن

كان المراد من ذكر الشهر تعيين ميزان الأُجرة، و الحكم بوقوع كذا من الأُجرة بإزاء شهر تامّ، من دون فرق بين كون السكنى و الانتفاع شهراً أو أقلّ أو أكثر، بحيث كان الأقل من الشهر أيضاً داخلًا في مورد الإجارة. غاية الأمر أنّه توزّع أُجرة الشهر عليه بالنسبة، فلا مجال للحكم بالصحّة بالإضافة إلى الشهر الأوّل؛ لعدم كونه معلوماً تفصيلًا، كما مرّ في بيان وجه هذا القول، و الظاهر دلالة هذه العبارة على الاحتمال الثاني.

و أمّا وجه القول بالصحّة مطلقاً فهو أنّه لا مانع من الحكم بها في المقام عدا الوجوه المتقدّمة المذكورة في كلام المحقّق الرشتي قدس سره، و الظاهر عدم تماميّة شي ء منها.

أمّا الوجه الأوّل: فيرد عليه أنّه لم يدلّ دليل على قدح هذا النحو من الجهالة في المعاوضة، خصوصاً الإجارة التي هي و الجعالة متقاربتان؛ لأنّ المسلّم من الجهالة المانعة هي التي توجب مجهولية العوضين أو أحدهما من حيث المالية، التي هي

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 73

..........

______________________________

الغرض الأصلي في المعاوضات، أو من حيث الصفات و الخصوصيات التي تختلف فيها الرغبات، و المفروض في المقام انتفاؤها.

و بالجملة: فاللّازم على القائل بالبطلان مستنداً إلى هذا الوجه إقامة الدليل على لزوم رفع مثل هذا النحو من الجهالة في الإجارة و ما يشبهها، و مع عدم الدليل فالقاعدة تقتضي الصحّة كما مر.

و أمّا الوجه الثاني: الذي هي شبهة ثبوتية، فمرجعه إلى امتناع تمليك المنفعة بدون التحديد أوّلًا و آخراً؛ لأنّها بدونه باقية تحت العدم البحت، و قد قرّرها المحقّق الإصفهاني قدس سره أيضاً، قال: حيث إنّها تدريجية الوجود فهي محدودة بالزمان، فالمنفعة غير المتعينة من حيث الزمان بوجه مفهوم لا

مطابق له «1». نعم، خالف المحقّقَ الرشتي قدس سره في أمرين:

أحدهما: كون المنفعة موجودة بوجود العين، فإنّه صرّح المحقّق الرشتي قدس سره بأنّ المنفعة بدون التحديد عدم محض، و به تنزل منزلة الموجود «2»، و لكنّه يقول: بأنّ المنفعة في ذاتها حيثية وجودية للعين موجودة بوجودها. غاية الأمر إنّ التدرّج في الوجود اقتضى كونها محدودة بالزمان «3».

ثانيهما: اختصاص هذا المعنى بالمنفعة، فإنّ ظاهر كلام الرشتي قدس سره ذلك، و لكنّه صرّح هو بعدم الاختصاص؛ نظراً إلى أنّ الأعيان المتكممة بالمقادير من حيث المنّ و الوزن و أشباه ذلك أيضاً كذلك. قال: فكما لا واقعية للمنفعة في قولهم: «آجرتك الدار كلّ شهر بكذا» كذلك لا واقعية للعين في قولهم: «بعتك كلّ منٍّ من هذه

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 77.

(2) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 106.

(3) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 77.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 74

..........

______________________________

الصبرة بكذا» «1».

و كيف كان، فهما 0 مشتركان في أنّ المنفعة لا بدّ و أن تكون محدودة بالزمان و بدونه لا يمكن تمليكها.

و يرد عليهما: أنّ لزوم التحديد بالزمان إن كان لأجل كونها بدونه عدماً بحتاً كما يقول به الأوّل، فيرد عليه: أنّ العدم البحت، كيف يقبل التحديد، و إن كان لأجل اقتضاء التدرّج في الوجود له، كما يقول به الثاني فيرد عليه: منع اقتضاء مجرّد التدرّج للمحدودية بالزمان.

و إن كان مرادهما من المحدودية هو التقوّم؛ بمعنى أنّ المنفعة متقوّمة بالزمان، فيدفعه أنّ التقوّم إن كان بالنسبة إلى ماهية المنفعة فمرجعه إلى مدخلية الزمان في حقيقة سكنى الدار مثلًا مفهوماً، و من المعلوم خلافه، ضرورة أنّ تصوّر سكنى الدار بمفهومه لا يلازم تصوّر الزمان أصلًا،

فيكشف ذلك عن عدم دخالته في الحقيقة و الماهية، و إن كان بالإضافة إلى وجودها و تحقّقها في الخارج، فهو و إن كان كذلك إلّا أنّه لا يقتضي التقدير حال العقد الذي هو حال ملاحظة المفهوم قبل أن يوجد في الخارج، خصوصاً لو كان بناء المتعاقدين على التعيين اللفظي بعد العقد الذي هو خارج عن مفروض المقام؛ لأنّ محلّ البحث هنا ما لو اقتصر على مجرّد إجارة الدار كلّ شهر بكذا من دون تعيين الزمان قبل العقد، و بناء العقد عليه أو البناء على التعيين بعد العقد، بل المراد تمليك ما يختاره المستأجر عملًا في الخارج، كما عرفت.

و بالجملة: فهذا الوجه أيضاً لا مجال للاتّكال عليه في الحكم بالبطلان.

و أمّا الوجه الثالث: ففيه أنّه لا مانع من أن يقال: بأنّه ينتقل إلى ورثة

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 77.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 75

..........

______________________________

المستأجر على تقدير عدم كون المراد استيفاءه بنفسه حقّ استيفاء المنفعة من الدار كلّ شهر بكذا، الذي كان ثابتاً لنفس المستأجر بعد صحّة الإجارة على ما هو المفروض، فما يكون ثابتاً له فهو يعدّ من متروكاته و ينتقل إلى ورثته.

و أمّا وقت استحقاق المؤجر للأُجرة فهو عبارة عن وقت العقد، و لا يلزم أن يكون مقدار الأُجرة المملوك حينه معلوماً بعد معلومية أُجره كلّ شهر.

فانقدح من جميع ما ذكرناه عدم تماميّة شي ء من الوجوه الثلاثة، فالظاهر بمقتضى القاعدة حينئذٍ الصحّة.

المقام الثاني: في أنّه على تقدير القول بالبطلان في المقام الأوّل فهل يمكن التصحيح من طريق آخر؟ و نقول: إنّ الطرق المتصوّرة بعد الإجارة ثلاثة:

أحدها: المعاطاة، قال المحقّق الرشتي قدس سره بعد الحكم بجريان المعاطاة في الإجارة

أيضاً، و أنّ شروط العقد ليست شرطاً فيها أصلًا، خلافاً لمن خالف. و يمكن تصحيح المسألة بطريق المعاطاة و لو في ضمن الصيغة الفاسدة، لكن بناءً عليه لا أثر لها إلّا بعد حصول المعاطاة من جانب أو جانبين على الاحتمالين أو القولين في المعاطاة، و اللّٰه العالم «1».

و يرد عليه: منافاة ما ذكره هنا لما أفاده آنفاً؛ من أنّ المنفعة بدون التحديد بالزمان أوّلًا و آخراً لا تكون قابلة للتمليك، فإنّها إذا لم تكن قابلة له بسبب العقد و الصيغة فكيف تتّصف بالقابليّة في المعاطاة، و مجرّد عدم اشتراط شروط العقد في المعاطاة لا يوجب صيرورة المستحيل جائزاً؛ لأنّ هذه شبهة ثبوتية كما عرفت، و لا فرق فيها بين كون السبب قولًا أو فعلًا. نعم، قد عرفت اندفاعها و عدم تماميتها بوجه.

______________________________

(1) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 107 108.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 76

..........

______________________________

و حينئذٍ، يقع الكلام في جريان المعاطاة في مفروض المسألة، و لأجل كونها بهذا النحو متداولًا في هذه الأزمنة في مثل الفنادق و الخانات، بل ربما يتّفق كثيراً في مثل إجارة الدار و أشباهها، و يتداول أيضاً في الإجارة على الأعمال في الخادم و الخادمة و أمثالهما، فلا بدّ من البحث عن حكمها ليتّضح الحال.

فنقول و على اللّٰه الاتّكال: تارةً يقال باشتراط شروط العقد في المعاطاة كما هو الظاهر «1»، و لعلّه المشهور، و أُخرى بعدمه، كما اختاره المحقّق الرشتي قدس سره على ما عرفت آنفاً، و على التقديرين قد يقال بكفاية الإعطاء من جانب واحد. و قد يقال بلزوم التعاطي من الطرفين.

فإن قلنا بكفاية الإعطاء من جانب واحد، و عدم اشتراط شروط العقد في المعاطاة، ففي إجارة

الأعيان كالدار و الفندق و نحوهما تتحقّق المعاطاة بإعطاء الأُجرة أوّلًا، و يقع بإزائها ما يقابلها من المنفعة على طبق ما تقاولا عليه، كما أنّها تتحقّق بتسليم العين إلى المستأجر و تسليطه عليها، و الجهل لا يقدح على ما هو المفروض، و في الإجارة على الأعمال كالخادم و الخادمة أيضاً تتحقّق بإعطاء الأُجرة، كما أنّها تتحقّق بتسليم العمل إلى المستأجر، فأيّ مقدار من العمل سلّمه الأجير إلى المستأجر يصير مستحقّاً لما يقع بإزائه من الأُجرة.

و إن قلنا في هذا الفرض باشتراط شروطه فيها، فلا إشكال في تحقّقها بإعطاء الأجرة أوّلًا في إجارة الأعيان و الإجارة على الأعمال، كما أنّه لا إشكال في تحقّقها بتسليم العمل إلى المستأجر في الثاني؛ لأنّ العمل بعد التسليم لا يكون مجهولًا بوجه، فيستحقّ العامل بعده ما يقع بإزائه من الأُجرة، و أمّا تحقّقها بتسليم العين

______________________________

(1) راجع كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري: 3/ 68 71.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 77

..........

______________________________

و التسليط عليها في الأوّل، فإن كان المراد حصولها بنفس التسليم فالظاهر عدم الجواز بعد فرض الجهل بالزمان و مدخلية العلم في صحّة المعاطاة أيضاً.

و إن كان المراد حصولها تدريجاً، نظراً إلى أنّه كما أنّ المنفعة تدريجيّة الوجود كذلك إعطاؤها المتحقّق بإعطاء العين أيضاً تدريجيّ، و عليه فتمامية المعاطاة تتوقّف على تماميّة استيفاء المستأجر المنفعة، فإن كانت مدّته شهراً فالمعاطاة تتمّ رأس الشهر و تتحقّق بالنسبة إليه، و هذا كما في الإجارة على الأعمال، فإنّه كما أنّ المعاطاة فيها تتحقّق بتسليم العمل و لا يكفي مجرّد التلبس به على ما هو الظاهر، كذلك المعاطاة في المقام تحصل باستيفاء المنفعة.

و كيف كان، فيرد على ذلك أنّه إذا كانت

المعاطاة متحقّقة تدريجاً و بمضيّ الزمان، فاللّازم حينئذٍ عدم جواز الاستيفاء قبل تماميّة المعاطاة، إذ بها تحصل الملكيّة و يتبعها جواز الانتفاع و الاستيفاء، و لا مجال لقياس ذلك بالأعمال، فإنّ العمل هناك باختيار العامل، و لا معنى لعدم جوازه بالنسبة إليه، و لو كان مستلزماً للتصرّف في مال المستأجر كخياطة ثوبه، فإنّه يكفي فيه مجرّد الإذن المستفاد من التسليط عليه، و هذا بخلاف الأعيان، فإنّ التسليط فيها إنّما هو في قبال الأُجرة، و المفروض أنّ تماميّة المعاطاة تتوقّف على مضيّ زمان الاستيفاء، فلا وجه للحكم بالجواز.

و ممّا ذكرنا يظهر حكم ما لو قلنا بلزوم التعاطي من الطرفين في المعاطاة على التقديرين، فتأمّل جيّداً.

تنبيه: قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ العمدة في وجه القول بالبطلان في فرض الإجارة هو جهالة المنفعة المستلزمة لجهالة الأُجرة، فما هو المجهول أوّلًا و بالذات إنّما هي المنفعة،

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 78

..........

______________________________

و عليه فينبغي تعليل البطلان بها لا بتجهل الأُجرة كما في عبارة الشرائع «1»، و لكنّه ذكر المحقّق الإصفهاني قدس سره في مقام الاعتذار عنه بأنّ ذكر الفرع في أحكام الأُجرة يناسب التعليل بلزوم الخلل في الأُجرة، و أورد على المحقّق الرشتي قدس سره، حيث ذكر في توجيه ذلك: إنّ المنفعة لا مالية لها إلّا بلحاظ بذل الأُجرة بإزائها، و إلّا فمع قطع النظر عن الأُجرة و عن مالية المنفعة بلحاظها لا أثر للعلم و الجهل بما لا مالية له، و حيث إنّ مالية المنفعة متقوّمة بالأُجرة، فلا بدّ من تعليل عدم قبول المنفعة للملكية بلزوم الخلل في ماليتها، من جهة الخلل في الأُجرة «2» بما حاصله منع ذلك، نظراً إلى أنّ مالية المنفعة

على حدّ مالية الأعيان ليست بلحاظ بذل المال فعلًا بإزائها في المعاملة، بل بملاحظة قابليتها للمقابلة بالمال، و إلّا يلزم محذور الدور فيما كانت الأُجرة أيضاً عملًا من الأعمال «3».

ثانيها: الجعالة، قال في الجواهر: أمّا لو فرض بوجه يكون كالجعالة؛ بأن يقول الساكن مثلًا: «جعلت لك على كلّ شهر أسكنه درهماً» لم يبعد الصحّة؛ لعدم اعتبار العلم فيها أزيد من ذلك «4».

و يظهر من العروة «5» جواز الجعالة بنحو يكون الجاعل هو مالك العين، و لذا اعترض عليه سيّدنا المحقّق الأُستاذ البروجردي قدس سره في الحاشية؛ بأنّه لا معنى للجعالة هنا، فإنّ الجعالة هي جعل شي ء على نفسه لمن يعمل عملًا له، و هاهنا

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 2/ 181.

(2) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 108.

(3) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 79.

(4) جواهر الكلام: 27/ 235 236.

(5) العروة الوثقى: 5/ 17 مسألة 10.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 79

..........

______________________________

جعل شيئاً لنفسه على من يستوفي منفعة ملكه «1».

و كيف كان، فقد أورد على صاحب الجواهر أيضاً بخروج ما ذكره عن عنوان الجعل على عمل؛ فإنّ مقتضى الجعالة أنّ الجعل للعامل؛ و هو هنا الساكن المستأجر، مع أنّ الأُجرة للمؤجر «2».

و حكى المحقّق الإصفهاني قدس سره عن بعض الأعلام «3» جريان الجعالة؛ بأن يجعل المستأجر الأُجرة في قبال إسكان المالك. و دفعه بأنّ الجعالة هي جعل شي ء على عمل له ماليّة، و الإسكان لا مالية له بل متعلّق بما له المالية؛ و هي سكنى الدار، ثمّ قال: لا بدّ في الجعالة من أن يكون هناك عمل لمن يأخذ الجعل، بحيث تكون له مالية، فمع انتفاء أحد الأمرين لا جعالة «4».

و يرد عليه مضافاً إلى أنّه

لم يقم دليل على اشتراط ما ذكر في حقيقة الجعالة، و مجرّد ملاحظة مصاديقها الظاهرة لا يقتضي التخصيص بها، فلنا أن نقول بجريان الجعالة في مثل المقام-: أنّه يمكن تصويرها بنحو آخر غير النحو المذكور في الجواهر، بحيث لا يرد عليه الإشكال، بأن يقول المؤجر: «من دفع إليَّ درهماً من المال فله استيفاء منفعة داري شهراً» مثلًا فإنّه في هذا النحو جعل شيئاً على نفسه بإزاء عمل له مالية، فتأمّل.

هذا، و لكنّ الظاهر أنّ للجعالة عند العرف و الشرع موارد معيّنة لا تتجاوزها عندهم، و أنّه لا تكون الجعالة في مثل المقام معهودة لديهم، فالحكم بجوازها فيه

______________________________

(1) الحواشي على العروة الوثقى: 136.

(2) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 79.

(3) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 107.

(4) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 79.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 80

..........

______________________________

مشكل جدّاً.

ثالثها: الإباحة بالعوض، قال في الجواهر بعد نفي البعد عن صحّة الجعالة في كلامه المتقدّم: كما أنّه لم تبعد الصحّة لو جعل من قبيل الإباحات بأعواض معلومة تلزم بالتلف، كما في نظائره من الأعيان و المنافع «1». و تبعه بعض المتأخّرين كصاحب العروة «2» و بعض المحشين «3».

و لكن حكي عن المحقّق الرشتي قدس سره أنّه أورد على الجواهر أوّلًا: بأنّ اللفظ لا يساعدها. و ثانياً: بأنّ الإباحة بالعوض إن صحّت فهي من المعاوضات التي لا تقبل الغرر لعموم دليله. و ثالثاً: بأنّ الإباحة مشروطة بشروط المعاوضة، كما ذكروه في المعاطاة. و رابعاً: بأنّ الإباحة لا تتعلّق بالكلّي بل بالعين الخارجية، و الأُجرة أعم منها. و خامساً: بعدم دليل على صحّتها؛ لخروجها من المعاوضات المتعارفة و اختصاص «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» «4» بالمتعارف «5».

أقول: العمدة من هذه

الإيرادات هي الإيراد الثاني و الخامس؛ لأنّ الإيراد الأوّل مدفوع بأنّه ليس الكلام في مساعدة اللفظ، بل في إمكان تصحيح هذا النحو من المعاوضة و المعاملة بأيّ لفظ أمكن. و الإيراد الثالث مرجعه إلى الثاني كما هو غير خفي، و الرابع مدفوع مضافاً إلى أنّ ظاهره كون المباح هي الأُجرة بإزاء المنفعة،

______________________________

(1) جواهر الكلام: 27/ 236.

(2) العروة الوثقى: 5/ 17 18 مسألة 10، و كذا المامقاني في مناهج المتّقين: 308، و السيّد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى: 12/ 18.

(3) كالإمام الخميني و السيّد الخوئي، راجع تعليقات العروة الوثقى: 5/ 18. و كذا السيّد محمّد الحجة الكوه كمري في حواشيه على العروة الوثقى: 100.

(4) سورة المائدة 5: 1.

(5) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 107.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 81

..........

______________________________

مع أنّ مراد القائل بالإباحة بعوض في المقام هي إباحة منفعة دار معين، الذي هي العين الخارجية بإزاء الأُجرة، و إلى أنّه يمكن فرض الأُجرة شخصية بأنّه لا دليل على اختصاص هذا النحو من الإباحة أو مطلقها بالعين الخارجية، فإنّ الإباحة بالعوض على تقدير صحّتها من العقود؛ و هي كما يصحّ تعلّقها بالأعيان الخارجية كذلك يصحّ تعلّقها بالكليّات، و لم يقم دليل على اختصاص الإباحة بالأعيان.

و أمّا الإيراد الخامس فيمكن دفعه:

أوّلًا: بالمنع عن خروجها عن المعاوضات المتعارفة، بل هي أيضاً معهودة عند العقلاء، و ربما تتفق كثيراً في هذه الأزمنة.

و ثانياً: بمنع كون الخروج عنها مانعاً عن شمول العموم في «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» بناء على إفادته للصحّة و اللزوم معاً، و عدم الاختصاص بالعقد الذي كانت صحّته مع قطع النظر عن هذا العموم مفروغاً عنها، و ذلك لما نرى من استدلالهم بهذا العموم في المعاملات المستحدثة

في هذه الأزمنة، التي لم يكن منها في السابق عين و لا أثر، فكيف لا يجوز التمسّك به لإثبات مشروعية الإباحة بالعوض مع عدم كونها مستحدثة.

نعم، لا ينبغي الإشكال في أنّ المتعارف في إجارة مثل الدار و الفندق، و كذا الإجارة على الأعمال كالخادم و الخادمة ليس هذا العنوان، و لكن الكلام ليس إلّا في إمكان التصحيح و لو من الطريق غير المتعارف.

و أمّا الإيراد الثاني فمضافاً إلى اندفاعه بأنّه ليس المفروض في كلام الجواهر إباحة واحدة بعوض واحد، بل إباحات متعدّدة بأعواض معلومة حسب تعدّد الشهور في المثال المفروض، و من المعلوم أنّ كلّ واحدة من الإباحات خالية عن الغرر، و الجهل بتعدادها لا يوجب الغرر في الإباحة المتحقّقة كما هو ظاهر يندفع

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 82

..........

______________________________

بأنّه لم يقم دليل على قدح الغرر في جميع المعاوضات؛ لأنّ الدليل قد ورد في البيع على اشكال فيه أيضاً كما عرفت سابقاً «1» و إلحاق مثل الإجارة لا يوجب لحوق الإباحة بالعوض به أيضاً.

فانقدح من ذلك أنّ الظاهر بمقتضى ما ذكر إمكان التصحيح من طريق الإباحة بالعوض.

بقي الكلام في هذا الفرع فيما لو قال: «آجرتك شهراً بدرهم مثلًا و إن زدت فبحسابه» و فيه وجوه بل أقوال ثلاثة: الصحّة في الشهر، و البطلان في الزيادة المستلزم لثبوت اجرة المثل، كما هو ظاهر العلّامة في القواعد «2»، و البطلان في الأمرين معاً كما هو المحكي عن الإيضاح «3» و جامع المقاصد «4»، و الصحّة فيهما معاً بالتفصيل الآتي.

و ليعلم أنّ المفروض في هذه الصورة صحّة الإجارة من جهة ذكر الشهر بنحو النكرة، إمّا للانصراف إلى الشهر الأوّل كما هو الظاهر، و

إمّا لدعوى أنّ ذكر الشهر بالنحو الكلّي لا يضرّ بصحّة الإجارة، و إن لم يكن منصرفاً إلى خصوص الشهر الثاني؛ لأنّه حينئذٍ يكون كالمبيع الكلّي.

و كيف كان، فمحلّ الكلام مع فرض صحّة الإجارة بهذا النحو، و القائل ببطلان الأمرين معاً إنّما يستند إلى فساد الشرط، و استلزام فساده لفساد المشروط، و لذا اعترض على العلّامة في القواعد بأنّه مع كون الشرط الفاسد مفسداً عنده لِمَ اختار

______________________________

(1) في ص 23.

(2) قواعد الأحكام: 2/ 285. و كذا ابن إدريس في السرائر: 2/ 461.

(3) إيضاح الفوائد: 2/ 249.

(4) جامع المقاصد: 7/ 109.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 83

..........

______________________________

الصحّة في الشهر، و إن أجاب عنه المحقّق الرشتي قدس سره «1»؛ بأنّ نظر العلّامة ليس إلى الشرط بل إلى المقاولة الباطلة المتخلّلة بين الإيجاب و القبول، و لكنّه يرد عليه أنّ دعوى بطلان الأمرين معاً نظراً إلى أنّ تخلل المقاولة الباطلة يوجب فساد الإيجاب و القبول، مضافاً إلى ضعفها في نفسها، و لذا لم يذكره أحد في مسألة الشرط المفسد في العقود خارجة عن محلّ الكلام؛ لأنّ مورد البحث ما إذا كان الفساد المحتمل ناشئاً من جهة قوله: «فإن زدت فبحسابه» لا من حيث التلفظ به، بل من جهة الجهل و عدم المعلومية كما لا يخفى.

إذا عرفت ما ذكرناه، فاعلم أنّ المحقّق الإصفهاني قدس سره ذكر في هذا المقام: أنّه يتصوّر بالإضافة إلى ما زاد على وجوه:

أحدها: إجارة ما زاد كلّ شهر بدرهم، فبالنسبة إلى ما زاد حالها حال المسألة المتقدّمة من عدم الصحّة لعدم المعقولية، لكن فساد الإجارة في ما زاد لا يوجب فساد الإجارة في الشهر الأوّل؛ لتعدد الإجارة على الفرض، و إن

كانتا بإنشاء واحد.

ثانيها: اختصاص عنوان الإجارة بالشهر الأوّل و استحقاق ما زاد بالشرط، و حيث إنّ الشرط متعلّق بالمبهم فحاله في عدم المعقولية في تأثيره في الاستحقاق حال الاستحقاق بالإجارة، لا أنّه في الحقيقة شرط مجهول ليلزم منه سراية الجهالة في الشرط إلى العقد، حتّى يفسد عقد الإجارة في الشهر المعيّن أيضاً، فتدبّر.

ثالثها: أن يكون قوله: «و ما زاد بحسابه» مواعدة و مراضاة، فليس هناك ملكيّة و لا استحقاق بعقد أو إيقاع حتّى لا يعقل تعلّقه بالمردّد، أو يقال بلزوم

______________________________

(1) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 107.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 84

..........

______________________________

الجهالة في العقد أو الشرط، و عليه يحمل ما في صحيح أبي حمزة «1» «2».

و يرد عليه: أنّ ما أفاده من عدم الصحّة لأجل عدم المعقولية مناف لما أفاده من الفروض المتصوّرة في أصل الفرع، فإنّ عدم المعقولية إنّما هو فيما إذا لم يؤخذ ما زاد متعيناً بوجه أصلًا على ما أفاده فيما تقدّم، و أما إذا أُخذ متعيّناً و لو بعنوان ما يختاره المستأجر فلا يتصف حينئذٍ بعدم المعقولية، بل غايته لزوم الجهالة، فتعليل عدم الصحّة في المقام بعدم المعقولية الظاهر في أنّه غير معقول مطلقاً مناف لما مرّ منه سابقاً «3».

و يرد عليه أيضاً عدم تماميّة ما أفاده في الوجه الثاني:

أمّا أوّلًا: فلأنّ تعلّق الشرط بالمبهم لا يوجب اتصافه بعدم المعقولية، ضرورة أنّه لا يوجب استحقاق المشروط حال العقد حتّى لا يعقل تعلّق الاستحقاق بالمبهم، كيف و هو معلّق على أمر لم يعلم حصوله، فإنّ مرجع الشرط إلى قوله: «و إن زدت فبحسابه» و مع عدم معلومية حصول المعلّق عليه في ظرفه كيف يتحقّق الاستحقاق غير المعقول حال

العقد، بل نتيجة الاشتراط استحقاق إلحاق الزيادة بالحساب، و لا مانع من تحقّق هذا الاستحقاق حال العقد كما هو ظاهر.

و أمّا ثانياً: فلأنّ مقتضى ظاهر كلامه أنّه لو كان الشرط متصفاً بالمجهولية لكان اللّازم سراية الجهالة إلى العقد، مع أنّ السراية مطلقاً ممنوعة، فإنّ جهالة ما زاد و ما يقع بإزائه لا تسري إلى العقد، و لا توجب جهالة متعلّق العقد، الذي هو الشهر و الدرهم مثلًا.

و يرد على ما أفاده في الوجه الثالث: أنّ الأمر المبهم كما أنّه لا يعقل تعلّق صفة

______________________________

(1) وسائل الشيعة: 19/ 111، كتاب الإجارة ب 8 ح 1، و سيأتي متنه و تخريجه مفصّلًا.

(2) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 80.

(3) أي من المحقّق الأصفهاني في «بحوث في الفقه، كتاب الإجارة»: 78 79.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 85

..........

______________________________

الملكيّة أو الاستحقاق به كذلك لا يعقل تعلّق صفة التراضي به؛ لأنّه كما أفاده فيما سبق غير قابل للاتصاف بصفة أصلًا، حقيقية كانت أو اعتبارية.

و التحقيق في هذا المقام أنّه لا مانع من الصحة بطريق الاشتراط؛ لأنّ المانع المتوهم إمّا التعليق و إمّا الجهالة، و الظاهر أنّه لا يقدح شي ء منهما، أمّا الأوّل: فلحكم المشهور بذلك، و أنّ التعليق في الشروط ممّا لا مانع منه، و أمّا الثاني: فلعدم الدليل على قدح هذا المقدار من الجهالة في الشروط، خصوصاً على ما عرفت منّا من عدم قادحيته في عقد الإجارة أيضاً، فضلًا عن الشروط بل الدليل على خلافه؛ و هو صحيحة أبي حمزة، عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن الرجل يكتري الدابّة فيقول: اكتريتها منك إلى مكان كذا و كذا فإن جاوزته فلك كذا و كذا زيادة،

و يسمّي ذلك، قال: لا بأس به كلّه «1». فإنّ ظاهره أنّ ثبوت الزيادة على تقدير التجاوز قد أُخذ بنحو الاشتراط، فالرواية بظاهرها تدلّ على عدم قدح التعليق في الشرط و كذا الجهالة.

و أمّا ما أفاده صاحب الجواهر قدس سره من احتمال إرادة اشتراط مقدار الغرامة لو تعدّى و تجاوز لما هو المتعارف في التأكيد على عدم التجاوز عن المكان المعيّن «2»، فهو خلاف ظاهر الرواية كما لا يخفى.

نعم، يمكن أن يقال بالفرق بين مورد الرواية و المقام، نظراً إلى أنّ المعلّق عليه الزيادة المسمّاة في مورد الرواية إنّما هو التجاوز بعنوانه، و عليه فلا جهالة فيه أصلًا لا في عنوان التجاوز و طبيعيّه، و لا في الزيادة الواقعة بإزائه و هذا بخلاف المقام، فإنّ مقدار الزيادة و كذا ما يقع بإزائه كليهما مجهولان، و لكن الأمر سهل

______________________________

(1) الكافي: 5/ 289 ح 2، التهذيب: 7/ 214 ح 938، وسائل الشيعة: 19/ 111، كتاب الإجارة ب 8 ح 1.

(2) جواهر الكلام: 27/ 235.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 86

..........

______________________________

بعد ما عرفت من عدم الدليل على قدح هذا المقدار من الجهالة في العقد فضلًا عن الشرط، هذا تمام الكلام في الفرع الأوّل. لو قال: كلّما سكنت هذه الدار فكلّ شهر بدينار [قال المؤلّف دام ظلّه في كتاب الإجارة الثاني]:

قال المحقّق في الشرائع: إذا قال: «آجرتك كلّ شهر بكذا» صحّ في شهر، و له في الزائد أُجرة المثل إن سكن، و قيل: تبطل لجهل الأُجرة، و الأوّل أشبه، و ذكر بعد ذلك فرعين آخرين، قال: الأوّل: لو قال: «إن خطته فارسياً فلك درهم، و إن خطته روميّاً فلك درهمان» صحّ. الثاني: لو قال:

«إن عملت هذا العمل في اليوم فلك درهمان و في غدٍ درهم» فيه تردّد، أظهره الجواز «1».

فهنا فروع ثلاثة، و ينبغي قبل التكلّم فيها و البحث عنها التنبيه على أمر؛ و هو أنّ المحقّق الأصفهاني رحمه الله استنبط من هذه الفروع المذكورة في الشرائع أنّ المحقّق قائل بأنّ من أحكام الأُجرة التعيين، و مرجع ذلك إلى أنّ اشتراط المعلومية لا يغني عن اشتراط التعيين، بل لا بدّ من اشتراط كليهما كما فعله بعض المتأخّرين في رسالته «2» و أورد على من استند للبطلان بتجهّل الأُجرة بما حاصله يرجع إلى أنّ الجهل هو عدم العلم بنحو العدم المقابل للملكة، فما لم يكن له واقع لا معنى للعلم به تارةً و للجهل به اخرى، و عدم العلم بعدم المعلوم لا يكون من الجهل المقابل للعلم، و المقام من هذا القبيل؛ لعدم ثبوت الواقعية للماهية غير المتعيّنة بشي ء من التعيّنات، فيستحيل أن تكون مقوّمة لصفة الملكيّة «3».

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 2/ 181.

(2) السيّد أبو الحسن الأصفهاني في وسيلة النجاة: 2/ 50.

(3) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 76 77.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 87

..........

______________________________

و يرد عليه مضافاً إلى أنّ الظاهر أنّ مراد من اشترط مجرّد المعلوميّة هو المعلوميّة العرفيّة، التي تشمل التعيين أيضاً كما لا يخفى-: أنّه لا وجه لما أفاده من عدم ثبوت الواقعيّة مع عدم التعيّن بحسب الخارج، و ذلك لأنّ واقعية كلّ شي ء إنّما هي بحسبه، فإذا كان الشي ء من الموجودات الخارجية و الأُمور الجزئية الشخصية فواقعيّته مساوقة للتعيّن الخارجي، و لا يعقل أن يكون غير متعيّن و مقوّماً لصفة الملكيّة أو غيرها من الصفات الأُخر مع وصف عدم التعيّن، فلا معنى

لتعلّق العلم أو الجهل به مع هذه الصفة، و أمّا إذا لم يكن الشي ء من الموجودات الخارجية، بل كان ظرف وجوده الذهن فواقعيته إنّما تلاحظ بالإضافة إلى الذهن، و لا يكون التردّد بحسب الخارج قادحاً في تعلّق العلم به بالنظر إلى واقعيّته، فإنّه لو كانت الأُجرة في المقام مثلًا أحد العبدين المعلومين من جميع الجهات المتماثلين في الصفات الموجبة لاختلاف الرّغبات لكان اللّازم هو تعلّق العلم بهذا العنوان المجعول اجرة، و هو عنوان أحدهما الذي لا يكون ظرف وجوده و وعاء تحقّقه إلّا الذهن، و من الواضح إمكان تعلّق العلم بهذا العنوان و كذا الجهل.

و بالجملة: فما هو المجعول اجرة هو عنوان أحدهما، الذي يكون متحقّقاً في الذهن و متّصفاً بوصف المعلومية؛ لثبوت الواقعية له بالإضافة إلى ظرف وجوده، و ما لا يمكن تعلّق العلم به لأجل عدم الثبوت و الواقعية له هو المردّد الخارجي؛ و هو لا يكون مجعولًا اجرة، فما أفاده قدس سره من قبيل الخلط بين المفهوم و المصداق الذي ربّما يتّفق كثيراً.

و يدلّ على ما ذكرناه أنّه لا خلاف بينهم في أنّه يجوز أن تكون الأُجرة في الإجارة كلّية، كما أنّه يجوز أن تكون جزئية شخصية مع جريان ما ذكره من الإشكال في الأُجرة الكلّية؛ ضرورة أنّ ما هو المجعول اجرة هو

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 88

..........

______________________________

الأمر الكلّي الذي لا يكون متعيّناً في الخارج و لا يكون ظرف وجوده إلّا الذهن، و ما هو الموجود في الخارج الذي يكون متعيّناً لم يجعل اجرة، فكما أنّ معلومية ذلك الأمر الكلّي الذي واقعيته إنّما تلاحظ بالإضافة إلى ظرف وجوده تكفي في جعله اجرة، و لا معنى لدعوى

عدم إمكان تعلّق العلم به، كذلك عنوان أحدهما في المقام. غاية الأمر أنّ هذا العنوان لا تتجاوز مصاديقه عن اثنين، و هذا لا يكون فارقاً بل هو مؤيّد لتحقّق وصف المعلومية، كما لا يخفى.

فانقدح أنّ ما أفاده من فقدان هذا الوصف في أمثال المقام ممّا لا يستقيم، و لا يقبله العقل و الذوق السليم، فتأمّل جيّداً.

نعم، يقع الكلام بعد ذلك في الاكتفاء بتحقّق اشتراط المعلومية المتحقّقة في المثال المذكور، أو أنّه لا يكفي ذلك، بل لا بدّ من التعيّن أيضاً، و الظاهر أنّه لا دليل على اشتراط أزيد من المعلومية، فلا مانع من جعل الأُجرة أحد العبدين الموصوفين بالوصف المذكور؛ لما عرفت من أنّ عنوان أحدهما كسائر العناوين الكلّية له واقعية و يمكن تعلّق العلم به، و لا دليل على اعتبار أزيد من ذلك، و منه يظهر أنّه لو جعل الأُجرة: العبد من العبدين الكذائيين لكان جائزاً بطريق أولى، كما لا يخفى.

و أمّا لو جعل الأُجرة هذا أو ذاك مشيراً إليهما، فربما يقال بعدم الجواز، نظراً إلى أنّه ليست الأُجرة حينئذٍ أمراً ذهنيّاً يكون ظرف وجوده و وعاء تحقّقه النفس، كما لو جعل الأُجرة عنوان أحدهما، بل هي أمر خارجي مردّد بين الأمرين، فلا تكون لها واقعية حتّى يتعلّق بها العلم تارةً و الجهل اخرى؛ ضرورة أنّ الموجود في الخارج متعيّن، فالمردّد بما هو مردّد لا يكون موجوداً في الخارج حتّى يكون متعيّناً، فجعل الأُجرة هذا النحو ممنوع موجب لبطلان الإجارة.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 89

..........

______________________________

هذا، و ربّما يجاب عن ذلك بأنّه لا مانع عن جعلها بهذا النحو أيضاً؛ لأنّ المقام حينئذٍ يصير كالعلم الإجمالي المتعلّق بأحد الشيئين، فكما أنّ

تردّد المعلوم في موارد العلم الإجمالي لا يمنع عن تعلّق العلم به. غاية الأمر إيجابه لكون العلم متّصفاً بالإجمالي قبال العلم التفصيلي الذي لا تردّد في معلومه، كذلك التردّد في المقام لا يقدح بتعلّق العلم بما هو المجعول اجرة. غاية الأمر كونه معلوماً بنحو الإجمال، و كذلك المقام نظير الواجب التخييري، بناءً على كونه سنخاً من الوجوب متعلّقاً بأمرين أو أزيد، فكما أنّه لا مانع من إيجاب أمرين أو أزيد بنحو الوجوب التخييري، الذي مرجعه إلى إفادة عدم لزوم الإتيان بأزيد من أحدهما بواسطة الإتيان بكلمة أو و نحوها، كذلك لا مانع عن جعل الأُجرة في المقام كذلك، كما لا يخفى.

و يرد على هذا الجواب: بطلان مقايسة المقام بموارد العلم الإجمالي، و ذلك لأنّ في تلك الموارد يكون المعلوم بالإجمال له واقعية و تعيّن. غاية الأمر أنّ المكلّف مردّد لا يعلم بأنّ هذا الطرف من العلم الإجمالي هو ذلك المعلوم أو ذاك الطرف، و أمّا في المقام فالمفروض أنّه لا تكون الأُجرة متعيّنة بحسب الواقع؛ لأنّها مجعولة مردّدة من أوّل الأمر، فلا يعقل أن يتّصف بالمعلومية، و كذا بالمجهولية لما عرفت، و أمّا تنظير المقام بالواجب التخييري فمحلّ نظر بل منع أيضاً؛ لأنّه هناك يكون كلّ واحد من الأمرين أو الأُمور معروضاً للوجوب و محكوماً عليه به. غاية الأمر أنّه لا يجب الإتيان بالجميع؛ لأنّ هذا أيضاً سنخ من الوجوب مغاير للوجوب التعييني، و هنا لا تكون الأُجرة إلّا أحد الأمرين، لا عنوان أحدهما بل المردّد بينهما، و هو كما عرفت ليس له واقعية حتّى يتّصف بالمعلومية أو بنقيضها. [انتهى الكلام من كتاب الإجارة الثاني].

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 90

..........

______________________________

الفرع

الثاني: ما لو قال: إن خطته رومياً فلك درهمان، و إن خطته فارسياً فلك درهم، و قد وقع الخلاف فيه من حيث صحّة هذا النحو من الإجارة و عدمها، و قد صرّح المحقّق في الشرائع بالصحّة «1»، و هي المحكية عن الخلاف «2» و التذكرة «3» و التنقيح «4» و مجمع البرهان «5» و الكفاية «6» و اللمعة «7»، و عن التحرير: أنّه لا يخلو من قوّة «8»، و لكن المحكي عن السرائر «9» و المختلف «10» و الإيضاح «11» و شرح الإرشاد «12» و الحواشي «13» و جامع المقاصد «14» و المسالك «15» و الروضة «16» هو البطلان، و قد حكي عن سيّدنا العلّامة الأُستاذ البروجردي قدس سره أنّه حكى عن أبي حنيفة القول بصحّة لو قال: إن خطت هذا الثوب فارسيّاً فلك درهم و روميّاً فدرهمان الإجارة في التقدير الأوّل الواقع في عبارة المستأجر، و الحكم بثبوت اجرة المثل في التقدير الآخر، و لكن صرّح في مفتاح الكرامة بأنّ أبا حنيفة ممّن يقول بصحّة العقد

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 2/ 181.

(2) الخلاف: 3/ 510 مسألة 40.

(3) تذكرة الفقهاء: 2/ 294.

(4) التنقيح الرائع: 2/ 265.

(5) مجمع الفائدة و البرهان: 10/ 24 25.

(6) كفاية الأحكام: 125.

(7) اللمعة الدمشقية: 94.

(8) تحرير الأحكام: 3/ 83، و فيه: «جاز على إشكال».

(9) السرائر: 2/ 478.

(10) مختلف الشيعة: 6/ 130 مسألة 31.

(11) إيضاح الفوائد: 2/ 248.

(12) حكى عنه في مفتاح الكرامة: 7/ 106.

(13) حاشية الإرشاد (المطبوع مع غاية المراد): 2/ 310.

(14) جامع المقاصد: 7/ 107.

(15) مسالك الأفهام: 5/ 182، الروضة البهية: 4/ 334 335.

(16) مسالك الأفهام: 5/ 182، الروضة البهية: 4/ 334 335.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص:

91

..........

______________________________

على التقديرين في هذا الفرض «1»، و ذهابه إلى ما ذكر إنّما هو في الفرع الآخر «2»، «3» و يمكن التفصيل في مثل المقام بين ما إذا كان للتقديرين جامع قريب حتّى يقال بأنّه متعلّق العقد و مورد الإجارة، سواء كان الاختلاف بين الفردين بنحو الأقل و الأكثر كما في المثال المفروض؛ و هي الخياطة بدرز واحد أو بدرزين، أو بغير هذا النحو، و بين ما إذا لم يكن لهما جامع كذلك، كما لو قال له: «إن خطت لي ثوباً فلك كذا» و «إن حملتني إلى مكان كذا فلك كذا»، و أسوأ منه ما إذا لم يكن بينهما جامع أصلًا، كما لو قال له: «آجرتك داري شهراً بكذا» أو «استأجرتك للخياطة بكذا» بنحو تكون إجارة واحدة مردّدة بين إجارة الدار و استئجاره للخياطة.

و كيف كان، فملاحظة كلمات الأصحاب المذكورة في مفتاح الكرامة تقضي بعدم التجاوز عن قولين: الصحّة مطلقاً، و البطلان كذلك.

إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم أنّ المحقّق الإصفهاني قدس سره صرّح بعدم معقولية هذا النحو من الإجارة، و بأنّ الأمر في عدم المعقولية فيه أوضح من الفرع الأوّل؛ لأنّ المفروض هناك تصوّر ماهية منفعة الدار من دون تعيّن بأحد التعيّنات الثلاثة، و أمّا هنا فلا شي ء حتّى يلاحظ غير متعيّن بأحد التعيّنات، فإطلاق الإبهام عليه بمجرّد الفرض لما مرّ من أنّ كلّ واحد من طرفي الترديد قد أخذ متعيّناً بجميع أنحاء التعيّن الماهوي و الوجودي، فلم يبق شي ء حتّى يلاحظ بلا تعيّن ماهوي أو وجودي، و حيث لا شي ء هنا فلا يعقل أن يكون فرض الترديد مصححاً لتعلّق أيّة

______________________________

(1) الخلاف: 3/ 510 مسألة 40، و المبسوط للسرخسي: 15/ 100، و تبيين الحقائق:

5/ 138، و المغني لابن قدامة: 6/ 87.

(2) الخلاف: 3/ 509 مسألة 39، و المبسوط للسرخسي: 15/ 99 100، و تبيين الحقائق: 5/ 138، و المغني لابن قدامة: 6/ 87.

(3) مفتاح الكرامة: 7/ 108

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 92

..........

______________________________

صفة تعليقة بما لا ثبوت له «1».

أقول: هذه شبهة ثبوتية لو لم تدفع لما وصلت النوبة إلى مقام الإثبات و ملاحظة الأدلّة؛ لأنّ المحال لا يقبل التعبد شرعاً، و لكن الظاهر إمكان دفعها بأنّ التعبير بهذه العبارة في مقام إيقاع عقد الإجارة إن كان الغرض منه كون كلا الأمرين موردين للإجارة. غاية الأمر أنّه يكفي في حصول الغرض الإتيان بواحد منهما، و يستحقّ الأُجرة المعيّنة الواقعة بإزائه، فلا ينبغي الإشكال فيه؛ لأنّ المقام يصير حينئذٍ من قبيل الواجب التخييري، الذي هو سنخ من الوجوب و طور من البعث، و لا وجه لأن يقال: بأنّه بعد ما كان كلّ واحد من طرفي الترديد مأخوذاً متعيّناً بجميع أنحاء التعيّن لم يبق شي ء حتّى يلاحظ بلا تعيّن؛ لاندفاعه بعدم الحاجة إلى بقاء شي ء، بل كلّ واحد من الطرفين المتصف بجميع أنحاء التعيّن متّصف بأنّه مورد الإجارة و متعلّق عقدها. غاية الأمر إنّه لا يلزم الإتيان بكليهما لما مرّ من حصول غرض المستأجر بفعل واحد منهما.

و بالجملة: إن كان الغرض تعلّق الإجارة بكلا الأمرين فلا يبقى مجال لمن تصوّر الوجوب التخييري على نحو يكون كلّ واحد من الفعلين أو الأفعال متعلّقاً للوجوب و مبعوثاً إليه للإشكال في صحّتها في المقام؛ لعدم الفرق.

نعم، لو كان الغرض الترديد في نفس الإجارة؛ بأن كان المستأجر مردّداً في أنّ الإجارة هل تتعلق بالخياطة الرومية أو بالخياطة الفارسية؟ لكان للشبهة المذكورة

مجال و لكنّ الظاهر أنّه خلاف ما هو المتعارف و الواقع في الخارج، هذا بحسب مقام الثبوت.

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 80 81.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 93

..........

______________________________

و أمّا مقام الإثبات، فالظاهر أنّه لا دليل على بطلان هذا النحو من الإجارة، و التعليل بالجهالة كما في «العروة» «1» ممنوع؛ لعدم ثبوت الجهالة هنا لا في العمل و لا في الأُجرة الواقعة بإزائه، كما أنّ الاستناد إلى الإبهام المنافي للملكية في المعاوضات كما في «الجواهر» «2» و لأجله حمل عبارة الشرائع على الجعالة، مع أنّ الكلام إنّما هو في باب الإجارة دونها، و ظهور العبارة في نفسها في الجعالة إنّما يصحّ الاتكال عليه لو لم تكن قرينة قوية على الخلاف ممنوع أيضاً؛ لأنّه لا دليل على لزوم تعيّن العمل المستحق عليه؛ لما أفاده سيّدنا الأُستاذ قدس سره في حاشية العروة من أنّه لا مانع من أن يستحقّ عليه أحد العملين، و يكون التعيين باختيار العامل، و أيّهما فعل استحقّ ما عيّن له من الأُجرة «3».

و دعوى أنّ المتسالم عليه بينهم هو استحقاق الأُجرة بنفس العقد، و في المقام أيّ شي ء يستحقّه الخيّاط في المثال بنفس العقد مدفوعة، بأنّ ما ذكروه إنّما هو في قبال بعض العامّة «4» القائل بتوقّف استحقاق الأُجرة على تماميّة العمل، فمرادهم بذلك نفي ذلك القول، و عليه فالخياط في المثال يستحقّ بنفس العقد الدرهم أو الدرهمين بنحو الإبهام و عدم التعيّن. و كيف كان، فالظاهر أنّه لا دليل على البطلان.

ثمّ إنّه على تقدير القول بصحّة الإجارة على تقديرين تكون الصحّة على فرض «إجارة و اشتراط»؛ بأن يستأجر للخياطة بدرز واحد بدرهم، و اشترط عليه أنّه إن

زاد درزاً آخر يستحقّ عليه درهماً آخر بطريق أولى.

______________________________

(1) العروة الوثقى: 5/ 18 مسألة 11.

(2) جواهر الكلام: 27/ 236.

(3) العروة الوثقى: 5/ 18 19، التعليقة 3.

(4) راجع الخلاف: 3/ 489 490 مسألة 4، و المغني لابن قدامة: 6/ 14.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 94

..........

______________________________

كما أنّ الظاهر أنّه لا مانع بطريق الجعالة، و ما حكي عن العلّامة في المختلف «1» من بطلانها لتطرّق الجهالة مدفوع بعدم كون مثل ذلك قادحاً في الجعالة.

نعم، في صحّة الاشتراط المذكور مجال للمناقشة؛ نظراً إلى أنّ الأمر المشروط إن كان ظرف الإتيان به في ضمن الوفاء بأصل العقد، كما لو فرض أنّ زيادة الدرز الآخر المحقّق للخياطة الرومية في المثال إنّما تتحقّق قبل تمام خياطة الثوب بدرز واحد، الذي هي الخياطة الفارسية، بمعنى أنّ الوفاء بالعقد و العمل بمقتضى الشرط يتحقّقان في عرض واحد، ففي هذه الصورة لا ينبغي الإشكال في لزوم الوفاء بالشرط.

و أمّا لو كان ظرف الأمر المشروط واقعاً بعد مضيّ زمان الوفاء بالعقد و متأخّراً عنه، كما لو فرض أنّ زيادة الدرز إنّما تتحقّق بعد الفراغ عن خياطة الثوب بالخياطة الفارسية، و كما لو فرض استئجاره على الحمل إلى فرسخ بدرهم، و اشترط عليه أنّه إن جاوزه إلى فرسخين يستحقّ درهماً آخر، ففي مثل ذلك يمكن أن يقال: بأنّه لا دليل على لزوم الوفاء بالشرط، نظراً إلى أنّ ما يجب الوفاء به من الشروط هو الشرط الواقع في حيّز العقد المتدلّي فيه، بحيث كان مقتضى وجوب الوفاء به وجوب الوفاء به أيضاً، و من المعلوم أنّ ذلك تابع للعقد، و إذا عمل بمقتضى العقد بإيجاد الخياطة الفارسية أو الحمل إلى فرسخ يسقط وجوب

الوفاء به بسبب الموافقة، و مع سقوطه لا دليل على لزوم الوفاء بالشرط بعد ذلك؛ بأن كان مستحقاً لدرهم آخر على تقدير زيادة درز آخر، أو الحمل إلى فرسخ آخر.

و هذا نظير الإشكال الذي أورده سيّدنا العلّامة الأُستاذ قدس سره في مسألة اشتراط

______________________________

(1) مختلف الشيعة: 6/ 130 مسألة 31.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 95

..........

______________________________

ضمان العين المستأجرة ممّا حاصله: أنّ اشتراط الضمان مناف لما هو الثابت عندهم من بطلان الإجارة بتلف العين المستأجرة؛ لأنّ مرجع اشتراط الضمان إلى ثبوت العين مثلًا أو قيمة في عهدة المستأجر على تقدير التلف، و في هذا التقدير تكون الإجارة باطلة عندهم، و مع فرض البطلان لا يبقى مجال للزوم الشرط؛ لكونه تابعاً لها.

و بعبارة اخرى قبل تلف العين لا معنى للضمان، و بعده لا يبقى موضوع الإجارة، فلا معنى للزوم الوفاء بالشرط في ضمنها كما في سائر العقود، أ لا ترى أنّه لو اشترطت الخياطة في ضمن عقد البيع مثلًا، ثمّ انفسخ البيع بالتقايل أو بغيره، فهل يجب على المشروط عليه الوفاء بالشرط بفعل الخياطة، أم يكون وجوب الوفاء به تابعاً لوجوب الوفاء بالعقد الذي وقع الشرط في ضمنه؟

بل ربما يكون الإشكال في المقام أقوى، نظراً إلى أنّ هناك كان بطلان الإجارة و تحقّق المشروط و هو الضمان كلاهما مسببين عن التلف، واقعين في عرض واحد، و هنا يكون المعلّق عليه الاستحقاق واقعاً بعد سقوط وجوب الوفاء بالعقد بسبب الموافقة؛ لأنّ المعلّق عليه عبارة عن التجاوز و إضافة الدرز الآخر، و من الواضح أنّ مثل هذا العنوان لا يتحقّق إلّا بعد تحقّق متعلّق الإجارة، الموجب لسقوط أمرها.

و من هنا يمكن إسراء هذه الشبهة إلى

ما لو كان كلا التقديرين موردين للإجارة، نظراً إلى أنّه مع الإتيان بالتقدير الأقل يسقط الأمر الإجاري قهراً، نظير الإتيان بأحد طرفي الواجب التخييري، و مع السقوط لا يبقى للتقدير الآخر مجال، كما هو غير خفي.

و يمكن الجواب عن الإشكال في الشرط بأنّه يكفي في لزوم الوفاء بالشرط كونه

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 96

..........

______________________________

واقعاً في حيّز العقد الذي يجب الوفاء به، و لا يفتقر في ذلك إلى بقاء العقد.

و بعبارة أُخرى إذا كان الشرط معلّقاً على شي ء آخر كما في المقام يكون مقتضى وجوب الوفاء بالعقد الذي وقع الشرط في حيزه تحقّق المعلّق عند تحقّق المعلّق عليه في ظرفه، و لا حاجة إلى بقاء العقد حين تحقّق المعلّق، خصوصاً لو كان من قبيل النتائج دون الأفعال؛ لأنّه قبل حصول المعلّق عليه لا وجه لثبوته، و بعد تحقّقه تترتّب عليه النتيجة قهراً. و أمّا اشتراط ضمان العين المستأجرة فسيأتي البحث فيه مفصلًا إن شاء اللّٰه تعالى «1».

و أمّا في الإجارة على التقديرين، فيمكن أن يقال: بأنّ مقتضى الرجوع إلى العقلاء الحكم بكون الاختيار في مقام الوفاء بيد الأجير، فإن اختاره في ضمن الأقل يستحقّ ما يقابله و يسقط الأمر الإجاري، و إن قصده في ضمن الإتيان بالأكثر يتوقّف سقوط الأمر المتعلّق به على ثبوته و لا يسقط قبله، و يمكن إسراء ذلك إلى الأقل و الأكثر في باب العبادات، و نظائره كالإتيان بالصلاة جماعة بعد أدائها فرادى، و التحقيق الزائد موكول إلى محلّه.

[قال المؤلّف دام ظلّه في كتاب الإجارة الثاني]:

و أمّا الفرع الثالث: الذي تعرّض له المحقّق في الشرائع «2»؛ و هو ما لو قال: «إن عملت هذا العمل في

اليوم فلك درهمان و في الغد درهم» فقد استظهر فيه الجواز بعد أن تردّد، و نسب التردّد إلى المبسوط أيضاً «3»، مع أنّ عبارته المحكيّة هكذا: صحّ العقد فيهما، فإن خاطه في اليوم الأوّل

______________________________

(1) في ص 567 601.

(2) شرائع الإسلام: 2/ 181.

(3) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 110.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 97

..........

______________________________

كان له الدرهم، و إن خاطه في الغد كان له اجرة المثل؛ و هو ما بين الدرهم و النصف، لا ينقص من النصف الذي سمّي و لا يبلغ الدرهم «1».

و حكي ذلك عن أبي حنيفة و أنّه وجّهه؛ بأنّ ذلك يجري مجرى العقدين؛ لأنّ خياطة الثاني غير خياطة الأوّل، و لو اقتصر على الأوّل كان جائزاً، و فساد الثاني لا يفسده، و احتجّ على فساد الثاني بأنّه موجب العقد الأوّل؛ لأنّ موجبه أن يجب في الثاني أُجرة المثل «2».

و كيف كان، فالظاهر أنّ الكلام في هذا الفرع هو الكلام في الفرع السابق؛ لأنّهما من وادٍ واحد صحّةً و بطلاناً.

نعم، وقع الإشكال في أنّه مع اتّحادهما في الملاك و الحكم لِمَ اختار المحقّق في الشرائع الصحّة هناك من دون سبق تردّد، و هنا اختار الجواز بعد التردّد، و قد ذكروا في ذلك وجوهاً:

أحدها: ما في مفتاح الكرامة «3» من أنّ الفرع السابق مماثل لقوله: «آجرتك كلّ شهر بدرهمٍ» دون هذا الفرع.

ثانيها: ما احتمله المحقّق الرشتي رحمه الله من استناد الفرق إلى الاختلاف في الزمان الثاني دون الأوّل؛ لأنّ اختلاف الزمان في الأعمال يوجب الاختلاف في الماهية، فيكون كقوله: «إن أسكنتني دارك سنة فلك دينار» و «إن حملتني إلى مكان كذا فلك ديناران» بخلاف «الاختلاف في كيفية

______________________________

(1) المبسوط: 3/

249 250.

(2) مفتاح الكرامة: 7/ 107، و راجع الخلاف: 3/ 509 مسألة 39، و المبسوط للسرخسي: 15/ 99 100، و الهداية للمرغيناني: 3/ 276، و المغني لابن قدامة: 6/ 87.

(3) مفتاح الكرامة: 7/ 108.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 98

..........

______________________________

الخياطة مثلًا، فإنّ رجوعه إلى اشتراط الخصوصية في العقد أقرب «1».

ثالثها: ما احتمله المحقّق الأصفهاني رحمه الله من أنّ الفرع الثالث كمسألة البيع بثمنين حالّا و مؤجّلًا، المعروف فيها الفساد فكذا هنا؛ لأنّه من الإجارة باجرتين حالّا و مؤجّلًا، و هو وجه التردّد غير الجاري في مسألة الخياطة. و وجه استظهار الجواز أنّ إخراج البيع بثمنين عن الترديد و الجهالة لا يكون إلّا بالبيع بالأقلّ، و شرط الزيادة في قبال الأجل، و هو من الربا عندهم دون ما نحن فيه، فإنّ إخراجه عن الجهالة و الترديد بالإجارة بدرهم موسّعاً، و شرط الزيادة في قبال التعجيل بإتيانه في اليوم، و هو مغاير لتلك المسألة التي لا تصلح إلّا بفرض الربا «2»، انتهى. و الظاهر عدم خلوّ شي ء من هذه الوجوه عن المناقشة سيّما الأوّلين.

و أمّا وجه الفرق عند أبي حنيفة، فذكر في مفتاح الكرامة أنّه يتمّ على أصله؛ لأنّه يقول في مسألة الخياطة بأنّه عقد عقدين و خيّره فيهما، و المعقود عليه في الإجارة لا يملك عنده بالعقد، و إنّما يملك بتمام العمل، و إذا عمله تعيّن فلا يؤدّي أنّه ملكه غير معيّن، كما لو قال: «بعتك أحد هذين العبدين» و لا كذلك هنا؛ لأنّ موجب العقد الأوّل فساد الثاني و وجوب اجرة المثل، كما تقدّم «3». [انتهى الكلام من كتاب الإجارة الثاني].

______________________________

(1) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 110.

(2) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة:

82.

(3) مفتاح الكرامة: 7/ 108.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 99

[لو استأجر دابّةً إلى مكانٍ معيّن في وقت معيّن فتخلّف]

مسألة 6: لو استأجر دابّة من شخص لتحمله أو تحمل متاعه إلى مكان في وقت معيّن، كأن استأجر دابّة لإيصاله إلى كربلاء يوم عرفة و لم توصله، فإن كان ذلك لعدم سعة الوقت أو عدم إمكان الإيصال من جهة أُخرى فالإجارة باطلة، و لو كان الزمان واسعاً و لم توصله لم يستحقّ من الأُجرة شيئاً، سواء كان بتقصير منه أم لا، كما لو ضلّ الطريق. و لو استأجرها على أن توصله إلى مكان معيّن لكن شرط عليه أن توصله في وقت كذا، فتعذّر أو تخلّف، فالإجارة صحيحة بالأُجرة المعيّنة، لكن للمستأجر خيار الفسخ من جهة تخلّف الشرط، فإن فسخ ترجع الأُجرة المسمّاة إلى المستأجر، و يستحقّ المؤجر أُجرة المثل (1).

______________________________

(1) في هذه المسألة فرعان: لو استأجر دابّةً إلى مكانٍ معيّن في وقت معيّن فتخلّف الأوّل: ما لو استأجر الدابّة من شخص لتحمله، أو تحمل متاعه إلى مكان في وقت معيّن بنحو يكون الزمان مأخوذاً بنحو القيدية، الراجعة إلى وحدة المطلوب كالمكان المأخوذ، كأن استأجر دابة لإيصاله إلى كربلاء يوم عرفة و لم يتحقّق الإيصال خارجاً، فتارة يكون ذلك لعدم سعة الوقت أو عدم إمكان الإيصال من جهة أُخرى، و أُخرى يكون ذلك بتقصير منه أو ضلّ الطريق، ففي الأوّل تكون الإجارة باطلة؛ لعدم كون العمل المستأجر عليه مقدوراً للأجير، و من شرائط الصحّة ثبوت القدرة، و في الثاني تكون الإجارة صحيحة، و لكنّه حيث لم يتحقّق العمل في الخارج لا يستحقّ من الأُجرة شيئاً؛ لأنّ المفروض كون الإيصال في الوقت المعيّن مأخوذاً بنحو وحدة المطلوب، فلا يكون هناك استحقاق حتّى

بالإضافة إلى المقدار الذي ركبها، أو حملت متاعه، و لو كان هو الجميع.

الثاني: ما لو كان الاستئجار المذكور بنحو يكون الزمان مأخوذاً بنحو الشرطية

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 100

..........

______________________________

الراجعة إلى تعدّد المطلوب فتعذّر الشرط أو تخلّف، تكون الإجارة صحيحة بالأُجرة المعيّنة. نعم، يمكن أن يقال ببطلان الشرط في صورة التعذّر المقرون بالعقد؛ لأنّ من شرائط صحّة الشرط القدرة على تسليمه و العمل به، و حينئذٍ إن قلنا بأنّ الشرط الفاسد مفسد مطلقاً، و لو كان فساده لأجل جهة في نفسه غير مسرية إلى العقد كما في المقام، تكون الإجارة باطلة أيضاً. و كيف كان، فعلى تقدير صحّة الإجارة و الشرط يثبت للمستأجر خيار الفسخ من جهة تخلّف الشرط، فإن فسخ ترجع الأُجرة المسمّاة إلى المستأجر، و يستحقّ المؤجر أُجرة المثل، كما في جميع موارد بطلان الإجارة، على ما سيأتي تفصيله إن شاء اللّٰه تعالى.

[قال المؤلّف دام ظلّه في كتاب الإجارة الثاني]:

قال المحقّق رحمه الله: و لو استأجره ليحمل له متاعاً إلى موضع معيّن بأُجرة في وقت معيّن، فإن قصّر عنه نقص من أُجرته شيئاً، جاز. و لو شرط سقوط الأُجرة إن لم يوصله فيه، لم يجز، و كان له اجرة المثل «1» انتهى.

أقول: الظاهر أنّ مراده قدس سره من أخذ الزمان المعيّن إنّما هو الأخذ على طريق الاشتراط الذي مرجعه إلى تعدّد المطلوب لا الأخذ على سبيل التقييد، الذي مرجعه إلى وحدة المطلوب، و عليه فاشتراط النقص أو السقوط متفرّع على اشتراط الزمان المعيّن، كما أنّ الظاهر انّ مراده من النقص بقرينة التعبير بالسقوط في الصورة الثانية هو السقوط أيضاً؛ لظهور العبارة في كون الفرق بين الصورتين إنّما هو

بالنسبة إلى تمام الأُجرة و بعضها لا في الجهات الأُخر، و عليه فالشرط الثاني المتفرّع على

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 2/ 181.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 101

..........

______________________________

الشرط الأوّل إنّما هو من قبيل شرط النتيجة لا شرط الفعل.

و ممّا ذكرنا ظهر أنّ المفروض في كلام المحقّق في الصورتين إنّما هو ما إذا كانت الإجارة واحدة. غاية الأمر اشتمالها على شرطين، و كون الشرط الثاني متفرّعاً على الشرط الأوّل و تابعاً له.

و قد انقدح من بيان الخصوصيات المفروضة في كلامه قدس سره أنّه يمكن هنا تصوير صور أُخرى كثيرة فاقدة لشي ء من تلك الخصوصيات، أو لأكثرها، أو لجميعها، مثل ما إذا كان الزمان المعيّن مأخوذاً على نحو التقييد، أو كون المشروط بالشرط الثاني الإسقاط الذي هو فعل، أو عدم الثبوت من رأس دون السقوط الذي هو فرع الثبوت، أو كون الإجارة متعدّدة بنحو الترتيب أو التخيير أو غيرها من الفروض المتصوّرة الأُخرى.

و كيف كان، فلا بدّ فعلًا من البحث في الفرعين اللّذين تعرّض لهما المحقّق و سائر الأصحاب، تبعاً للرواية الواردة في هذا المقام، التي سيأتي التعرّض لها، فنقول:

أمّا الفرع الأوّل: فالمشهور «1» فيه على الصحّة و الجواز، بل المحكي عن إيضاح النافع أنّه الذي عليه الفتوى «2»، و خالفهم في ذلك ابن إدريس «3» و العلّامة في المختلف «4» و ولده في شرح الإرشاد «5» و المحقّق و الشهيد

______________________________

(1) النهاية: 448، المهذّب: 1/ 487، قواعد الأحكام: 2/ 284، التنقيح الرائع: 2/ 263- 264، رياض المسائل: 6/ 24، و ادّعى الشهرة في غاية المرام: 2/ 317 و جواهر الكلام: 27/ 229.

(2) حكى عنه في مفتاح الكرامة: 7/ 108.

(3) السرائر: 2/ 469.

(4) مختلف

الشيعة: 6/ 118 مسألة 16.

(5) حكى عنه في مفتاح الكرامة: 7/ 110.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 102

..........

______________________________

الثانيان «1»، فحكموا بالبطلان، و إن اختلفوا من جهة كون الموضوع لهذا الحكم هل هو الشرط فقط، كما حكي عن الأوّل، أو هو مع العقد، كما حكي عن الباقين؟ و لا بدّ لنا أوّلًا من التكلّم فيما تقتضيه القاعدة ثمّ البحث في الرواية.

فنقول: بعد بيان أنّ محطّ النظر في بيان مقتضى القاعدة ليس خصوص هذا الفرع الذي عنونه الأصحاب في كتبهم، بل مطلق موارد اشتراط نقص الأُجرة، و لو لم يكن لأجل التخلّف عن الزمان المعيّن، بل لأجل أُمور أُخر، و بعد بيان أنّ محلّ النزاع هي الصورة التي كانت صحّة الإجارة مع قطع النظر عن هذا الشرط مفروغاً عنها، و عليه فبعض صور أخذ الزمان بنحو التقييد و وحدة المطلوب الذي تكون الإجارة فيه باطلة، خارج عمّا هو محلّ الكلام هنا، بل يمكن أن يقال بخروج جميع صور أخذ الزمان كذلك، أي بنحو القيدية؛ لأنّ اشتراط النقص على فرض التخلّف مرجعه إلى عدم كون الزمان مأخوذاً بنحو وحدة المطلوب، و إلّا فمع تعلّق الغرض بالعمل الخاصّ مكاناً و زماناً لا يبقى مجال لجعل اجرة و لو ناقصة بإزاء العمل الواقع في غير ذلك الزمان، فاشتراط النقص يساوق كون الزمان مأخوذاً بنحو الاشتراط لا التقييد.

نعم، لا يختصّ محلّ النزاع بما إذا لم يكن للمشترط خيار في عقد الإجارة، كما لا يخفى.

و كيف كان، فقد يقال في المقام: بأنّ مقتضى القاعدة هي البطلان و عدم الصحّة، و الذي قيل في وجهه أو يمكن أن يقال أُمور:

______________________________

(1) جامع المقاصد: 7/ 107، مسالك الأفهام: 5/ 181، الروضة

البهية: 4/ 335 336.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 103

..........

______________________________

أحدها: الغرر الذي ينشأ من الجهالة؛ لأنّه لم يعلم الوصول في ذلك الزمان المعيّن حتّى يستحقّ تمام الأُجرة، أو في غيره حتّى لا يستحقّ إلّا البعض، و هذا غرر يوجب بطلان الإجارة أيضاً لسراية الجهالة إليها، و في الحقيقة تكون الأُجرة غير معلومة.

و يرد عليه: مضافاً إلى عدم الدليل على قدح الغرر في الإجارة كما عرفت «1»، منع تحقّق الغرر فيها؛ لأنّ المفروض عدم كون الصورتين مورداً للإجارة، بل مورد الإجارة هو نفس العمل و الأُجرة بإزائها. غاية الأمر أنّه اشترط فيها زمان معيّن، و وقع في ضمنه اشتراط النقص على فرض التخلّف عنه، فمورد الإجارة هي نفس العمل، و الأُجرة الواقعة بإزائها معلومة و هي الأُجرة الكاملة، و اشتراط النقص لا يرجع إلى عدم الثبوت، بل هو متفرّع عليه و ملحوظ بعد تحقّقه، فلا جهالة فيها أصلًا. و من هنا ظهر أنّ تنظير المقام بمسألة البيع بثمنين نقداً و نسيئة في غير محلّه؛ لعدم كون صورة عدم الإيصال مورداً للإجارة، بل صورة الإيصال أيضاً؛ لأنّ موردها هو نفس العمل المعلوم، الذي وقع بإزائه أُجرة معلومة كما لا يخفى.

ثانيها: الإبهام و عدم التعيين؛ نظراً إلى أنّ الأُجرة مردّدة بين التامّة و الناقصة، فيكون كبيع الدار مثلًا بأحد هذين العبدين.

و الجواب عنه يظهر ممّا تقدّم من أنّ الأُجرة لا تكون مردّدة بينهما أصلًا، بل هي الأُجرة التامّة الواقعة بإزاء نفس العمل، غاية الأمر أنّه اشترط نقصها بمقدار معيّن في فرض التخلّف عن الزمان المعيّن

______________________________

(1) في ص 23.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 104

..........

______________________________

المشروط، و هذا لا يوجب الترديد

في أصل الأُجرة، فالتنظير بمثال البيع المذكور في غير محلّه أيضاً.

ثالثها: التعليق نظراً إلى أنّ النقص المشترط إنّما هو معلّق على عدم الوصول، و هو أمر غير معلوم الحصول، و التعليق في مثله باطل.

و يرد عليه: أنّ التعليق القادح على تقدير تسليمه إنّما هو فيما إذا كان إنشاء المعاملة و إيقاعها معلّقاً على أمر موصوف بالوصف المذكور، و هنا الإنشاء لا يكون معلّقاً بوجه، و التعليق في الشرط لم يقم دليل على كونه مبطلًا له فضلًا عن كونه موجباً لبطلان الإجارة أيضاً، بل ظاهرهم أنّ الحكم بالصحّة في مسألة اشتراط الخيار معلّقاً بردّ الثمن إنّما هو على وفق القاعدة «1».

رابعها: كون هذا الشرط مخالفاً لمقتضى العقد، نظراً إلى أنّ العقد يقتضي الأُجرة التامّة، و الشرط يخالفه في ذلك.

و يرد عليه: ما عرفت من أنّ محلّ البحث إنّما هو اشتراط السقوط، الذي هو فرع الثبوت، فهذا الشرط مضافاً إلى أنّه لا يكون مخالفاً لما يقتضيه العقد ربما يكون مؤكّداً له، كما لا يخفى.

و قد انقدح ممّا ذكرنا أنّه لم يثبت اقتضاء القاعدة للبطلان، بل مقتضى عموم دليل الشرط «2» صحّة هذا الاشتراط في المقام، بناءً على كون العموم مسوقاً لإفادة الصحّة و اللزوم معاً، و أمّا بناءً على إفادته لمجرّد اللزوم في الشرط الذي كانت صحّته مفروغاً عنها بدليل آخر، فلا بدّ من

______________________________

(1) راجع كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري: 5/ 125 131.

(2) وسائل الشيعة: 18/ 16، كتاب التجارة، أبواب الخيار ب 6، مستدرك الوسائل: 13/ 300، كتاب التجارة، أبواب الخيار ب 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 105

..........

______________________________

إقامة الدليل على صحّة هذا الاشتراط في المقام، و حينئذٍ نحتاج إلى التمسّك بالرواية لأجل

ذلك، فتأمّل جيّداً.

نعم، ربما يقال مع قطع النظر عن الرواية بأنّه لا مجال للتمسّك بعموم دليل الشرط لإثبات المشروعية في المقام، و لو قيل بكون الدليل مسوقاً لإفادة المشروعية و اللزوم معاً، و ذلك لأجل الاستثناء الواقع فيه؛ و هو استثناء الشرط المخالف لكتاب اللّٰه، نظراً إلى أنّه لم يحرز عدم كون هذا الشرط مخالفاً لكتاب اللّٰه؛ لأنّه و إن لم يكن المراد بالمستثنى هي المكتوبات في اللّوح المحفوظ، و إن لم تكن مبيّنة في الكتاب و السنّة، إلّا أنّه ليس المراد به أيضاً خصوص ما صار مبيّناً و وصل إلينا، بل الظاهر أنّ المراد به الوسط بين الأمرين؛ يعني ما وقع مبيّناً، سواء كان واصلًا إلينا، أو غير واصل لأجل الموانع الطارئة، و عليه فيحتمل أن يكون الشرط في المقام مخالفاً لكتاب اللّٰه المبيّن غير الواصل إلينا، إلّا أن يتشبّث لإحراز عدم المخالفة بالاستصحاب، الذي قد تقدّم البحث عنه مفصّلًا.

و بالجملة: مع قطع النظر عن الرواية لا سبيل إلى إحراز كون الشرط في المقام واجداً للشرط و هو عدم المخالفة، بل يمكن أن يقال بأنّه مخالف لكتاب اللّٰه؛ نظراً إلى أنّ مقتضى كتاب اللّٰه الدالّ على لزوم الوفاء بمقتضى الإجارة وجوب أداء الأُجرة الكاملة و تسليمها إلى الأجير، و اشتراط النقص ينافي ذلك؛ لأنّ مقتضاه عدم وجوب تسليم تلك الأُجرة و كفاية أداء الناقصة، إلّا أن يكون مرجع اشتراط سقوط بعض الأُجرة إلى اشتراط عدم ثبوته من الأوّل، الراجع إلى قصور المقتضي فإنّه حينئذٍ لا يكون مخالفاً للكتاب؛ لأنّ وجوب تسليم الأُجرة التامّة إنّما يتفرّع على

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 106

..........

______________________________

تماميّة المقتضي، و المفروض أنّ الشرط صار مانعاً

عن اقتضائه. هذا غاية ما يمكن أن يقال في هذا المقام.

و يرد على الأمر الأوّل: أنّ الظاهر كما عرفت سابقاً أنّ المراد بكتاب اللّٰه هو كتاب اللّٰه الواصل، و لو بقرينة فهم الأصحاب؛ لأنّه بدونه لا يبقى مجال للتمسّك بعموم دليل الشرط في الموارد المشكوكة، كما هو غير خفيّ.

و على الأمر الثاني: منع كون اشتراط النقص مخالفاً لكتاب اللّٰه؛ لأنّ وجوب تسليم الأُجرة الكاملة في صورة اشتراط النقص ممنوع.

و دعوى أنّ المراد بكتاب اللّٰه هو ما كان مكتوباً له تعالى مع قطع النظر عن الاشتراط و من الواضح أنّ الحكم في المقام مع قطع النظر عنه هو وجوب تسليم الأُجرة الكاملة، فالشرط مخالف لكتاب اللّٰه مدفوعة بأنّه يعتبر أن يكون الحكم شاملًا لصورة الاشتراط أيضاً، و لو بالإطلاق، و إلّا فمع عدم الدليل على ثبوت الحكم و لو بالإطلاق في صورة الاشتراط لا مجال لدعوى كون الشرط مخالفاً للكتاب.

ثمّ لو سلّم ذلك، فدعوى الفرق بين هذه الصورة، و بين ما إذا كان الشرط راجعاً إلى عدم الثبوت، و قصور المقتضي بالقول بأنّ الأوّل مخالف للكتاب دون الثاني، غير مسموعة؛ إذ كما أنّ اشتراط نقص الأُجرة يخالف مع ما يدلّ على وجوب تسليم الأُجرة الكاملة، كذلك اشتراط قصور المقتضي و عدم الثبوت ينافي مع ما يدلّ على أنّ عقد الإجارة يقتضي النقل و الانتقال في تمام العوضين و لو بنحو العموم، إذ لا فرق بين الصورتين من هذه الجهة أصلًا، و التحقيق ما عرفت من عدم كون شي ء منهما مخالفاً للكتاب بوجه، هذا كلّه فيما يتعلّق بمقتضى القاعدة.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 107

..........

______________________________

و أمّا الرواية، فهي ما رواه المشايخ الثلاثة عن

منصور بن يونس، عن محمّد الحلبي قال: كنت قاعداً إلى قاضٍ و عنده أبو جعفر عليه السلام جالس، فجاءه رجلان، فقال أحدهما: إنّي تكاريت إبل هذا الرجل ليحمل لي متاعاً إلى بعض المعادن، فاشترطت عليه أن يدخلني المعدن يوم كذا و كذا؛ لأنّها سوق أخاف أن يفوتني، فإن احتبست عن ذلك حططت من الكراء لكلّ يوم احتبسته كذا و كذا، و أنّه حبسني عن ذلك اليوم كذا و كذا يوماً، فقال القاضي: هذا شرط فاسد وفّه كراه، فلمّا قام الرجل أقبل إليَّ أبو جعفر عليه السلام فقال: شرطه هذا جائز ما لم يحطّ بجميع كراه «1».

و الكلام في هذه الرواية تارةً من حيث السند و أُخرى من جهة المتن، أمّا من حيث السند، فقد وقع الإشكال و الخلاف في منصور بن يونس، الذي يقال له بُزُرج، و منشأ الإشكال ما قاله النجاشي «2» في حقّه: من أنّه ثقة، و ما رواه الكشي عن حمدويه قال: حدّثنا الحسن بن موسى قال: حدّثني محمّد بن الأصبغ، عن إبراهيم، عن عثمان بن القاسم قال: قال لي منصور بزرج: قال لي أبو الحسن عليه السلام و دخلت عليه يوماً: يا منصور أما علمت ما أحدثت في يومي هذا؟ قال: قلت: لا، قال: قد صيّرت عليّاً ابني وصيّي، و الخلف من بعدي، فادخل عليه فهنّأه بذلك و أعلمه إنّي أمرتك بهذا، قال: فدخلت عليه فهنّأته بذلك و أعلمته أنّ أباه أمرني بذلك، قال الحسن بن موسى: ثمّ جحد منصور هذا بعد ذلك لأموال كانت في يده

______________________________

(1) الكافي: 5/ 290 ح 5، الفقيه: 3/ 22 ح 58، التهذيب: 7/ 214 ح 940، وسائل الشيعة: 19/ 116، كتاب الإجارة ب 13

ح 2.

(2) رجال النجاشي: 413 رقم 1100.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 108

..........

______________________________

فكسرها، و كان منصور أدرك أبا عبد اللّٰه عليه السلام «1»، انتهى.

و قال في الخلاصة: الوجه عندي التوقّف فيما يرويه و الردّ لقوله؛ لوصف الشيخ رحمه الله «2» له بالوقف «3»، ثمّ ذكر ما رواه الكشّي مع اشتباه في نقل الرواية.

و بالجملة: فقد وقع الخلاف و الإشكال في هذا الرجل لما ذكر، و الظاهر أنّ مستند الشيخ رحمه الله في الرمي بالوقف هو ما رواه الكشّي، و عليه فالتعارض في الحقيقة واقع بين قول النجاشي بأنّه ثقة، و قول الحسن بن موسى بأنّه جحد النصّ على الرضا عليه السلام؛ لأجل الأموال التي كانت في يده، الدالّ على كونه واقفاً فاسقاً؛ لأنّ هذا الذيل لا يكون جزءاً للرواية بل هو قول الحسن، و الظاهر أنّ قول الحسن لا يبلغ بمرتبة صالحة لأن يعارض قول النجاشي، الذي ضبطه و سعة اطلاعه في هذا الفنّ غير قابل للإنكار، خصوصاً مع كثرة رواية ابن أبي عمير عنه، و كونه من مشايخ محمّد بن إسماعيل بن بزيع، و مع وصف العلّامة في محكي التذكرة هذه الرواية بالصحّة «4»، و مع وصف الصدوق له بكونه مصاحباً للصادق عليه السلام «5».

نعم، يقع الإشكال بعد ذلك في أنّ مجرّد ما ذكرنا هل يوجب حصول الاطمئنان بوثاقة الرجل أم لا؟ و الظاهر حصوله كما لا يخفى.

و أمّا من حيث الدلالة فالظاهر أنّ موردها ما إذا استأجر الإبل لحمل

______________________________

(1) اختيار معرفة الرجال، المعروف ب «رجال الكشي»: 468 469 رقم 893.

(2) رجال الطوسي: 343 رقم 5119.

(3) خلاصة الأقوال في معرفة الرجال: 408 رقم 1650.

(4) تذكرة الفقهاء: 2/ 294.

(5) كمال

الدين و تمام النعمة: 2/ 516 ح 45.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 109

..........

______________________________

متاعه إلى الموضع المعيّن و شرط عليه الزمان المعيّن، و ذكر في ضمن هذا الاشتراط أنّه لو احتبس عن ذلك حطّ من الكراء لكلّ يوم كذا و كذا، و الظاهر من اشتراط الحطّ و إن كان هو شرط الفعل الذي هو عبارة عن التنقيص إلّا أنّ الظاهر كون المراد به هو الحطّ الناشئ عن استحقاق، و مرجعه إلى سقوط بعض الأُجرة بالتخلّف عن الزمان المعيّن، و ليس المراد به اشتراط عدم الثبوت من الأوّل الراجع إلى قصور المقتضي و عدم تأثير العقد في تمليك تمام الأُجرة كما لا يخفى، و عليه فالرواية تدلّ على جواز هذا الشرط ما لم يكن محيطاً بجميع الكراء.

نعم، هنا رواية أُخرى مروية في محكي الدعائم عن الصادق عليه السلام، أنّه سُئل عن الرجل يكتري الدابّة أو السفينة على أن يوصله إلى مكان كذا يوم كذا، فإن لم يوصله يوم ذلك كان الكراء دون ما عقده، قال: الكراء على هذا فاسد، و على المكتري أجر مثل حمله «1».

و حكم في الجواهر «2» بعدم المنافاة بينها و بين الرواية السابقة، نظراً إلى ظهور هذه في جهالة المسمّى على تقدير عدم الإيصال، فيتّجه البطلان الموجب لُاجرة المثل. و قد أورد عليه بالمنع؛ لأنّه ليس المراد بقوله: «دون ما عنده» أمراً مجهولًا، بل المراد به هو النقص بالمقدار الذي يحكم به العرف و العقلاء، و جهالة هذه لا توجب جهالة المسمّى الموجبة للبطلان، و الذي يسهّل الخطب عدم تماميّة سند الرواية، فلا تصل النوبة إلى الدلالة.

______________________________

(1) دعائم الإسلام: 2/ 78 ح 230، مستدرك الوسائل: 14/ 32، كتاب

الإجارة ب 7 ح 1.

(2) جواهر الكلام: 27/ 232.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 110

..........

______________________________

ثمّ إنّ الظاهر عدم اختصاص الحكم المذكور في رواية الحلبي بخصوص موردها؛ و هو ما إذا استأجر الدابّة للحمل و شرط عليه كذا و كذا، بل يعمّ سائر الموارد المشابهة؛ و هو مثل ما إذا استأجر شخصاً للحمل، أي حمل المتاع أو حمل نفسه، و مثل ما إذا اشترط عليه الحطّ و التنقيص على تقدير أمر آخر غير التخلّف عن الزمان المشترط، و غير ذلك من الموارد. هذا تمام الكلام في الفرع الأوّل.

و أمّا الفرع الثاني: و هو اشتراط سقوط الأُجرة إن لم يوصله في الزمان المعيّن المشروط، فيقع الكلام فيه تارةً في جواز هذا النحو من الاشتراط و عدمه، و أُخرى في أنّه على تقدير العدم و بطلان العقد لأجل هذا الشرط هل تثبت اجرة المثل أم لا؟ فنقول:

أمّا الكلام في الجواز و عدمه، فالظاهر أنّ مقتضى القاعدة هو الجواز فيما هو محلّ النزاع بحسب ظاهر الكلمات؛ و هو ما إذا كان أخذ الزمان المعيّن بنحو الاشتراط و تعدّد المطلوب لا بنحو التقييد، و إن كان اشتراط سقوط الأُجرة رأساً على تقدير التخلّف عن ذلك الزمان ربّما يكون ملائماً لكون الزمان مأخوذاً بنحو وحدة المطلوب، كما لا يخفى.

و كيف كان، فمحلّ الكلام هو خصوص صورة الاشتراط، كما أنّ محلّه ما إذا شرط سقوط الأُجرة، و الظاهر من عبارة السقوط أمران: أحدهما: كونه متفرّعاً على الثبوت، و الآخر: كونه من قبيل النتائج دون الأفعال، و عليه فاشتراط عدم الثبوت من رأس الذي كان مرجعه إلى قصور المقتضي، و عدم تأثير العقد بالنسبة إلى الأُجرة خارج عمّا هو

محلّ الكلام هنا، كما أنّ اشتراط الإسقاط الذي هو من الأفعال أيضاً كذلك و إن كان الظاهر جواز اشتراط الإسقاط؛ لعدم مانع عن صحّته.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 111

..........

______________________________

نعم، في اشتراط عدم الثبوت كلام من جهة كون الشرط مخالفاً لمقتضى الإجارة، حيث إنّ مرجعه إلى استحقاق العمل عليه بعقد الإجارة بلا اجرة، فيكون مثل قوله: «آجرتك بلا اجرة» و إن كان ربما يمنع ذلك؛ نظراً إلى أنّ اشتراط سقوط الأُجرة مخالف لمقتضى العقد فيما إذا كان منجّزاً، و أمّا فيما إذا كان معلّقاً على تقدير يمكن أن يحصل و يمكن أن لا يحصل فلا يكون مخالفاً لمقتضاه مطلقاً بل، على تقدير حصول ذلك الأمر، و عليه فلا بدّ من الحكم بكون العقد مراعى لا إبطاله من أوّل الأمر قبل تحقّق المعلّق عليه.

و كيف كان، فمحلّ الكلام هو اشتراط السقوط المتفرّع على الثبوت، كما أنّ محلّه ما إذا كان المشروط سقوط الأُجرة المسمّاة، و أمّا لو شرط سقوط مطلق الأُجرة حتّى اجرة المثل فهو خارج عن محلّ البحث و إن كان فيه شبهة؛ نظراً إلى أنّ اجرة المثل إنّما تكون متفرّعة على بطلان العقد، و في مرتبة البطلان لا معنى لنفوذ الشرط و لزوم الالتزام به، و لكنّه يدفعها مضافاً إلى أنّ مورد هذه الشبهة ما إذا كان الزمان مأخوذاً بنحو التقييد دون الاشتراط؛ لأنّه على التقدير الثاني لا مجال لفرض البطلان؛ لأنّ تخلّف الشرط لا يوجب بطلان العقد ما عرفت سابقاً في مسألة اشتراط ضمان العين المستأجرة من كفاية حدوث العقد صحيحاً في لزوم الوفاء بالشرط المذكور في ضمنه «1».

إذا تقرّر لك محلّ النزاع يظهر أنّ مقتضى القاعدة فيه الجواز

و الصحّة، و أنّه لا يكون مخالفاً لمقتضى العقد؛ لأنّ غاية مقتضاه هو ثبوت الأُجرة،

______________________________

(1) في ص 94 96.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 112

..........

______________________________

و الشرط لا ينافي ذلك بل متفرّع عليه، و هذا هو الوجه في الجواز لا ما أفاده الشهيد رحمه الله في اللمعة بعد الحكم بعدم الصحّة، بقوله: و في ذلك نظر؛ لأنّ قضية كلّ إجارة المنع من نقيضها، فيكون قد شرط قضية العقد، فلم تبطل في مسألة النقل أو في غيرها. غاية ما في الباب أنّه إذا أخلَّ بالمشروط يكون البطلان منسوباً إلى الأجير، و لا يكون حاصلًا من جهة العقد «1»، انتهى. و ذلك لأنّ الظاهر أنّ المفروض في كلامه ما إذا كان أخذ الزمان بنحو التقييد لا بنحو الاشتراط، و إلّا لما كان الفعل في غير ذلك الزمان نقيضاً للعقد حتّى يكون مقتضاه المنع عنه، كما لا يخفى.

نعم، يرد عليه أنّه على تقدير التقييد أيضاً لا وجه للحكم ببطلان الإجارة مع الإخلال بالقيد؛ لأنّ عدم الإتيان بمتعلّق الإجارة و عدم تسليم العمل الخاصّ لا يوجب البطلان.

و كيف كان، فالقاعدة في مثل المقام تقتضي الجواز و النفوذ. نعم، يبقى الكلام في أنّه على تقدير البطلان هل يكون مقتضاه فساد العقد أيضاً أم لا؟

قال صاحب الجواهر رحمه الله بعد الحكم بعدم جواز هذا الشرط، نظراً إلى كونه منافياً لمقتضى العقد: و بفساده يفسد العقد كما هو الأصحّ «2». و قال المحقّق الرشتي رحمه الله بعد الإشارة إلى هذا الكلام: و لعلّه خلاف مختاره في مسألة فساد العقد بفساد الشرط، ثمّ قال: و قد يوجّه بأنّ هذا الشرط مفسد للعقد إجماعاً؛ لأنّه مناف لمقتضى العقد، و الشرط الذي

لا يفسد

______________________________

(1) اللمعة الدمشقية: 94 95.

(2) جواهر الكلام: 27/ 233.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 113

..........

______________________________

العقد على القول به ما يكون فساده من جهة أُخرى «1»، انتهى.

أقول: إن كان المستند في ذلك هو الإجماع على أنّ الشرط المنافي لمقتضى العقد مفسد له فهو على تقدير تحقّقه لا محيص عنه، و إن كان المستند فيه هو مجرّد المنافاة لمقتضى العقد كما يظهر من التعليل به، فنقول: إنّ مجرّد ذلك لا يقتضي بطلان العقد، و لو كان مرجع الاشتراط إلى قصور المقتضي و عدم الثبوت من الأوّل، فضلًا عمّا لو اشترط السقوط المتفرّع على الثبوت؛ لأنّ المنافاة له لا تقتضي إلّا الحكم بفساد المنافي، و لا يوجب خللًا في العقد من جهة التأثير و الاقتضاء أصلًا، فتدبّر.

هذا كلّه مع قطع النظر عن رواية الحلبي المتقدّمة، و أمّا مع ملاحظتها فذيلها يدلّ على جواز الشرط ما لم يكن محيطاً بجميع الكراء، و قد عرفت أنّ الظاهر من موردها ما إذا اشترط السقوط المتفرّع على الثبوت لا عدم الثبوت؛ نظراً إلى أنّ المراد من الكراء في قوله: «حططت من الكراء» هو الكراء الثابت لا الكراء المفروض، و الظاهر أنّ المراد من الجواب هو الإحاطة بجميع الكراء خارجاً بحسب تعدّد الأيّام التي احتبس عنها، و صيرورة المجموع ممّا وقع بإزاء كلّ يوم بمقدار الكراء، و أمّا لو كان محيطاً بجميع الكراء من الأوّل؛ بأن شرط سقوط الأُجرة على تقدير التخلّف عن الزمان المعيّن و لو لحظة على نحو ناقض العدم لا الاستيعاب كما في مورد الرواية فهو خارج عنها. نعم، يستفاد حكمه من الرواية كما لا يخفى.

______________________________

(1) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 104.

تفصيل الشريعة في شرح

تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 114

..........

______________________________

و كيف كان، فقد وقع الاختلاف بينهم في أنّه هل اللّازم حمل هذا الذيل على التعبّد؛ نظراً إلى اقتضاء القاعدة للجواز في الفرعين كما هو الظاهر، أو أنّ مقتضى القاعدة هو الفرق بينهما، أو أنّه يحمل النصّ على اشتراط الجعالة في ضمن الإجارة؛ لأنّ شرط سقوط البعض بحسب أيّام الحبس لا مانع عنه إلّا الجهالة التي لا تقدح في الجعالة، بخلاف شرط سقوط الكلّ، فإنّ الجعالة بلا اجرة غير مشروعة، فتكون فاسدة؟ فهذه وجوه ثلاثة اختار الأوّل المحقّق الأصفهاني رحمه الله «1». و الثاني صاحب الجواهر رحمه الله «2». و الثالث المحقّق الرشتي رحمه الله «3».

هذا، و لكن الظاهر كما عرفت هو الوجه الأوّل؛ لأنّ القاعدة لا تقتضي الفرق، و حمل النصّ على الجعالة في كمال البُعد. و أمّا ما حكي عن الشيخ العلّامة الأنصاري رحمه الله «4» من رجوع شرط سقوط الأُجرة إلى شرط الأرش بين الأُجرتين و الأرش المستوعب غير معقول، فلا معنى لاشتراطه. فيرد عليه أوّلًا منع الرجوع إليه، و ثانياً منع كونه موجباً لفساد العقد، كما لا يخفى.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ الرواية تكون غاية مفادها مجرّد فساد الشرط مع الإحاطة بجميع الكراء، و أمّا بطلان العقد فيبتني على القول بأنّ الشرط الفاسد مطلقاً، أو في خصوص مثل المقام؛ و هو الشرط المنافي لمقتضى العقد على تقدير تسليم ذلك، مفسد أم لا؟ فإن قلنا بعدم البطلان كما هو

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 75.

(2) جواهر الكلام: 27/ 234.

(3) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 105.

(4) كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري: 5/ 398 399.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 115

..........

______________________________

الظاهر فاللّازم ثبوت الأُجرة المسمّاة

على تقدير عدم اختيار الفسخ في صورة التخلّف عن الزمان المشترط، و إن قلنا بالبطلان فاللّازم ثبوت اجرة المثل. هذا تمام الكلام في أصل الجواز.

و أمّا الكلام في ثبوت اجرة المثل على تقدير فساد هذا الشرط و إفساده للعقد، فالظاهر أنّه لا مجال للإشكال فيها فيما هو محلّ النزاع من أخذ الزمان بنحو الاشتراط؛ لأنّ الإتيان بالعمل في غير ذلك الزمان إنّما وقع بعنوان الوفاء بعقد الإجارة و باعتقاد كونه ملزماً به. غاية الأمر أنّ فساده صار مانعاً عن ثبوت الأُجرة المسمّاة، فاللّازم بمقتضى احترام العمل وقوع اجرة المثل بإزائه كما هو الظاهر.

و أمّا لو كان الزمان مأخوذاً بنحو التقييد، فتارةً يقع الكلام في بطلان الإجارة على فرض التخلّف عن ذلك الزمان، و أُخرى في ثبوت اجرة المثل.

أمّا الأوّل: فقد عرفت أنّ ظاهر عبارة الشهيد في اللمعة أنّ الإخلال بالزمان المعيّن يوجب البطلان مع أنّه لا وجه له؛ لأنّ عدم الإتيان بمتعلّق الإجارة، و عدم تسليم العمل الخاصّ لا يوجب الخلل في نفس العقد المقتضي لتمليك العمل و تملّك الأُجرة.

و أمّا الثاني: فالظاهر أنّه لا وجه لثبوت اجرة المثل بعد عدم الإتيان بمتعلّق الإجارة، و ما أفاده المحقّق الأصفهاني رحمه الله «1» من أنّ المنفيّ في هذه الصورة هي الأُجرة المعيّنة لا اجرة المثل لقاعدة الاحترام، فيه ما عرفت من عدم ثبوت احترام لعمله حينئذٍ، فلا وجه لثبوت اجرة المثل فافهم. [انتهى الكلام من كتاب الإجارة الثاني].

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 67 69.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 116

[إجارة الدابة ليوم عرفة]

مسألة 7: لو كان وقت زيارة عرفة و استأجر دابّة للزيارة فلم يصل و فاتت منه صحّت الإجارة، و يستحقّ المؤجر

تمام الأُجرة بلا خيار ما لم يشترط عليه في عقد الإجارة إيصاله يوم عرفة، و لم يكن انصراف موجب للتقييد (1).

______________________________

(1) لو كان وقت زيارة عرفة و استأجر دابّة للزيارة، فإمّا أن يكون هناك انصراف موجب للتقييد بالإيصال يوم عرفة، أو يكون هناك اشتراط في نفس العقد، و إمّا أن لا يكون شي ء من الانصراف و الاشتراط، و لا ذكر لعنوان «عرفة» كما هو المفروض، و لم يتحقّق الإيصال في شي ء من الصور، ففي الصورة الأُولى ربما تكون الإجارة باطلة، لما عرفت في المسألة المتقدّمة من التفصيل في صورة التقييد.

و في الصورة الثانية تكون الإجارة صحيحة، لكن استحقاق المؤجر تمام الأُجرة يتوقّف على عدم فسخ المستأجر؛ لأجل خيار تخلّف الشرط الثابت له، و في الصورة الثالثة تكون الإجارة صحيحة بلا خيار، و يستحقّ المؤجر تمام الأُجرة و وجهه واضح.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 117

[اعتبار ذكر المدّة في الإجارة و أنّه هل يشترط اتّصالها بالعقد أم لا؟]

مسألة 8: لا يشترط اتّصال مدّة الإجارة بالعقد، فلو آجر داره في شهر مستقبل معيّن صحّ، سواء كانت مستأجرة في سابقه أم لا، و لو أطلق تنصرف إلى الاتّصال بالعقد لو لم تكن مستأجرة، فلو قال: «آجرتك داري شهراً» اقتضى الإطلاق اتّصاله بزمان العقد، و لو آجرها شهراً و فهم الإطلاق أعني الكلّي الصادق على المتّصل و المنفصل فالأقوى البطلان (1).

______________________________

(1) لا بدّ في هذه المسألة من التكلّم في مقامات:

المقام الأوّل: أنّه هل يشترط في صحة الإجارة ذكر المدّة مطلقاً، أو لا يشترط كذلك، أو يفصّل بين إجارة الأعيان و بين الإجارة على الأعمال مطلقاً، بالاشتراط في الأوّل دون الثاني، أو يفصّل في الثاني أيضاً بين ما لو كان الغرض متعلّقاً بوقوع العمل في زمان خاصّ

فيشترط، و بين ما إذا لم يتعلّق الغرض إلّا بذات العمل فلا؟ وجوه.

و الظاهر أنّه لا مجال للخدشة في لزوم ذكر المدّة في إجارة الأعيان؛ لأنّ تقدير المنفعة لا يتحقّق إلّا بذكر مدّة خاصّة، بل ربما يقال بعدم إمكان تحقّق المنفعة بدون المدّة؛ بمعنى أنّه لا وجود لموضوعها بدونه، و كيف كان فلا إشكال بل الظاهر أنّه لا خلاف في اعتبار ذكر المدّة المعيّنة في إجارة الأعيان، و قد ذكرنا سابقاً «1» أنّه لا ينبغي توهّم أنّ الاقتصار على مجرّد ذكر المدّة يكفي في رفع الغرر في هذا النحو من الإجارة؛ لأنّ ارتفاع الجهالة و الغرر لا يتحقّق بمجرّد ذكر المدّة، بل لا بدّ من ارتفاعها من جميع

______________________________

(1) في ص 57 58.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 118

..........

______________________________

الجهات التي بها تختلف الرغبات و الأغراض، و لها دخل في القيمة قلّة و كثرة، و بالجملة ذكر المدّة في هذا القسم ممّا لا محيص عنه.

و أمّا الإجارة على الأعمال، فيظهر من جملة من الكلمات أنّه لا يلزم فيها ذكر المدّة، بل المحكي عن التحرير «1» أنّه أفاد في مقام بيان الضابط أنّ ما كان له عمل يجوز تقديره بالزمان و بالعمل على نحو التخيير، و ما ليس له عمل كالدار و الأرض و نحوه يختصّ تقديره بالزمان. و عليه فلا يلزم ذكر الزمان و المدّة في الإجارة على الأعمال، مع أنّ مقتضى دليل النهي عن الغرر «2»، الذي هو المستند لهم في مثل هذه الموارد عدم الفرق بين القسمين، فإنّ مجرّد التقدير بالعمل كخياطة هذا الثوب لا يرتفع به الجهالة، و لا يسدّ به باب الغرر، بل لا بدّ من ذكر الزمان

و المدّة، و أنّ ظرف الخياطة لا بدّ أن لا يتأخّر عن الزمان الفلاني من شهر أو شهرين مثلًا أو نحوهما، ضرورة اختلاف الأغراض بذلك اختلافاً فاحشاً، و تفاوت الرغبات باختلافه تفاوتاً كاملًا.

نعم، يقع الكلام في أنّ لزوم ذكر المدّة هل هو في خصوص ما كان الغرض متعلّقاً به، أم الأعمّ منه و ممّا إذا لم يتعلّق غرض المستأجر إلّا بنفس العمل؟ و الظاهر ابتناء هذه الجهة على أنّ الغرر المنهيّ عنه هل هو الغرر النوعي و إن لم يكن في شخص المقام غرر أصلًا، أو الغرر الشخصي الذي ملاكه تحقّق الغرر في خصوص المعاملة الواقعة بينهما؟ فعلى الأوّل لا يكفي مجرّد عدم تعلّق غرض مستأجر خاص بوقوع الفعل في الزمان الخاصّ، بل يلزم ذكر المدّة مطلقاً، و على الثاني يتوجه التفصيل بين

______________________________

(1) تحرير الأحكام: 3/ 85.

(2) تقدّم في ص 22.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 119

..........

______________________________

الصورتين. هذا، و الظاهر من كلماتهم في نظائر المقام هو الأوّل، و إن كان الثاني غير بعيد، فتدبّر جيّداً.

المقام الثاني: في أنّه على تقدير اعتبار ذكر المدّة هل يشترط اتصالها بالعقد أم لإبل يجوز أن تكون منفصلة؟ و فيه قولان: حكي الأوّل عن الشيخ قدس سره «1» و أبي الصلاح التقي الحلبيّ «2»، و الثاني عن المشهور «3»، بل في محكي التذكرة الإجماع عليه «4».

قال الشيخ في المبسوط: و من شرط صحّة العقد أن تكون المنفعة متّصلة بالعقد، و يشترط أنّها من حين العقد، فإذا قال: «آجرتك هذه الدار شهراً» و لم يقل من هذا الوقت، و لكنّه أطلق الشهر فإنّه لا يجوز. و كذلك إن آجره الدار في شهر مستقبل بعد ما دخل،

فإنّه لا يجوز، فعلى هذا، إذا قال في رجب: «آجرتك هذه الدار شهر رمضان» لم تصح الإجارة، و عند قوم تصح، و هو قويّ.

و قال في الخلاف: إذا قال: آجرتك هذه الدار شهراً، و لم يقل من هذا الوقت و أطلق، فإنّه لا يجوز، و كذلك إذا آجره الدار في شهر مستقبل بعد ما دخل، فإنّه لا يجوز و به قال الشافعي «5»، و قال أبو حنيفة: إذا أطلق الشهر جاز و يرجع الإطلاق إلى الشهر الذي يلي العقد و يتعقّبه، و إذا آجره شهراً مستقبلًا جاز ذلك «6». دليلنا: إنّ عقد الإجارة حكم شرعي، و لا يثبت إلّا بدلالة شرعية، و ليس على

______________________________

(1) المبسوط: 3/ 230، الخلاف: 3/ 496 مسألة 13.

(2) الكافي في الفقه: 349.

(3) المهذّب: 1/ 476، السرائر: 2/ 458 و 461، شرائع الإسلام: 2/ 183، إرشاد الأذهان: 1/ 422، مختلف الشيعة: 6/ 103 مسألة 2، و ادّعى الشهرة في الحدائق الناضرة: 21/ 581.

(4) تذكرة الفقهاء: 2/ 297.

(5) راجع مغني المحتاج: 2/ 338، و المغني لابن قدامة: 6/ 6.

(6) راجع المبسوط للسرخسي: 15/ 131، و المغني لابن قدامة: 6/ 6.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 120

..........

______________________________

ثبوت ما قاله دليل، فوجب أن لا يكون صحيحاً «1».

و الذي يظهر من هاتين العبارتين أنّ الشرط في صحّة الإجارة هو الاتّصال، فيخرج صورتان:

إحداهما: ما إذا صرّح بالانفصال، كما في المثال المذكور في العبارة الأُولى.

و ثانيتهما: ما إذا أطلق و لم يصرّح بواحد من الاتّصال و الانفصال، فإنّ هذه الصورة أيضاً فاقدة للشرط الذي هو عبارة عن اتصال المدّة، و هذا بخلاف ما إذا كان الشرط عدم الانفصال، بحيث كان مرجعه إلى مانعية

الانفصال و قادحيته، فإنّه على هذا التقدير لا يكون فرض الإطلاق محكوماً بالبطلان.

و دعوى أنّ فرض الإطلاق محكوم بالبطلان لا من الجهة الراجعة إلى شرطية الاتصال، بل من جهة لزوم الغرر، أو من جهة عدم المعقولية كما ربما يدعى ممنوعة بأنّه لم يعرف وجه لعدم المعقولية، فإنّه كما يمكن إجارة الدار شهراً متّصلًا بالعقد أو منفصلًا عنه، كذلك يمكن إجارتها شهراً من سنة معيّنة بنحو الإطلاق، أو شهراً من أشهر الشتاء أو الصيف مثلًا، بحيث يكون المستأجر مخيّراً بين الشهور، كما في جميع موارد ثبوت الإطلاق، و أمّا الغرر فإنّما يلزم فيما إذا اختلفت الشهور من حيث المالية و الغرض، و أمّا مع عدم الاختلاف فلا يلزم غرر أصلًا، و سيأتي البحث عنه إن شاء اللّٰه تعالى.

و كيف كان، فالكلام في هذا المقام إنّما هو في اشتراط الاتصال في صحّة الإجارة و عدمه، و نقول: ربما يقال: إنّه لا يعقل اشتراط الاتصال لما في المختلف «2» من أنّ

______________________________

(1) الخلاف: 3/ 496 مسألة 13.

(2) مختلف الشيعة: 6/ 104 مسألة 2، و كذا في مسالك الأفهام: 5/ 194 و جواهر الكلام: 27/ 273.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 121

..........

______________________________

شرط الاتصال يقتضي عدمه؛ لأنّ كلّ واحد من الأزمنة التي تشتمل عليها مدّة الإجارة معقود عليها، و ليس غير الجزء الأوّل متّصلًا بالعقد، و متى كان اتصال باقي الأجزاء غير شرط فكذا اتصال الجميع.

و قد دفع هذا القول بأنّ للزمان وحدة اتصالية؛ لأنّه ليس بآنات متتالية، و هذا المتصل الوحداني متصل بحال العقد.

و أورد على هذا الجواب المحقّق الرشتي قدس سره «1» بأنّه مع دقّة النظر و عدم الإحالة إلى العرف يلزم عند من

يشترط الاتصال فساد تحديد المنفعة بالزمان مطلقاً، متصلًا كان أو منفصلًا، و ذلك لاستحالة الجزء الذي لا يتجزّأ، و عليه فلا يعقل الاتصال و لو بجزء من المدّة إلّا على القول بالجزء الذي لا يتجزّأ.

و لكنّه دفعه المحقّق الإصفهاني قدس سره: بأنّ القسمة الممكنة متناهية دون الأعمّ منها و من الوهمية، و لا شبهة في وقوع العقد في زمان خاصّ، مع أنّ ذلك الزمان أيضاً قابل للقسمة، فبناءً على هذا التوهّم يلزم وقوع العقد فيما لا يتناهى، و انطباق المتناهي على غير المتناهي محال، فهذه المدّة المضروبة للمنفعة متصلة خارجاً بزمان العقد، و إن كانت من حيث قبول المتصل الواحد للانقسامات غير متناهية، فهي متناهية بالفعل غير متناهية بالقوّة فلم يلزم استحالة اتصال المدّة بحال العقد «2».

و أُورد عليه بأنّ القسمة التي بها تتقوّم الكمّيات هي القسمة الوهمية، ضرورة أنّ ما يراد من القسمة هنا هي القسمة التي لا تتغيّر بها صورة المقسوم، و القسمة الحقيقية توجب انعدام الصورة الأُولى، و حصول صور متعدّدة حسب تعدّد

______________________________

(1) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 226.

(2) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 161.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 122

..........

______________________________

الأقسام، فالكمّ الذي أُخذ القسمة في تعريفه لا يُراد بالقسمة المأخوذة فيه إلّا الوهمية منها، و المفروض أنّها غير متناهية كما اعترف به قدس سره.

و يمكن الجواب عن هذا الإيراد بأنّه قدس سره لم يرد من القسمة المقابلة للوهمية القسمة التي توجب انعدام صورة المقسوم فعلًا، بل المراد بها هي القسمة التي لو فرض تحقّقها في الخارج لكانت موجبة لذلك، و لكنّها لم تتحقّق في الخارج، و من المعلوم تناهي هذه القسمة كما هو غير خفيّ.

إذا عرفت ما

ذكرنا فلنرجع إلى أصل المسألة، و لنتكلّم في مقام الإثبات الذي هو العمدة فيها، فنقول: إنّ ما قيل في وجه اعتبار اتصال المدّة بالعقد أُمور:

أحدها: ما استدلّ به الشيخ قدس سره في الخلاف في عبارته المتقدّمة: من أنّ عقد الإجارة حكم شرعيّ، و لا يثبت إلّا بدليل، و ليس على صحّة الانفصال دليل، فوجب أن لا يكون صحيحاً.

و الجواب عنه أنّه يكفي في الدليل على الصحّة مع الانفصال عموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ «1» و شبهه من الأدلّة العامّة الدالّة على لزوم الوفاء بكلّ عقد، و لم يرد دليل على اشتراط الاتصال في صحّة عقد الإجارة، و بهذه العمومات الدالّة على اللزوم نستكشف الصحّة أيضاً؛ للملازمة بين اللزوم و الصحّة، و دعوى أنّ العمومات تدلّ على اللزوم في العقود التي كانت صحيحة عند العقلاء و لم يعلم ذلك في المقام، مدفوعة بأنّ تعارف عقد الإجارة مع انفصال المدّة ممّا لا ينبغي الارتياب فيه، كما يظهر بالمراجعة إلى الناس في إجاراتهم، بل نقول: إنّ مجرّد التعارف عند العقلاء مع عدم ورود الدليل على شرطية الاتصال يكفي في الحكم بعدم اعتباره، و لا حاجة

______________________________

(1) سورة المائدة 5: 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 123

..........

______________________________

إلى التمسّك بالعمومات، فتدبّر.

ثانيها: إنّ القدرة على التسليم من شرائط صحّة عقد الإجارة، و انفصال المدّة لا تجامعها؛ لأنّ المعتبر من القدرة هي القدرة الفعلية حال العقد، كما هو مقتضى الأصل في الشرط، و لا تجدي القدرة المتأخّرة إلّا بدليل خاصّ، و من الواضح عدم كون تسليم المنفعة المتأخّرة مقدوراً حال العقد؛ لتقيّدها بالزمان المتأخّر.

و الجواب عنه مضافاً إلى أنّ القدرة على التسليم بعنوانها لا دليل على اعتبارها في صحّة عقد

الإجارة، بل عدم ثبوتها قد يكون قادحاً من جهة أنّه لا تعتبر الملكيّة بدونها، و قد يكون من جهة أنّه مع فقدها تكون المعاملة سفهية غير مشمولة للأدلّة، و ثالثة من جهة الغرر و الجهالة و الخطر، و ليس في المقام شي ء من ذلك. و إلى أنّ القدرة على التسليم متحقّقة حال العقد؛ لوضوح أنّ القدرة على تسليم العين حين العقد قدرة على تسليم جميع المنافع إلى الأبد، و إلّا يلزم الإشكال مع اتصال المدّة أيضاً بالنسبة إلى الأجزاء المتأخّرة كما هو ظاهر-: أنّه لا دليل على اعتبار القدرة الفعلية؛ ضرورة أنّ مناسبة الشرط و المشروط لا تقتضي إلّا اعتبار الشرط في ظرف تحقّق المشروط و ترتّب الأثر عليه، كيف و إلّا يلزم بطلان مثل بيع السلف و السلم مع عدم القدرة حال العقد، و غير ذلك من الموارد، فالقدرة المعتبرة هي القدرة على التسليم في ظرف ترتّب الأثر على العقد و حصول التأثير، كما هو ظاهر.

ثالثها: ما استدلّ لأبي الصلاح «1» من أنّ العقود و الإنشاءات علل للأحكام، فيلزم الاتصال لئلّا يلزم تخلّف المعلول عن العلة، و مرجعه إلى أنّه مع الامتناع

______________________________

(1) مفتاح الكرامة: 7/ 149 و أُنظر الكافي في الفقه: 349 و كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 225.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 124

..........

______________________________

لا يكاد يشمله دليل الصحّة، و إن كان ظاهره العموم، فالفرق بينه و بين الوجه الأوّل ظاهر.

و أُجيب عنه بأنّ الزمان في المنفعة يصحّ اعتباره جزءاً، فكلّ زمان ذكر في الإجارة دخل في ملك المستأجر فعلًا بعد العقد، و إن تأخّر زمان المملوك، فالمعلول و هي الملكيّة الحادثة بحدوث العقد لم يتخلّف عن العلّة إلّا بناءً

على المبنى الفاسد المتقدّم؛ و هو تبعية ملكيّة المنفعة؛ لوجودها على ما ذهب إليه أبو حنيفة كما عرفت، و على هذا المبنى لا يختصّ الإشكال بصورة انفصال المدّة.

و يمكن الجواب عنه أيضاً بمنع كون باب العقود و مثله من الاعتباريات من قبيل الأسباب و المسبّبات التكوينية، فإنّ هذا الباب يدور مدار الاعتبار، و ليس فيه تأثير و تأثر حقيقة حتّى يمتنع تحقّق المؤثر من دون حصول الأثر عقيبه. و الإنصاف أنّ كثيراً من الإشكالات في الموارد المختلفة ينشأ من هذه المقايسة الفاسدة.

رابعها: ما يقال: من اقتضاء الانفصال التعليق في الإجارة، و هو لا يخلو عن الإشكال لو لم يكن ممنوعاً.

و الجواب عنه مضافاً إلى أنّه لا دليل على بطلان التعليق في مطلق العقود-: أنّه ليس في المقام تعليق أصلًا لا في الإنشاء و لا في المنشأ؛ ضرورة أنّه ينشئ ملكيّة منفعة الدار في الشهر المستقبل منجّزاً، و تتحقّق الملكيّة كذلك من دون توقّف على حصول شي ء أصلًا.

نعم، هنا شبهة؛ و هي أنّه على تقدير إنكار الواجب المعلّق كما ذهب إليه جمع من المحقّقين «1» ربما يتوجّه الإشكال هنا من جهة أنّه بمجرّد تماميّة العقد يجب الوفاء

______________________________

(1) راجع مطارح الأنظار: 51، و كفاية الأُصول: 127، و فوائد الأُصول: 1/ 186.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 125

..........

______________________________

به على الطرفين بمقتضى صحّة العقد و لزومه كما هو المفروض، فيجب على المؤجر تسليم العين لعدم تحقّق الوفاء بدونه، لكن التسليم الواجب ليس هو التسليم بعد العقد بلا فصل ضرورة، بل هو التسليم عند حضور المدّة لأجل استيفاء المنفعة فيها، فالوجوب فعليّ و الواجب استقبالي، و لا تنحصر هذه الشبهة بالمقام، بل تجري في كثير

من الموارد، كما إذا باع العين المستأجرة من غير المستأجر، و غيره من الموارد المشابهة له، فإنّه مع إنكار الواجب المعلّق لا بدّ من التخلّص و لا طريق إليه ظاهراً، إلّا بأن يقال: إنّ مضيّ المدّة الفاصلة في هذه الموارد من جملة الشرائط لتمامية السبب و حصول الإرادة.

نظير ما ربما يحتمل في الطلاق الرجعي من أنّ انقضاء العدّة فيه شرط لحصول البينونة و الانقطاع، إلّا أنّ الالتزام بذلك في المقام مرجعه إلى عدم وجوب الوفاء بعقد الإجارة قبل حضور الشهر المستقبل، فيجوز للمؤجر إجارتها من مستأجر آخر مدّة متّصلة مشتملة على المدّة المنفصلة أيضاً، إلّا أن يقال: إنّ مضيّ المدّة هنا نظير التقابض في باب الصرف، حيث إنّ العقد لا يكون تامّاً بدونه، مع أنّه يجب التقابض على المتعاقدين كما قيل، و الذي يهوّن الخطب أنّ هذه الشبهة إنّما تبتني على إنكار الواجب المعلّق، و قد حقّق في محلّه أنّه لا مجال للإنكار أصلًا.

خامسها: ما حكي عن التنقيح «1» و المسالك «2» من أنّ العقد يقتضي استحقاق التسليم بعده، فيكون الانفصال منافياً لمقتضى العقد.

و أجاب عنه المحقّق الرشتي قدس سره بأنّ استحقاق التسليم من مقتضيات إطلاق العقد

______________________________

(1) التنقيح الرائع: 2/ 269.

(2) مسالك الأفهام: 5/ 194.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 126

..........

______________________________

لا ماهيّته، فيصحّ اشتراط الانفصال، هذا على مذاق القوم، و أمّا على طريقتنا من عدم الفرق بين منافي مقتضى الإطلاق و مقتضى الماهية في الفساد، فالجواب أنّ الزمان مأخوذ جزءاً للمنفعة، و إذا اشترط الانفصال كان الذي يدخل في ملك المستأجر هو العمل في الزمان المذكور دون غيره «1».

و أورد عليه المحقّق الإصفهاني قدس سره بعد الاستظهار من كلامه أنّه

كما أنّ الملكيّة فعلية و المملوك متأخّر، كذلك الاستحقاق فعليّ و ما يستحقّه متأخّر، بأنّ الاستحقاق الذي هو بمعنى السلطنة على ماله بحسب حاله لا يعقل أن يتعلّق فعلًا بأمر استقباليّ، فإنّه ليس إلّا بمعنى السلطنة، و تعلّقها بأمر كذلك محال «2».

و لكنّه أجاب عن أصل هذا الوجه بأنّ استحقاق التسليم ليس من مقتضيات العقد بما هو، بل من مقتضيات الملك؛ لتسلّط الناس على أموالهم، فلا محالة يتبع كيفيّة المال المملوك، فإذا كانت المنفعة الحالية مملوكة فلمالكها السلطنة على تسلّمها حالًا، و إذا كانت المنفعة الآتية مملوكة كان له السلطنة على تسلّمها في ظرفها، فالملك لا يقتضي سلطاناً مطلقاً على المال، بل على حسب حاله كالثمن المؤجّل في البيع، و كالأُجرة المؤجّلة هنا، و لعلّه المراد من أنّ الاستحقاق من مقتضيات إطلاق العقد لا ذاته «3».

أقول: يمكن الإيراد على المحقّق الأوّل؛ بأنّ المراد من كون استحقاق التسليم من مقتضيات إطلاق العقد إن كان هو أنّ العقد مع اتّصافه بالإطلاق الذي هو عبارة عن اللابشرط المقسمي يقتضي الاستحقاق، و شرط الانفصال ينافيه، ففي الحقيقة

______________________________

(1) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 226.

(2) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 160 161.

(3) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 160 161.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 127

..........

______________________________

يكون شرط الانفصال منافياً للإطلاق بهذا المعنى.

ففيه: أنّه كما أنّ شرط الانفصال يكون منافياً للإطلاق بهذا المعنى، كذلك شرط الاتصال يكون منافياً؛ لأنّ شرط كلّ واحد من الأقسام ينافي إطلاق المقسم القابل للصدق على جميع الأقسام كما هو واضح. و إن كان المراد من الإطلاق هو اللابشرط القسمي فشرط الانفصال ينافيه، و لا يندفع الإشكال بناءً على كون الشرط المنافي للإطلاق أيضاً فاسداً

بما أفاده؛ لأنّ ما هو مقتضى الإطلاق هو الاستحقاق الذي يكون كلّ واحد منه و من المستحقّ أمراً فعليّاً لا استقبالياً، ضرورة أنّ مقتضى الإطلاق لزوم التسليم بعد العقد بلا فصل؛ لثبوت الاستحقاق كذلك، فكون الاستحقاق فعلياً و ما يستحقّه متأخّراً لا يخرجه عن المنافاة لمقتضى الإطلاق.

نعم، لا يرد عليه ما أورده المحقّق الأصفهاني من استحالة تعلّق الاستحقاق بأمر استقبالي؛ لأنّ ادّعاء الاستحالة في الأُمور الاعتبارية التي تدور مدار الاعتبار ممّا لا وجه له، كما أنّه يمكن الإيراد عليه أيضاً بمنع ما أفاده من كون الاستحقاق من مقتضيات الملك دون العقد، فإنّ مقتضى النظر في كيفيّة المعاملات و وضعها عند العقلاء هو كون استحقاق التسليم و التسلّم من مقتضيات نفس المعاملة لا الملكيّة المترتّبة عليها.

و الحقّ في الجواب هو أنّ شرط الانفصال ينافي مقتضى إطلاق العقد، و لكنّه لا دليل على فساد الشرط المنافي لمقتضى الإطلاق على ما قرّر في محلّه.

و قد انقدح من جميع ما ذكرنا في هذا المقام أنّه لا ينهض شي ء من الوجوه الخمسة المتقدّمة لإثبات اعتبار اشتراط اتّصال مدّة الإجارة، أو إثبات قادحية اشتراط المدّة المنفصلة، كما عرفت.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 128

..........

______________________________

المقام الثالث: فيما لو أطلقت مدّة الإجارة من حيث الاتصال و الانفصال؛ بمعنى عدم لحاظها متصفة بأحد الوصفين واقعاً، كما إذا آجر داره شهراً من سنة معيّنة من دون أن يتعلّق غرضه بخصوصية شهر من شهورها، و لا أن يتعرّض في متن العقد للتعيين أصلًا، فظاهر كلام الشيخ قدس سره بل صريحه في المبسوط «1» و الخلاف «2» الحكم بالبطلان، كما إذا اشترط انفصال المدّة، و الظاهر أنّه لا دليل على البطلان. و الوجوه

الخمسة المتقدّمة في المقام الثاني أكثرها يدلّ على مانعية الانفصال لا شرطية الاتّصال. نعم، مقتضى الوجه الأوّل البطلان في المقام أيضاً، و قد عرفت عدم تماميّة شي ء منها.

و الظاهر أنّ الحكم في المقام صحّةً و بطلاناً يدور مدار الغرر و عدمه، و عليه فإن كانت الأشهر مختلفة من حيث المالية فلا إشكال في ثبوت الغرر و الخطر، و إن لم تكن كذلك كما إذا آجره الدار شهراً من شهور الصيف أو الشتاء مع عدم اختلاف الشهور في المالية، فإن قلنا: بأنّ الغرر الذي يوجب الحكم بالبطلان هو الغرر النوعي، فالظاهر الحكم بالبطلان في المقام أيضاً، و إن قلنا: بأنّ المدار على الغرر الشخصي، فاللّازم الحكم بالصحّة لعدم ثبوت الغرر و الخطر، فتدبّر.

ثمّ إنّه ربما يفصّل كما في الجواهر «3» بين الأعيان و الأعمال باعتبار التعيين في الأُولى دون الثانية؛ نظراً إلى كفاية تقدير نفس العمل في الثانية بخلاف الأوّل، مضافاً إلى ما حكي عن التذكرة «4» من نفي الخلاف عن اعتبار التعيين في الأُولى،

______________________________

(1) المبسوط: 3/ 230.

(2) الخلاف: 3/ 496 مسألة 13.

(3) جواهر الكلام: 27/ 273.

(4) تذكرة الفقهاء: 2/ 317.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 129

..........

______________________________

و قد تقدّم البحث في هذا فراجع «1».

ثمّ إنّه قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ مراد الشيخ قدس سره من الإطلاق الذي حكم ببطلانه هو الإطلاق بمعنى عدم لحاظ المدّة، لا متّصلة و لا منفصلة؛ و هو الذي تكلّمنا فيه في هذا المقام، و أمر هذا الإطلاق يدور بين الصحّة و البطلان. و لا مجال لدعوى اقتضائه الاتصال كما ربما يظهر من عبارة الشرائع «2» فإنّه مع وضوح المراد و ظهور الغرض كيف يمكن الحمل على أمر

آخر يعلم بعدم تعلّق الغرض إليه؟ و أصالة إرادة المسلم الوجه الصحيح إنّما تجدي في خصوص صورة الشكّ، و لا مجال لها مع العلم بالمراد كما هو واضح، فالنزاع في هذا الإطلاق إنّما هو في صحّته كما اخترناه، أو بطلانه كما هو ظاهر كلام الشيخ بل صريحه.

نعم، الإطلاق بالمعنى الآخر و هو الإطلاق الذي يكون مقسماً للأقسام الثلاثة: الاتّصال، و الانفصال، و عدم لحاظ شي ء منهما، يمكن البحث فيه في أنّه هل يقتضي الاتصال أم لا؟ و لكنّه خارج عن كلام الشيخ قدس سره. و دعوى أنّه كيف يعقل أن يكون المقسم مقتضياً لواحد معين من الأقسام، مع اشتمال كلّ واحد منها على قيد زائد على المطلق، الذي تشترك الأقسام فيه فلا معنى لاقتضائه لخصوص واحد من التعيّنات، مدفوعة بأنّ الأمر و إن كان كذلك إلّا أنّه ربما يكون بعض الأقسام و بعض القيود المأخوذ فيه كأنّه ليس بقيد عند العرف، و لا يحتاج إلى مئونة زائدة، كما هو كذلك في الواجب النفسي و الغيري عند دوران الأمر بينهما، حيث إنّ الإطلاق يقتضي الوجوب النفسي مع أنّه قسم من الوجوب في مقابل الغيري،

______________________________

(1) في ص 117 118.

(2) شرائع الإسلام: 2/ 183.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 130

..........

______________________________

و كذلك التعييني في مقابل التخييري، و العيني في مقابل الكفائي، و أشباه ذلك من الموارد.

و السرّ في ذلك أنّ الإطلاق الذي يحمل على بعض القيود ليس هو الإطلاق المقابل للمقيّد، حتّى لا يعقل اقتضاؤه بوصف الإطلاق لشي ء من القيود، بل المراد به هو خلوّ الكلام عن القرينة المعيّنة مع كون المراد واحداً من التعيّنات، لا نفس المطلق بوصف كونه كذلك، و حينئذٍ فالكلام يحمل

على ما لا يحتاج من القيود إلى مئونة زائدة عند العرف، كما في الأمثلة المذكورة.

و الإنصاف وقوع الخلط بين الإطلاق بهذا المعنى، و بين الإطلاق الذي هو المقسم المأخوذ بنحو اللابشرط في كلمات جماعة حتّى بعض المحقّقين.

و قد انقدح ممّا ذكرنا صحّة الإجارة بنحو الإطلاق المقسمي، و أنّ الكلام الخارج عن القرينة المعيّنة لواحد من التعيّنات يحمل على الاتّصال؛ لعدم احتياجه عرفاً إلى مئونة زائدة، بخلاف الانفصال و الإطلاق القسمي، فإنّ كلّاً منهما يفتقر إلى إقامة قرينة واضحة، و بدونها لا يكاد يلتفت إليه العرف كما لا يخفى.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 131

[عقد الإجارة من العقود اللّازمة]

مسألة 9: عقد الإجارة لازم من الطرفين لا ينفسخ إلّا بالتقايل أو بالفسخ مع الخيار، و الظاهر أنّه يجري فيه جميع الخيارات إلّا خيار المجلس و خيار الحيوان و خيار التأخير، فيجري فيها خيار الشرط و تخلّف الشرط و العيب و الغبن و الرؤية و غيرها، و الإجارة المعاطاتية كالبيع المعاطاتي لازمة على الأقوى، و ينبغي فيها الاحتياط المذكور هناك (1).

______________________________

(1) يقع الكلام في هذه المسألة بعد ملاحظة تقدّم البحث عن جريان المعاطاة في الإجارة في مقامات:

المقام الأوّل: في لزوم عقد الإجارة، و نقول: لا ينبغي الإشكال في أنّ الإجارة من العقود اللّازمة، و يدلّ عليه مضافاً إلى العمومات التي تستفاد منها أصالة اللزوم في كلّ عقد شك في لزومه و جوازه، و كذا غير العمومات من سائر أدلّة أصالة اللزوم النصوص الخاصّة الواردة في المقام؛ مثل صحيحة علي بن يقطين قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن الرجل يتكارى من الرجل البيت أو السفينة سنة أو أكثر من ذلك أو أقلّ؟ قال: الكراء لازم له إلى

الوقت الذي تكارى إليه، و الخيار في أخذ الكراء إلى ربّها، إن شاء أخذ و إن شاء ترك «1».

و حيثيّة السؤال في الرواية و إن لم تكن مستفادة من نفس السؤال، إلّا أنّ الجواب يشهد بكون مورد السؤال هو جواز فسخ الإجارة بحيث لم يكن على الرجل جميع الكراء إلى آخر الوقت المعيّن في العقد، و عليه فالحكم بوجوب الجميع

______________________________

(1) الكافي: 5/ 292 ح 1، الفقيه: 3/ 159 ح 697، التهذيب: 7/ 209 ح 920، وسائل الشيعة: 19/ 110، كتاب الإجارة ب 7 ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 132

..........

______________________________

و لزومه عليه مساوق للحكم باللزوم، كما هو ظاهر.

و أصرح من هذه الرواية في الدلالة على اللزوم ما رواه الصدوق بإسناده عن محمّد بن عيسى اليقطيني، أنّه كتب إلى أبي الحسن علي بن محمّد العسكري عليه السلام في رجل دفع ابنه إلى رجل و سلّمه منه سنة بأُجرة معلومة ليخيط له، ثمّ جاء رجل فقال: سلّم ابنك منّي سنة بزيادة، هل له الخيار في ذلك؟ و هل يجوز له أن يفسخ ما وافق عليه الأوّل أم لا؟ فكتب عليه السلام: يجب عليه الوفاء للأوّل ما لم يعرض لابنه مرض أو ضعف «1».

و هنا روايات أُخر يستفاد منها مفروغية لزوم الإجارة «2»، لكنّه يمكن أن يقال بعدم الحاجة في إثبات لزوم الإجارة إلى ملاحظة الدلالة، بل الجواز إنّما يحتاج إليها، و ذلك لأنّ العهود المعامليّة المتعارفة بين العقلاء كلّها مبنية على اللزوم، و الكاشف عنه تقبيح العقلاء على ترك الوفاء بما التزمه المتعاهدان على تقدير تحقّقه من واحد منهما مع عدم رضى الآخر، إذ لا معنى للتقبيح على فرض عدم اللزوم،

و حينئذٍ بعد تقرير الشارع لشي ء منها المستكشف من عدم الردع يعلم لزومه عنده أيضاً، إلّا أن يقوم دليل على الجواز، و عليه فمجرّد عدم قيام الدليل على الجواز يكفي في ثبوت اللزوم.

المقام الثاني: في مشروعية التقايل في الإجارة و عدمها، فنقول: ظاهر الفقهاء رضوان اللّٰه عليهم أنّ مشروعية التقايل لا تختصّ بباب البيع، بل هو مشروع في الإجارة أيضاً، بل في كلّ عقد لازم. و قد استشكل على ذلك بعض

______________________________

(1) الفقيه: 3/ 106 ح 441، وسائل الشيعة: 19/ 118 كتاب الإجارة ب 15 ح 1.

(2) وسائل الشيعة: 19/ 134، كتاب الإجارة ب 24.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 133

..........

______________________________

المحقّقين؛ بأنّ الأدلّة اللفظية قاصرة عن الشمول لما عدا البيع، نظراً إلى أنّ الروايات الواردة في الإقالة بين ما ورد في البيع أو في التجارة الظاهرة فيه، و بين ما لا إطلاق له لكونه بصدد بيان أمر آخر، كخبر سماعة بن مهران: أربعة ينظر اللّٰه إليهم يوم القيامة: [أحدهم] من أقال نادماً الخبر «1»، فإنّ المراد به إقالة النادم في مورد مشروعيّتها، فهو كما إذا قيل: من تزوّج فله ثواب كذا أي بشرائطه، فلا يؤخذ بإطلاقه «2».

و يمكن أن يقال: إنّ ذكر البيع في كثير من الروايات ليس لأجل اختصاص مشروعية الإقالة به، بل لكونه أظهر أنواع المعاملات و أكثرها أفراداً، و يؤيّده استفادة الفقهاء منه عدم الاختصاص، و تسريتهم الحكم إلى غير البيع، من دون أن يكون له دليل بالخصوص، و يؤيّده أيضاً مضافاً إلى أنّ المذكور في بعض الروايات عنوان التجارة، و ظهورها في البيع غير معلوم لو لم يستظهر منها عدم الاختصاص؛ لظهور عدم انحصار حكمة الإقالة بباب

البيع، فهو نظير قوله تعالى إِلّٰا أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ «3» إنّ ذكر البيع هنا إنّما هو كذكره في مورد النهي عن الغرر، مع أنّ النهي عنه لا ينحصر بالبيع.

و يؤيّده أيضاً رواية واردة في مضاربة الأجير مع رجل آخر غير المستأجر، الدالّة على إناطة الجواز بإذن المستأجر «4»، فإنّه يحتمل فيها أن يكون المراد بإذنه هو الرضا بفسخ الإجارة كما لا يبعد.

______________________________

(1) الخصال: 224 ح 55، وسائل الشيعة: 17/ 387، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة ب 3 ح 5.

(2) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 10.

(3) سورة النساء 4: 29.

(4) الكافي: 5/ 287 ح 1، التهذيب: 7/ 213 ح 935، وسائل الشيعة: 19/ 112، كتاب الإجارة ب 9 ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 134

..........

______________________________

و مع قطع النظر عمّا ذكرنا و فرض الشكّ في مشروعية الإقالة في عقد لازم لا مجال لدعوى اقتضاء القاعدة لها؛ نظراً إلى أنّ حقيقة المعاقدة متقوّمة بالالتزامين من الطرفين، فمع رفعهما اليد عنها لا يبقى موضوع لها.

و ذلك لأنّه كما أنّ تحقّق حقيقة المعاقدة يحتاج إلى أسباب عرفية أو شرعية كذلك ارتفاعها يتوقّف على رافع عرفي أو شرعي، و لا يدور مدار اختيار الطرفين إلّا أن يقال بكونه متعارفاً عند العقلاء.

و بالجملة: فالظاهر أنّه مع الشكّ في الشرعية يكون مقتضى الإطلاق من حيث الزمان في آية وجوب الوفاء بالعقود «1» بناءً على دلالتها على لزوم المعاملات التي يشكّ في لزومها عدم تأثير الإقالة؛ لأنّ مرجع الإقالة إلى نقض المعاهدة و عدم الوفاء بها، إلّا أن يقال: إنّ وجوب الوفاء إنّما يدوم بدوام العقد و يبقى إلى زمان بقائه، و بالتقايل يرتفع الموضوع.

و كيف كان،

فلو قلنا: بأنّ التقايل إنّما هو فسخ المعاهدة و رفع اليد عن مقتضاها يكون الإطلاق في مثل الآية الكريمة نافياً لمشروعيته. و أمّا لو قلنا بكونه من العقود و العهود كما ربما يحكى عن بعض الكلمات «2» فظاهر المحقّق الإصفهاني قدس سره بل صريحه أنّه حينئذٍ لا يحتاج إلى دليل بالخصوص في كلّ باب، بل هو مشمول للأدلّة العامّة صحة و لزوماً؛ لأنّه من العقود المتعارفة «3».

______________________________

(1) سورة المائدة 5: 1.

(2) حكاه المحقّق الأصفهاني في بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 10، و لم نعثر عليه في كلمات علمائنا، بل قال في الحدائق الناضرة: 20/ 90: «الإقالة عند الأصحاب من غير خلاف يعرف فسخ لا بيع»، و لكن ذهب بعض العامّة إلى أنّها بيع، راجع المغني لابن قدامة: 4/ 225، و العزيز شرح الوجيز: 4/ 281.

(3) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 10 11.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 135

..........

______________________________

و الظاهر كما قيل عدم إمكان شمول تلك الأدلّة للإقالة و إن كانت عقداً؛ لأنّه مضافاً إلى أنّ تلك الأدلّة واردة في مورد العقود المشروعة؛ لأنّ الحكم باللزوم متفرّع على ثبوت المشروعية أوّلًا، ضرورة أنّه لا معنى للزوم العقد غير المشروع، و تلك الأدلّة لا تفيد إلّا اللزوم مع ثبوتها، فلا مجال للتمسّك بها مع الشكّ في أصلها. نعم، لو كان موضوع الحكم باللزوم عقداً واحداً و معاهدة واحدة يستكشف من ذلك مفروغية الشرعية، و هذا بخلاف ما لو كان بنحو العموم، فإنّه يوجب تضيّق دائرة الموضوع و اختصاصها بخصوص المشروع يرد عليه: أنّ عقد الإقالة ليس كسائر العقود، فإنّه أُعتبر في حقيقته مسبوقية عقد آخر لا طبيعة العقد، بل عقد حكم عليه باللزوم،

ضرورة أنّه لا معنى للتقايل في شي ء من العقود الجائزة.

و حينئذٍ فشمول أدلّة اللزوم الدالّة عليه بالإطلاق الأزماني مرجعه إلى رفع اليد عن مقتضى الإطلاق، و الحكم بجواز نقض العقد بسبب الإقالة، و من الواضح استحالة تصدّي دليل واحد لإفادة الإطلاق و بيان المقيّد للتعارض، فإنّ الحكم بإطلاق وجوب الوفاء و بجواز عقد الإقالة الذي مرجعه إلى رفع اليد عن ذلك الإطلاق لا يمكن إعلامه بدليل واحد، هذا غاية ما يمكن أن يقال في هذا المقام.

و يمكن التفصّي عن كلا الأمرين:

أمّا الفرق بين ما كان الموضوع عقداً واحداً، و بين ما كان بنحو العموم من حيث استكشاف المشروعية و عدمه «1» فممّا لا يتصوّر له وجه؛ لأنّه كما أنّ الحكم بلزوم معاهدة واحدة لا يجتمع مع عدم مشروعيّتها، كذلك الحكم بلزوم كلّ عقد لا يجتمع مع عدم مشروعية الجميع، و لا يوجب تفرّع اللزوم على المشروعية

______________________________

(1) و هو الأمر الأوّل.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 136

..........

________________________________________

لنكرانى، محمد فاضل موحدى، تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، در يك جلد، مركز فقهى ائمه اطهار عليهم السلام، قم - ايران، اول، 1424 ه ق

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة؛ ص: 136

______________________________

تضيّقاً في ناحية الموضوع، بحيث كان مرجع «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» إلى الوفاء بالعقود المشروعة.

و أمّا الأمر الثاني: فنقول: إنّ اعتبار المسبوقية بالعقد اللّازم في حقيقة الإقالة يعطي أنّه لا منافاة بين الإقالة، و بين الإطلاق الذي يفيد اللزوم بل هو مقوّم لها، و حينئذٍ فالحكم بالوفاء بالإقالة على ما هو مقتضى العموم الأفرادي في آية وجوب الوفاء بالعقود لا ينافي الحكم بإطلاق وجوب الوفاء الذي هو مقتضى الإطلاق الأزماني

في الآية الشريفة.

فانقدح من ذلك أنّه لا مانع من شمول الأدلّة للإقالة بناءً على كونها عقداً و لكن الشأن فيه.

المقام الثالث: فيما يدخل من الخيارات في الإجارة و فيما لا يدخل، و نقول: تقدّم في المقام الأوّل أنّ الإجارة من العقود اللّازمة، و مقتضى ذلك أنّ دخول الخيار فيها يتوقّف على وجود دليل مثبت لذلك، حتّى يمكن الاتّكال عليه في مقابل قاعدة اللزوم الثابتة بأدلّتها، فمع عدم وجود ذلك الدليل يكون مقتضى القاعدة عدم دخول الخيار، بل يمكن أن يقال: إنّه بناءً على القول بعدم كون الإجارة من العقود اللّازمة لا وجه لدخول الخيار مع عدم الدليل عليه؛ لأنّ الخيار يغاير الجواز الثابت في تلك العقود؛ لكون الجواز هناك من الأحكام و لا يعقل فيه الانتقال، و هذا بخلاف الخيار الذي هو من جملة الحقوق القابلة للإسقاط و للانتقال بالموت و نحوه.

و كيف كان، فمع عدم الدليل على مشروعية الخيار و دخوله في عقد الإجارة لا مجال لتوهّم ثبوته، سواء قلنا بكون الإجارة من العقود اللّازمة كما عرفت أنّه الذي يقتضيه التحقيق، أو من العقود الجائزة،

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 137

..........

______________________________

فلا بدّ حينئذٍ من ملاحظة أدلّة الخيارات الثابتة في البيع، و أنّه هل تجري في الإجارة أم لا؟ فنقول:

أمّا خيار المجلس فقد صرّح المحقّق في الشرائع «1» و العلّامة في القواعد «2» بعدم دخوله في عقد الإجارة، بل حكي الإجماع عن الغنية «3» و التذكرة «4»، و ظاهر تعليق الإرشاد «5» و المسالك «6» و مجمع البرهان «7» على أنّه لا يثبت في غير البيع هذا، و لكن حكى الشيخ قدس سره في كتاب الخلاف عن بعض العامّة دخول هذا

الخيار في عقد الإجارة، حيث إنّه بعد تقسيم الإجارة إلى ضربين: معيّنة، و في الذمة، و الحكم بعدم دخول خيار المجلس في كليهما، و بعدم امتناع دخول خيار الشرط قال: و قال الشافعي: الإجارة المعيّنة لا يدخلها خيار الشرط قولًا واحداً، و أمّا خيار المجلس فعلى وجهين: أحدهما لا يدخلها، و الآخر يدخلها. و الإجارة في الذمة فيها ثلاثة أوجه، فقال أبو إسحاق و ابن خيران: لا يدخلها الخياران، و قال الإصطخري: يدخلها الخياران معاً، و المذهب أنّه يدخلها خيار المجلس دون خيار الشرط، عكس ما قلناه «8».

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 2/ 180.

(2) قواعد الأحكام: 2/ 282.

(3) غنية النزوع: 220.

(4) تذكرة الفقهاء: 11/ 12، طبعة جديدة.

(5) حكى عنه في مفتاح الكرامة: 4/ 538 539 و ج 7/ 81.

(6) مسالك الأفهام: 5/ 177.

(7) مجمع الفائدة و البرهان: 8/ 388.

(8) الخلاف: 3/ 15 مسألة 15، و راجع المجموع للنووي: 9/ 169 و 182 و ج 15/ 365، و العزيز شرح الوجيز: 4/ 173 و 193.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 138

و كيف كان، الحكم بعدم دخول خيار المجلس في عقد الإجارة إمّا أن يكون مستنداً إلى الإجماع المنقول مستفيضاً، أو متواتراً كما في الجواهر «1»، و إمّا أن يكون لأجل عدم الدليل على ثبوته في غير البيع، مع أنّ الدخول يحتاج إلى الدليل كما عرفت في صدر المسألة.

أمّا لو كان المستند هو الإجماع فيرد على التمسّك به أنّ حجية الإجماع منحصرة بما إذا لم يحتمل استناده إلى الأدلّة الموجودة بأيدينا، و أمّا مع احتمال الاستناد فلا يبقى له قيمة في نفسه، بل لا بدّ من النظر في مستنده، و المقام من هذا القبيل كما

هو غير خفيّ.

و أمّا لو كان الوجه عدم الدليل على ثبوته في غير البيع فنقول: و إن كان ظاهر كثير من الروايات الواردة في خيار المجلس الورود في مورد البيع، و لا مجال لدعوى إلغاء الخصوصية و الحكم بعدم مدخلية البيع عند العرف في ثبوت خيار المجلس، و أنّ التعبير به لكونه من أظهر مصاديق التجارة و المعاملة، كما أنّه لا مجال لدعوى كون خيار المجلس أمراً ثابتاً عند العقلاء جارياً في غير البيع أيضاً، بعد ما عرفت من أنّ العقود عند العقلاء كلّها مبنية على اللزوم، إلّا أنّ هنا بعض الروايات التي يمكن الاستدلال بإطلاقها على الجريان في الإجارة أيضاً، و هي رواية عمر بن يزيد، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام، التي رواها المشايخ الثلاثة، قال: قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله: إذا التاجران صدقا بورك لهما، فإذا كذبا و خانا لم يبارك لهما، و هما بالخيار ما لم يفترقا، فإن اختلفا فالقول قول ربّ السلعة أو يتتاركا (يتشاركا خ ل) «2». بناءً على عدم

______________________________

(1) جواهر الكلام: 27/ 217.

(2) الكافي: 5/ 174 ح 2، التهذيب: 7/ 26 ح 110، الخصال: 45 ح 43، وسائل الشيعة: 18/ 7، كتاب التجارة، أبواب الخيار ب 1 ح 6.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 139

اختصاص التجارة بالبيع، كما يدلّ عليه قوله تعالى رِجٰالٌ لٰا تُلْهِيهِمْ تِجٰارَةٌ وَ لٰا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّٰهِ .. «1». و يؤيّده استدلال الأصحاب بآية التجارة عن تراض في غير البيع، فالمسألة محلّ إشكال.

ثمّ إنّه هل يجوز اشتراط خيار المجلس في عقد الإجارة؟ حكى الشهيد قدس سره عن المبسوط أنّه جوّز اشتراطه «2»، و قال أي الشهيد-:

إنّه إن أراد به مع تعيين المدّة فمسلّم، و إلّا فمشكل «3».

و قال في محكي جامع المقاصد: لك أن تقول: إنّه إذا سلم جواز اشتراط خيار المجلس فلا وجه لاشتراط تعيين المدّة؛ لأنّه حينئذٍ لا يكون خيار مجلس بل خيار شرط. نعم، في جواز اشتراطه تردّد من حيث إنّه على خلاف الأصل؛ لجهالة مدّته فيقتصر فيه على مورد النص، و لأنّه من توابع البيع فلا يكون ثبوته موجباً للجهالة في شي ء من العوضين بخلاف ما إذا لم يثبت إلّا بالاشتراط، فانّ اشتراط المجهول يجهل العوض «4».

أقول: يمكن المنع عن قدح الجهالة في المقام؛ لأنّ الجهالة القادحة ما كانت مؤثِّرة في اختلاف الرغبات، كجهالة أصل المبيع، أو خصوصيّاته، أو مدّة الخيار رأساً، و أمّا مثل المقام فلم يعلم ذلك، فتأمّل.

و أمّا خيار الحيوان فلم يحك عن أحد من الإمامية رضوان اللّٰه عليهم المتفرّدين بثبوت هذا الخيار قبال باقي الفقهاء، حيث لم يفرّقوا بين الحيوان و بين

______________________________

(1) سورة النور 24: 37.

(2) المبسوط 3: 226.

(3) حكى عنه في جامع المقاصد: 7/ 86.

(4) جامع المقاصد: 7/ 86.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 140

سائر المبيعات، كما صرّح به الشيخ قدس سره في كتاب الخلاف «1» القول بجريانه في الإجارة أيضاً، و إن اختلفوا في البيع بين من يخصّه بالمشتري فيما إذا كان المبيع حيواناً، و بين من يقول بعدم الاختصاص و أنّه يثبت للبائع أيضاً إذا كان الثمن حيواناً «2».

و كيف كان، فلم يقل أحد بجريانه في الإجارة، بل و لم يحتمل ذلك أصلًا، مع أنّه يمكن أن يقال بثبوت الإطلاق في بعض نصوصه، و هو ما رواه زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام قال:

سمعته يقول: قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: البيّعان بالخيار حتّى يتفرّقا و صاحب الحيوان ثلاث «3». نظراً إلى أنّ الجملة الثانية جملة مستقلّة سيقت لبيان حكم مستقلّ، و هو ثبوت الخيار إلى الثلاث لصاحب الحيوان، و لم يقع فيه التقييد بالبيع، بل يمكن أن يقال: إنّ العدول عن قوله عليه السلام: «البيّعان» الواقع في الجملة الاولى إلى قوله عليه السلام: «صاحب الحيوان» في الجملة الثانية لعلّه لأجل إفادة عموميّة خيار الحيوان و عدم اختصاصه بالبيع.

إن قلت: يحتمل قويّاً أن يكون الوجه في العدول اختصاص خيار الحيوان بصاحبه، و عدم ثبوته لكلّ من المتبايعين، بخلاف خيار المجلس، فإنّه ثابت لكلّ من البائع و المشتري فالوجه في العدول حينئذٍ إفادة هذا المعنى، لا ما ذكر من كون الغرض بيان ثبوت خيار الحيوان لمطلق صاحب الحيوان أعمّ من البيع و غيره، بخلاف خيار المجلس الذي يختص بالبيع بمقتضى الجملة الأُولى.

______________________________

(1) الخلاف: 3/ 12 مسألة 8.

(2) راجع مختلف الشيعة: 5/ 96 مسألة 59، و كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري: 5/ 83- 84.

(3) الكافي: 5/ 170 ح 4، التهذيب: 7/ 24 ح 100، وسائل الشيعة: 18/ 11، كتاب التجارة، أبواب الخيار ب 3 ح 6.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 141

قلت: هذا الذي ذكرت و إن كان محتملًا أيضاً إلّا أنّ العمدة في مقام الاستدلال بالرواية عدم ثبوت الدلالة، بل و لا الإشعار في الجملة الثانية بكون الموضوع لخيار الحيوان، و المورد له هو البيع كخيار المجلس، و مجرّد ورود الجملة الاولى في البيع لا يصلح للتقييد.

إن قلت: قد سلّمنا ما ذكر و لكن لا محيص عن اعتبار صدق عنوان الموضوع؛ و

هو صاحب الحيوان في الإجارة أيضاً، حتّى يمكن أن يقال بالسراية و إلّا فلا وجه له، مع أنّه من الواضح أنّه لا يطلق على المستأجر للحيوان عنوان الصاحب؛ لأنّ صاحب الحيوان هو المالك له، و المالك له هو المؤجر دون المستأجر.

قلت: نمنع عن كون الصاحب بمعنى المالك، بل معناه اللغوي هو الملازم و المصاحب، فصاحب الدار عبارة عمّن كان ساكناً فيها متمتّعاً منها، سواء كان مالكاً لعينها أو منفعتها أو لم يكن، و من المعلوم انطباق عنوان الصاحب بهذا المعنى على مستأجر الحيوان.

إن قلت: غاية ما ثبت ممّا ذكر هو ثبوت الإطلاق للرواية المذكورة؛ و هو لا يمنع عن ثبوت المقيّد له، مع أنّ هنا رواية تصلح للتقييد، و هي رواية ابن فضّال قال: سمعت أبا الحسن عليّ بن موسى الرضا عليهما السلام يقول: صاحب الحيوان المشتري بالخيار ثلاثة أيّام «1». فإنّ التقييد بالمشتري يوجب اختصاص الحكم بباب البيع، و بها يقيد إطلاق الرواية المتقدّمة، بل يمكن أن يقال: إنّ وصف صاحب الحيوان بالمشتري و عدم التعبير بمثل مشتري الحيوان مع كونه أخصر إنّما هو لأجل كون الغرض توضيح ما ورد عن النبي صلى الله عليه و آله من كون صاحب الحيوان بالخيار كما في

______________________________

(1) التهذيب: 7/ 67 ح 287، وسائل الشيعة: 18/ 10، كتاب التجارة، أبواب الخيار ب 3 ح 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 142

الرواية المتقدّمة، و أنّ مراده من صاحب الحيوان هو المشتري، و عليه فتصير هذه الرواية حاكمة عليها و ناظرة إليها.

هذا كلّه على تقدير أن يكون المشتري بصيغة الفاعل، بحيث كان وصفاً لصاحب الحيوان، و أمّا على تقدير أن يكون بصيغة المفعول و وصفاً

لنفس الحيوان تكون دلالة الرواية على الاختصاص بالبيع و الشراء أوضح.

قلت: مع أنّ شرط حمل المطلق على المقيّد في المثبتين إحراز وحدة المطلوب؛ لعدم التنافي بينهما بدونه ضرورة، و هو غير معلوم الثبوت في المقام فتأمّل إنّ الرواية الثانية لا دلالة فيها على الاختصاص بالبيع؛ لأنّ التقييد بالمشتري بالكسر أو بالفتح إنّما هو لإفادة أنّ المراد بصاحب الحيوان ليس من كان صاحباً له قبل تحقّق المعاملة، بل المراد هو الذي يصير بالمعاملة صاحباً، أو لإفادة أنّ المراد بصاحب الحيوان ليس من انتقل إليه الحيوان و لو بعنوان الثمنية، بل المراد به من كان الحيوان مبيعاً له و هو مشترٍ بالنسبة إليه، و على التقديرين فلا نظر فيه إلى الاختصاص بالبيع و الشراء.

و قد انقدح من جميع ما ذكرناه أنّه يمكن التمسّك برواية زرارة المتقدّمة؛ لجريان خيار الحيوان في الإجارة و شبهها، و لكن لا يخفى عليك أنّ دعوى الإطلاق في الرواية مع كون الجملة الدالّة على ثبوت هذا الحكم مسبوقة بقوله صلى الله عليه و آله: «البيّعان»، و مع كون الظاهر من السياق أنّ الاختلاف بين الخيارين إنّما هو في أمرين فقط: اختصاص الثاني بصاحب الحيوان دون الأوّل، و كونه مغيا بالثلاث دون الأوّل المغيى بالافتراق أو التفرّق مشكلة جدّاً، و إن شئت قلت: إنّه لم يحرز كون الرواية بصدد البيان من هذه الجهة؛ و هو شرط التمسّك بالإطلاق، فالحكم بالتعدّي و عدم الاختصاص مشكل.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 143

ثمّ إنّه هل يجوز شرط خيار الحيوان بعنوانه في الإجارة أم لا؟ الظاهر أنّه إن كان المراد شرط خيار الثلاثة فهو جائز لا مانع منه، إلّا أنّه ليس بخيار الحيوان بل

هو خيار الشرط، و إن كان المراد شرط خيار الحيوان بأحكامه المذكورة في باب البيع من كون التلف في الثلاثة من البائع، و كذا حدوث الحادث عليه، و كذا غيرهما من أحكام خيار الحيوان المذكورة في محلّه، فالظاهر أنّ مجرّد الاشتراط لا يصلح لإفادة هذه الأحكام؛ لأنّ بعضها ثابت بدون الاشتراط، و البعض الآخر لا يثبت معه إلّا أن يقال بعدم اختصاص دليل خيار الحيوان بالبيع، و جريانه في الإجارة أيضاً.

و أمّا خيار الشرط فالمشهور أنّه لا يختص بالبيع، بل يجري في جميع المعاوضات، بل استظهر من التذكرة «1» الإجماع عليه «2»، حيث اقتصر على نقل خلاف الجمهور من دون إشعار في كلامه بثبوت المخالف من الإمامية أيضاً، بل حكي عن كثير من الكتب الفقهية «3» دخوله في كلّ عقد سوى النكاح و الوقف و الطلاق و الإيلاء و العتق.

و كيف كان، فلا ينبغي الارتياب في جريان خيار الشرط في بعض العقود كالبيع و نحوه، و في عدم جريانه في البعض الآخر كبعض العقود المذكورة، و في ثبوت الاختلاف في البعض الثالث كالصلح و الرهن و الوقف و الصدقة و بيع الصرف و الهبة المعوّضة، فلا بدّ حينئذٍ من ملاحظة أنّ مقتضى القاعدة في موارد الشكّ في

______________________________

(1) تذكرة الفقهاء: 11/ 63، طبعة جديدة.

(2) استظهره المحقّق الرشتي في كتاب الإجارة: 76.

(3) كشرائع الإسلام: 2/ 23، و إرشاد الأذهان: 1/ 375، و الدروس الشرعية: 3/ 268، و مسالك الأفهام: 3/ 211 212، و مجمع الفائدة و البرهان: 8/ 411، و كفاية الأحكام: 92.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 144

ثبوت خيار الشرط فيها هل هو الجريان أو العدم، و إن كان هذا البحث

ليس له كثير فائدة بالنسبة إلى باب الإجارة؛ لثبوت الإجماع ظاهراً على ثبوت خيار الشرط فيها، بل قال المحقّق الرشتي قدس سره: لم أعثر على من تأمّل فيه «1»، إلّا أنّه يجدي بالإضافة إلى العقود الخالية عن الدليل الخاصّ إثباتاً أو نفياً.

إذا عرفت ذلك نقول: قال الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره: إنّ مقتضى الفتاوى و الأدلّة جواز اشتراط الخيار في كلّ عقد أو إيقاع، إلّا إذا ثبت وجود مانع عن ذلك، فعدم الجواز في موارد الخلاف إنّما هو لوجود المانع لا لقصور في أدلّة الاشتراط «2».

و قال تلميذه المحقّق الرشتي قدس سره بعد حكاية كلام شيخه: قلت: قد عرفت في الشروط المنافية لمقتضى العقد أنّ التمييز بين ما هو مقتضى الماهية أو مقتضى الإطلاق مشكل، بل الظاهر أنّ كلّ حكم ثابت للعقد مقصوداً كان للمتعاقدين أو غير مقصود، فاشتراط عدمه مناف لمقتضاه، و على هذا يكون الأصل في شرط الخيار الفساد حتّى يثبت الجواز عكس ما ذكره قدس سره «3».

أقول: لا بدّ أوّلًا من ملاحظة حال خيار الشرط بالنسبة إلى العقلاء الذين هم الأصل في باب المعاملات، و أنّه هل يجري في عقودهم التي قد عرفت أنّ كلّها مبنية على اللزوم أم لا؟ فنقول: لا إشكال في أنّ عقودهم و إن كانت كذلك أي مبنية على اللزوم إلّا أنّ بناءهم على اعتبار شرط الخيار و صحّته فيها، فلا بدّ حينئذٍ من ملاحظة أنّه هل ثبت الردع عن هذا البناء الثابت عند العقلاء المرتكز لديهم أم لا؟

______________________________

(1) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 79.

(2) انظر كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري: 5/ 147.

(3) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 78 79.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 145

غاية ما

يمكن أن يتشبّث به للردع قوله تعالى أَوْفُوا بِالْعُقُودِ «1» الدالّ على وجوب الوفاء بكلّ عقد؛ نظراً إلى أنّ مقتضى عمومه كون الإجارة مثلًا من العقود اللّازمة، و مقتضى الإطلاق أنّه لا فرق بين صورة شرط الخيار و بين غير هذه الصورة، فعلى هذا التقريب يمكن دعوى كون الآية الشريفة رادعة عن ذلك البناء الثابت عند العقلاء.

و يرد عليه: أنّ الظاهر كون الآية مسوقة لإفادة وجوب الوفاء بالعقود على النحو المتداول بينهم، و ليست بصدد الردع عن اعتبار شرط الخيار، خصوصاً مع عدم كون شرط الخيار كالتقايل لاحقاً على العقد المبني على اللزوم، بل هو يوجب عدم ثبوت اللزوم من حينه كما في أغلب موارد شرط الخيار.

و بعبارة اخرى حيث إنّ العقد وقع مقيّداً و مشروطاً بشرط الخيار يكون مقتضى الآية وجوب الوفاء به مع قيده؛ لأنّه لا مجال لوجوب الوفاء به خالياً عنه، و ليس الشرط كالتقايل من جهة عدم ارتباطه بالعقد، و بالجملة فثبوت الإطلاق للآية الشريفة بهذا النحو ممّا لم يدلّ عليه دليل، و على تقديره فالاكتفاء بمثل الإطلاق في الردع عن الأمر المرتكز عند العقلاء الثابت لديهم ممّا لا يستقيم، و هذا نظير ما ذكر في باب خبر الواحد، الذي استقرّ بناء العقلاء على العمل به و الاعتماد عليه في أُمورهم، فإنّه لا يمكن الردع عن مثله بما يدلّ بعمومه على عدم جواز متابعة الظنّ، بل لا بدّ من قيام دليل تامّ صريح بل أدلّة كثيرة حتّى تتحقّق الرادعيّة، و الحاصل أنّ بناء العقلاء على شرط الخيار في الإجارة و نحوها كالبيع، و ليس في البين ما يدفع هذا البناء و يردع عن هذه الطريقة.

______________________________

(1) سورة المائدة 5: 1.

تفصيل الشريعة في

شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 146

و يمكن التمسّك لاعتبار شرط الخيار في مثل الإجارة بعموم دليل الشرط «1»؛ لعدم الفرق بين الشروط بالنظر إلى ذلك العموم، و دعوى كون دليل الشرط لا يدلّ على أزيد من اللزوم فيما إذا كانت الصحّة مفروغاً عنها، و عليه فلا بدّ من إثبات الصحّة بدليل آخر، مدفوعة بمنع ذلك و لو سلّمنا مثله بالنسبة إلى آية وجوب الوفاء، و ذلك لما عرفت سابقاً من أنّ اشتمال دليل الشرط على استثناء الشرط المخالف لكتاب اللّٰه دليل على عدم إفادته مجرّد اللزوم، و إلّا يلزم كون الشرط المخالف صحيحاً. غاية الأمر أنّه غير لازم الوفاء، مع أنّه لا يلائم التعبير عنه بكونه زخرفاً أو باطلًا، كما لا يخفى.

إن قلت: إنّ التمسّك بعموم دليل الشرط للمقام متوقّف على إثبات عدم كون شرط الخيار مخالفاً لكتاب اللّٰه، الذي قد عرفت سابقاً أنّ معناه مطلق الأحكام المكتوبة، سواء كانت في الكتاب أو في السنّة، و إلّا فمع الشكّ في ذلك لا مجال للتمسّك فضلًا عن ثبوت المخالفة كما قد يدعى لمنافاته للزوم الثابت بعموم الكتاب أو خصوص السنّة.

قلت: مضافاً إلى ما عرفت سابقاً من اختلاف الأنظار و الآراء في تفسير المخالفة، و إلى أنّ العقلاء و العرف لا يرون شرط الخيار في عقد مخالفاً لدليل لزوم ذلك العقد، سواء كانت الدلالة عليه بنحو العموم أو على سبيل الخصوص الدليل على عدم الاتصاف بالمخالفة جعل الشارع للخيار في بعض الموارد كخيار المجلس في البيع، فإنّه يستكشف منه عدم كون الخيار الثابت في برهة من الزمان مخالفاً

______________________________

(1) وسائل الشيعة: 18/ 16، كتاب التجارة، أبواب الخيار ب 6، مستدرك الوسائل: 13/ 300، كتاب التجارة،

أبواب الخيار ب 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 147

للحكم بلزوم العقد، و إلّا يلزم شبه التخصيص في دليل الشرط بالنظر إلى الاستثناء الواقع فيه، مع أنّ سياقه آبٍ عن التخصيص، و كيف يمكن دعواه في مثل قوله عليه السلام: كلّ شرط خالف كتاب اللّٰه فهو باطل «1» مثلًا، فمن هذا الطريق يستكشف عدم المنافاة بين الأمرين، و عدم ثبوت معاندة في البين.

و أدلّ من ذلك مشروعية خيار الشرط بعنوانه في مثل البيع، ضرورة أنّه لا مجال لتوهم كونه شرطاً مخالفاً لكتاب اللّٰه مشروعاً في خصوص البيع و نحوه، فمن الحكم بالصحّة فيه يستكشف عدم المخالفة، كما هو واضح.

و أمّا ما أفاده المحقّق الرشتي قدس سره في مقام المناقشة على هذا الاستكشاف بقوله: غاية ما يثبت من أدلّة الخيار في البيع قبوله الفسخ بأسباب خاصّة، ففي ما عداها يكون اللزوم من مقتضيات الماهية لا يتغيّر بشرط، و دعوى اقتضاء ثبوته في الجملة ثبوته بالشرط أيضاً؛ إذ يكشف ذلك عن عدم كون اللزوم حكماً للماهية منقوضة بالنكاح القابل للفسخ بأسبابه، و إن لم يقبل التقايل لعدم دليل على دوران تأثير الشرط مداره، بل مدار قبول الفسخ و عدمه الذي هو موجود في النكاح أيضاً «2».

فيرد عليه: أنّ قيام الدليل على عدم دخول خيار الشرط في النكاح لا يمنع عن الاستكشاف المذكور الذي مرجعه إلى استفادة عدم كون شرط الخيار مخالفاً للّزوم الثابت للعقد من جعل الشارع له في بعض العقود المبنية على اللزوم.

و يرد على أصل كلامه المتقدّم: أنّ المراد بمخالفة مقتضى العقد كما ذكرناه

______________________________

(1) انظر وسائل الشيعة: 18/ 16، كتاب التجارة، أبواب الخيار ب 6.

(2) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 79.

تفصيل

الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 148

سابقاً إن كان هي المخالفة لماهية العقد و حقيقته، كاشتراط عدم ثبوت الملكية في البيع فلا إشكال في أنّ اشتراط الخيار ليس مخالفاً لمقتضى العقد بهذا المعنى، و إن كان المراد بها هي المخالفة لما يقتضيه العقد بحيث لا يمكن التفكيك بينهما لدى العرف و العقلاء، كاشتراط عدم التصرّف بوجه في المبيع مثلًا، فكذلك لا إشكال في أنّ اشتراط الخيار لا يتّصف بالمخالفة بهذا المعنى، و إن كان المراد بها هي المخالفة لما يقتضيه إطلاق العقد، فلا ريب في أنّ هذه المخالفة بعنوانها لا تكون قادحة إلّا أن ترجع إلى المخالفة لكتاب اللّٰه، فالمهم في المقام هي ملاحظة هذه الجهة، و قد عرفت أنّ اشتراط الخيار لا يكون مخالفاً لكتاب اللّٰه.

و يؤيّده أنّه لا خلاف ظاهراً في جواز اشتراط ما عدا الخيار في الإجارة و شبهها، و في أنّ تخلّفه يثبت خيار تخلّف الشرط، و حينئذٍ يبقى سؤال الفرق بين الخيار الحاصل بسبب التخلّف عمّا اشترط، و الخيار الحاصل بسبب اشتراطه في متن العقد، فتدبّر.

نعم، يمكن المناقشة في أصل المطلب بأنّه يحتمل أن يكون شرط الخيار في الإجارة مخالفاً لكتاب اللّٰه؛ نظراً إلى أنّ المراد بكتاب اللّٰه ليس خصوص الواصل منه إلينا، بل كلّ ما ثبت بالكتاب و السنّة و لو لم يصل، و عليه فيحتمل ورود دليل في خصوص الإجارة يكون مفاده لزومها و عدم دخول خيار الشرط فيها، و مع هذا الاحتمال لا مجال لإحراز عدم كونه مخالفاً. و لكن يدفع هذه المناقشة ظهور كون المراد بكتاب اللّٰه هو كتاب اللّٰه الواصل، و إلّا فلا يبقى مجال لإحراز عدم المخالفة في شي ء من الموارد

المشكوكة، كما هو ظاهر.

ثمّ إنّه ربّما يمكن أن يتمسّك لدخول خيار الشرط في الإجارة بقاعدة نفي الضرر، بناءً على أن تكون نافية لا ناهية، نظراً إلى أنّ جعل اللزوم فيها مع عدم

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 149

كون المتعاملين لهما حقّ جعل الخيار في العقد حكم ضرريٌّ منفي بتلك القاعدة.

و لكنّه يرد عليه مضافاً إلى عدم ثبوت كون القاعدة نافية كما حقّق في محلّه، و إلى عدم كون اللزوم الكذائي ضرريّاً بعد عدم كون أصل العقد صادراً عن غير اختيار، بل هما مختاران في إيقاعه، و إلى عدم كون هذه القاعدة مثبتة للخيار الذي هو من الحقوق، بل غايته نفي اللزوم و إثبات الجواز الذي هو من الأحكام، و لا يجري فيه النقل و الإسقاط-: أنّه لو سلّم جميع ذلك يكون مقتضى القاعدة حينئذٍ نفي اللزوم، و لا حاجة إلى اشتراط عدمه.

هذا كلّه في شرط الخيار مدّة معيّنة، و لو شرطه بلا مدّة أو مع ذكر مدّة مجهولة كقدوم الحاج، أو مدّة مطلقة كأن يقول: «لي الخيار مدّة» فالمسألة مبتنية على ما ذكروه في البيع؛ لعدم الفرق بين المقامين. نعم، من قال هناك بالصحّة و الحمل على ثلاثة أيّام كما عن غير واحد من القدماء «1»؛ نظراً إلى الروايات الدالّة عليه «2»، كما حكي عن الخلاف «3» من دعوى وجود أخبار الفرقة به، فلا يلزمه القول بذلك في المقام بعد عدم وضوح كون تلك الرواية شاملة لغير البيع، و عدم ظهور كون الخصوصية ملغاة على تقدير عدم الشمول، فيصير الحكم في المقام الفساد و البطلان على ما هو مقتضى القاعدة.

ثمّ إنّه لا فرق في جواز اشتراط الخيار في الإجارة بين

أن يكون المجعول له الخيار أحد المتعاملين المؤجر و المستأجر، و بين أن يكون أجنبيّا، كما أنّه لا فرق بين

______________________________

(1) كالشيخ المفيد في المقنعة: 592، و السيّد في الانتصار: 438، و أبي الصلاح في الكافي في الفقه: 353، و القاضي في جواهر الفقه: 54 مسألة 194، و ابن زهرة في غنية النزوع: 219.

(2) وسائل الشيعة: 18/ 21، كتاب التجارة، أبواب الخيار ب 9.

(3) الخلاف: 3/ 20 مسألة 25.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 150

الإجارة المعيّنة و ما في الذمّة، خلافاً لما نسب إلى بعض العامّة «1» من عدم الجواز في الثانية، و لكن مقتضى العبارة المتقدّمة في أوّل مبحث الخيار التي حكيناها عن كتاب الخلاف هو أنّ مخالفتهم إنّما هي في الإجارة المعيّنة، حيث ذكر أنّ الشافعي قال: إنّ الإجارة المعيّنة لا يدخلها خيار الشرط قولًا واحداً «2»، و إن اختار هو عدم الدخول في الإجارة في الذمّة أيضاً، و استدلّ الشافعي على عدم الدخول في الإجارة المعيّنة بأنّ من شرط هذه الإجارة أن تكون المدّة متصلة بالعقد، فيقول: «آجرتك سنة من هذا اليوم» فإن شرط خيار الثلاث بطلت؛ لأنّ هذه المدّة لا يمكن أن ينتفع بها المكتري، فلا يخلو أن تحتسب على المكري أو على المكتري، و لا يجوز أن تحتسب على المكتري؛ لأنّه استأجر شهراً فلا ينقص عن مدّته، و لا يجوز أن تحتسب على المكري، لأنّه إنّما آجر شهراً، فلو احتسبنا عليه هذه المدّة لزدنا عليه، فدلّ ذلك على أنّه لا يجوز «3».

و كيف كان، فلا فرق عندنا في ذلك؛ لعدم كون الخيار مانعاً عن انتفاع المستأجر و الاحتساب عليه كما هو ظاهر، هذا تمام الكلام فيما

يتعلّق بخيار الشرط.

و أمّا سائر الخيارات فلا إشكال في أنّ ما كان دليله غير منحصر بباب البيع كأكثر تلك الخيارات يجري في الإجارة، كخيار الغبن و خيار العيب، بلا فرق بين ما لم يكن له دليل خاصّ كخيار الغبن، و بين ما كان له دليل خاصّ أيضاً كخيار العيب و خيار التأخير، و لكنّه لا يثبت في هذا القسم الأحكام الخاصّة، كالتخيير بين الردّ و الأرش في خيار العيب، و اشتراط عدم إقباض المبيع و كون الخيار محدوداً بثلاثة

______________________________

(1) الخلاف: 3/ 15 مسألة 15، تذكرة الفقهاء: 11/ 65.

(2) تقدّم في ص 137.

(3) راجع الخلاف: 3/ 495 مسألة 12.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 151

أيّام في خيار التأخير، و ذلك لثبوت تلك الأحكام بالدليل الخاصّ الذي لا يجري في غير البيع.

نعم، يقع الكلام في جواز اشتراط الخيارين بحدودهما و الأحكام الخاصّة بهما، و الظاهر أنّه لا مانع من ذلك؛ لعدم ثبوت ما يمنع عن اشتراط التخيير بين الردّ و الأرش على تقدير العيب، و كذا اشتراط كون الخيار محدوداً بثلاثة و مقيّداً بما إذا لم يقبض، كما هو واضح.

و قد انقدح ممّا ذكرنا أنّ الفرق بين خيار التأخير و خيار العيب بعدم جريان الأوّل في الإجارة دون الثاني، كما أُفيد في المتن غير واضح، فإنّه لو كان الملحوظ هي الأدلّة الخاصّة الواردة في الخيارين المثبتة لأحكام خاصّة فلا خفاء في أنّ موردها البيع، و لا ينبغي توهّم الشمول للإجارة، و إن كان الملحوظ هو الدليل العامّ المثبت للخيار في مورد التأخير و العيب و نحوهما، و لا يكون مفاده الأحكام الخاصّة الثابتة في الخيارين، بل مجرّد ثبوت الخيار، فالظاهر أنّه لا

فرق بملاحظته بين الخيارين أصلًا، فالفرق لا يعلم له وجه.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 153

[لا تبطل الإجارة ببيع العين المستأجرة

] مسألة 10: لا تبطل الإجارة بالبيع، فتنتقل العين إلى المشتري مسلوبة المنفعة في مدتها. نعم، للمشتري مع جهله بها خيار الفسخ، بل له الخيار لو علم بها و تخيّل أنّ مدّتها قصيرة فتبيّن أنّها طويلة. و لو فسخ المستأجر الإجارة أو انفسخت رجعت المنفعة في بقيّة المدّة إلى المؤجر لا المشتري، و كما لا تبطل الإجارة ببيع العين المستأجرة على غير المستأجر لا تبطل ببيعها عليه، فلو استأجر داراً ثمّ اشتراها بقيت الإجارة على حالها، و يكون ملكه للمنفعة في بقيّة المدّة بسبب الإجارة لا تبعيّة العين، فلو انفسخت الإجارة رجعت المنفعة في بقيّة المدّة إلى البائع، و لو فسخ البيع بأحد أسبابه بقي ملك المشتري المستأجر للمنفعة على حاله (1).

______________________________

(1) قد اتّفق أصحابنا الإمامية «1»، بل و ما عدا أبي حنيفة من العامّة «2» على أنّ بيع العين المستأجرة ممّا لا مانع منه، و لا يتوقّف على إجازة المستأجر، و لا يوجب بطلان الإجارة مطلقاً، و الظاهر أنّ ذكر البيع إنّما هو من باب المثال؛ لأنّه لا خصوصيّة فيه، بل الهبة و الصلح و نحوهما أيضاً كذلك، و قد وردت في ذلك نصوص كثيرة. و التفصيل أنّ طرف البيع تارةً يكون غير المستأجر، و أُخرى يكون هو المستأجر، كما أنّ مقتضى ظاهر العنوان تأخّر البيع عن الإجارة و طروّه عليها، و لكن يمكن فرض التقارن بينهما، فهنا فروض ثلاثة:

______________________________

(1) المبسوط: 3/ 239، غنية النزوع: 288، تذكرة الفقهاء: 2/ 328، رياض المسائل: 6/ 13.

(2) تذكرة الفقهاء: 2/ 328 329، المغني لابن قدامة: 6/ 46

47، المجموع للنووي: 15/ 415 416، تبيين الحقائق: 5/ 145 146.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 154

..........

______________________________

1 بيع العين المستأجرة من غير المستأجر و لا ريب في ذلك نصّاً «1» و فتوى إلّا من جهة ما يأتي في آخر البحث لا من حيث صحّة البيع و لا من جهة بقاء الإجارة على حالها.

و ربّما يتوهّم عدم إمكان اجتماع صحّة البيع مع الإجارة، فلا بدّ من التزام التأويل في النصوص الدالّة عليه، و يقال في وجهه: إنّ ملك المنفعة تابع لملك العين لا بمعنى أنّ مالك المنفعة لا بدّ و أن يكون مالكاً للعين؛ ضرورة أنّ المستأجر مالك للمنافع دون الذات، و لا بمعنى أنّ مالك العين لا بدّ و أن يكون مالكاً للمنفعة، كيف و المؤجر مالك للعين دون المنفعة، بل بمعنى أنّ مالك العين له أن يملك منافعها المملوكة له، و بعد خروج العين عن ملكه لا تكون المنافع مملوكة له، فهو نظير ما إذا تلفت العين.

و أُجيب عن ذلك بأنّ العين كما يملكها مالكها ملكيّة مرسلة غير موقّتة، كذلك يملك منافعها ملكيّة مرسلة و له تقطيعها بالإجارة، فالمنافع التي توجد بعد نقل العين أيضاً مملوكة للمالك الأوّل، و التنظير بتلف العين ممنوع؛ ضرورة أنّه مع التلف لا منفعة هناك لانتفاء موضوعها. نعم، حكي عن المحقّق الأردبيلي قدس سره أنّه قال: و لو كانت المنافاة ثابتة لبطل البيع العارض عليها لا الإجارة «2»، و لكنّه أُجيب عنه أيضاً بأنّ التبعية إنّما هو من طرف ملك المنفعة لا من ناحية ملك العين.

و كيف كان، نقول: إنّ البيع و الإجارة و إن كان كلّ واحدٍ منهما متعلّقاً بالعين كما

______________________________

(1) وسائل الشيعة:

19/ 134، كتاب الإجارة ب 24.

(2) مجمع الفائدة و البرهان: 10/ 63.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 155

..........

______________________________

عرفت، إلّا أنّه حيث يكون الغرض في كلّ منهما أمراً يغاير الغرض المترتّب على الآخر، و ليسا بحيث لا يمكن اجتماعهما عند العقلاء كبيعين على شي ء واحد أو إجارتين له في زمان واحد، فلا مانع من تعلّقهما بعين واحدة؛ لأنّه لا مضادّة بينهما، و من ذلك يظهر أنّه لا حاجة في ما ذكر إلى التمسّك بالإجماع و لا بالنصوص بعد كون القاعدة مقتضية له.

ثمّ إنّه إن كان المشتري عالماً بكون المبيع مسلوب المنفعة في برهة من الزمان فلا إشكال في صحّة البيع و لزومها، و أمّا إذا كان جاهلًا بذلك فلا كلام في ثبوت الخيار له؛ بمعنى التخيير بين ردّ البيع و إمضائه؛ و إنّما الكلام في وجه ثبوت الخيار، و قد ذكر له وجوه:

أحدها: ما حكي عن المشهور «1» من أنّه نقص و عيب، و قد وجّهه غير واحد «2» بأنّ المراد هو العيب الحكمي؛ نظراً إلى أنّ العيب الحقيقي هو النقص أو الزيادة في الخلقة الأصلية، و هنا ليس كذلك مضافاً إلى أنّ العيب الحقيقي يستلزم التخيير بين الفسخ و الإمساك بالأرش و لا يقولون به.

و اعترض على هذا التوجيه المحقّق الإصفهاني قدس سره بأنّه إن أُريد من العيب الحكمي العيب العرفي بالتوسعة في دائرة العيب، و عدم القصر على خصوص النقص و الزيادة في الخلقة فاللّازم إجراء أحكام العيب عليه، و لا يقولون به. و إن أُريد من العيب الحكمي تنزيل سلب المنفعة منزلة العيب في خصوص الخيار دون الأرش

______________________________

(1) الخلاف: 3/ 499 مسألة 20، غنية النزوع: 288، إصباح الشيعة:

277، مفاتيح الشرائع: 3/ 102، رياض المسائل: 6/ 14، و راجع بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 12.

(2) كالسيّد العاملي في مفتاح الكرامة: 7/ 76، و المحقّق الرشتي في كتاب الإجارة: 36، و السيّد اليزدي في العروة الوثقى: 5/ 25 26 مسألة 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 156

..........

______________________________

فالمدّعي يطالب بالدليل على هذا التنزيل «1».

و يمكن أن يقال تأييداً للمشهور بأنّ نظرهم إلى كون المقام من مصاديق العيب، و لكن عدم ثبوت الأرش إنّما هو لاختصاص دليله بالعيوب الحقيقية، كما صرّح بذلك السيّد قدس سره في العروة، حيث قال: إنّ العيب الموجب للأرش ما كان نقصاً في الشي ء في حدّ نفسه، مثل العمى و العرج و كونه مقطوع اليد أو نحو ذلك، لا مثل المقام الذي تكون العين في حدّ نفسها لا عيب فيها «2».

و يؤيّده مضافاً إلى أنّ نفس كلمة «الأرش» تقتضي كونها بإزاء منقصة أنّ ثبوت الأرش ممّا لم يعهد عند العقلاء، فإنّ التخيير بين الفسخ و الإمساك بالأرش، بحيث كان الطرف ملزماً بدفع الأرش على تقدير اختياره ممّا لا سبيل إليه عند العقلاء، و ليس له وجه إلّا التعبّد من الشرع، فلا بدّ من الاقتصار على موارد ثبوته و هو العيوب الحقيقية لا الاعتبارية. هذا، و لكنّ البحث في صدق عنوان العيب في المقام فجعل الخيار خيار العيب محلّ نظر.

ثانيها: ما أفاده صاحب الجواهر قدس سره من أنّ الخيار للجاهل إنّما هو باعتبار اقتضاء إطلاق العقد تعجيل التسليم للانتفاع كما هو الغالب «3».

و أورد عليه المحقّق الإصفهاني قدس سره بأنّه أخصّ من المدّعى؛ إذ ربما تكون منفعة السنة الآتية مملوكة بالإجارة، فلا يمنع من التعجيل في التسليم، مع أنّ

مجرّد وجوب التسليم و التعجيل فيه لا يقتضي الخيار إلّا إذا وقع موقع الالتزام، حتّى يثبت الخيار

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 12.

(2) العروة الوثقى: 5/ 25 26 مسألة 1.

(3) جواهر الكلام: 27/ 206.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 157

..........

______________________________

بالتخلّف عنه، و ليس تعذّر التسليم في مدّة خاصة موجباً للخيار، فتدبّر «1».

أقول: يمكن الجواب عمّا أفاد من كون الدليل أخصّ من المدّعى، بأنّ التسليم الذي يقتضي إطلاق العقد تعجيله ليس هو التسليم بمجرّده و لو أخذت العين من يده بعده، بل التسليم بحيث كان اختيار العين بيد المشتري إلى الأبد، و هذا المعنى مفقود في الصورة المفروضة.

نعم، يرد على صاحب الجواهر قدس سره أنّه إن كان المراد ثبوت خيار تعذّر التسليم، فمضافاً إلى منع كون تعذّر التسليم في مدّة خاصة موجباً للخيار كما أفاده المورد، إلّا أن يقال: باشتراك الملاك و ثبوت المناط فيه أيضاً، نقول: إنّ التعذّر الموجب للخيار هو التعذّر الطارئ على العقد لا ما كان التسليم متعذّراً حين العقد أيضاً كما في المقام، و في مثله يكون مقتضى القاعدة البطلان؛ لأنّ من شرائط الصحّة القدرة على التسليم، إلّا أن يمنع البطلان فيما كان التعذّر في مدّة خاصة كما أنّه لا يبعد، و إن كان المراد ثبوت خيار تخلّف الشرط كما ربما يستفاد من قوله: «كما هو الغالب» فيرد عليه أنّ الشرط غير المذكور في العقد لا يوجب الخيار إلّا أن يوجّه بما يأتي تحقيقه.

ثالثها: ما حكي عن غير واحد من أنّه من باب تخلّف الوصف «2»؛ لأنّ المشتري إنّما اشتراه بعنوان كونه ذا منفعة فتبيّن خلافه.

و ردّ بأنّ الوصف الذي يوجب تخلّفه الخيار هو ما وقع العقد

مبنيّاً عليه في مرحلة المعاقدة، و في غيره لا يوجب التخلّف الخيار إلّا أن يوجّه أيضاً بما يأتي.

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 12 13.

(2) الحاكي هو المحقّق الأصفهاني في بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 13، و ذهب إليه المحقّق الحائري في تعليقته على العروة الوثقى: 5/ 25، التعليقة 4.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 158

..........

______________________________

رابعها: ما عن جامع المقاصد «1»، بل و حكي عن غيره ممّن سبقه من كونه ضرراً يوجب الخيار.

و الظاهر أنّ المراد شمول أدلّة الخيار أي خيار الغبن للمقام، و إن نوقش في استفادة الخيار من دليل نفي الضرر و الضرار كما قد ذكر في محلّه، و الشمول إنّما هو باعتبار كون الغالب اختلاف قيمة العين في حالتي سلب المنفعة و عدمه، و القيمة المأخوذة في هذه المعاملة إنّما هي القيمة للعين المشتملة على المنفعة، فالضرر و الغبن متحقّق نوعاً. و عليه فلا يشمل الدليل صورة عدم وجود الغبن، كما إذا كانت مدّة الإجارة قليلة، أو الثمن أقلّ من القيمة الواقعية بمقدار مال الإجارة.

خامسها: ما أفاده المحقّق الأصفهاني ممّا لا يبعد أن يرجع إليه غير الوجه الأوّل من باقي الوجوه و ملخّصه: أنّ خصوصيات المبيع تارةً تكون متعلّقة للأغراض الشخصية من المتعاملين، ككون العبد كاتباً أو خيّاطاً، فلا أثر لها إلّا إذا ذكرت في العقد أو وقع مبنيّاً عليها، و أُخرى من الأغراض النوعية العقلائية، ككون الدار قابلة للسكنى، فهي بمنزلة الشرط الضمني و الوصف اللبّي الارتكازي، و لا تحتاج إلى الذكر في العقد «2».

هذا، و لكن مقتضى ذلك كون الخيار خيار الشرط أو تخلّف الوصف أو الغبن، مع أنّه يمكن منعه، فإنّ اعتبار اشتمال العين على

المنفعة على ما هو مقتضى اللبّ و الارتكاز ليس من جهة كون المرتكز اتّصاف العين بهذه الصفة، و لا من جهة اشتراط وجودها، أو اشتراط المماثلة في المالية، بل من جهة كون المرتكز تسليم

______________________________

(1) جامع المقاصد: 7/ 89 90.

(2) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 13.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 159

..........

______________________________

العين بعد العقد المتعذّر لأجل الإجارة.

و بعبارة أُخرى النقص الملحوظ في المقام ليس من ناحية العين و لا من جهة العقد، بل من جهة البائع؛ نظراً إلى كون مقتضى إطلاق العقد تعجيل التسليم، و هو لم يسلّم بسبب الإجارة، و عليه فالخيار في المقام هو خيار تعذّر التسليم كما أفاده صاحب الجواهر قدس سره، و إرجاعه إلى غيره ممّا لا يناسب كما عرفت.

و يؤيّده أنّه بعد المراجعة للعقلاء و سؤالهم عن الجهة الموجبة لجواز فسخ المعاملة، يقولون بأنّ العين متعذّرة التسليم، و لا يجيبون بتخلّف الشرط أو الوصف، و توهّم عدم كون تعذّر التسليم في مدّة خاصّة موجباً للخيار، مدفوع باشتراكه مع الصورة الأُخرى من حيث المناط، كما أنّ توهّم كون التعذّر حين العقد موجباً للبطلان مندفع بمنع الإيجاب على فرض كون التعذّر موقّتاً.

ثمّ إنّه لو كان البيع الطارئ على الإجارة ممّا يعتبر في صحّته القبض، كبيع الصرف على ما هو المشهور «1» بأن آجر الدراهم أو الدنانير لشخص ثمّ باعها من شخص آخر، فإن أمكن الإقباض و لو برضى المستأجر فالظاهر الصحّة، و إن لم يمكن فالقاعدة تقتضي البطلان.

ثمّ إنّك قد عرفت أنّه لا خلاف في هذا الفرض لا من حيث صحّة البيع و لا من جهة الإجارة، إلّا أنّه قد حكي عن ابن الوليد قدس سره شيخ الصدوق

«2» القول بصحّة البيع إذا اشترط فيه تأخّر التسليم مدّة الإجارة مراعاة لحقّ المستأجر، و منشأ هذا القول روايتان:

______________________________

(1) جواهر الكلام: 24/ 4.

(2) الفقيه: 3/ 160.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 160

..........

______________________________

إحداهما: رواية حسين بن نعيم، عن أبي الحسن موسى عليه السلام إلى أن قال: سمعت أبي عليه السلام يقول: قال أبو جعفر عليه السلام: لا ينقض البيع الإجارة و لا السكنى، و لكن تبيعه على أنّ الذي اشتراه لا يملك ما اشترى حتّى تنقضي السكنى كما شرط، و كذا الإجارة .. «1» فإنّ ظاهره أنّ البيع لا يوجب بطلان الإجارة و لكنّه يعتبر أن يبيع مع هذا الشرط.

و الأُخرى: رواية يونس قال: كتبت إلى الرضا عليه السلام أسأله عن رجل تقبّل من رجل أرضاً أو غير ذلك سنين مسمّاة، ثمّ إنّ المقبّل أراد بيع أرضه التي قبّلها قبل انقضاء السنين المسمّاة، هل للمتقبِّل أن يمنعه من البيع قبل انقضاء أجله الذي تقبّلها منه إليه، و ما يلزم المتقبّل له؟ قال: له أن يبيع إذا اشترط على المشتري أنّ للمتقبّل من السنين ماله «2». و دلالتها أظهر من الاولى.

و يمكن أن يقال بعدم منافاة هاتين الرواتين للقاعدة التي قد عرفت أنّ مقتضاها صحّة كلا العقدين من دون اعتبار شرط في البيع. غاية الأمر ثبوت الخيار للمشتري الجاهل، و عرفت أيضاً أنّ القاعدة تغنينا عن التمسّك بالنصوص الواردة في هذا الباب.

وجه عدم المنافاة أنّ الظاهر كون النظر في الروايتين إلى بيان عدم كون البيع ناقضاً للإجارة السابقة، و هذا يشعر بكون المرتكز في أذهان الناس في ذلك الزمان هو بطلان الإجارة بمجي ء البيع، و يؤيّد ذلك التعبير بقوله عليه السلام: «لا ينقض

البيع الإجارة»، و عليه فالمراد من الشرط فيهما هو رعاية حقّ المستأجر، من دون

______________________________

(1) الكافي: 7/ 38 ح 38، الفقيه: 4/ 185 ح 649، التهذيب: 9/ 141 ح 593، الاستبصار: 4/ 104 ح 399، وسائل الشيعة: 19/ 135، كتاب الإجارة ب 24 ح 3.

(2) الكافي: 5/ 270 ح 1، التهذيب: 7/ 208 ح 914، وسائل الشيعة: 19/ 135، كتاب الإجارة ب 24 ح 4.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 161

..........

______________________________

اعتبار التلفّظ به و لا إعلام المشتري بذلك، و أمّا حملهما على الاستحباب ففي غاية البعد كما لا يخفى.

ثمّ إنّه قد ظهر ممّا ذكرناه أنّه لا فرق في ثبوت الخيار للمشتري الجاهل بين أن يكون جاهلًا بأصل الإجارة أو جاهلًا بمدّتها؛ بأن يكون عالماً بأصلها و لكنّه تخيّل أنّ مدّتها قصيرة فتبيّن أنّها طويلة؛ لعدم الفرق في ملاك الخيار بين الصورتين كما هو ظاهر.

2 بيع العين المستأجرة من المستأجر و له نظائر كثيرة في أبواب الفقه، كاستئجار أحد الورّاث مال مورّثه في حال حياته ثمّ انتقاله إليه بالموت، و استئجار مال الموصي ثمّ إيصائه به للمستأجر، و استئجاره ماله من المستأجر و غير ذلك من الموارد، و لا خلاف هنا أيضاً من حيث صحّة البيع، و أمّا من حيث الإجارة و أنّها هل تبطل بالبيع أم لا؟ فالمشهور «1» أيضاً أنّها صحيحة، و المحكي عن إرشاد العلّامة «2» خلاف ذلك، و حكي عن الفخر في شرح الإرشاد «3» نسبته إلى الشيخ أيضاً، و في مفتاح الكرامة أنّه غير موجود في كتبه الثلاثة و لم يحكه عنه غير الفخر «4». و قبل الورود في الأدلّة لا بدّ من بيان أمرين

______________________________

(1) الخلاف:

3/ 499 مسألة 20، تحرير الأحكام: 3/ 70 71، اللمعة الدمشقية: 94، جامع المقاصد: 7/ 90- 91، و ادّعى الشهرة المحقّق الرشتي في كتاب الإجارة: 36.

(2) إرشاد الأذهان: 1/ 426.

(3) حكى عنه في مفتاح الكرامة: 7/ 87.

(4) مفتاح الكرامة: 7/ 87.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 162

..........

______________________________

أحدهما: إنّ الشبهة التي تصلح لإيرادها في المقام هي الشبهة التي تختصّ بهذا الفرض، و أمّا المشتركة بينه و بين الفرض الأوّل فقد عرفت الجواب عنها، فلا مجال لإيرادها ثانياً.

ثانيهما: إنّ الشبهة إن كانت نتيجتها عدم إمكان اجتماع البيع و الإجارة حتّى يكون التفصّي عنها بالالتزام ببطلان أحد العقدين على غير نحو التعيين، أو ببطلان أحدهما بالخصوص لأجل مرجّح، فهي غير واردة في المقام؛ لأنّ الخلاف هنا في بطلان الإجارة بعد الاتفاق على صحّة البيع، فلا بدّ من جعل صحّته مفروغاً عنها، فالشبهة الواردة هي التي كانت نتيجتها بطلان الإجارة فقط، و حينئذٍ فما حكي عن جامع المقاصد «1» في توجيه كلام الإرشاد من أنّ منفعة العين نماء الملك فتتبعها، و حيث إنّ مالك العين بالشراء هو المستأجر فكون الأُجرة في قبال نماء ملكه يوجب ورود المعاوضة على مال المالك بماله، لا ينطبق على المقام؛ لأنّ الفرار من محذور ورود المعاوضة على مال المالك بماله لا ينحصر بالالتزام ببطلان الإجارة، بل يتحقّق بالالتزام ببطلان البيع، مضافاً إلى أنّ هذا التوجيه من فروع دعوى التبعية في ملك المنفعة التي قد عرفت عدم صحّتها.

و كذلك ما حكي عن المحقّق الأردبيلي قدس سره في شرحه على الإرشاد من أنّ ملك المنفعة تابع لملك العين، فإذا ملك العين يلزم ملكيّتها تبعاً أيضاً، فلو بقيت الإجارة [على حالها] يلزم أن

تكون المنفعة ملكاً بالإجارة و البيع أيضاً، و هو تحصيل الحاصل و جمع العلّتين على معلول واحد «2»، لا يلائم المقام؛ فإنّ الفرار عن محذور توارد

______________________________

(1) جامع المقاصد: 7/ 90.

(2) مجمع الفائدة و البرهان: 10/ 91.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 163

..........

______________________________

العلّتين ليس طريقه منحصراً ببطلان الإجارة لو لم نقل بكون مقتضى تأخّر البيع بطلانه لا بطلانها.

نعم، التوجيه الآخر الذي ذكره جامع المقاصد «1» منطبق على المقام، و هو أنّه كما لا يمكن نكاح المملوكة و لا بقاء النكاح بعد الملك، فالملكيّة مانعة عن حدوث الزوجية و عن بقائها، كذلك ملك العين يمنع عن عروض ملك المنافع و عن بقاء ملكها.

و تقريبه على ما ذكره المحقّق الإصفهاني قدس سره: أنّ النكاح يقتضي ملك البضع وحده، فإذا ملك الرقبة لا يستقلّ ملك البضع؛ لعدم بقاء الناقص بعد الاستكمال، و ملك المنافع بالاستقلال بعد ملك العين كذلك؛ لأنّ ملك العين يوجب خروج الملك السابق عن حدّ النقص إلى الكمال، فلا معنى لبقاء النقص على حاله «2».

و هنا شبهة اخرى يمكن إيرادها في المقام؛ و هي أنّ بيع العين المستأجرة من المستأجر مرجعه عند العرف و العقلاء إلى رفع اليد عن الإجارة السابقة، فكأنّه يقع التقايل بينهما بالنسبة إليها مقدّمة للبيع، أو أنّ البيع بنفسه إقالة للإجارة؛ لأنّه لا يحتاج في الإقالة إلى لفظ خاصّ، فاجتماع صفتي الاستئجار و الاشتراء في شخص واحد ممّا لا يكون معهوداً بين العقلاء.

و الجواب عمّا ذكره جامع المقاصد هو أنّه إن كان المستند فيما أفاده من تقابل الزوجية و الملكيّة، و تقدّم الثانية على الاولى حدوثاً و بقاءً، قوله تعالى إِلّٰا عَلىٰ

______________________________

(1) جامع المقاصد: 7/ 90 91.

(2)

بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 15.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 164

..........

______________________________

أَزْوٰاجِهِمْ أَوْ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُهُمْ* «1» نظراً إلى أنّ التفصيل قاطع للشركة، فلا تجتمعان حدوثاً و بقاءً، فيرد عليه:

أوّلًا: منع دلالة الآية الشريفة على عدم إمكان الاجتماع و تحقّق الشركة، و مجرّد العطف بكلمة «أو» لا يدلّ على ذلك، أ لا ترى أنّه لو قيل: أحسن الأحوال إلى اللّٰه تعالى أن يكون العبد ساجداً أو جائعاً، فهل مقتضاه عدم كون الجمع بين حالتي السجود و الجوع من أحسن الأحوال؟! و ثانياً: منع كون المستفاد منها على تقدير دلالتها على نفي الشركة تقدّم الملكيّة على الزوجية لو لم نقل بكون تأخّرها عن الزوجية مقتضياً لعدم تحقّقها لوقوع الزوجية قبلها.

و إن كان المستند أمراً آخر يكون مفاده مانعية الملكيّة عن حدوث الزوجية و بقائها، فاستفادة مانعية البيع عن الإجارة كذلك من ذلك الأمر تحتاج إلى دليل على التسوية، و كون الملاك عدم بقاء الناقص بعد الاستكمال مضافاً إلى أنّه لا دليل عليه نقول بعدم ثبوت المورد له في المقام؛ لأنّ العين و منافعها مالان و ملكان و ليسا من باب النقص و الكمال.

و أمّا الشبهة الأخيرة فيمكن الجواب عنها بمنع عدم المعهودية بعد كون المنفعة عند العقلاء مالًا مستقلا في قبال العين قابلًا للتفكيك. نعم، مجرّد دفع الشبهة لا يكفي في الحكم بصحّة كلا العقدين ما لم ينضمّ إليه الدليل في مقام الإثبات، و غاية ما استدلّوا به هي العمومات و الإطلاقات في باب العقود، و صحّة هذا الدليل مبنيّة على وجود العمومات و الإطلاقات القابلة للتمسّك، مع أنّه يمكن الخدشة فيه كما

______________________________

(1) سورة المؤمنون: 23/ 6.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير

الوسيلة - الإجارة، ص: 165

..........

______________________________

قد قرّر في محلّه.

و كيف كان، فلو تمّ الإطلاق، و إلّا فلا دليل على الصحّة في المقام إلّا أحد أمرين على سبيل منع الخلو: إمّا دعوى شيوع هذا النحو من المعاملة بين العقلاء، بحيث كان المشتري بعد الاشتراء ملزماً بدفع الأُجرة و الثمن معاً، فيستكشف من شيوعه و عدم الردع الصحّة عند الشارع، و إمّا دعوى القطع بعدم خصوصية للمقام، و كلاهما ممنوعان.

أمّا الأوّل: فلوضوح ندرة هذا النحو من المعاملة إلّا أن يقال: إنّ مجرّد الندور لا يكفي في عدم الافتقار إلى الردع، فإنّ التحقّق و لو دفعةً يكفي في ذلك على تقدير عدم الصحّة عند الشارع، بل يمكن أن يقال: إنّ التحقّق في الأزمنة المتأخّرة يكفي في ذلك، فمن عدم الردع يستكشف الجواز.

و أمّا الثاني: فلمنع دعوى القطع بعدم الخصوصية، خصوصاً بعد ملاحظة الحكم بعدم الاجتماع في مثل نكاح المملوكة و تملّك الزوجة.

ثمّ إنّه ربما يمكن أن يتوهّم دلالة بعض الروايات الواردة في الفرض الأوّل على عدم بطلان الإجارة في هذا الفرض أيضاً، مثل قول أبي جعفر عليه السلام في رواية ابن نعيم المتقدّمة: «لا ينقض البيع الإجارة و لا السكنى ..» فإنّه يمكن أن يقال: إنّ مفاده عدم منافاة البيع و الإجارة مطلقاً، من دون فرق بين كون المستأجر في الإجارة السابقة هو الغير أو المشتري.

و لكن يرد عليه مضافاً إلى كون الجملة المذكورة بعد هذا القول ظاهرة في كون المورد هو ذلك الفرض دون الأعمّ منه و من المقام أنّه مع قطع النظر عن ذلك نقول: إنّ ندرة هذا الفرض مانعة عن شمول الإطلاق له و موجبة للانصراف إلى غيره، فتدبّر. و لكن الظاهر تماميّة الإطلاق و

عدم كون الجملة اللاحقة موجبة لعدم

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 166

..........

______________________________

تحقّقه، لأنّ التعرّض لها بالخصوص إنّما هو من أجل خصوصية فيها غير موجودة في فرض البيع من المستأجر، و الانصراف ممنوع لعدم تحقّق ملاكه، مضافاً إلى أنّ مقتضى الاستصحاب أيضاً الصحّة.

فرع:

لو ظهر بطلان الإجارة فهل المنافع ترجع إلى المشتري أو إلى البائع المؤجر؟ وجهان، و كذا لو فسخ الإجارة، و هنا فرض آخر و هو إعراض المستأجر عن العين المستأجرة، الذي يوجب زوال ملكيّته للمنفعة، كما أنّ الإعراض عن العين أيضاً كذلك.

و كيف كان، فهل الحكم في الفرضين الأوّلين اللذين وقع التعرّض لهما في كلمات بعض الأصحاب هو الرجوع إلى البائع المؤجر، أو إلى المشتري مطلقاً مستأجراً كان أو غير مستأجر، أو أنّه لا بدّ من التفصيل بينهما بالرجوع إلى المشتري مع ظهور البطلان، و إلى البائع مع الفسخ؟ وجوه بل أقوال.

صرّح المحقّق الأصفهاني بالأخير «1». و ربما يستظهر من صاحب الجواهر قدس سره الرجوع إلى البائع مطلقاً، حيث قال: و لو اتّفق فسخ المستأجر بأحد أسبابه عادت المنفعة إلى البائع دون المشتري الذي قد استحقّ العين مسلوبة المنفعة إلى المدّة «2».

فإنّ مورد كلامه و إن كان هي صورة الفسخ، إلّا أنّ وصف المشتري بأنّه قد استحقّ العين كذلك يدلّ على أنّ المناط في عود المنفعة إلى البائع استحقاق المشتري العين مسلوبة المنفعة في مدّة خاصّة، و هذا المناط موجود في فرض ظهور البطلان أيضاً، كما هو غير خفي إلّا أن يقال: إنّ المراد بالاستحقاق كذلك هو

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 16.

(2) جواهر الكلام: 27/ 206.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 167

..........

______________________________

الاستحقاق في

الواقع، و هو متحقّق في خصوص صورة الفسخ؛ لأنّه في صورة ظهور البطلان لا يكون إلّا توهّم الاستحقاق كذلك، فتدبّر.

و حكي عن سيّدنا المحقّق الأُستاذ قدس سره أنّه اختار في مجلس البحث الرجوع إلى المشتري في كلا الفرضين، و حكي عن التذكرة «1» احتمال العود إلى المشتري في صورة الفسخ، و لازمه جريان هذا الاحتمال في صورة ظهور البطلان بطريق أولى. هذا، و لكن بعد المراجعة إلى التذكرة «2» ظهر عدم وجود هذا الاحتمال فيها في هذه المسألة، فإنّ العلّامة بعد عنوانها حكى عن بعض الشافعية القول برجوع منفعة بقيّة المدّة إلى المشتري، و عن بعض آخر منهم القول بالرجوع إلى البائع، من دون بيان ما عنده في المسألة.

و كيف كان، فقد حكي عن الأُستاذ قدس سره أنّه استدلّ للرجوع إلى المشتري مطلقاً بأنّ التبعية الثابتة للمنفعة إنّما هي التبعية بالنسبة إلى العين؛ بمعنى أنّ مالكية العين تستتبع ملكيّة المنفعة مع عدم وجود المانع الذي يوجب التفكيك بينهما، و ليست التبعية تبعية للمنفعة بالنسبة إلى العقد الواقع على العين، و كذلك الفسخ ليس مرجعه إلى المعاوضة حتّى يكون مقتضاها رجوع كلّ من العوض و المعوّض إلى من خرج عنه الآخر، فهو ليس عقداً معاوضياً، بل حقيقته رفع اليد عن المعاوضة السابقة، و حينئذٍ يظهر رجوع المنفعة إلى المشتري في كلا الفرضين.

أمّا في فرض ظهور البطلان فواضح، ضرورة أنّ ظهوره يكشف عن عدم وجود المانع الموجب للتفكيك من الأوّل، و توهّم وجوده لا يوجب تضييق دائرة

______________________________

(1) حكى عنه في مفتاح الكرامة: 7/ 88.

(2) تذكرة الفقهاء: 2/ 329.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 168

..........

______________________________

العقد، فإنّ التبعية إنّما هي من الأُمور القهرية غير

المفتقرة إلى القصد.

و أمّا في فرض الفسخ بالتقايل أو بغيره فلما عرفت من أنّ الفسخ ليس بمعنى المعاوضة، فلا مانع من دخول الأُجرة بسببه في ملك المستأجر و رجوع المنفعة إلى المشتري لقاعدة التبعية.

و أورد عليه بأنّ التبعية بالمعنى المذكور مسلّمة لا ريب فيها، إلّا أنّ موردها ما إذا كانت ملكيّة العين ثابتة بنحو اللابشرط، فإنّه حينئذٍ يقال بأنّه مع ظهور عدم المانع و انكشاف الخلاف ترجع المنفعة إلى مالك العين الذي هو المشتري، و أمّا لو كانت ملكيّة العين ثابتة بنحو البشرطلا؛ بأن تكون العين مسلوبة المنفعة في مدّة خاصّة مملوكة للمشتري كما هو المفروض فلا مجال في هذه الصورة لدعوى التبعية، و أمّا ما أفاده في الفسخ من أنّه ليس بمعاوضة فهو أيضاً مسلّم، إلّا أنّ رفع اليد عن المعاوضة و الرجوع عنها لا يتحقّق إلّا برجوع كلّ من العوضين إلى ما كانا عليه قبل المعاوضة، و هذا المقدار يكفي في لزوم رجوع المنفعة إلى البائع؛ لأنّ المستأجر إنّما يتلقّى ملكيّتها عنه، فلا معنى لرجوعها إلى من كان أجنبيّا عن المعاوضة الإجارية.

و أمّا وجه الرجوع إلى البائع في كلتا الصورتين، الذي احتمله صاحب مفتاح الكرامة غاية الأمر أنّه قوّاه في صورة الفسخ، أنّه لم يملك المشتري منافع تلك المدّة، و إنّما اشتراها مسلوبة المنفعة فيها، فلا وجه للرجوع إلى المشتري، و في صورة الفسخ يكون مقتضى الأصل أيضاً ذلك؛ لأنّ التبعية امتنعت بسبب الإجارة فتستصحب «1».

______________________________

(1) مفتاح الكرامة: 7/ 88.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 169

..........

______________________________

و ممّا ذكر يظهر وجه التفصيل الذي اختاره المحقّقان الأصفهاني «1» و الرشتي 0 «2»، و حاصل ما أفاده الأوّل منهما وجهاً لذلك؛ أنّ

الرجوع في صورة بطلان الإجارة إنّما هو لأنّ استتباع ملك العين لملك المنفعة مع الإمكان قهري لا قصدي، و إنّما القصدي في باب البيع نفس تمليك العين، فلا يلزم من رجوع المنافع إلى المشتري مع عدم قصد البائع تخلّف العقد عن القصد، بل لا أثر لقصد الخلاف إلّا إذا رجع إلى عدم قصد البيع، و مجرّد اعتقاد المسلوبية لا يحقّق السلب، بل تبقى المنفعة على حكم التبعية قهراً.

و أمّا عدم الرجوع في صورة الفسخ فلأنّ عنوان الفسخ ردّ المعاوضة و عود العوضين إلى ما كانا عليه، و يستحيل عود المنفعة إلى غير البائع المؤجر، و ليست منزلة الفسخ منزلة انتهاء أمد الإجارة ليصحّ توهّم زوال المانع.

و التحقيق التفصيل بنحو آخر؛ و هو أنّه لا بدّ في المقام من ملاحظة العنوان الذي وقع البيع عليه و صار مورداً للمعاملة، فنقول:

إن كان العنوان هي العين متّصفة بوصف كونها مسلوبة المنفعة في برهة من الزمان، بحيث كانت دائرة التمليك من البائع متضيّقة لأجل ذلك و إن كان الداعي إلى هذا الوصف توهّم صحّة الإجارة الواقعة عليها فلا مجال لدعوى الرجوع إلى المشتري؛ لأنّ قاعدة التبعية لا تشمل صورة التفكيك الواقعي.

أمّا في صورة الفسخ فواضح، و أمّا في صورة ظهور البطلان فلأنّ سلب المنفعة بالإجارة و إن كان متوهّماً حين البيع و لم يكن له واقع، إلّا أنّا لا نريد إثبات التضيّق

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 16 17.

(2) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 39.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 170

..........

______________________________

من ناحية التوهّم حتّى يقال: إنّ مجرّد اعتقاد المسلوبية لا يحقّق السلب، بل نقول: إنّ العنوان الذي وقع عليه البيع مقيّد موجب للتضيّق و إن

كان الموجب لذلك هو التوهّم، إلّا أنّ الملاك في باب المعاملات هو اللفظ المستعمل في مقام الإنشاء، و الدواعي خارجة عن تحديد دائرتها سعة و ضيقاً.

فانقدح أنّ مقتضى القواعد في هذه الصورة الرجوع إلى البائع مطلقاً، من دون فرق بين صورة الفسخ و صورة ظهور البطلان، و لا في الفسخ بين كونه سبباً مملّكاً و عقداً مستقلا، أو كونه رجوعاً عن المعاملة و ردّاً لها، و لا فيه أيضاً بين القول بكونه من حينه أو من حين العقد، و لا في التبعية بين كونها تبعية للعقد حتّى تحتاج إلى القصد، أو تبعية لنفس العين كما هو واضح. هذا كلّه فيما إذا كان العنوان هي العين الموصوفة بذلك أو التي اشترط فيها سلب المنفعة.

و أمّا لو كان العنوان المأخوذ في مقام البيع هي العين متّصفة بكونها مستأجرة، فالظاهر أنّ الحكم فيه أيضاً هو الرجوع إلى البائع؛ لأنّه و إن كان وصف الاستئجار ظاهراً في الاستئجار الصحيح الذي قد انكشف خلافه في إحدى الصورتين، إلّا أنّ مرجع هذا الوصف إلى سلب المنفعة في مدّة خاصّة، فيرجع إلى التقدير الأوّل.

نعم، لو كان العنوان المأخوذ هي نفس العين، غاية الأمر علم المشتري بكونها مستأجرة، أو إعلام البائع له بذلك، بل و مع الجهل و عدم الإعلام أيضاً؛ لأنّ الاختلاف بين صورتي العلم و الجهل إنّما هو في الخيار و عدمه كما عرفت «1»، فالظاهر فيه التفصيل بين ما لو ظهر البطلان فيرجع إلى المشتري؛ لعدم المانع حينئذٍ من جريان قاعدة التبعية، و مجرّد توهّم السلب لا يحقّق السلب ما لم يقع قيداً

______________________________

(1) في ص 155.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 171

..........

______________________________

مذكوراً في العقد، و

بين ما لو فسخ فيرجع إلى البائع؛ لأنّ مقتضى الفسخ عود الطرفين إلى ما كانا عليه. نعم، لو قلنا بأنّ التبعية إنّما هي تبعية للعقد لا للعين، فالظاهر الرجوع في الصورة الأُولى إلى البائع أيضاً؛ لعدم كونها مقصودة للبائع حين البيع، و لكن هذا المبنى فاسد جدّاً.

ثمّ إنّه لا فرق في صورة الفسخ التي قلنا فيها بالرجوع إلى البائع بين القول بكون الفسخ يرفع العقد من حينه أو بكونه يرفعه من أصله، فما في مفتاح الكرامة «1» تبعاً لبعض الشافعية «2» من ابتناء المسألة على الوجهين في باب الفسخ، و أنّه إن قلنا بكون الفسخ رافعاً للعقد من أصله فالمنفعة ترجع إلى المشتري، و إن قلنا بكونه رفعاً له من حينه فهي للبائع، لا يخلو عن النظر بل المنع؛ لأنّ رجوع المنفعة إلى البائع على ما ذكرناه إنّما هو لاقتضاء الفسخ ذلك؛ نظراً إلى أنّ لازمه عود العوضين إلى ما كانا عليه، و هذا لا فرق فيه بين الوجهين كما هو ظاهر.

ثمّ إنّ هنا فرضاً آخر؛ و هي صورة اعتقاد البائع و المشتري بقاء مدّة الإجارة، و أنّ العين مسلوبة المنفعة إلى زمان كذا، فتبيّن أنّ المدّة كانت منقضية حين البيع، فهل منفعة تلك المدّة للبائع أو للمشتري؟ مقتضى ما ذكرناه هو الرجوع إلى المشتري. نعم، مع شرط سلب المنفعة بعد اعتقاد بقاء مدّة الإجارة يكون مقتضى القاعدة الرجوع إلى البائع، و العجب من بعض محشّي العروة «3» حيث اختار الرجوع إلى المشتري في صورة الاشتراط أيضاً؛ لأجل قاعدة التبعية مع أنّه كما ترى.

بقي الكلام في فرض إعراض المستأجر عن العين المستأجرة و رفع اليد عنها،

______________________________

(1) مفتاح الكرامة: 7/ 88 89.

(2) راجع تذكرة الفقهاء: 2/

329.

(3) العروة الوثقى: 5/ 27، التعليقة 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 172

..........

______________________________

و أنّه هل بالإعراض تنتقل المنفعة إلى البائع أو إلى المشتري؟ الظاهر أنّه يشكل الحكم بالرجوع إلى البائع؛ لعدم كون الإعراض مقتضياً لذلك؛ لأنّه ليس سبباً مملّكاً له و لا يكون كالفسخ موجباً لعود المنفعة إلى ما كانت عليه، و كذلك يشكل الحكم بالرجوع إلى المشتري؛ لأنّ المفروض صورة استحقاقه للعين المسلوبة المنفعة، و لا مجال لإجراء قاعدة التبعيّة بعد تحقّق التفكيك الصحيح، فلا بدّ حينئذٍ من أن يقال: بأنّها مال بلا مالك و أنّها صارت بحكم المباحات، تملك بالحيازة، و ليست ملكيّة العين كافية في حيازة المنفعة بعد كون الحيازة من الأُمور القصدية، و عليه يمكن أن يقال بإمكان تحقّق الحيازة من البائع؛ لأنّ المفروض أنّ العين بيده و لم يتحقّق الإقباض بعد من المشتري.

ثمّ إنّه في الموارد التي ترجع المنفعة إلى المشتري فهل للبائع الخيار أو لا؟ ذكر في العروة أنّه لا يخلو أوّلهما من قوّة، خصوصاً إذا أوجب ذلك له الغبن «1»، و ظاهر المحشّين «2» بل صريحهم اختصاص الخيار بصورة الغبن، و استظهر الثبوت من هذه الجهة المحقّق الرشتي قدس سره، و احتمل أن يكون من خيار العيب؛ نظراً إلى أن كلّ وصف يقتضيه أصل أو ظاهر أو قاعدة حكمه حكم الصحّة في اقتضاء تخلّفه الخيار و لو لم يذكر في العقد، و المؤجر لمّا آجر العين قبل البيع يصير الأصل في المبيع نقصان المنفعة لأصالة الصحّة، فإذا انكشف الخلاف وجب الخيار «3». و ربما احتمل أن يكون الخيار من جهة تخلّف الوصف؛ لأنّ المبيع ظهر على غير ما زعمه من الصفة؛ و هي كونها

مسلوبة المنفعة.

______________________________

(1) العروة الوثقى: 5/ 27 مسألة 1.

(2) العروة الوثقى: 5/ 27، التعليقة 2 و 3.

(3) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 39.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 173

..........

______________________________

أقول: الظاهر أنّه لا مجال لاحتمال كون الخيار هنا خيار العيب، أو من باب تخلّف الشرط أو الصفة؛ لأنّ خيار العيب متوقّف على ثبوت العيب، و هو هنا غير ثابت لو لم نقل بثبوت الخلاف. و أمّا خيار التخلّف فهو فيما إذا اشترط أمر وجوديّ في العوض الذي يراد بالمعاملة التوصّل إليه، ثمّ ظهر الخلاف أو أوقعت المعاملة عليه متصفاً بوصف وجوديّ ثمّ تبيّن الفقدان، و أمّا الأمر العدمي الذي اعتبر شرطاً أو وصفاً في المعوّض الذي يراد نقله إلى الآخر، فلا يكون تخلّفه موجباً للخيار من هذه الجهة، بل لو ثبت خيار فإنّما هو من جهة الغبن، و يمكن أن يقال بعدم ثبوته في المقام من جهة الغبن أيضاً؛ نظراً إلى أنّ مورد المعاملة البيعية هي العين، و لم يتحقّق غبن فيها كما هو المفروض، و اشتمالها على المنفعة من جهة قاعدة التبعية أمر آخر لا ارتباط له بالبيع، كما لو فرض اشتمالها على أمر آخر يكون مقتضى القاعدة دخوله في ملك مالك العين كالكنز و نحوه، و لكنّ الظاهر خلاف ذلك، و ثبوت الخيار في مورد تحقّق الغبن فقط.

3 تقارن البيع و الإجارة و ليعلم أنّ محل البحث في هذا الفرض ليس مجرّد إمكان تحقّق البيع و الإجارة معاً في زمان واحد من مالك العين، و لو مع علم المشتري بمسلوبية منفعة العين و علم المستأجر بإرادة نقل العين إلى المشتري، كيف و وضوح الجواز يغني عن جعله محلّ الكلام، أ ترى إمكان

المناقشة فيما إذا أحضر المالك رجلين يريد أحدهما الابتياع و الآخر الاستئجار مع اطّلاع كلّ منهما على حال الآخر، ثمّ باع العين من الأوّل و آجرها من الثاني بعبارة واحدة مشتملة على كليهما، فإنّه من الواضح صحّة البيع و الإجارة، كيف و لو باع العين المسلوبة ثمّ آجرها بمقدار السلب لا مجال

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 174

..........

______________________________

لاحتمال البطلان فضلًا عن صورة التقارن.

فانقدح أنّ هذا الفرض خارج عن محلّ الكلام، و إن كان يظهر من المحقّق الإصفهاني قدس سره أنّه زعم كون البحث في هذا الفرض، حيث استدلّ على صحّة الأمرين بأنّ مالك العين له مالان و ملكان، و له السلطنة على نقل كلّ منهما بالاستقلال، و التبعية ليست بنحو اللزوم بحيث لا ينفكّ ملك المنفعة عن ملك العين، و لا ملك العين عن ملك المنفعة، و استتباع ملك العين لملك المنفعة لا يزاحم سلطان المالك على ماله، فله السلطنة على نقلهما معاً في عرض واحد، كما له السلطنة على نقل المنفعة قبلًا، إلى آخر ما أفاد «1».

فإنّ ظاهر هذا الدليل يعطي أنّ النزاع إنّما هو في سلطنة المالك على نقل كلّ من ماليه بالاستقلال، مع أنّك عرفت أنّ وضوح الجواز فيه يدلّنا على خروجه عن محلّ النزاع، فالذي وقع البحث فيه هو ما إذا وقع البيع و الإجارة معاً مع جهل المؤجر بالمقارنة، و كذا البائع و المشتري، كما إذا باع العين الوكيل في البيع و آجرها المالك مقارناً لوقوع البيع مع جهل المالك بمقارنة البيع للإجارة، و جهل الوكيل بذلك، و كذا مع جهل المشتري و المستأجر، فإنّه حينئذٍ يمكن أن يقع فيه النزاع، و أنّه هل القاعدة

تقتضي صحّتهما معاً، أو بطلانهما معاً، أو صحّة البيع و بطلان الإجارة؟

و الظاهر كما صرّح به القائل بصحّة الأمرين أنّ المراد بها صحّة البيع و انتقال العين مسلوبة المنفعة إلى المشتري، و يمكن أن يفرض الصحّة المطلقة الموجبة لنقل المنفعة أيضاً. غاية الأمر وقوع التزاحم بين دليل وجوب الوفاء بالبيع المقتضي

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 18 19.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 175

..........

______________________________

لوجوب الإقباض للمشتري، و بين دليل وجوب الوفاء بالإجارة، المقتضي لوجوب الإقباض للمستأجر، و لكن هذا الاحتمال لا يستفاد منهم.

و أمّا البطلان معاً ففيه احتمالان مذكوران في العروة:

أحدهما: بطلانهما من رأس لأجل التزاحم في ملكيّة المنفعة.

ثانيهما: البطلان بالنسبة إلى تمليك المنفعة، فيصح البيع على أنّها مسلوبة المنفعة تلك المدّة، فتبقى المنفعة على ملك البائع «1».

و قد ذكر المحقّق الأصفهاني: أنّ مراده من الاحتمال الثاني هي صحّة البيع و بطلان الإجارة، التي هي الوجه الثالث من الوجوه الثلاثة في المسألة، و ذكر: أنّ التعبير بذلك أولى من التعبير بالبطلان معاً «2».

و يحتمل أن يكون المراد بصحّة البيع هي صحّته المطلقة الموجبة لنقل المنفعة أيضاً إلى المشتري مع بطلان الإجارة، و قد حكي هذا الاحتمال عن سيّدنا المحقّق الأستاذ قدس سره في مجلس البحث.

و هنا احتمال سادس؛ و هو احتمال بطلان أحدهما لا على التعيين؛ بمعنى أنّه في مقام الثبوت يكون أحدهما المعيّن باطلًا. غاية الأمر أنّه غير معيّن في مقام الإثبات. هذا، و لكن المسلّم بينهم عدم بطلان البيع بمعنى عدم تأثيره في تمليك العين، و يؤيّده أنّ عنوان هذا الفرع في كلام بعض كالمحقّق الرشتي قدس سره وقع هكذا: «لو تقارن البيع و الإجارة ففي فساد الإجارة

و صحّتها وجهان» «3» فإنّ ظاهره أنّ صحّة البيع المقتضية لتمليك العين مع قطع النظر عن المنفعة مسلّمة، و إنّما الخلاف في

______________________________

(1) العروة الوثقى: 5/ 29 مسألة 2.

(2) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 17.

(3) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 38 39.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 176

..........

______________________________

الإجارة صحّةً و فساداً.

و كيف كان، فقد استدلّ السيّد قدس سره صاحب العروة على ما اختاره من صحّتهما معاً بما هذه عبارته: لعدم التزاحم، فإنّ البائع لا يملك المنفعة و إنّما يملك العين، و ملكيّة العين توجب ملكيّة المنفعة للتبعية، و هي متأخّرة عن الإجارة «1».

و أورد عليه المحقّق الإصفهاني قدس سره بما حاصله:

أوّلًا: أنّ التقدّم و التأخّر المفروضين طبعي لا زماني، و التقدّم و التأخّر الطبعي لا ينافي المقارنة الزمانية، بل لا ينافي الاتّحاد في الوجود؛ لأنّ ملاكه إمكان وجود المتقدّم مع عدم وجود المتأخّر بلا عكس، و من البيّن أيضاً أنّ التنافي في التأثير ليس إلّا بلحاظ وجود الأثر خارجاً، و في الوجود الخارجي لهما المعيّة الزمانيّة، فما فيه التنافي لا تقدّم و لا تأخّر فيه، و ما فيه التقدّم و التأخّر لا تنافي فيه.

و ثانياً: أنّ تأخّر ملك المنفعة عن البيع بمقتضى التبعية لا يوجب تأخّره عن الإجارة؛ لأنّ ما مع المتقدّم على شي ء ليس متقدماً على ذلك الشي ء؛ لأنّ التقدّم و التأخّر لا يكون إلّا بملاك مخصوص، و هو بين نفس المتقدّم و المتأخّر لا بين ما معه و غيره.

و ثالثاً: أنّ الإجارة لها المعية مع البيع بالزمان لا بالطبع، فلو فرضنا أنّ ما مع المتقدّم متقدّم فليس بينهما المعية، حتّى تكون الإجارة متقدّمة على ملك المنفعة لتقدّم البيع عليه «2».

______________________________

(1)

العروة الوثقى: 5/ 29 مسألة 2.

(2) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 18.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 177

..........

______________________________

أقول: و عمدة ما يمكن أن يقال على المستدلّ: إنّه لو فرض أنّ مقتضى تأخّر رتبة ملك المنفعة عن البيع تأخّره عن الإجارة أيضاً، إلّا أنّ هذا التأخّر أمر عقلي لا ارتباط له بعالم الاعتبار العقلائي الذي هو الملاك في باب المعاملات، و من الواضح أنّ الاعتبار العقلائي لا يكون مساعداً لتأخّر ملك المنفعة، بل لا يرونهما إلّا متقارنين، فلا بدّ حينئذٍ من ملاحظة أنّ الأرجح هل هو الإجارة، أو قاعدة التبعية المقتضية للدخول في ملك المشتري، أو أنّه لا يكون أرجح في البين بل هما متساويان؟ ثمّ على فرض التساوي لا وجه لدعوى الرجوع إلى ملك البائع؛ لأنّه قد علم بانقطاع يده عن العين و المنفعة جميعاً. غاية الأمر أنّه لم يعلم كون المنفعة داخلة في ملك المشتري تبعاً، أو مملوكة للمستأجر بسبب الإجارة، فمع خروجها عن ملكه أيضاً لا وجه لدعوى الرجوع بعد عدم وجود مملّك في البين يوجب تمليكها، كيف و مع فرض الرجوع لا بدّ من الالتزام بصحّة الإجارة؛ لعدم مانع من تأثيرها، فتدبّر.

فانقدح ممّا ذكرنا أنّ الاستدلال على صحّة الإجارة بما أفاده في العروة غير تامّ.

و أمّا ما أفاده المحقّق الرشتي قدس سره وجهاً لصحّتها من تحكيم أدلّة الإجارة على أدلّة التبعية؛ لأنّ المقتضي لصحّة الإجارة موجود و المانع مفقود، إذ المانع ليس إلّا البيع و هو ليس بمانع؛ لأنّ سببيّته لانتقال المنفعة تبعاً تتوقّف على أن لا يكون المبيع مسلوبة المنفعة، فمع مقارنته للإجارة لا يكون سبباً لانتقال المنفعة، فلا يزاحم الإجارة في تأثيرها، فهو ضعيف بما أفاده

من القلب؛ لأنّ المقتضي لتأثير البيع في انتقال المنفعة موجود و المانع مفقود، أمّا المقتضي فهو بيع العين، و أمّا عدم المانع فلأنّه ليس إلّا إفراز المنفعة عن العين قبل البيع،

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 178

..........

______________________________

و هو هنا غير حاصل «1».

و أمّا الاستدلال على الصحّة بما أفاده المحقّق الأصفهاني ممّا عرفت، فقد تقدّم أنّه لا ينطبق دليله على محلّ النزاع، و إن كان ما ذكره تامّاً لا ريب فيه، لكنّه خارج عمّا هو مورد البحث.

و لنشرع بعد ذلك فيما قيل أو يمكن أن يقال وجهاً لبطلان الإجارة، و هي أُمور:

الأوّل: ما حكي عن تقريرات سيّدنا المحقّق الأُستاذ البروجردي قدس سره من أنّ البيع كما يقتضي نقل العين كذلك يقتضي نقل المنفعة أيضاً، فعقد البيع له اقتضاءان، و الإجارة المقارنة إنّما تضادّ البيع في خصوص اقتضائه لنقل المنفعة، و بعد التضادّ و عدم الترجيح لأجل المقارنة يسقط البيع عن اقتضاء نقل المنفعة، و كذا الإجارة، و بعد سقوطهما لا مانع من الأخذ بما تقتضيه قاعدة التبعيّة الحاكمة بثبوت المنفعة للمشتري.

و قد أورد على ذلك بأنّ اقتضاء البيع لنقل المنفعة إنّما هو لأجل قاعدة التبعية، و مع قطع النظر عن هذه القاعدة يمنع اقتضاء البيع لنقلها بعد كون حقيقته هي تمليك العين، و مرجع هذا الإيراد إلى أنّه ليس للبيع إلّا اقتضاء واحد و هو نقل العين، و أمّا نقل المنفعة فهو ليس ممّا يقتضيه البيع، بل هو نتيجة قاعدة التبعية فقط.

و أُجيب عن هذا الإيراد بأنّه ليس المراد اقتضاء البيع لنقل المنفعة مع قطع النظر عن القاعدة، بل المراد أنّه بعد تعارض الإجارة و قاعدة التبعية و سقوطهما، لا مانع من

قيام مصداق آخر من القاعدة بلا معارض يكون مقتضاه ثبوت المنفعة

______________________________

(1) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 39.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 179

..........

______________________________

للمشتري، و ليست القاعدة بحيث إذا سقطت لم يكن مجال لثبوتها بعده، فأيّ مانع يتصوّر من قيام فرد منها بعد سقوط الفرد الأوّل لأجل المعارضة، و هذا نظير قوله عليه السلام: «لا تنقض اليقين بالشكّ» «1»، فإنّه مع عدم جريان فرد منه في مورد لأجل المعارضة أو غيرها لا مانع من جريان فرد آخر خال عن المعارضة أو الأصل الحاكم.

و يمكن الإيراد على هذا الجواب بأنّ المفرّد للقاعدة في المقام هل هو الزمان أو أمر آخر؟ فإن كانت الفردية متحقّقه بأمر آخر غير الزمان فنحن لا نتصوّر ذلك الأمر بوجه أصلًا، و إن كانت متحقّقة بالزمان؛ بمعنى أنّ القاعدة الجارية في الزمان الأوّل تنافي الإجارة، فيرد عليه مضافاً إلى عدم تحقّق التفرّد بمجرّد الزمان هنا أنّ منافاة الإجارة إنّما هي مع نفس جريان القاعدة لا من حيث تقيدها بالزمان الأوّل، و تنظير المقام بباب الاستصحاب ممّا لا يصحّ، فإنّه هناك يتحقّق بعد السقوط فرد آخر واقعي من اليقين و الشكّ، و بعد تحقّقه يكون مقتضى العموم حرمة نقض الأوّل بالثاني بخلافه هنا، فإنّه لا مجال لدعوى الثبوت بعد السقوط، فافهم.

الثاني: ما احتمله سيّدنا الأُستاذ قدس سره على ما استظهر من عبارة تقريراته، و إن ناقش فيه بل حكم ببطلانه، و هو أنّه يعتبر في المعاوضة أن يكون العوضان بحيث لو لم تكن معاوضة كانا ثابتين في محلّهما الأصلي، باقيين على ملك مالكهما الأوّلي، و في المقام ليس كذلك فإنّ العوضين في الإجارة لا يكونان كذلك؛ لأنّ المنفعة مع قطع

النظر عن الإجارة لا تكون باقية على ملك المؤجر، بل مقتضى قاعدة التبعيّة

______________________________

(1) وسائل الشيعة: 1/ 245، كتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء ب 1 ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 180

..........

______________________________

الجارية في المبيع دخولها في ملك المشتري، و نظيره ما لو تقارن بيع الوكيل و زمان زهاق الروح من الموكّل، فإنّه مع قطع النظر عن البيع لا يثبت المبيع في محلّه، بل ينتقل إلى الورثة لأجل موت المورِّث.

و الجواب عنه: أنّ اعتبار هذا الأمر في المعاوضة ممّا لم يدلّ عليه دليل، و تقوّم المعاوضة به بحيث لم تتحقّق بدونه غير معلوم، بل معلوم العدم، و لعلّه لذا ناقش فيه الأُستاذ قدس سره، و إن كانت عبارة المقرّر المحكية عنه في غاية الاضطراب.

الثالث: دعوى عدم شمول إطلاقات أدلّة الإجارة للإجارة المقارنة للبيع و انصرافها عنها، أو عدم ثبوت إطلاق أو عموم في باب الإجارة أو مطلق العقود يستفاد منهما الصحّة، و عدم كون الإجارة الكذائية معتبرة عند العقلاء أيضاً، و هي كما ترى.

و التحقيق في المقام أن يقال: إنّه لا مجال للإشكال في صحّة الإجارة لأجل التقارن؛ لما عرفت من أنّ الإجارة و إن كانت أمراً مرتبطاً بنفس العين و إضافة خاصة بالنسبة إليها، كما أنّ البيع أمر مرتبط بها، إلّا أنّه لا منافاة بين الإضافتين و لا منافاة بين الحقيقتين، و لذا تجتمعان في البقاء فيما لو سبق عقد الإجارة على البيع، كما عرفت فيما مرّ. غاية ما هنا أنّ المقارنة صارت موجبة للإشكال في المنفعة، و أنّ المالك لها هل هو المشتري نظراً إلى قاعدة التبعية، أو المستأجر نظراً إلى عقد الإجارة؟ و منشأ الإشكال ليس هو اعتبار

القدرة على التسليم في باب الإجارة، و المفروض عدمها في المقام، و ذلك لأنّه يمكن فرض القدرة و رعاية كلا الحقّين بإقباض العين للمشتري ثمّ استئجارها منه ثمّ إقباضها للمستأجر؛ إذ لا يعتبر في الإجارة، الزائد على ما ذكر، كما أنّه ليس المنشأ استتباع كلا العقدين لوجوب

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 181

..........

______________________________

الإقباض؛ لأنّ غاية الأمر وقوع التزاحم بين الوجوبين و عدم وجود مرجّح في البين.

بل العمدة في هذا المقام عدم إمكان حدوث ملكيّة المنفعة ملكيّة مستقلّة بالنسبة إلى شخصين، و لا بدّ حينئذٍ من ملاحظة أنّ الاعتبار العقلائي في أمثال ذلك هل هو طرح السببين و الحكم بعدم ترتّب المسبّب، أو أنّه يرى تأثير أحدهما في مسبّبه؟ و بعبارة اخرى بعد ما كان القوام في باب المعاملات هو الاعتبار؛ إذ ليس فيها بحسب الواقع تأثير و تأثّر و لا سبب و مسبّب، بل حقيقتها اعتبار أمر وراء أمر آخر من القول أو الفعل أو غيرهما، فلا بدّ حينئذٍ من ملاحظة الموارد المشابهة للمقام، و أنّه هل تقارن الأمرين الاعتباريين في تلك الموارد موجب لسقوطهما عن التأثير الاعتباري أم لا؟

الظاهر هو الثاني، أ لا ترى أنّه لو اشترى زيد بعض أموال أبيه من وكيله و اتّفق تقارن الاشتراء مع موت الأب الموجب لانتقاله إليه بالإرث، فهل تقارن الشراء الموجب لملكية زيد مع الموت الموجب لها أيضاً يوجب سقوط كليهما فينتج عدم كون زيد مالكاً، أو أنّ دعوى عدم الملكيّة في الفرض ممنوعة عند العقلاء جدّاً؟ و كذلك لو اشترى زيد داراً مثلًا من صاحبها و وكيله تلك الدار بعينها من وكيله و تقارن البيعان، فهل ترى من نفسك الحكم بعدم

كون زيد مالكاً للدار في المثال؟ و في المقام نقول: إنّ الاعتبار الإجاري مقتض لملكية المستأجر للمنفعة، و الاعتبار البيعي مقتض لملكية المشتري لها، و اجتماعهما لا يوجب سقوطهما، بل المنفعة بحسب الاعتبارين بضميمة عدم إمكان الجمع ملك لأحدهما عند العقلاء. غاية الأمر عدم تعيّنه، فهو نظير ما لو وهب ماله أحد الشخصين بنحو الإبهام بناءً على صحّتها فإنّ المالك هناك أحدهما كما في المقام، و حينئذٍ يمكن التوصّل إلى التعيين

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 182

..........

______________________________

من طريق القرعة، بناءً على عدم اختصاص جريانها بما إذا كان هناك واقع معلوم عند اللّٰه غير معلوم عندنا، كما قد حرّرناه في محلّه.

ثمّ إنّه لو كانت نتيجة القرعة بنفع المستأجر، فلازمه ثبوت الخيار للمشتري مع جهله كما هو المفروض. و لو كانت بنفع المشتري فلازمه بطلان الإجارة حينئذٍ لا بطلانها من الأوّل، كما أنّه لو فرض اتّحاد المشتري و المستأجر بأن اشتراه بنفسه و استأجره وكيله مع الجهل به حين الشراء أو العكس فلا حاجة إلى القرعة في تعيين مالك المنفعة، و إنّما الكلام في ثبوت الأُجرة عليه زائدة على الثمن، فتدبّر.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 183

[هل تبطل الإجارة بموت المؤجر و المستأجر؟

] مسألة 11: الظاهر أنّه لا تبطل إجارة الأعيان بموت المؤجر و لا بموت المستأجر، إلّا إذا كانت ملكيّة المؤجر للمنفعة محدودة بزمان حياته فتبطل بموته، كما إذا كانت منفعة دار موصى بها لشخص مدّة حياته، فآجرها سنتين و مات بعد سنة. نعم، لو كانت المنفعة في بقيّة المدّة لورثة الموصي أو غيرهم فلهم أن يجيزوها في بقيّة المدّة، و من ذلك ما إذا آجر العين الموقوفة البطن السابق و مات

قبل انقضاء المدّة، فتبطل إلّا أن يجيز البطن اللاحق. نعم، لو آجرها المتولّي للوقف لمصلحة الوقف و البطون اللّاحقة مدّة تزيد على مدّة بقاء بعض البطون تكون نافذة على البطون اللّاحقة، و لا تبطل بموت المؤجر و لا بموت البطن الموجود حال الإجارة. هذا كلّه في إجارة الأعيان، و أمّا إجارة النفس لبعض الأعمال فتبطل بموت الأجير. نعم، لو تقبّل عملًا و جعله في ذمّته لم تبطل بموته، بل يكون ديناً عليه يستوفي من تركته (1).

______________________________

(1) الكلام في هذه المسألة يقع في مقامين:

المقام الأوّل: في إجارة الأعيان، و توضيح الكلام فيها يتمّ برسم أُمور:

الأمر الأوّل: في الوجوه و الأقوال بنحو الإجمال، و نقول: الوجوه المتصوّرة لا تزيد على أربعة: البطلان بالموت مطلقاً، و عدمه كذلك، و البطلان بموت المستأجر دون المؤجر و العكس.

أمّا البطلان بالموت مطلقاً، فهو على ما في مفتاح الكرامة «1» خيرة المقنعة «2»

______________________________

(1) مفتاح الكرامة: 7/ 78.

(2) المقنعة: 640.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 184

..........

______________________________

و النهاية «1» و الخلاف «2» و المبسوط في موضعين منها «3» و المراسم «4» و المهذّب «5» و الوسيلة «6» و الغنية «7» و جامع الشرائع «8»، و هو ظاهر التذكرة في موضع «9»، بل و السرائر كذلك «10»، و هو المحكي في كشف الرموز عن البشرى «11»، و حكاه القاضي في المهذّب عن السيّد «12»، كما فهمه منه في التنقيح «13».

ثمّ إنّ هؤلاء بين من عبّر بالبطلان الظاهر في بطلان الإجارة من أصلها، و لازمه حينئذٍ الرجوع إلى أُجرة المثل بالنسبة إلى المدّة التي استوفيت المنفعة فيها، و بين من عبّر بالفسخ أو الانفساخ كالشيخ في المبسوط، حيث قال: الموت يفسخ الإجارة،

و السيّد في الغنية حيث قال: تنفسخ بموت أحد المتعاقدين، و ظاهر هذا التعبير صحّة الإجارة بالنسبة إلى ما مضى من المدّة، فيقسّط عليه الأُجرة المسمّاة.

و يمكن أن يكون مراد من عبّر بالبطلان و شبهه هو البطلان من حين الموت،

______________________________

(1) النهاية: 441 و 444.

(2) الخلاف: 3/ 491 مسألة 7.

(3) المبسوط: 3/ 216 و 224.

(4) المراسم: 199.

(5) المهذّب: 1/ 501.

(6) الوسيلة: 267.

(7) غنية النزوع: 287.

(8) الجامع للشرائع: 292.

(9) تذكرة الفقهاء: 2/ 325.

(10) انظر السرائر: 2/ 471.

(11) كشف الرموز: 2/ 30، و لكن المحكي عن البشرى لابن طاوس هو الوجه الثالث كما سيأتي.

(12) المهذّب: 1/ 502.

(13) التنقيح الرائع: 2/ 255.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 185

..........

______________________________

فيشترك مع الانفساخ في الأثر و هو تقسيط الأُجرة المسمّاة، و إن كان بينهما فرق من جهة أُخرى؛ و هو ظهور التعبير بالبطلان في تماميّة الاقتضاء بسبب الموت، و ظهور التعبير بالانفساخ في استمرار الاقتضاء، و لأجل ذلك ذكر المحقّق الأصفهاني قدس سره: أنّ مقتضى كون هذه المسألة متفرّعة على لزوم الإجارة، و كذا مقتضى الاستدلال بعمومات لزوم الإجارة هو أنّ البحث في انفساخ الإجارة الصحيحة و عدمه، فينبغي التعبير به دون البطلان، كما أنّ مقتضى الوجوه العقليّة الراجعة إلى عدم ملك المنفعة مقارناً للموت هو عدم تأثير العقد دون تأثيره و انفساخه به «1».

و كيف كان، فقد احتمل في عبارة من عبّر بالبطلان أن يكون مراده منه هو التوقّف على إجازة الوارث، نظير ما صرّحوا به في إجارة الوقف من البطلان، مع أنّ المراد به التوقّف على إجازة البطون اللّاحقة.

و أمّا عدم البطلان بالموت مطلقاً فهو كما في المفتاح «2» خيرة كافي أبي الصلاح «3» و السرائر

«4» و الشرائع «5» و النافع «6» و جمع كثير من المتأخّرين «7»، و نسبه في السرائر إلى الأكثرين المحصّلين «8»، و في المسالك: عليه المتأخّرون أجمع «9».

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 19.

(2) مفتاح الكرامة: 7/ 76.

(3) الكافي في الفقه: 348.

(4) السرائر: 2/ 449 و 460.

(5) شرائع الإسلام: 2/ 179.

(6) المختصر النافع: 247.

(7) كالشهيد في اللمعة: 94، و ابن فهد في المقتصر: 204، و المحقّق الكركي في جامع المقاصد: 7/ 84.

(8) السرائر: 2/ 449.

(9) مسالك الأفهام: 5/ 175.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 186

..........

______________________________

و أمّا البطلان بموت المستأجر دون المؤجر فهو المحكي عن ابن طاوس «1» و المنسوب إلى المبسوط أيضاً، حيث إنّه بعد ما ذكر أنّ الموت يفسخ الإجارة، سواء كان الميّت المؤجر أو المستأجر عند أصحابنا، قال: و الأظهر عندهم أنّ موت المستأجر يبطلها و موت المؤجر لا يبطلها، و فيه خلاف «2». لكن في المفتاح: أنّ الأظهر في عبارة المبسوط أنّ مراده بالأظهر عندهم هو الأظهر عند العامّة، كما هو عادته، و بذلك يرتفع الإشكال عن القوم في عبارته «3»، و حكي عن ابن البرّاج نسبة هذا القول إلى الأكثر «4».

و أمّا العكس فهو الذي نسبه العلّامة في محكي التذكرة إلى بعض علمائنا، حيث قال: و قال بعض علمائنا تبطل بموت المؤجر خاصّة دون المستأجر، و عكس آخرون «5»، و حكي عن الشهيد قدس سره في نكته «6» أنّ هذا القول غير موجود بين أصحابنا، و لعلّ المنشأ في توهّم وجود القائل بهذا ما حكي عن المرتضى «7» و ابن الجنيد «8» من تصريحهما بعدم البطلان بموت المستأجر، من دون تعرّض لموت المؤجر، مع أنّ عدم التعرّض

لا دلالة فيه على القول بالبطلان بموت المؤجر، كما هو غير خفيّ.

______________________________

(1) حكى عنه في كشف الرموز: 2/ 30.

(2) المبسوط: 3/ 224.

(3) مفتاح الكرامة: 7/ 79.

(4) المهذّب: 1/ 501 502.

(5) تذكرة الفقهاء: 2/ 325.

(6) غاية المراد: 2/ 321.

(7) الناصريات: 438 مسألة 200.

(8) حكى عنه في مختلف الشيعة: 6/ 107 مسألة 6.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 187

..........

______________________________

الأمر الثاني: فيما تقتضيه القواعد و النصوص، فنقول: إنّ طروّ الشبهة في هذا الأمر يمكن من وجوه:

أحدها: من جهة احتمال اعتبار عدم الموت و بقاء حياة كلّ من المؤجر و المستأجر في صحّة الإجارة بقاءً، بناءً على أن يكون المحتمل هو طروّ البطلان، أو الانفساخ من حين الموت، أو من جهة احتمال اعتبار بقاء حياتهما في صحّة الإجارة من رأس، بناءً على أن يكون المحتمل هو بطلان الإجارة من حينها، كما هو الظاهر من لفظ البطلان على ما مرّ.

فإن كان منشأ الشبهة هذا الوجه يكون الرافع لها هي الإطلاقات؛ لكونها رافعة للشكّ في اعتبار شي ء زائد على ما علم اعتباره، كما أنّه لا مانع من التمسّك باستصحاب بقاء العقد و عدم الانفساخ بالموت في خصوص الصورة الأُولى، كما أنّه لو احتمل صيرورة العقد جائزاً بالموت بمعنى توقّفه على إجازة الوارث يكون مقتضى استصحاب بقاء اللزوم العدم، كما هو غير خفي.

ثانيها: من جهة احتمال محدودية ملكيّة المنفعة بحال الحياة، كما أنّ المالكية محدودة بها، و حينئذٍ لم يكن المؤجر مالكاً للمنفعة في جميع المدّة حتّى يملكها.

و الجواب عنه: أنّ التحديد إنّما هو في طرف المالكية؛ لأنّه لا يعقل بقاؤها بعد انتفاء الموضوع عرفاً بالموت، و أمّا في طرف المملوك فلا يكون هناك حدّ؛ لأنّ الإنسان مالك

في حياته للمنفعة ملكيّة مرسلة غير موقّتة، و لذا يجوز الصلح عليها ما دامت العين موجودة، و كذا غير الصلح من أنواع النقل و الانتقال، فالشبهة من هذه الجهة أيضاً مندفعة.

ثالثها: من جهة أنّ الوارث لا يكون مكلّفاً بالوفاء بعقد الإجارة؛ لأنّ المكلّف به هما المتعاملان، و لا معنى لانتقال التكليف بالموت إلى الوارث، و بعد عدم

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 188

..........

______________________________

التكليف لا مانع من تصرّفه في العين بما شاء.

و الجواب: أنّ حرمة تصرّفه فيها و عدم جواز المزاحمة ليس لأجل التكليف بالوفاء، بل إنّما هو لأجل حرمة التصرّف في مال الغير، و عدم جواز المزاحمة معه في حقّه، كما أنّ عدم الجواز في حق المتعاملين أيضاً إنّما هو لأجل ذلك، فتدبّر.

و في المقام نقول: إنّ المستأجر ملك منفعة العين في المدّة الخاصّة، فلا تجوز المزاحمة معه في حقه بعد موت المؤجر في أثناء تلك المدّة، و ليست المنفعة بعد تفكيك المؤجر لها و نقلها إلى الغير من جملة ما تركه حتّى تشملها أدلّة الإرث، كما أنّها بموت المستأجر في الأثناء تنتقل إلى ورثته؛ لأنّها من جملة ما تركه، فلا يجوز للمؤجر المزاحمة معهم، و لا فرق فيما ذكرنا بين كون موت أحدهما واقعاً قبل إقباض العين أو بعده؛ لأنّ حرمة التصرّف و عدم جواز الممانعة و المزاحمة ثابتة على كلا الفرضين.

رابعها: من جهة احتمال كون انقضاء مدة الإجارة جزءاً للسبب المقتضي للتأثير أو شرطاً له، و مع مصادفة متمّم السبب للموت لا معنى للتأثير؛ كالموت بين الإيجاب و القبول، أو قبل القبض في الصرف مثلًا.

و منشأ هذا الاحتمال ما ذكره الفقهاء من بطلان الإجارة بالتلف و لو بعد

القبض، فإنّه لو لم يكن لانقضاء المدّة دخل في السبب جزءاً أو شرطاً لما كان وجه للحكم بالبطلان بعد وقوع العقد صحيحاً.

و الجواب ما أفاده المحقّق الإصفهاني قدس سره ممّا حاصله: أنّه لا دليل على مدخلية تماميّة المدّة، مضافاً إلى ابتناء ذلك على معقولية تأخّر العلّة عن معلولها؛ لعدم تعقّل الملك المقارن لتماميّة المدّة، و على فرض المعقولية إنّما يلتزم بالشرط المتأخّر إذا كان هناك موجب للالتزام به، و مجرّد احتمال المدخلية مدفوع بالإطلاقات، و الوجه في

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 189

..........

______________________________

البطلان بالتلف إنّما هو عدم المنفعة في الواقع في المدّة المضروبة، لا من حيث عدم تماميّة المدّة و عدم تماميّة السبب، بل السبب تامّ لكنّه ليس هناك منفعة «1».

خامسها: ما استدلّ به القائل بالبطلان على ما حكاه العلّامة في محكي المختلف من أنّ استيفاء المنفعة يتعذّر بالموت؛ لأنّه استحقّ بالعقد استيفاءها على ملك المؤجر، فإذا مات زال ملكه عن العين و انتقلت إلى الورثة، فالمنافع تحدث على ملك الوارث فلا يستحقّ المستأجر استيفاءها «2»، و إلى هذا يرجع ما حكي عن الغنية «3» و الخلاف «4» من أنّ المستأجر رضي على أن يستوفي المنفعة من ملك المؤجر.

و الجواب ما أفاده المحقّق المذكور أيضاً: من أنّه إن أُريد استيفاؤها من ملك المؤجر للمنفعة فقد بيّنا أنّه يملك المنفعة المرسلة اللاموقتة فله تمليكها، و إن أُريد استيفاؤها من العين المملوكة للمؤجر، ففيه: أنّ اللازم في تملّك المنفعة من المؤجر ملكه لها لا للعين؛ لصحّة الإجارة من المستأجر بلا شبهة، مع أنّ العين مملوكة له حال التمليك، و ملكه لها حال الاستيفاء لا موجب له أصلًا «5».

هذا، مضافاً إلى أنّ ما

ذكر منقوض بما لو زوّج أمته ثمّ مات، و بما لو باع العين المستأجرة من غير المستأجر، و بغيرهما من الموارد المشابهة للمقام.

و قد انقدح من جميع ما ذكرنا أنّ مقتضى القواعد عدم بطلان الإجارة بموت

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 20.

(2) مختلف الشيعة: 6/ 108 مسألة 6.

(3) غنية النزوع: 287.

(4) الخلاف: 3/ 492 مسألة 7.

(5) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 21.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 190

..........

______________________________

واحد من المؤجر أو المستأجر، و أنّ الشبهات كلّها قابلة للدفع. هذا، مضافاً إلى أنّه هنا روايات خاصة يمكن الاستدلال بها على ذلك، مثل رواية علي بن يقطين قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن الرجل يتكارى من الرجل البيت أو السفينة سنة أو أكثر من ذلك أو أقلّ؟ قال: الكراء لازم له إلى الوقت الذي تكارى إليه، و الخيار في أخذ الكراء إلى ربّها، إن شاء أخذ و إن شاء ترك «1».

و مورد السؤال فيها إن كان هو لزوم الإجارة و عدمه؛ بمعنى أنّ محطّ السؤال أنّ الإجارة هل تكون مثل البيع لازمة أم لا؟ فالجواب بلزومها إلى آخر الوقت الذي تكارى إليه بناءً على أن يكون الكراء الأوّل بمعنى الإجارة أو بلزوم الأُجرة إلى آخر ذلك الوقت بناءً على أن يكون الكراء الأوّل أيضاً بمعنى الأُجرة دليل على عدم البطلان بالموت؛ لأنّ إطلاق الحكم باللزوم مع كونه في مقام بيانه على ما هو المفروض يرفع الشكّ في عروض البطلان بالموت.

و إن كان المورد هو لزوم كراء جميع الوقت الذي تكارى إليه مع عدم كون العين المستأجرة مستعملة في جميع السنة كما هو الغالب في السفينة؛ بمعنى أنّ محطّ السؤال هو أنّه

هل على المستأجر كراء جميع الوقت مع عدم استفادته من العين في جميعه، أم ينقص بمقدار عدم الاستعمال؟ ففي المفتاح: أنّ الرواية حينئذٍ ظاهرة في الإحياء و لا يكاد ينكر، قال: و لهذا لم يعملوا بها فيما إذا كان المؤجر موقوفاً عليه و مات «2».

أقول: و يمكن الاستدلال بها حينئذٍ أيضاً، خصوصاً إذا كان الكراء الأوّل في

______________________________

(1) التهذيب: 7/ 209 ح 920، الفقيه: 3/ 159 ح 697، الكافي: 5/ 292 ح 1، وسائل الشيعة: 19/ 110، كتاب الإجارة ب 7 ح 1.

(2) مفتاح الكرامة: 7/ 77.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 191

..........

______________________________

الجواب بمعنى الإجارة؛ لأنّ نفس الجواب بلزوم الإجارة أو الأُجرة إلى آخر الوقت ظاهر في عدم عروض البطلان بالموت أيضاً، و إن كان محط السؤال أمراً آخر، و عدم العمل بها في الصورة التي ذكرها لا شهادة فيه على عدم دلالة الرواية، بل هي من هذه الجهة تامّة، و إن كان اللّازم تخصيصها بما إذا كان المؤجر موقوفاً عليه و مات، لو لم نقل بخروج هذه الصورة عن منصرف الرواية، كما ليس ببعيد.

فانقدح ممّا ذكرنا أنّ دلالة هذه الرواية الخاصّة و شبهها على لزوم الإجارة و عدم البطلان بالموت ممّا لا سبيل إلى المناقشة فيها، كما عرفت.

ثمّ إنّ هنا رواية صحيحة أو موثّقة استدلّ بها كلّ من القائل بالبطلان و الصحّة، و قد اعترف بعض بإجمالها و عدم دلالتها على شي ء منهما، و هي ما حكاه في الوسائل عن الكافي للكليني، أنّه روى عن إبراهيم بن محمّد الهمداني قال: كتبت إلى أبي الحسن عليه السلام و سألته عن امرأة آجرت ضيعتها عشر سنين على أن تعطى الإجارة (الأُجرة خ

ل) في كلّ سنة عند انقضائها، لا يقدم لها شي ء من الإجارة (الأُجرة خ ل) ما لم يمض الوقت، فماتت قبل ثلاث سنين أو بعدها، هل يجب على ورثتها إنفاذ الإجارة إلى الوقت، أم تكون الإجارة منقضية بموت المرأة؟ فكتب: إن كان لها وقت مسمّى لم يبلغ (لم تبلغه خ ل) فماتت فلورثتها تلك الإجارة، فإن لم تبلغ ذلك الوقت و بلغت ثلثه أو نصفه أو شيئاً منه فتعطى ورثتها بقدر ما بلغت من ذلك الوقت إن شاء اللّٰه «1».

و حكاه في الحدائق «2» عن التهذيب مع اختلاف، حيث إنّ فيه بدل «ما لم يمض»

______________________________

(1) الكافي: 5/ 270 ح 2، التهذيب: 7/ 207 ح 912، وسائل الشيعة: 19/ 136، كتاب الإجارة ب 25 ح 1.

(2) الحدائق الناضرة: 21/ 541.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 192

..........

______________________________

«ما لم ينقض»، و بدل «منقضية» «منتقضة»، و بدل «فإن لم تبلغ» «و إن لم تبلغ» و الموجود في التهذيب على ما لاحظت هو الواو دون الفاء، و هو الاختلاف المهمّ الذي به يختلف معنى الرواية و مفادها، كما أنّ بدل «منقضية» كان من حيث الكتابة قابلًا للمنتقضة و للمنتقصة المأخوذة من النقص، و بدل الباء بعدها اللام «1».

و كيف كان، فقد استدلّ في محكي مجمع البرهان «2» بهذه الرواية على عدم البطلان بموت المؤجر مدّعياً صراحتها في المطلوب، و أنّه لا يضرّ عدم صحّة سندها لأنّها مؤيّدة، و أنّ الإجماع المركّب يدلّ على عدم البطلان بموت المستأجر أيضاً.

و قد استدلّ بها بعض على البطلان، كالمحكي عن المجلسي قدس سره في حواشي الفقيه «3» و الرياض «4» و صاحب مفتاح الكرامة «5»، و حكاه أيضاً المحقّق الرشتي

قدس سره عن بعض مشايخه، و عن محكي مجلس درس الشيخ الأعظم العلّامة الأنصاري قدس سره «6»، و لا بدّ من ملاحظة تقريب الاستدلال بها عليه، و أنّه هل تكون دلالتها عليه تامّة أم لا؟ لأنّه لا حاجة لنا في إثبات دلالتها على الصحّة بعد كونها هي مقتضى العمومات و الروايات كما عرفت، فنقول: تقريب الاستدلال بها على البطلان من وجوه:

أحدها: ما حكاه المحقّق الرشتي عن بعضهم من أنّ المراد بالوقت في قوله عليه السلام: «إن كان لها وقت مسمّى» الأنجم المضروبة للأُجرة المفروضة في السؤال، و أنّ المراد بقوله عليه السلام: «لم تبلغه» أنّه لم تبلغها أُجرتها، فالمعنى أنّ المرأة إن ماتت بعد إدراك

______________________________

(1) أي في التهذيب: «لموت» بدل «بموت».

(2) مجمع الفائدة و البرهان: 10/ 65 66.

(3) الحاكي هو المحقّق الرشتي في كتاب الإجارة: 41.

(4) رياض المسائل: 6/ 16 17.

(5) مفتاح الكرامة: 7/ 79.

(6) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 41.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 193

..........

______________________________

الأنجم المضروبة قبل أخذ الأُجرة فلورثتها تلك الأُجرة، فالإجارة بمعنى الأُجرة، و المراد بالشرطية الثانية أعني قوله عليه السلام: «و إن لم تبلغ ذلك الوقت و بلغت ثلثه ..» إنّها ماتت في أثناء الأجل المضروب قبل أخذ الأُجرة، و بقوله عليه السلام: «فيعطى ورثتها بقدر ما بلغت» ما هو ظاهره؛ أعني استحقاق الورثة اجرة الماضي من الزمان دون المستقبل. و وجه دلالتها على الفساد على هذا التقدير واضح؛ لأنّ اختصاص استحقاق الورثة بالماضي دون المستقبل لا يتمّ إلّا بفساد الإجارة في الأثناء بموت المرأة، و في مفتاح الكرامة «1» أنّ وجه العدول عن جواب سؤال الراوي بكلمة واحدة و هو إمّا إنفاذ الإجارة أو بطلانها

إلى التعرّض بحال الأُجرة هو التقية عن أصحاب الرأي «2».

و الجواب عن هذا التقريب واضح؛ لأنّه مضافاً إلى أنّ لازمه عدم مطابقة الجواب مع السؤال، ضرورة أنّ السؤال إنّما هو عن إنفاذ الإجارة و انتقاضها بالموت، و الجواب متعرّض لحال الأُجرة المضروبة لها أوقات، و مجرّد احتمال التقية لا يصحّح ذلك يرد عليه أنّ الجواب ظاهر في أنّ الفاعل في كلمتي: «لم تبلغه» «و إن لم تبلغ» واحد و هي المرأة، فجعل الفاعل في الأُولى «الأُجرة» و في الثانية «المرأة» خلاف للظاهر جدّاً، مع أنّ حمل كلمة الإجارة في الجواب على الأُجرة مع كونها في السؤال بمعنى الإجارة المصطلحة على ما هو المفروض ممّا لا شاهد له.

هذا، مضافاً إلى أنّ هذا كلّه إنّما يتمّ على تقدير كون النسخة «لم تبلغه» مع أنّ أكثر النسخ على ما رأيت هو «لم يبلغ» و الفاعل حينئذٍ هو الضمير الذي يرجع إلى

______________________________

(1) مفتاح الكرامة: 7/ 77 78.

(2) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 41.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 194

..........

______________________________

الوقت، كما أنّه يتمّ على تقدير نسخة الواو دون الفاء، مع أنّ الواو لا تكون إلّا في التهذيب، و المعروف أنّ الكافي أضبط من غيره، و إلى غير ذلك من الإيرادات غير الخفية.

ثانيها: ما وصفه المحقّق الإصفهاني قدس سره بأنّه أحسن الوجوه ناقلًا حكايته عن غير واحد من مشايخه؛ و هو أنّ الوقت في آخر السؤال محمول على مدّة أصل الإجارة، لا على المدّة المضروبة لدفع الأجرة بقرينة الإنفاذ و الانقضاء أو الانتقاض، و الجواب أيضاً محمول عليه ليكون الجواب مطابقاً للسؤال، و حمل الشرطية الأُولى حفظاً لتقابلها مع الشرطية الثانية على عدم بلوغ شي ء من مدّة

الإجارة؛ بأن يكون زمان العقد منفصلًا عن زمان المنفعة المملوكة بالعقد، و حمل قوله عليه السلام: «فلورثتها تلك الإجارة» على أنّ أمرها بيد الورثة ردّاً و إمضاءً، أو فعلًا و تركاً، و حمل قوله عليه السلام: «فتعطى ورثتها ..» على أنّ مقدار استحقاقهم الموروث من المرأة ما بلغت المرأة من الثلث أو النصف دون باقي مدّة الإجارة، و هذا لازم انفساخ الإجارة بموتها «1».

و الجواب عنه مضافاً إلى كون هذا التقريب أيضاً مبنيّاً على نسخة الواو و هي غير ثابتة-: أنّ حمل الشرطية الأُولى على عدم بلوغ شي ء من مدّة الإجارة، و كون زمان العقد منفصلًا عن زمان المنفعة، مع عدم إشعار في السؤال بهذا الفرض بعيد جدّاً، و أنّ اللّام لا تفيد هنا إلّا الاختصاص، و من المعلوم أنّ اختصاص تلك الإجارة بالورثة ليس معناه إلّا قيامهم مقام المورِّث لا كون أمر الإجارة بيدهم.

مضافاً إلى أنّ إعطاء الورثة مقدار ما بلغت المرأة من الوقت نصفاً أو ثلثاً أو

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 21 22.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 195

..........

______________________________

غيرهما لا يلازم الانفساخ، فمن الممكن أن يكون المراد مقدار استحقاق الدفع فعلًا، فلا ينافي صحّة الإجارة بالنسبة إلى جميع الوقت. و إلى أنّ التفصيل بين ما إذا مضى مقدار من الوقت، و بين ما إذا لم يبلغ شي ء منه بالانفساخ في الأوّل و عدمه في الثاني، غاية الأمر التوقّف على إنفاذ الورثة كما هو المفروض ممّا لا يقبله الذوق السليم، فإنّ الصورة الثانية أولى بالانفساخ من الاولى، كما لا يخفى، فهذا الوجه أيضاً لا يكاد يتمّ بوجه.

ثالثها: ما هو نظير الوجه الثاني، غاية الأمر ابتناؤه على نسخة الفاء،

و حينئذٍ فالشرطية الثانية تفريع على الشرطية الأُولى، و كلتاهما متعرّضتان لحال مورد السؤال؛ و هو عدم إدراك المؤجر جميع المدّة المسمّاة في أصل الإجارة، و استفادة البطلان حينئذٍ من إيجاب الإعطاء من الأُجرة بمقدار ما أدركته المرأة من تلك المدّة، و لا ينافي ذلك قوله عليه السلام: «فلورثتها تلك الإجارة» فإنّ معناه عدم وجوب الإنفاذ الذي هو بمعنى الوفاء؛ و هو كناية عن البطلان بالموت، و إن أبيت ذلك نقول: بأنّه يستفاد منه البطلان بمعنى التوقّف على إجازة الوارث، و هو أحد محتملات البطلان كما مرّ.

و جواب هذا الوجه يستفاد من الجواب عن الوجه المتقدّم، فتدبّر.

ثمّ إنّك قد عرفت أنّ عدم تماميّة دلالة الرواية على البطلان يكفي لنا، و لا حاجة إلى إثبات دلالتها على الصحّة بعد اقتضاء العمومات و الروايات لها، إلّا أنّه لا بأس بإيراد تقريب الاستدلال بها للصحّة، ثمّ بيان ما هو مقتضى التحقيق في معنى الرواية و مفادها تتميماً للفائدة، فنقول: إنّ الاستدلال بها للصحّة له تقريبان على ما أفاده المحقّق الإصفهاني قدس سره:

أحدهما: أنّ المراد من الوقت هو مدّة أصل الإجارة، و من الشرطية الأُولى

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 196

..........

______________________________

عدم البلوغ رأساً و من الثانية عدم البلوغ بتمامه. و اللام في قوله عليه السلام: «فلورثتها» لام الاختصاص، و معناه قيام الورثة مقام مورّثهم، و لا موقع للحمل على أنّ لهم الردّ و الإمضاء، أو أنّ لهم أن يؤجروا و أن لا يؤجروا، و المراد من قوله عليه السلام: «فتعطى» هو دفع الأُجرة بالنسبة إلى المنفعة الماضية لا استحقاق هذا المقدار من الأُجرة، بل استحقاق فعلية الدفع بالمقدار المزبور، فالشرطية الاولى مصحّحة للإجارة و

الثانية غير منافية لها، فإنّ استحقاق الأُجرة تماماً لا ينافي عدم استحقاق الدفع إلّا بمقدار ما بلغت المرأة من النصف أو الثلث أو غيرهما.

ثانيهما: حمل الشرطيتين على الإجمال و التفصيل لا على عدم البلوغ رأساً أو تماماً، فإنّ الأوّل خارج عن مورد السؤال، و هذا الحمل مبنيّ على نسخة الفاء كما في الكافي، و التقريب حينئذٍ ما تقدّم من كون اللام للاختصاص. «1».

و يظهر ممّا ذكرنا في الجواب عن التقريبات المتقدّمة للبطلان، الإشكال في هذين التقريبين أيضاً، فتأمّل.

و التحقيق في بيان معنى الرواية و مفادها أنّ الرواية لا تعرّض فيها لحال الإجارة، من حيث بقاء صحّتها أو عروض البطلان لها بموت المرأة التي هي المؤجرة، و إنّما هي متعرّضة لحال الأُجرة فيها لأجل الاشتراط الواقع على المؤجر في كيفية الدفع و الإعطاء. نعم، يستفاد منها كون بقاء الصحّة بالموت مفروغاً عنه عند الراوي الذي كان هو و أبوه من وكلاء أبي الحسن عليه السلام، و قد وثّقه الإمام عليه السلام، و لذلك تكون الرواية موصوفة عند جمع كثير بالصحّة، و إن ناقش فيها البعض كالمحقّق الأردبيلي في محكي مجمع البرهان على ما عرفت.

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 22.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 197

..........

______________________________

و كيف كان، فتوضيح معنى الرواية أنّه لا بدّ في استفادة المراد منها من حفظ ظهورات متعدّدة فيها، و هي كثيرة:

أحدها: أنّ بيان كيفية دفع الأُجرة و إعطائها في السؤال ظاهر في تعلّق غرض السائل بهذه الخصوصية، خصوصاً مع عدم الاقتصار على جملة واحدة و الإتيان بجملة أُخرى تأكيداً و توضيحاً، و دعوى أنّه يمكن أن يكون ذلك لأجل بيان ما هو الواقع و ليس له مدخلية

فيما هو محطّ نظر السائل، مدفوعة مضافاً إلى أنّها في نفسها خلاف الظاهر بأنّه لو كان السائل مثل إبراهيم الذي هو من وكلاء الإمام عليه السلام لكان من البعيد جدّاً تقييد مورد السؤال بما هو خارج عن محط نظره، و غير دخيل فيما هو بصدده، كما لا يخفى.

ثانيها: ظهور قوله عليه السلام: «فماتت قبل ثلاث سنين أو بعدها» في أنّ موت المرأة واقع في أثناء السنة لا عند انقضائها الذي هو الوقت المضروب للأُجرة، فيدلّ ذلك على أنّه ليس محطّ النظر مجرّد موت المؤجر قبل انقضاء مدّة الإجارة، و إلّا لم يكن فرق بين الموت في أثناء السنة أو عند انقضائها.

ثالثها: ظهور ألفاظ الإجارة في السؤال و كذا في الجواب في كونها بمعنى واحد و هي الأُجرة، ضرورة استعمالها في الرواية بمعنى الأُجرة قطعاً، و الظاهر كون الجميع بمعنى واحد.

رابعها: ظهور لفظ الوقت في الجُمَل الواقعة فيها هذه الكلمة في كونه في الجميع بمعنى واحد؛ و هو الوقت المضروب لدفع الأُجرة، ضرورة استعماله في هذا المعنى قطعاً، و الظاهر كون المراد من الجميع كذلك.

خامسها: ظهور قوله عليه السلام: «إنفاذ الإجارة إلى الوقت» في كون المراد من الوقت هو الوقت المضروب لدفع الأُجرة، ضرورة أنّه لو كان المراد هي مدّة أصل

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 198

..........

______________________________

الإجارة لكان هذا التقييد غير محتاج إليه، بل كان لغواً؛ لأنّه لا يعقل إنفاذ عقد الإجارة المقيّدة بمدّة معيّنة إلى غير تلك المدّة، كما هو ظاهر.

سادسها: ظهور الشرطية الاولى في إمكان عدم ثبوت الوقت المسمّى، و هو إنّما يتمّ بالنسبة إلى الوقت المضروب، و أمّا بالإضافة إلى أصل الإجارة فلا مجال له؛ لأنّه لا بدّ

فيها من مدّة معيّنة بخلاف دفع الأُجرة. و توهّم كون النظر إلى حيثية عدم البلوغ فلا ينافي كون المراد هي مدّة الإجارة مدفوع؛ بأنّ هذا مجرّد احتمال لا يقاوم الظهور.

إذا عرفت ما ذكرناه فاعلم أنّه لا بدّ من بيان المراد من الرواية سؤالًا و جواباً مع حفظ هذه الظهورات الستة، فنقول:

أمّا بيان مورد السؤال فهو أنّ محط نظر السائل إنّما هو أنّه هل يجب على الورثة إنفاذ الأُجرة إلى الوقت المضروب على ما هو مقتضى الاشتراط الذي التزم به المورّث فلا يستحقّون المطالبة إلّا بعد انقضاء السنة، أو أنّ الأُجرة تنقضي بالموت أو تنقص، بناءً على احتمال كون الكلمة هي المنتقصة المأخوذة من النقص، و مرجعه إلى استحقاق الورثة مطالبة اجرة المقدار الذي أدركته المرأة، فحقيقة السؤال ترجع إلى أنّ الورثة هل يجب عليهم العمل بالشرط الذي التزم به المورّث أم لا؟ و ليس المراد بالإنفاذ هو التوقّف على الإمضاء، بل المراد بوجوبه هو وجوب الوفاء الذي يكون استعماله في مقام بيان لزوم العقد أو الشرط شائعاً، كما لا يخفى.

و من المعلوم أنّ السؤال بهذا النحو إنّما هو على تقدير كون بقاء الصحّة بالإضافة إلى الإجارة، و عدم عروض البطلان لها بالموت أمراً مفروغاً عنه عند السائل، و إلّا لا تصل النوبة إلى السؤال عن لزوم الوفاء بالشرط المذكور فيها.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 199

..........

______________________________

و يؤيّد ما ذكرنا من بيان محطّ نظر السائل أنّ بعض الأعلام من المعاصرين نقل العبارة في شرحه على العروة هكذا: «هل يجب على ورثتها إنفاذ الأُجرة إلى الوقت؟» «1» فذكر الأُجرة موضع الإجارة مع التزامه في نقل هذه الرواية بذكر الاحتمالات الناشئة من اختلاف النسخ،

كما يظهر لمن راجعه، و كيف كان، فمورد السؤال بملاحظة ما ذكرنا عبارة عن خصوص ما يتعلّق بالأُجرة من حيث اشتراط الأنجم المضروبة له.

و أمّا الجواب، فالظاهر أنّ المراد بالجملة الاولى هو عدم بلوغ الوقت المضروب للأُجرة، أو عدم بلوغ المرأة ذلك الوقت كما هو المفروض في السؤال، و عليه فالضمير في «لها» يرجع إلى الأُجرة، و لا مجال لإرجاعها إلى المرأة أو إلى الإجارة، أمّا إلى المرأة فواضح، و أمّا إلى الإجارة فلما ذكرنا من خروجها عن محط نظر السائل، مضافاً إلى أنّ الإجارة لا يمكن أن لا يكون لها وقت مسمّى، فلا محيص إلّا عن كون المراد هي الأُجرة و الوقت المضروب لها، و المراد من قوله عليه السلام: «فلورثتها تلك الأُجرة» أنّه بمجرّد الموت ينتقل الاستحقاق من المورّث إلى الورثة، فاللام تفيد ملكيّة الورثة للأُجرة بتمامها، و هذه الجملة توطئة لما هو الجواب المنطبق على السؤال؛ و هو ما يستفاد من الجملة الثانية، و محصّله أنّه مع عدم إدراك المرأة الوقت المضروب و هو انقضاء السنة، بل بلوغها النصف أو الثلث أو شيئاً منه يجب أن تعطى الورثة من الأُجرة بمقدار ما بلغت المرأة و أدركته، و مرجع ذلك إلى أنّ الالتزام المتحقّق من المرأة بالشرط المذكور في عقد الإجارة إنّما يؤثّر بالنسبة إلى زمان حياتها، و أمّا بعد الموت و انتقال الاستحقاق إلى الورثة فلا تأثير للشرط

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقى: 12/ 34.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 200

..........

______________________________

المذكور، بل الورثة لهم أن يطالبوا أُجرة نصف سنة أو ثلثها مثلًا.

فالرواية تدلّ على صحّة الإجارة و لزومها، و على عدم لزوم مثل هذا الشرط المذكور فيها بالإضافة إلى

الورثة. غاية الأمر أنّ دلالتها على الأوّل بالمفروغية و على الثاني بالدلالة اللفظية. هذا غاية ما يقتضيه النظر الدقيق في فهم المراد من الرواية، و الظاهر أنّ المتأمّل المنصف لا يتجاوز عن ترجيحه على سائر المعاني ترجيحاً مستلزماً للتعيين، كما هو غير خفي.

ثمّ إنّه على تقدير استفادة الصحّة من الرواية ربما يستشكل في الاستدلال بها عليها تارة من جهة عدم اعتبار السند، و أُخرى من جهة إعراض المشهور عنها، و هو يوجب سقوط الرواية عن الحجية و لو بلغت في الصحّة أقصاها، و ثالثة من ناحية التقية و جهة الصدور؛ نظراً إلى أنّ الرواية صادرة في زمان من يقول منهم بعدم بطلان الإجارة بالموت كالشافعي و مالك و أحمد «1»، و حينئذٍ فيحتمل جدّاً صدور الحكم تقية، خصوصاً مع كونها مكاتبة، و احتمال التقية في المكاتبات أقوى كما هو ظاهر.

و يرد على ذلك أوّلًا: أنّك قد عرفت أنّه لا حاجة لنا في الاستدلال بهذه الرواية للصحّة بعد كونها هي مقتضى العمومات و الأخبار الخاصّة.

و ثانياً: أنّه على فرض انحصار الدليل بهذه الرواية لا مجال للإشكال فيها من هذه الجهات، فإنّ المناقشة في سندها و إن وقعت من بعض الأعاظم من الفقهاء كالأردبيلي على ما عرفت «2»، إلّا أنّ منشأها هو إبراهيم بن محمّد، و قد مرّ أنّه هو

______________________________

(1) راجع الخلاف: 3/ 491 مسألة 7، و الأُمّ: 4/ 30، و بداية المجتهد: 2/ 230، و المغني لابن قدامة: 6/ 42.

(2) في ص 192.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 201

..........

______________________________

و أبوه كانا من وكلاء الناحية و أنّ الإمام عليه السلام قد وثقه. و أمّا إعراض المشهور فهو يتوقّف أوّلًا على ثبوت الشهرة

من القدماء على البطلان، و ثانياً على ثبوت كون الإعراض لأجل قصور و خلل في الرواية، لا لأجل ترجيح الأخبار الدالّة على البطلان على هذه الرواية الظاهرة في الصحّة، و هو غير ثابت.

و أمّا المناقشة فيها من حيث جهة الصدور و احتمال التقية، فمدفوعة بأنّ مجرّد الاحتمال لا يقاوم الأصل العقلائي الجاري في أمثال هذه الموارد؛ و هي أصالة تطابق الإرادة الجدّية و الاستعمالية، كما قد حرّر في محلّه، فالرواية من هذه الجهات سالمة عن الإيراد.

نعم، بناءً على استفادة البطلان منها يمكن أن يقال: إنّ رواية واحدة دالّة على البطلان محتملة لغيره لأجل الاستدلال بها للصحّة أيضاً كيف يمكن أن تقاوم العمومات و الروايات الخاصّة الدالّة على الصحّة، و هل يسوغ رفع اليد عن جميعها بسبب رواية واحدة كذائية؟

الأمر الثالث: في أنّه بعد ما عرفت من كون مقتضى العمومات و الروايات الخاصّة في المقام هي الصحّة، فهل هناك شهرة معتبرة أو إجماع على البطلان حتّى يكون اللّازم رفع اليد عن تلك و الأخذ بهذه، أم لا؟

و بعبارة اخرى: هل يكون في البين ما يوجب الخروج عن مقتضى الأُصول أم لا؟ و ممّن أصرّ على إثبات الأوّل صاحب مفتاح الكرامة «1»، و حكى المحقّق الرشتي قدس سره عن بعض مشايخه ذلك أيضاً «2».

______________________________

(1) مفتاح الكرامة: 7/ 79.

(2) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 43.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 202

..........

______________________________

و ملخّص ما اعتمد عليه المفتاح في هذا المقام عبارة عن الإجماع المحكي على البطلان بالموت في الخلاف «1» و الغنية «2» و ظاهر المبسوط «3»، و كذا السرائر إن جرينا على ما ادّعاه من التلازم و مراده أنّه نفى الخلاف في السرائر في البطلان

بموت المستأجر فيما لو استأجر مرضعة و مات أبو المرتضع «4»، مع دعوى التلازم في باب المزارعة بين موت المؤجر و المستأجر في الحكم «5»، فيكون نافياً للخلاف في البطلان مطلقاً و إن نسب إلى الأكثرين المحصّلين القول بالصحّة و اعتضاد هذه الإجماعات بشهرة الشرائع «6»، و ادّعاء الشيخ قدس سره في موضعين من الخلاف «7» و ورود الأخبار في ذلك مصرّحة به تارةً و عامة اخرى، و لا فرق بين ما يحكيه و بين ما يرويه، أقصى ما هناك أنّ ما حكاه مرسل قد اعتضد بالإجماعات و انجبر بشهرة الشرائع، بل هي بين المتقدّمين معلومة، و نعم ما قال في التذكرة: من أنّ الشيخ قدس سره استدلّ بإجماع الفرقة و أخبارهم، و لا شكّ في عدالته و قبول روايته مسندة فتقبل مرسلة «8». هذا، مضافاً إلى ما فهمناه من خبر إبراهيم الهمداني، و يؤيّد ذلك أنّ المقنعة و النهاية و الوسيلة و المراسم متون أخبار، على أنّ ابن إدريس على أصله غير مخالف، و أقصى ما قال المحقّق: إنّه أشبه بأُصول

______________________________

(1) الخلاف: 3/ 491 492 مسألة 7.

(2) غنية النزوع: 287.

(3) المبسوط: 3/ 224.

(4) السرائر: 2/ 471.

(5) السرائر: 2/ 449.

(6) شرائع الإسلام: 2/ 179.

(7) الخلاف: 3/ 492 مسألة 7 وص 498 مسألة 17.

(8) تذكرة الفقهاء: 2/ 325.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 203

..........

______________________________

المذهب «1»، و لا شبهة في ذلك، فلعلّه غير مخالف، على أنّه في مسألة استئجار المرأة للإرضاع «2» كأنّه متردّد، انتهى ملخّص ما أفاده في المفتاح.

و لكنّ الشهرة المعتبرة هي ما كانت متحقّقة بين القدماء، و هي في المقام غير ثابتة؛ لأنّ مجرّد فتوى المفيد و الشيخ و

بعض آخر بذلك لا يحقّق الشهرة، خصوصاً بعد كون ابن الجنيد و السيّد مصرّحين بعدم البطلان بموت المستأجر، و اختيار التقي أبي الصلاح أيضاً ذلك «3»، مع كونه عظيم المنزلة في الفقاهة، بحيث عنونه الشيخ في كتابه «4» مع كونه تلميذاً له، و لذلك كان المحكي عن رياض العلماء: أنّ ذلك دليل على غاية جلالة الرجل و علوّ منزلته في العلم و الدين «5». و خصوصاً بعد عدم نصّ من الصدوقين و العماني في ذلك، بل و لا إشارة كما اعترف به صاحب المفتاح «6».

و مع ذلك كيف يمكن دعوى الشهرة خصوصاً بعد احتمال عبارة المبسوط للتفصيل بين موت المستأجر و المؤجر بالبطلان في الأوّل دون الثاني، و ما استظهره صاحب المفتاح من عبارته من كون مراد الشيخ بالأظهر هو الأظهر عند العامّة كما هو عادته، و قال: بذلك يرتفع الإشكال في عبارته «7»، ففيه مضافاً إلى أنّه لا إشعار في العبارة بذلك، و لم تثبت عادة كذائية في كتاب المبسوط أنّ صحّة ذلك موقوفة على ثبوت التفصيل بين العامّة مع أنّه لم يثبت؛ لأنّهم بين قائل بالصحّة

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 2/ 179.

(2) شرائع الإسلام: 2/ 185.

(3) تقدّم تخريج أقوالهم في ص 183 186.

(4) رجال الطوسي: 417 رقم 6034.

(5) رياض العلماء: 5/ 465.

(6) مفتاح الكرامة: 7/ 79.

(7) مفتاح الكرامة: 7/ 79.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 204

..........

______________________________

مطلقاً و قائل بالبطلان كذلك، كما يظهر بمراجعة كتاب الخلاف.

و خصوصاً بعد نسبة السرائر عدم البطلان مطلقاً إلى الأكثرين المحصلين، و ابن البرّاج «1» على ما حكي التفصيل إلى الأكثر، مضافاً إلى ما هو معلوم من كون المتأخّرين عن الشيخ قد تبعوا عنه لحسن الظن

به، و لذا أطلق عليهم المقلّدة، و بالجملة فلم يثبت لنا شهرة بين القدماء بالإضافة إلى القول بالبطلان مطلقاً.

نعم، يبقى الكلام بعد ذلك في الروايات المرسلة التي رواها الشيخ و ادّعى دلالتها على البطلان.

و يرد على الاستدلال بها أوّلًا: أنّها مرسلة غير مسندة، و دعوى أنّ اعتماد الشيخ عليها يستلزم تعديل رواتها فلا يقصر الاعتماد عن التعديل المعوّل عليه، مدفوعة بعدم الاستلزام؛ لأنّه يمكن أن تكون الاعتماد لأجل وجود قرينة عنده لا لأجل عدالة الرواة.

و ثانياً: على تقدير وجود تلك الروايات لِمَ لم ينقلها الشيخ في كتابه الكبير المعدّ لنقل الروايات و ضبطها.

و ثالثاً: أنّها على تقدير وجودها و صحّة سندها لا يكون الإخبار بمضامينها حجّة علينا؛ إذ لعلّه يمكن أن نفهم منها على تقدير الوصول إلينا خلاف ما فهمه المخبر، و لقد أجاد المحقّق الرشتي قدس سره، حيث قال: و الروايات المرسلة التي رواها الشيخ قدس سره حجّة عليه لا علينا؛ لعدم اطّلاعنا على مضامينها، و التعويل على الشيخ في مضمونها يرجع إلى التقليد في الفتوى، و ليس هذا مثل نقل المعنى في الروايات؛

______________________________

(1) المهذّب: 1/ 501 502.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 205

..........

______________________________

لأنّ فهم المخاطب مدلول كلام المتكلّم حجّة على نفسه و على غيره إذا كان سمعه حجّة عليه، بخلاف غير المخاطب، فإنّ فهمه حجّة على نفسه و على من يجوز له تقليده، فليس لنا تصديق العدل إلّا فيما أحسّ به من الرواية لا فيما عقله من معانيه «1».

و كيف كان، ففهم الشيخ و عقله مضامين الروايات لا يكون حجّة علينا، و لذا ترى أنّ أبا الصلاح مع كونه من أجلّاء تلامذته قد أفتى بخلاف ما عليه الشيخ، و

كذا السيّد و ابن الجنيد مع كونهما متقدّمين عليه قد صرّحا بعدم البطلان بموت المستأجر.

نعم، هنا شي ء و هو أنّ مثل كتابي المقنعة و النهاية من الكتب التي تشتمل على متون الأخبار بعين العبارات الواردة فيها، غاية الأمر خلوّها عن السند لا يكون الفتوى بالبطلان فيهما كما عرفت من المفيد و الشيخ «2» راجعاً إلى الإخبار بمضمون الرواية، بل هي عين عبارتها، فلا مجال حينئذٍ لما ذكر من كون الحجّة هي الرواية المحسوسة دون ما عقل من معانيها؛ لأنّ هذا يرجع إلى الرواية المحسوسة، غاية الأمر عدم ذكر السند فيها، إلّا أنّه مع ذلك يبقى الإشكال في أنّه على تقدير وجود روايات مشتملة على لفظ البطلان و أشباهه كيف أفتى أبو الصلاح بخلافها، و كذا السيّد و ابن الجنيد؟

فانقدح ممّا ذكرنا أنّ رفع اليد عن مثل فتوى المقنعة و النهاية خصوصاً مع تصريح الشيخ في موضعين من الخلاف بوجود روايات على ذلك مشكل جدّاً،

______________________________

(1) كتاب الإجارة، للمحقّق الرشتي: 44.

(2) في ص 183 184.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 206

..........

______________________________

و رفع اليد عن العمومات و الروايات الخاصّة و خصوص رواية إبراهيم بن محمّد الهمداني، الظاهرة في مفروغية عدم الانفساخ بالموت كما هو التحقيق في معناها على ما عرفت «1» بمجرّد إخبار الشيخ بوجود روايات دالّة على البطلان، خصوصاً مع مخالفة السيّد الذي هو أُستاذه، و أبي الصلاح الذي هو تلميذه، و خصوصاً مع احتمال عبارة المبسوط، بل ظهورها في كون الأظهر عند الإماميّة هو التفصيل دون البطلان بالموت مطلقاً أشدّ إشكالًا، فالأقوى حينئذٍ ما عليه أكثر المتأخّرين بل كلّهم من عدم البطلان بالموت مطلقاً.

الأمر الرابع: في الموارد التي حكم فيها ببطلان الإجارة

بالموت، التي هي بمنزلة المستثنى من الحكم بعدم عروض البطلان بالموت، و لنبدأ أوّلًا بذكر الأقسام و الصور المتصوّرة في هذا الباب، فنقول: إنّ العين المستأجرة تارةً تكون موقوفة على المؤجر و البطون اللّاحقة. و أُخرى تكون منافعها موصى بها عليه مدّة لا تبلغ المدّة المسمّاة في الإجارة، كما إذا كانت منفعة دار موصى بها لشخص مدّة حياته فآجرها سنتين و مات بعد سنة، كما هو المفروض في المتن. و ثالثة تكون المنافع موهوباً بها عليه كذلك أو مورداً للمصالحة أو غيرهما.

كما أنّ المؤجر تارةً يكون هو المالك أو الوكيل من قبله مطلقاً، أو في خصوص هذه الإجارة. و أُخرى يكون هو الولي، سواء كانت ولايته مجعولة من قبل الشارع كولاية الأب و الجدّ بالنسبة إلى الصغير، و الحاكم بالإضافة إلى المجنون في الجملة، أو بالنسبة إلى الأموال التي يجهل مالكها، أو مجعولة من قبل غير الشارع؛ كالولاية على العين الموقوفة المجعولة بجعل الواقف. و ثالثة يكون هو الناظر. و رابعة يكون

______________________________

(1) في ص 198 200.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 207

..........

______________________________

هو الفضولي غير المالك و المأذون من قبله.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ استثناء العين الموقوفة فيما إذا كان المؤجر هو الموقوف عليه، و فرض موته قبل انتهاء المدّة هو المشهور. غاية الأمر اختلافهم من جهة الجزم بالبطلان كما في محكي وقف الخلاف «1» و المبسوط «2» و التذكرة «3» و التحرير «4» و الدروس «5»، و غيرها ممّا هو مذكور في مفتاح الكرامة «6»، أو التعبير بقربه أو أقربيته و أظهريته، كما صنعه المحقّق في الشرائع «7» بعد تردّده. نعم، احتمل في عبارة صاحب الرياض التردّد في أصل المسألة

من دون ترجيح، نظراً إلى أنّه قال: عند جماعة «8».

و الظاهر أنّ ملاك الاستثناء في الوقف و شبهه أنّه يعتبر في بقاء صحّة الإجارة أن يكون المؤجر مالكاً لمنافع العين المستأجرة مدّة الإجارة، فإذا كانت الملكيّة محدودة بحال الحياة، و المفروض عروض الموت قبل انقضاء مدّة الإجارة، فاللّازم حينئذٍ البطلان؛ لانكشاف عدم ملكيّة جميع المدّة، فلو فرض في مثل الوقف عدم كون الملكيّة محدودة بحال الحياة، نظراً إلى أنّ المجعول من قبل الواقف هي الملكيّة المطلقة غير الموقتة، بدعوى صحّة هذا الجعل مستنداً إلى عموم: «الوقوف على

______________________________

(1) الخلاف: 3/ 552 مسألة 24.

(2) المبسوط: 3/ 301.

(3) تذكرة الفقهاء: 2/ 325 و 447.

(4) تحرير الأحكام: 3/ 69 و 318.

(5) الدروس الشرعية: 2/ 280.

________________________________________

لنكرانى، محمد فاضل موحدى، تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، در يك جلد، مركز فقهى ائمه اطهار عليهم السلام، قم - ايران، اول، 1424 ه ق

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة؛ ص: 207

(6) مفتاح الكرامة: 7/ 80.

(7) شرائع الإسلام: 2/ 221.

(8) رياض المسائل: 6/ 17.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 208

..........

______________________________

حسب ما يوقفها أهلها» «1» فلا مانع حينئذٍ من بقاء صحّة الإجارة؛ لوجود ما اعتبر فيها من كونه مالكاً للمنافع مدّة الإجارة.

و ما أفاده المحقّق الإصفهاني قدس سره من أنّ الواقف ليس له إلّا التصرّف في ماله بجعل العين محبوسة عن التصرّفات على الطبقات، و تسبيل منافعها لهم على الترتيب، و ليس له بعد إعطاء ماله من الملكيّة المرسلة سلبها عنهم و إعطاؤها لغيرهم، فإنّه ليس له الولاية على البطون بالتوريث إلى أشخاص خاصة. نعم، له بسط ملكيّته على الطبقات، فإنّه تصرّف في ماله بحيث

لا يستتبع سلطنة على أحد، فإنّ ملك كلّ بطن محدود، فينتهي أمده لا أنّه ينتزعه عنه و يجعله لغيره «2» فغير خال عن المناقشة و النظر؛ لأنّ إعطاء الملكيّة المرسلة المطلقة إلى أشخاص متعدّدة في عرض واحد ممتنع، و أمّا لو كان بنحو الطولية؛ بأن كان المالك بالفعل هو البطن الأوّل ثمّ بعد انقراضه هو البطن الثاني و هكذا، من دون أن تكون البطون اللّاحقة مالكة فعلًا؛ ضرورة أنّهم لا يكونون موجودين حتّى يتصفوا بالملكية، فلا محذور فيه كما هو المحقّق في الإرث. غاية الأمر أنّه بجعل إلهي و هنا بجعل الواقف، و ليس مرجع ذلك إلى الولاية على البطون بالتوريث إلى أشخاص خاصّة، كما هو ظاهر.

فانقدح أنّ ذهاب المتن تبعاً للمشهور إلى استثناء العين الموقوفة فيما إذا آجرها البطن الأوّل مدّة تزيد على مدّة حياتهم، إنّما هو لأجل أنّ الجعل المتعارف في باب الوقف على البطون هو اختصاص مقدار ملكيّة كلّ بطن بحال حياته، و إلّا فلا مجال

______________________________

(1) الفقيه: 4/ 176 ح 620، التهذيب: 9/ 129 ح 555، وسائل الشيعة: 19/ 175، كتاب الوقوف و الصدقات ب 2 ح 1.

(2) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 27.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 209

..........

______________________________

لذلك مع فرض ثبوت الملكيّة المرسلة لكلّ بطن.

و كذلك حكمه و حكمهم بعدم البطلان «1» فيما إذا آجرها المتولّي إنّما هو لأجل كون الولاية الثابتة له بجعل الواقف بالنحو المتعارف ولاية مطلقة غير موقتة، و إلّا فلو فرض محدودية الولاية و نحوها فلا مجال لذلك، كما يظهر من الإيضاح حيث ذكر أنّ استحقاق النظر إنّما هو كاستحقاق المنافع «2»، و على ما ذكرنا لا يكون نزاع في المقام،

بل النزاع إنّما هو في أمر آخر و هو محدودية الولاية و عدمها. و ممّا ذكرنا يظهر حكم ما لو آجر الأب أو الجدّ أو الحاكم مال الصغير أو المجنون، فإنّ بقاء صحّة الإجارة في جميع الموارد يدور مدار محدودية السلطنة المجعولة للمؤجر من قبل الشارع و عدمها.

و أمّا الوكيل فعلى ما اخترناه من بقاء الصحّة بالموت فلا يوجب موته البطلان، سواء كان على نحو يكون هو المؤجر حقيقة بمعنى صدقه عليه كذلك، أو لم يكن على هذا النحو، كما أنّه في الصورتين لا تبطل الإجارة بموت الموكّل، و الوجه في الجميع واضح، هذا تمام الكلام في المقام الأوّل.

المقام الثاني: في إجارة النفس، و قد ذكر في الجواهر أنّ مع موت الأجير الخاصّ تنفسخ الإجارة، و قد فسّره بأنّ المراد به هو من آجر نفسه على أن يعمل بنفسه عملًا مخصوصاً، لا من استؤجر للعمل و اشترط عليه المباشرة، فإنّه مع موته لا تنفسخ الإجارة، بل يثبت خيار تعذّر الشرط «3».

و اعترض على الحكم بالانفساخ في الأجير الخاصّ المحقّق الإصفهاني قدس سره؛

______________________________

(1) راجع مفتاح الكرامة: 7/ 81.

(2) إيضاح الفوائد: 2/ 244.

(3) جواهر الكلام: 27/ 212.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 210

..........

______________________________

بأنّه إن أُريد بالأجير الخاصّ ذلك مع فرض كون وقت العمل محدوداً و مات قبل مجي ء الوقت فالإجارة باطلة لا منفسخة؛ لعدم المنفعة له في ذلك الوقت، فلا شي ء حتّى يَملك أو يُملّك. و إن أُريد به ذلك فقط من دون تحديد بزمان فمضى زمان يمكن فيه إيجاده فمات فالإجارة صحيحة في نفسها؛ لوجود الطرف الصالح لتأثير العقد في تمليكه و تملّكه و الموت لا بدّ من أن يكون موجباً لانفساخها

لدخوله تحت عنوان التلف قبل القبض، بناءً على التعدّي من البيع إلى غيره، و إلّا فلا موجب لانفساخها كما لا موجب لبطلانها. نعم، للمستأجر فسخ العقد من باب خيار تعذّر التسليم بعد عدم كونه من التلف قبل القبض «1».

أقول: التحقيق أنّ المناط في بقاء الصحّة هنا و عدمه كون المطلوب واحداً أو متعدّداً، فإذا فرض أنّه ليس في البين إلّا مطلوب واحد و هو صدور العمل من هذا الأجير، بحيث لا يكون العمل الصادر من غيره مطلوباً له أصلًا، فاللّازم الحكم بالبطلان مع اتّفاق الموت قبل العمل، و لكن لا يخفى أنّ هذا لا يختص بالأجير، بل لو استأجر داراً مثلًا مدّة معيّنة و تعلّق غرضه بمجموع تلك المدّة، بحيث يكون تملّك منفعة مجموع تلك المدّة مطلوباً واحداً له، فاللّازم حينئذٍ الحكم بالبطلان من الأصل لو انهدمت الدار في أثناء المدّة.

و أمّا لو كان هنا مطلوبان تعلّق أحدهما بنفس العمل أو بمنفعة الدار، و الآخر بصدوره من العامل الخاصّ أو بثبوتها في جميع المدّة، فلا يوجب الموت أو الانهدام بطلان الإجارة من الأصل، بل له في الأوّل خيار تعذّر الشرط، و في الثاني يبطل

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 25.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 211

..........

______________________________

من حين الانهدام لعدم وجود المنفعة، و اللّازم حينئذٍ تقسيط الأُجرة، و لعلّ ما أفاده الجواهر «1» و تبعه المتأخّرون «2» من الفرق بين التقييد و الاشتراط يرجع إلى ما ذكرنا، نظراً إلى ظهور التقييد في وحدة المطلوب و الاشتراط في تعدّده، و عليه فلا يبقى مجال للاعتراض عليه بما ذكر، فتدبّر جيّداً.

و ممّا ذكرنا يظهر الحال فيما إذا اشترط على المستأجر استيفاء المنفعة بنفسه،

فإنّه لو كان الغرض المتعلّق باستيفاء المستأجر، المنفعة بنفسه على نحو الاشتراط الذي يرجع إلى تعدّد المطلوب لا مجال للحكم بالبطلان لو مات المستأجر قبل استيفاء منفعة تمام المدّة، كما قد حكي عن الأردبيلي «3» و صاحبي الحدائق «4» و مفتاح الكرامة «5»؛ لأنّ تخلّف الشرط و المطلوب غير الأوّلي لا يوجب إلّا الخيار، و لا يؤثّر في البطلان كما في سائر موارد التخلّف.

و ممّا ذكرنا يظهر أنّه لو كان الغرض نفس تحقّق العمل في الخارج من دون خصوصية للعامل كما إذا استأجره لتحصيل خياطة ثوبه فلا مجال لدعوى البطلان بالموت و لا لثبوت الخيار، بل يجب على الورثة التحصيل من تركته و عليه، فالصور ثلاث و أحكامها مختلفة من جهة البطلان، أو ثبوت الخيار، أو الصحّة بدونه، فلا وجه لما في المتن من التقسيم إلى صورتين، فتدبّر.

______________________________

(1) جواهر الكلام: 27/ 212.

(2) كالسيّد اليزدي في العروة الوثقى: 5/ 30 مسألة 3.

(3) مجمع الفائدة و البرهان: 10/ 66.

(4) الحدائق الناضرة: 21/ 542.

(5) مفتاح الكرامة: 7/ 81.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 212

[إيجار الوليِّ الصبيَّ]

مسألة 12: لو آجر الوليّ الصبيّ المولّى عليه أو ملّكه مدّة مع مراعاة المصلحة و الغبطة، فبلغ الرشد قبل انقضائها فله نقض الإجارة و فسخها بالنسبة إلى ما بقي من المدّة، إلّا أن تقتضي المصلحة اللّازمة المراعاة فيما قبل الرشد الإجارة مدّة زائدة على زمان تحقّقه؛ بحيث تكون بأقلّ منها خلاف مصلحته، فحينئذٍ ليس له فسخها بعد البلوغ و الرشد (1).

______________________________

(1) قال المحقّق في الشرائع: لو آجر الوصي صبيّاً مدّة يعلم بلوغه فيها بطلت في المتيقن، و صحت في المحتمل و لو اتفق البلوغ فيه. و هل للصبي الفسخ بعد

بلوغه؟ قيل: نعم، و فيه تردّد «1».

أقول: الكلام في هذه المسألة يقع في مقامات:

الأوّل: في بطلان الإجارة في المدّة التي يعلم بلوغه فيها، كما لو كان عمره عشراً و آجره عشراً، فإنّ الإجارة باطلة في الخمس المتأخّرة؛ بمعنى توقّفها على إجازة الصبي الذي يصير بالغاً عند شروع الخمس، بناءً على عدم اشتراط وجود المجيز حال العقد في الفضولي.

وجه البطلان أنّ منافع بدن الحرّ لا تكون مملوكة له على حدّ أمواله، و لا تقاس المنافع بها عيناً أو منفعة؛ ضرورة أنّ الأموال مملوكة له فعلًا و إن كان حصولها بنحو التدريج كالمنافع الثابتة لأمواله، و لذا يجوز للوصي تمليك هذه المنافع، و إن كان ظرف وجودها بعد انقضاء الصغر و تحقّق البلوغ، و إن كان يمكن أن يخدش فيه بمنافاته لمناسبة الحكم و الموضوع؛ نظراً إلى أنّ

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 2/ 188.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 213

..........

______________________________

الحكمة في جعل الوصي للصبي إنّما هي أن لا يفوت عليه ما يتعلّق بنفسه و ماله من المصالح في حال صغره، و المصلحة الراجعة إلى منافع أملاكه في زمان كبره لا تفوت بترك إجارة الولي، بل قابلة لأن يستوفيها الصغير بعد كبره إلّا أن تكون المصلحة في الإجارة في حال الصغر؛ إمّا لأجل كون المنافع في هذه الحال لا تكون المصلحة اللّازمة المراعاة في تمليكها إلّا بعد ضمّ المنافع في حال الكبر إليها كما فرضه في المتن، و إمّا لأجل كون المنافع في حال الكبر تكون المصلحة في تمليكها فعلًا.

و كيف كان، فباب الأموال قابل لجريان هذه المباحث فيه، و أمّا منافع البدن التي يكون مقتضى إيجاره تمليكها فهي تغاير الأموال من جهة عدم كونها

مملوكة على حدّ الأموال. غاية الأمر ثبوت السلطنة لنفس الحرّ على إيجاره، و الولي لا يكون إلّا قائماً مقامه عند وجود نقص فيه كالصغر و نحوه، و عليه فدائرة الولاية محدودة بما يكون المولّى عليه ناقصاً بالإضافة إليه.

و بعبارة اخرى الولي ليس له الولاية إلّا بالنسبة إلى منافع الصغير، و المنافع بعد البلوغ لا تكون معنونة بهذا العنوان؛ لأنّها ليست إلّا منافع الكبير، فالفرق بين الأموال و منافع البدن إنّما هو في كون الأموال مملوكة للصغير فعلًا، و مقتضى الولاية أو الوصاية جواز التصرّف فيها مطلقاً إذا كان موافقاً للمصلحة، و أمّا المنافع فليست منافع الصغير إلّا المقدار المقارن لزمان الصغر، و ما عداها فهو خارج عن دائرة الولاية.

نعم، ربما ينتقض ما ذكرنا بالنكاح المنقطع زائداً على مدّة صغرها؛ نظراً إلى جوازه للولي، بل اشترط غير واحد أن تكون المدّة شاملة لشي ء من زمان البلوغ

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 214

..........

______________________________

لتصير قابلة للاستمتاع «1»، و الانتقاض به تارة لأجل أنّه لا فرق بين النكاح و بين الإجارة، بل النكاح أولى بعدم الجواز من الإجارة، و أُخرى لأجل أنّ النكاح المنقطع من مصاديق الإجارة؛ نظراً إلى ما ورد فيهنّ من كونهنّ مستأجرات «2»، فيدلّ ذلك على جواز تعميم دائرة الإجارة لما بعد البلوغ.

هذا، و لكن الانتقاض في غير محلّه، ضرورة أنّ النكاح دائماً كان أو منقطعاً لا يرجع إلى تمليك المنافع، بل هو أمر قائم بالشخص و إحداث علقة بينها و بين الزوج، فهو تصرّف في نفس الصغيرة و المفروض قيام الدليل على جوازه للولي، و هذا بخلاف المنافع، فإنّ المقدار الذي دلّ الدليل على جواز تمليكها إنّما هي منافع الصغير؛

و هي محدودة مضيّقة، و التعبير بالإجارة في المنقطع ليس على نحو الحقيقة؛ كالتعبير بالاشتراء في بعض الروايات الدالّة على جواز النظر إلى المرأة قبل العقد، حيث علّل ذلك فيه بقوله عليه السلام: إنّما يشتريها بأغلى الثمن «3».

الثاني: في صحّة الإجارة في الزمان المحتمل بلوغه فيه و لو كان مصادفاً للبلوغ واقعاً، و الوجه فيه إنّما هو استصحاب عدم البلوغ الجاري في جميع أجزاء ذلك الزمان. و لكنّه ربما يستشكل في ذلك تارةً من أجل أنّ احتمال البلوغ في بعض مدّة الإجارة مع عدم ثبوت الولاية له بالإضافة إلى ما بعد البلوغ موجب لتحقّق الغرر و ثبوت الجهالة؛ لأنّ مدّة الإجارة حينئذٍ غير معلومة، و لكن هذا الإشكال إنّما يبتني على بطلان الإجارة في الزمان المصادف للبلوغ واقعاً، ضرورة أنّه على

______________________________

(1) راجع كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 346.

(2) وسائل الشيعة: 21/ 18، كتاب النكاح، أبواب المتعة ب 4 ح 2 و 4.

(3) الكافي: 5/ 365 ح 1، وسائل الشيعة: 20/ 87، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه ب 36 ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 215

..........

______________________________

فرض الصحّة في ذلك الزمان أيضاً لا يتحقّق غرر و لا تثبت جهالة أصلًا. و أُخرى بأنّ الأُصول العمليّة التي منها الاستصحاب و إن قلنا بالإجزاء فيها في الأحكام التكليفيّة، و لكنّها لا تصلح لإثبات الأحكام الوضعية مع انكشاف الخلاف و عدم المصادفة للواقع، فلا مجال للاتّكاء على استصحاب عدم البلوغ، و الحكم باللزوم و عدم الوقوف على الإجازة بالإضافة إلى ما بعد البلوغ أيضاً، و هذا الإشكال على تقدير وروده إنّما يكون أثره البطلان بالنسبة إلى خصوص ما بعد البلوغ من المدّة، كما أنّ الإشكال

الأوّل على تقدير وروده يكون أثره البطلان بالإضافة إلى جميع المدّة.

و الظاهر عدم ورود هذا الإشكال أيضاً؛ لأنّ ملاك الإجزاء في الأحكام التكليفية موجود في الأحكام الوضعية أيضاً، فإنّ مناط الإجزاء هناك هو التصرّف بمقتضى دليل اعتبار الأصل العملي في الأدلّة الأوّليّة الدالّة على الأجزاء و الشرائط، و تعميم دائرة الشرط و الجزء بحيث لا يكون لهما اختصاص بالواقعيين منهما، و هذا المناط موجود هنا، فإنّ مفاد دليل اعتبار الاستصحاب يرجع إلى التصرّف في دليل ثبوت الولاية و تعميم دائرتها لصورة الشكّ، و إن كان مصادفاً للبلوغ واقعاً.

و بالجملة: لا يرى فرق بين المقامين، و لا يتحقّق تصويب في البين على تقدير التعميم للأحكام الوضعية أصلًا، فالحق حينئذٍ ما أفاده في الشرائع من الصحّة و لو اتّفق البلوغ واقعاً.

الثالث: في أنّه هل للصبي الفسخ بعد البلوغ أم لا؟ و الظاهر أنّ هذا الفرع إنّما يتفرّع على تقدير صحّة الإجارة في جميع المدّة المحتملة، حتّى المصادفة منها للبلوغ واقعاً، و عليه فيكون المراد بالفسخ هو الفسخ الاصطلاحي الذي

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 216

..........

______________________________

موضوعه العقد الصحيح، لا الفسخ بمعنى ردّ العقد المساوق للبطلان في المقام، و إن كان ربما يحتمل ذلك في عبارة الشرائع «1»، بناءً على أن يكون شروع الجملة الأخيرة من قوله: «و لو اتّفق البلوغ فيه» و كان قوله: «و هل للصبي» مصدَّراً بالفاء بدل الواو كما في الجواهر «2». و أمّا على تقدير كون شروع الجملة من قوله: «و هل ..» كما في نسخة الشرائع الموجودة عندي يكون المراد بالفسخ هو الفسخ بعد تماميّة العقد و صحّته، و لكنّه يقع الإشكال حينئذٍ في مدرك ثبوت هذا الحقّ

للبالغ، نظراً إلى أنّه إذا جاز للولي الإيجار اتّكالًا على الاستصحاب، و كان الاستصحاب كافياً للحكم بالصحّة و لو بالنسبة إلى ما بعد البلوغ، فلا يبقى وجه لعروض التزلزل من ناحية الطفل الذي صار بالغاً فعلًا، و لا مجال لثبوت حق الفسخ له أصلًا، كما لا يخفى.

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 2/ 188.

(2) جواهر الكلام: 27/ 333.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 217

[لو وجد العيب في العين المستأجرة و الأُجرة

] مسألة 13: لو وجد المستأجر بالعين المستأجرة عيباً سابقاً كان له فسخ الإجارة إن كان ذلك العيب موجباً لنقص المنفعة كالعرج في الدابّة، أو الأُجرة كما إذا كانت مقطوعة الأُذن و الذنب. هذا إذا كان متعلّق الإجارة عيناً شخصية، و لو كان كليّاً و كان الفرد المقبوض معيباً فليس له فسخ العقد، بل له مطالبة البدل إلّا إذا تعذّر فله الفسخ. هذا في العين المستأجرة. و أمّا الأُجرة فإن كانت عيناً شخصية و وجد المؤجر بها عيباً كان له الفسخ، فهل له مطالبة الأرش؟ فيه إشكال. و لو كانت كليّة فله مطالبة البدل، و ليس له فسخ العقد إلّا إذا تعذّر البدل (1).

______________________________

(1) الأولى أن نبحث في هذه المسألة في خصوص الأُجرة لجريان أحكام العين فيها كلّاً، مع إضافة احتمال ثبوت الأرش المختصّ جريانه بها، فنقول: الكلام فيه يقع في مقامين:

المقام الأوّل: فيما إذا كانت الأُجرة كليّة مضمونة في الذمّة، و ليعلم أوّلًا أنّه لا مجال في هذه الصورة لتوهّم الفرق بين ما إذا كان العيب سابقاً على العقد أو لاحقاً عليه قبل القبض، و ذلك لوضوح أنّ الأُجرة الكليّة لا تتعيّن إلّا بالتسليم و القبض، فقبله لا يكون المعيب متعيّناً لأن يكون اجرة، فلا فرق بين أن يكون

العقد متأخّراً عن طروّه أو متقدّماً عليه، و لذا قيّد المحقّق بكونه سابقاً على القبض، حيث قال: إذا وقف المؤجر على عيب في الأُجرة سابق على القبض كان له الفسخ أو المطالبة بالعوض إن كانت الأُجرة مضمونة، و إن كانت معيّنة كان له الردّ و الأرش «1».

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 2/ 181.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 218

..........

______________________________

و كيف كان، فمقتضى ظاهر العبارة في هذا الفرض التخيير بين الفسخ و الإبدال مطلقاً، من دون فرق بين صورتي التمكّن من البدل و عدمه، و لكنّ المحكي عن بعض نسخ الشرائع المصححة «الواو» بدل «أو»، و عليه فلا بدّ أن يحمل الفسخ على فسخ الوفاء المساوق للإبدال لا على فسخ العقد، كما هو الظاهر من لفظه بناءً على النسخة المشهورة، لكن في الشروح «1» حمل الفسخ على صورة التعذّر و الإبدال على مورد التمكّن.

و اختار العلّامة في القواعد وجوب الإبدال أوّلًا، و مع التعذّر ثبوت الفسخ أو الرضا بالأرش «2»، و حكى هذا القول في المفتاح «3» عن جامع المقاصد «4» و تعليق الإرشاد و اللمعة «5» و المسالك «6» و الروض و الروضة «7» و مجمع البرهان «8» و الكفاية «9»، و عليه فنسبة مختار الشرائع إلى المشهور مع أنّ الموافق له هو التحرير «10» و الإرشاد «11» كما وقع من المحقّق الإصفهاني قدس سره في كتاب الإجارة «12»-

______________________________

(1) مسالك الأفهام: 5/ 180، جواهر الكلام: 27/ 221.

(2) قواعد الأحكام: 2/ 286.

(3) مفتاح الكرامة: 7/ 122.

(4) جامع المقاصد: 7/ 118.

(5) اللمعة الدمشقية: 94.

(6) مسالك الأفهام: 5/ 180.

(7) الروضة البهية: 4/ 334.

(8) مجمع الفائدة و البرهان: 10/ 31.

(9) كفاية الأحكام: 124.

(10) تحرير الأحكام: 3/ 129.

(11)

إرشاد الأذهان: 424.

(12) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 54.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 219

..........

______________________________

لعلّها في غير محلّها.

و بالجملة: يحصل لنا بملاحظة ما ذكرنا من الأقوال احتمالات ثلاثة، و هنا احتمال رابع أورده في الجواهر «1» بصورة المناقشة و دفعه بوضوح فساده، و يظهر من عبارة الشرائع المتقدّمة بناءً على نسخة الواو كما عرفت؛ و هو أن يقال بتعيّن الإبدال المساوق لفسخ الوفاء مطلقاً في صورتي التمكّن و عدمه. غاية الأمر أنّه مع التمكّن يطالب بالعوض الصحيح، و مع عدمه ينتظر حتّى يتمكّن أو يغرم قيمته، و لا وجه لفسخ المعاملة بعد وقوعها على الأُجرة الكليّة.

و احتمال خامس يظهر من اللمعة «2»؛ و هو تعيّن الفسخ مطلقاً، و لعلّ الوجه فيه أنّه لا معنى للإبدال بعد تعيّن المعيب لأن يكون اجرة، فلا فرق حينئذٍ بين المقام و بين ما إذا كانت الأُجرة معيّنة، من جهة أنّه لا وجه فيه للتعويض و الإبدال كما هو ظاهر.

و كيف كان، فيمكن الإيراد على من حكم بالإبدال و الفسخ مخيّراً بأنّ الأُجرة الكليّة المتّصفة بوصف الصحّة بحسب اللبّ و الحقيقة هل يتحقّق تسليمها المساوق للتعيّن بدفع الفرد المعيب من تلك الحقيقة، نظراً إلى أنّه كما لا يكون وصف الصحّة في الجزئية مقوّماً لموصوفها، و لذا لا يقدح تخلّفه في صحّة المعاملة، كذلك بالنسبة إلى الكليّة، فإنّه حيث يكون وصفاً محضاً غير مقوّم لها، فلا يكون فقدانه مانعاً عن حصول الإقباض و تحقّق التسليم، أو أنّه لا يتحقّق إقباض الكلّي الموصوف بدفع فرد فاقد للوصف و لو كان هو وصف

______________________________

(1) جواهر الكلام: 27/ 221.

(2) اللمعة الدمشقية: 94.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص:

220

..........

______________________________

الصحّة؛ لأنّ المفهوم المقيّد بوصف لا يعقل أن ينطبق على الفاقد لذلك الوصف؛ لأنّ التقييد و لو بالشرط الضمني يوجب التضييق، و يستحيل أن ينطبق على ما ليس من أفراد هذه الحصة؟

فعلى الأوّل لا يبقى مجال للإبدال؛ لأنّه بعد ما تعيّن الكلّي بقبض المعيب يصير كالأُجرة المعيّنة، فكما أنّه لا وجه لاحتمال الإبدال في المعينة كذلك هنا. و على الثاني لا مجال لفسخ المعاملة؛ لأنّه لم يتحقّق التسليم بعد حتّى يوجب العيب ثبوت الخيار، بل اللازم على المستأجر تسليم فرد ينطبق عليه الكلّي. نعم، في صورة التعذّر كلام سيأتي.

و التحقيق في دفع هذا الإيراد أنّه مبنيّ على الدقّة العقلية، مع أنّ المرجع في المعاملات هو العقلاء و العرف الذين تتداول تلك المعاملات بينهم، و الذي يقتضيه الرجوع إليهم أنّهم يرون تحقّق التسليم بدفع الفرد الفاقد لوصف الصحّة، و ليس تسليم الفرد الفاقد له عندهم كتسليم ما لا ينطبق عليه عنوان الموصوف و حقيقته. نعم، لا يكون المسلّم إليه عندهم ملزماً بالوفاء بهذا التسليم، بل يجوز له الإبدال و مطالبة فرد آخر ينطبق عليه الوصف.

و بالجملة: فالإبدال في الأمر الكلّي من الأُمور المتداولة بين العقلاء المستقرّة عليه سيرتهم، و يجوز لنا التمسّك بهذه السيرة مع عدم ثبوت ردع في الشريعة على ثبوته فيها أيضاً، مضافاً إلى ما يقال من أنّ قاعدة نفي الضرر تقضي بذلك؛ لأجل أنّ التطبيق و الوفاء ضرريٌّ فالقاعدة ترفعه.

و توضيحه: أنّ لزوم الوفاء بالعقد و إن لم يكن ضرريّاً؛ لأنّ العقد واقع على الكلّي الموصوف، و ليس فيه ضرر على ما هو المفروض، إلّا أنّ ما يتبع هذا اللزوم و هو لزوم الوفاء و الرضا بما سلم إليه يكون ضرريّاً، فاللّازم

أن يكون منفياً

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 221

..........

______________________________

بالقاعدة بناءً على أن يكون الحديث «1» الذي هو مدركها مسوقاً لإفادة نفي الأحكام الضررية، لا أن يكون نهياً صادراً في مقام إعمال السلطنة و الحكومة كما عليه الماتن دام ظلّه «2».

و كيف كان، فالظاهر أنّ الإبدال في مثل المقام ممّا لا مجال للخدشة في جوازه لما ذكر، و يقع الكلام بعد ذلك في جواز فسخ المعاملة تارةً مع التمكّن من الإبدال، و أُخرى مع التعذّر.

أمّا مع التمكّن منه فالظاهر أنّه لا دليل عليه لعدم دلالة القاعدة عليه، و وضوح عدم شمول أخبار خيار العيب «3» لما إذا كان مورد المعاملة كلياً لو لم نقل باختصاصه بباب البيع، و إلّا فلا يجوز التعدّي عنه.

و أمّا مع التعذّر فقد احتمل فيه المحقّق الإصفهاني قدس سره وجوهاً ثلاثة:

فسخ العقد، كما هو المشهور «4» في باب السلم عند تعذّر المسلم فيه و به بعض الأخبار «5»، و وجوب الصبر و الانتظار كما هو الشأن في الدين الذي لا يتمكّن من وفائه، و مطالبة القيمة، و ذكر أنّ الأوفق بالقواعد هو الأخير؛ لأنّ التعذّر لا يوجب صيرورة اللزوم ضرريّاً بعد وقوع العقد على الكلّي، و خيار تعذّر التسليم إنّما المتيقن منه تعذّر تسليم الشخصي الذي لا دافع لضرره إلّا الخيار،

______________________________

(1) وسائل الشيعة: 25/ 428 429، كتاب إحياء الموات ب 12 ح 3 5 و ج 23/ 14، كتاب الفرائض و المواريث، أبواب موانع الإرث ب 1 ح 10.

(2) الرسائل للإمام الخميني: 1/ 49 56.

(3) وسائل الشيعة: 18/ 29، كتاب التجارة، أبواب الخيار ب 16، وص 97، أبواب أحكام العيوب.

(4) رياض المسائل: 5/ 311، الحدائق الناضرة: 20/

45.

(5) وسائل الشيعة: 18/ 309، كتاب التجارة، أبواب السلف ب 11 ح 114.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 222

..........

______________________________

حيث لا يستحقّ عليه المالية بل ماله بنفسه متعذّر، و ليس كالدين الذي لا يتمكّن من أدائه حتّى ينتظر الميسرة لفرض تمكّنه من أداء القيمة، إلّا أنّ ظاهر المشهور فيما يشبه المقام هو الخيار من باب تعذّر التسليم لا من باب خيار العيب «1».

و ما جعله الأوفق بالقواعد و إن كان كذلك إلّا أنّ الظاهر مخالفته لما عليه العقلاء في معاملاتهم من الفسخ، كما عليه الشهرة.

ثمّ إنّه على تقدير جواز الفسخ فهل يتخيّر بينه و بين الأرش كما اختاره العلّامة في القواعد «2»، و حكي عن بعض آخر «3»، و لعلّ الوجه فيه إمّا دعوى إلغاء الخصوصية من أخبار خيار العيب، و إمّا دعوى شمولها للمقام بتقريب ذكره الجواهر في باب الصرف و السلف على ما حكي «4»؛ و هو أنّ العقد يستقرّ على ما تعيّن كلّي المبيع فيه، إلّا أنّ ردّ المعيب يختلف مقتضاه، فإن كان شخصياً فردّه يستلزم انفساخ العقد؛ لاستحالة زوال الملك المسبّب عن العقد مع بقاء السبب، و إن كان كليّاً تعيّن في فرده، فردّ الفرد و استلزامه لزوال ملكه عنه يستلزم زوال التطبيق المعيّن لملك الكلّي فيه لا زوال العقد؛ لعدم الملازمة بين زوال الملك عن الفرد و زوال الملك عن الكلّي، و عليه: فأخبار خيار العيب الدالّة على جواز الفسخ و ثبوت الأرش يشمل المقام.

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 56.

(2) قواعد الأحكام: 2/ 286.

(3) كالمحقّق الكركي في جامع المقاصد: 7/ 118، و الشهيد الثاني في مسالك الأفهام: 5/ 180 و الروضة البهية: 5/ 334، و السبزواري

في كفاية الأحكام: 124.

(4) جواهر الكلام: 24/ 330 331، و الحاكي هو المحقّق الأصفهاني في بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 55 56.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 223

..........

______________________________

نعم، في كون مدلولها التخيير بين الفسخ و الأرش، أو كون الأرش ثابتاً مع سقوط حق الفسخ بمثل التصرّف و نحوه، كما اختاره بعض الأجلّة «1» كلام تحقيقه في محلّه.

هذا، و يرد على دعوى إلغاء الخصوصية إنّها بلا بيّنة و برهان، و على ما حكي عن الجواهر أنّه خلاف ظاهر تلك الأخبار؛ لأنّ ظاهرها أنّ المراد بالفسخ هو فسخ أصل العقد، خصوصاً مع الحكم بعده باسترجاع الثمن، و عليه فلا دليل على ثبوت الأرش في مثل المقام بعد كونه حكماً على خلاف القاعدة، و لا تقتضيه قاعدة الضرر على ما حقّق في محلّه.

المقام الثاني: فيما إذا كانت الأُجرة جزئيّة معيّنة، و المشهور «2» أنّه يتخيّر المؤجر حينئذٍ بين الفسخ و الأرش، بل قال في مفتاح الكرامة: هذا يعني التخيير بينهما ممّا لا أجد فيه خلافاً، و لكنّه حكى عن الخلاف «3» و المبسوط «4» و المهذّب «5» و الغنية «6» و السرائر «7» أنّه اقتصر فيها على أنّه يملك الفسخ كالبيع، و ذكر أنّ التشبيه بالبيع دليل على ثبوت الأرش عندهم أيضاً «8»، مع أنّ الدلالة ممنوعة؛

______________________________

(1) الحدائق الناضرة: 19/ 63 64، كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري: 5/ 275، مصباح الفقاهة: 7/ 100.

(2) شرائع الإسلام: 2/ 181، تحرير الأحكام: 3/ 129، اللمعة الدمشقية: 94، جامع المقاصد: 7/ 118، الروضة البهية: 4/ 334.

(3) الخلاف: 3/ 488 مسألة 2.

(4) المبسوط: 3/ 222.

(5) المهذّب: 1/ 471.

(6) غنية النزوع: 287.

(7) السرائر: 2/ 457.

(8) مفتاح الكرامة: 7/ 122.

تفصيل الشريعة في

شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 224

..........

______________________________

إذ لا موجب لإفادة ثبوت الأرش من طريق التشبيه، خصوصاً مع ظهور العبارة في كون التشبيه في أصل ثبوت حقّ الفسخ.

و كيف كان، فالدليل في المقام إمّا الإجماع، و إمّا قاعدة نفي الضرر، و إمّا أخبار خيار العيب.

أمّا الأوّل: فمضافاً إلى عدم ثبوته لما عرفت من اقتصار القدماء على ملك الفسخ أنّه على تقدير الثبوت لا حجية فيه؛ لاحتمال استناد المجمعين إلى قاعدة نفي الضرر، أو إلى أخبار خيار العيب.

و أمّا الثاني: فمضافاً إلى ما ذكرناه مراراً من أنّ دليل «1» هذه القاعدة أجنبيّ عن التمسّك به في الفقه، لكون «لا» فيه ناهية صادرة من مقام السلطنة و الحكومة أنّه على تقدير دلالته على النفي لا دلالة فيه على ثبوت الأرش، بل و لا على ثبوت حقّ الفسخ، بل غايته نفي اللزوم على طريق نفيه في العقود الجائزة، و دعوى أنّها مسوقة للامتنان و مقتضاه ثبوت الحقّ على نحو يكون قابلًا للإسقاط و للانتقال إلى الوارث مدفوعة؛ بأنّ نفي اللزوم فقط أيضاً امتنان، و لا يلزم بلوغه إلى تلك المرتبة المثبتة للحقّ، كما هو ظاهر.

و أمّا أخبار خيار العيب، فهي واردة في خصوص البيع، و لا وجه لدعوى إلغاء الخصوصية، فالتحقيق حينئذٍ أنّه لا وجه للحكم بثبوت التخيير بين الفسخ و الأرش، بل غايته الحكم بثبوت الفسخ؛ لحكم العقلاء بذلك فيما إذا كان المعيّن معيباً. نعم، لو كان تدارك وصف الصحّة بالأرش حكماً ثابتاً بمقتضى القاعدة، لكان اللّازم الحكم بالاطّراد في جميع الموارد التي فات فيها هذا الوصف، لكنّه غير معلوم

______________________________

(1) تقدّم في ص 220 221.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 225

..........

______________________________

كما قرّر

في محلّه، و لعلّه لما ذكرنا استشكل في المتن في ثبوت الأرش في المقام.

ثمّ إنّ ظاهر كلماتهم هنا أيضاً أنّه لا فرق في العيب بين كونه سابقاً على العقد أو على خصوص القبض، و لذا قيّد المحقّق قدس سره في عبارته المتقدّمة العيب بكونه سابقاً على القبض «1»، و ظاهره أنّه الملاك في الحكم دون العقد، مع أنّه يشكل الحكم هنا، نظراً إلى أنّه فيما إذا كان العيب حادثاً بين العقد و القبض لا وجه لثبوت الحكم؛ لعدم ورود العقد على المعيب، و قد حقّق هذا الإشكال المحقّق الإصفهاني قدس سره في كتاب الإجارة بما لا مزيد عليه، و لا بأس بنقل كلامه بطوله لاشتماله على فوائد مهمّة.

قال فيما إذا كانت الأُجرة شخصية ما لفظه: إن سبقه فيها على العقد يوجب ورود العقد على المعيب، فتعمّه أخبار خيار العيب في البيع و قاعدة الضرر هنا و يرتفع لزومه، و أمّا مع حدوثه بعد العقد و قبل القبض فلا تعمّه أخبار خيار العيب؛ لأنّ موردها من اشترى شيئاً و به عيب أو عوار، فالعيب الحادث بعد العقد حادث في ملك المشتري، و لا قاعدة الضرر؛ لأنّ مورد العقد لم يكن ضرريّاً حتّى يرتفع حكمه، فالضرر الحادث قبل القبض كالحادث بعده، و كون إمساكه ضرراً على المشتري أو على المؤجر هنا لا يقتضي تحميل الضرر على البائع و المستأجر مع حدوث الضرر بعد صيرورته ملكاً للمشتري و المؤجر، فلا مناص من تصحيح ذلك في البيع بقاعدة التلف قبل القبض ثمّ إلحاق الإجارة بالبيع.

فنقول: قوله صلى الله عليه و آله: «كلّ مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه» «2» إمّا يراد منه كونه من مال بائعه حكماً

فخسارته و دركه عليه، كما عن الشهيد الثاني «3» و تبعه

______________________________

(1) في ص 217.

(2) عوالي اللئالي: 3/ 212 ح 59، مستدرك الوسائل: 13/ 303، كتاب التجارة، أبواب الخيار ب 9 ح 1.

(3) مسالك الأفهام: 3/ 209.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 226

..........

______________________________

غيره، و إمّا يراد منه أنّه يتلف منه حقيقة، و لا يكون كذلك إلّا إذا قدّر قبل التلف ملكاً له، و هو مع بقاء العقد على حاله يوجب اجتماع ملكين استقلاليين على عين واحدة، فلا محالة يلتزم بانفساخ العقد قبل التلف و رجوعه إلى البائع.

فإن قلنا بالأوّل مع عموم التلف لجميع مراتبه ذاتاً و وصفاً، كلّاً و بعضاً فمفاده في الجميع لزوم غرامة الكلّ في تلف الكلّ و غرامة الجزء في تلفه، و تدارك ما به تفاوت الصحيح و المعيب في تلف الوصف، و مقتضاه فيما نحن فيه تعيّن الأرش، لا تعيّن الردّ و لا التخيير بينهما.

و إن قلنا بالثاني كما هو المشهور، فالالتزام بمقالة المشهور من انفساخ العقد في تلف الكلّ و الجزء و إجراء حكم خيار العيب في تلف الوصف في غاية الإشكال، و غاية ما يقال في تقريبه ما عن شيخنا العلّامة الأنصاري قدس سره في مباحث التلف قبل القبض «1»؛ و هو أنّ مقتضى كونه من مال بائعه حقيقة فرض العقد كأن لم يكن قبل التلف، و مقتضاه في تلف الكلّ أنّه يرد التلف على ما لا عقد له، فيكون ملك بائعه، و في تلف الجزء كأنّه لا عقد عليه بالخصوص، فينفسخ العقد بالنسبة إلى الجزء التالف دون غيره، و في تلف الوصف له اقتضاءان:

أحدهما: انفساخ العقد عن الموصوف بما هو موصوف، فيرجع الانفساخ إلى

حيثيّة الوصف التالف.

و الثاني: استقرار العقد على ذات الموصوف الفاقد للوصف، حيث لا موجب لزوال العقد عنه، و مقتضى استقرار العقد على المعيب إجراء أحكام خيار العيب عليه، فنلتزم حينئذٍ بالانفساخ في جميع مراتب التلف كما هو ظاهر النبويّ مع

______________________________

(1) كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري: 6/ 271.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 227

..........

______________________________

الالتزام بأحكام خيار العيب؛ لأنّه لازم انفساخ العقد في الوصف فقط.

إلّا أنّ هذا التقريب غير وجيه ثبوتاً و إثباتاً. أمّا ثبوتاً: فلأنّ كلا الجزءين من التقريب فيه محذور، أمّا الانفساخ فالبرهان قائم على أنّ ما لا عقد عليه لا حلّ له، و ما لا عقد عليه استقلالًا و بالذات لا حلّ له استقلالًا و بالذات. و من الواضح أنّ الوصف غير مملوك بالذات بل بالعرض، لاستحالة ملك الوصف بما هو، و إذا كان مملوكاً بالعرض فهو معقود عليه بالعرض، و كلّ ما بالعرض تابع لما بالذات ثبوتاً و سقوطاً، عقداً و حلّاً فإذا فرض شمول التلف لجميع المراتب و كون العقد منحلا في الوصف كان دليلًا على انفساخ العقد في الموصوف، و ليس الانفساخ حكمياً حتّى يعقل التنزيل في ترتيب أثر الانفساخ في خصوص الوصف حتّى يلزمه بقاء العقد على المعيب.

و أمّا اللّازم الآخر؛ و هو إجراء أحكام خيار العيب، فلأنّ ظاهر أخباره ورود البيع على المعيب لا تعيّب المبيع بقاءً، و حيث إنّ العقد واقع، و زواله عن ذات الموصوف بلا موجب عنده قدس سره، فليس لازم الانفساخ في الوصف إلّا بقاء العقد على ما زال وصفه المحقّق عند حدوث العقد، فلا موجب لإجراء أحكام خيار العيب، و لا دليل على تنزيل بقاء العقد على المعيب منزلة حدوثه،

فإنّ المفروض دلالة النبوي على الانفساخ الحقيقي من دون تضمّنه لتنزيل، فلا بدّ من الالتزام بما هو لازم الانفساخ، و لازم الانفساخ الحقيقي ليس إلّا بقاء العقد على ما هو معيب لا تنزيل البقاء منزلة الحدوث، هذا كلّه فيما يتعلّق بمقام الثبوت.

و أمّا إثباتاً: فلأنّ ظاهر قوله صلى الله عليه و آله: «كلّ مبيع ..» ما هو مبيع بالحمل الشائع و ليس هو إلّا الكل و الجزء، فتلف مثلهما موجب للانفساخ دون تلف الوصف

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 228

..........

______________________________

الذي ليس مبيعاً بالحمل الشائع بل وصف له، و وصف المبيع بالتلف حينئذٍ من باب وصف الشي ء بحال متعلّقه، و من جميع ما ذكرنا تبيّن أنّه بناءً على وفاء مقام الإثبات لا بدّ من القول بالانفساخ دون الردّ و الأرش، فلا دليل على الردّ و الأرش، بل الردّ أولى بالإشكال؛ إذ على القول بمقالة الشهيد الثاني رحمه الله في مفاد النبوي يتعيّن خصوص الأرش كما عرفت «1».

و الإنصاف ورود هذا الإشكال على المشهور في باب البيع، و أمّا باب الإجارة فيمكن التخلّص عن هذا الإيراد فيه بكون المستند في المقام هو الإجماع، و ظاهر المجمعين كما اعترف به قدس سره عدم الفرق في العيب بين كونه سابقاً على العقد أو كونه سابقاً على القبض. نعم، لو كان المستند في المقام مقايسة الإجارة بالبيع بدعوى أنّه لا خصوصية للبيع، أو بدعوى أنّ الإجارة بيع حقيقة و إن كانت متعلّقة بالمنافع فيأتي فيها ما يأتي في البيع حرفاً بحرف كما ادّعاها المحقّق الرشتي قدس سره «2»، لكان الإشكال ممّا لا محيص عنه هنا أيضاً، لكن كلتا الدعويين ممنوعتان، كما أنّك عرفت الإشكال في

ثبوت الإجماع في المقام و في حجيّته على تقدير ثبوته، فالإنصاف أنّ أصل الحكم و كذا إطلاقه لصورة طروّ العيب بعد العقد و قبل القبض في غاية الإشكال.

[قال المؤلّف دام ظلّه في كتاب الإجارة الثاني]:

إذا وجد المستأجر بالعين المستأجرة عيباً، و قد حكم في الشرائع فيه بأنّ له الفسخ أو الرضا بالأُجرة من غير نقصان، و لو كان العيب ممّا

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 57 59.

(2) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 88.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 229

..........

______________________________

يفوت به بعض المنفعة «1».

أقول: الكلام في هذه المسألة في مقامين:

المقام الأوّل: في ثبوت أصل حقّ الفسخ و التخيير بينه و بين الإمضاء، من دون فرق بين ما إذا كان العيب ممّا يفوت به بعض المنفعة، و ما إذا لم يكن كذلك كالدابّة المستأجرة للركوب إذا كانت مقطوعة الاذن أو الذنب، حيث لا يتفاوت من حيث الركوب مع الدابّة الصحيحة السليمة، و الظاهر أنّه لا خلاف في ذلك بين الأصحاب كما عن العلّامة في التذكرة «2»، بل عن الغنية الإجماع عليه «3»، و الدليل على ثبوت هذا الحقّ مضافاً إلى أخبار خيار العيب الواردة في البيع، بناءً على عدم اختصاصها به و إلحاق الإجارة بالبيع، و يؤيّده أنّه لم يستشكل أحد في جريان خيار العيب فيما إذا كانت الأُجرة معيبة، و إن ناقشنا سابقاً في استفادة ثبوت الأرش من بعض الكلمات، كما أنّا منعنا الإلحاق؛ نظراً إلى أنّه لا وجه لدعوى إلغاء الخصوصية، و عدم الخلاف في ثبوت حقّ الفسخ فيما إذا كانت الأُجرة معيبة لم يعلم كون منشأه عدم الخلاف في إلحاق الإجارة بالبيع، و إجراء أخبار خيار العيب الواردة فيه في

باب الإجارة أيضاً؛ إذ يحتمل أن يكون منشأه قاعدة نفي الضرر، أو بعض الأُمور الأُخر.

و كيف كان، فدعوى إلغاء الخصوصية في غاية الإشكال، كما أنّ التمسّك بقاعدة نفي الضرر قد مرّ الإشكال فيه؛ بأنّه لم يعلم كون «لا» في قوله صلى الله عليه و آله: «لا ضرر» للنفي، بحيث كان صادراً في مقام الإخبار عن عدم

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 2/ 187 المسألة الأُولى.

(2) تذكرة الفقهاء: 2/ 322.

(3) غنية النزوع: 287.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 230

..........

______________________________

ثبوت الأحكام الضرريّة، بل يحتمل لو لم نقل بأنّه الظاهر أن تكون للنهي، و كان الكلام صادراً في مقام إعمال الحكومة و السلطنة الثابتة للنبيّ صلى الله عليه و آله بلا إشكال، و عليه فما يمكن أن يستدلّ به لثبوت حقّ الفسخ في المقام أنّه حيث يكون مورد الإجارة هي العين، بل هي كما عرفت في صدر الكتاب في تعريف الإجارة «1» ليست إلّا إضافة خاصّة متعلّقة بالعين المستأجرة، و من الواضح اختلاف الرغبات باختلاف الأعيان المستأجرة من حيث الصحّة و العيب، و إن لم يكن فرق بينهما من حيث المنفعة أصلًا، فلا محالة تكون العين المستأجرة متّصفة في حال الإجارة بكونها واجدة لصفة السلامة بالتوصيف الضمني، أو مشروطة بكونها كذلك بالشرط الضمني، و تخلّف الوصف أو الشرط يوجب الخيار بين الفسخ و الإمضاء.

و ربما يقال بعد الاستشكال فيما ذكر: بأنّه خلاف ما هو المسلّم عندهم من عدم تأثير لغرض العاقد إذا لم يكن مذكوراً في العقد، فكيف يكون وصف الصحّة بمنزلة الشرط المذكور، بأنّه لو جعل هذا من خيار الرؤية لم يرد ما ذكر؛ لأنّ أصل الصحّة بمنزلة الرؤية السابقة.

و لكنّه يرد عليه: أنّ أصل

الصحّة و إن كان بمنزلة الرؤية السابقة، إلّا أنّه لا دليل على جريان حكم الرؤية في باب البيع الثابت بدليله في باب الإجارة أيضاً، فإذا كان مورد أخبار خيار الرؤية «2» هو البيع فلا مجال لدعوى إلغاء الخصوصيّة، إلّا أن يلتزم بثبوت خيار الرؤية في باب الإجارة أيضاً، مع أنّ أصل الاستشكال في غير محلّه؛ للفرق بين وصف الصحّة الذي هو متعلّق رغبة العقلاء نوعاً، و بين سائر الأغراض

______________________________

(1) في ص 9 10.

(2) وسائل الشيعة: 18/ 28، كتاب التجارة، أبواب الخيار ب 15.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 231

..........

______________________________

و الدواعي التي تختلف باختلاف الأشخاص و الموارد، كما لا يخفى.

المقام الثاني: في ثبوت الأرش لو اختار الإمضاء و عدمه.

أقول: أمّا إذا لم يكن العيب موجباً لفوات بعض المنفعة و نقصانها فعدم ثبوت الأرش ظاهر؛ لأنّه إن كان الخيار الثابت في هذا المقام هو خيار تخلّف الوصف أو الشرط الضمني فمن الواضح عدم ثبوت الأرش فيه، و أمّا إذا كان الخيار هنا خيار العيب الثابت بالأخبار الواردة فيه «1» في باب البيع، بناءً على إلحاق الإجارة به، فلأنّه حيث يكون المفروض عدم تأثير العيب في نقصان بعض المنفعة، فلا محالة لا تكون المنفعة التي وقعت بإزائها الأُجرة ناقصة من حيث المالية، و من المعلوم أنّ الأرش تدارك نقص ماليّ في أحد العوضين، و لذا يسقط في مورد تلك الأخبار؛ و هو البيع إذا لم يكن العيب مؤثِّراً في نقصان المالية، كما في العبد الخصيّ. و لا ينافي ذلك ما ذكرناه مراراً من تعلّق الإجارة بنفس العين و كونها أضافه إليها، و ذلك لعدم التنافي بينه و بين كون الأُجرة واقعة بإزاء نفس

المنفعة التي يكون المفروض عدم نقص فيها، و هذا هو الوجه في عدم ثبوت الأرش في المقام، لا ما ربما يقال من اختصاص الأرش بالبيع لكونه مخالفاً للأصل، فلا يتعدّى عنه إلى غيره، و ذلك لعدم الاختصاص، بل الظاهر ثبوته في غير البيع أيضاً كالمهر عوضاً للخلع، و قد تقدّم أنّه ادّعى في مفتاح الكرامة عدم الخلاف في ثبوت الأرش في عيب الأُجرة إذا كانت شخصية، و إن ناقشنا سابقاً في ذلك «2».

و كيف كان، فلا وجه لدعوى الاختصاص بالبيع أصلًا، هذا كلّه إذا لم

______________________________

(1) وسائل الشيعة: 18/ 29، كتاب التجارة، أبواب الخيار ب 16، وص 97، أبواب أحكام العيوب ب 1 ح 1.

(2) في ص 223 224.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 232

..........

______________________________

يكن العيب موجباً لنقصان المنفعة.

و أمّا إذا كان موجباً له و مؤثِّراً في فوات بعضها؛ فإن كان النقص من حيث الكمّ بحيث يفوت من المستأجر جزء من المنفعة، مثل ما إذا كان بعض بيوتات الدار خراباً مثلًا، فالظاهر سقوط الأُجرة بمقداره و ثبوت خيار التبعّض للمستأجر، و أمّا إذا كان النقص من حيث الكيف، فعلى تقدير كون الخيار في المقام خيار العيب هل يثبت أرش أم لا؟ ربّما يقال كما قاله المحقّق الرشتي قدس سره بأنّه لا يعقل جريان أخبار خيار العيب هنا حتّى يثبت الأرش أيضاً، لا لأجل اختصاص موردها بالبيع، بل لأنّ العيب في المنفعة غير معقول؛ لأنّه على ما صرّحوا به في باب البيع هو الزيادة أو النقيصة عن الخلقة الأصلية، و هذا من خصائص الأعيان التي لها بحسب خلقتها الأصلية اقتضاءات قد يختلف عنها في الوجودات الخارجيّة، و أمّا المنافع فليس لها مرتبة

حتّى يتصوّر فيها الزيادة و النقيصة، بل هي مختلفة باختلاف ذواتها، من غير أن يكون لكلّ مرتبة خلقة أصلية تلاحظ الزيادة و النقصان بالقياس عليها، تقول: هذه الدابّة العمياء مثلًا معيوبة للنقصان عن الخلقة الأصلية، و لا تقول: إنّ منفعتها معيوبة لنقصان المنفعة عن الخلقة الأصلية.

و دعوى أنّ نقصان العين يكفي في تحقّق العيب في المنفعة عرفاً إنّما تتّجه لو كان بين نقصان العين و نقصان المنفعة ملازمة و ليس كذلك، إذ قد تكون منفعة العين المعيوبة أحسن و أجود من منفعة العين الصحيحة التامّة الأجزاء «1»، انتهى.

و أورد عليه المحقّق الإصفهاني قدس سره بأنّ العيب أوسع ممّا ذكر؛ ضرورة

______________________________

(1) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 311.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 233

[غبن المؤجر أو المستأجر]

مسألة 14: لو ظهر الغبن للمؤجر أو المستأجر فله خيار الغبن إلّا إذا شرط سقوطه (1).

______________________________

أنّ الخارج عمّا هو المعتاد المعبّر عنه بمجراه العادي أيضاً معيب، كالأرض الثقيلة الخراج، أو كانت محلّ نزول العساكر، فإنّه لا زيادة و لا نقص في خلقتها الأصلية، و مع ذلك فهي معيبة بالخروج عن مجراها العادي، و عليه فالمنفعة و إن لم يتصوّر العيب بالمعنى الأوّل فيها، لكنّه يتصوّر فيها العيب بالمعنى الثاني، فخيار العيب فيها معقول من حيث نفسها لا من حيث نقص العين، و ثمرته ثبوت الأرش أيضاً، فإنّ أحد طرفي المعاوضة معيب يتفاوت مع الصحيح في المالية و القيمة «1»، انتهى.

هذا، و لكن ما ذكر لا يكفي إلّا لإثبات المعقوليّة و لا يجدي في أصل الحكم، ضرورة أنّ ثبوت الأرش يحتاج إلى ضمّ دعوى إلغاء الخصوصية من الأخبار الواردة في خيار العيب، و قد مرّ أنّ هذه الدعوى ممنوعة، و

مجرّد ثبوت الأرش في بعض الموارد الأُخر غير البيع لا يلازم الثبوت في المقام، فالإنصاف أنّه لا وجه للحكم بثبوت الأرش إلّا على تقدير ثبوت خيار العيب في المقام، و لم ينهض دليل عليه بعد. نعم، على ذلك التقدير لا مجال للمناقشة في ثبوته، فتدبّر. [انتهى الكلام من كتاب الإجارة الثاني].

(1) قد تقدّم البحث في جريان الخيارات في الإجارة و عدمه في المسألة التاسعة المتقدّمة مفصلًا، و ذكرنا هناك «2» أنّ ما كان دليله غير منحصر بباب

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 271.

(2) في ص 150.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 234

..........

______________________________

البيع كخياري الغبن و العيب يجري في الإجارة، من دون فرق بين ما لا يكون له دليل خاصّ أصلًا كخيار الغبن، و بين ما كان له دليل خاص أيضاً كخيار العيب. غاية الأمر أنّه لا يثبت في هذا القسم الأحكام الخاصّة، كالتخيير بين الردّ و الأرش فيه، و اشتراط عدم إقباض المبيع و كون الخيار محدوداً بثلاثة أيّام في خيار التأخير، و ذلك لثبوت تلك الأحكام بالدليل الخاصّ الذي لا يجري في غير البيع.

نعم، يقع الكلام في جواز اشتراط الخيارين بحدودهما و الأحكام الخاصّة بهما، و الظاهر أنّه لا مانع من ذلك لعدم ثبوت ما يمنع عن اشتراط التخيير بين الردّ و الأرش على تقدير العيب، و كذا اشتراط كون الخيار محدوداً بالثلاثة و مقيّداً بما لم يقبض المبيع، كما هو واضح.

و كيف كان، فجريان خيار الغبن في الإجارة بالإضافة إلى المؤجر أو المستأجر ممّا لا إشكال فيه، و كذا في سقوطه عند شرط السقوط كما في البيع.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 235

[تملك المنفعة و العمل و الأُجرة بمجرّد العقد

]

مسألة 15: يملك المستأجر المنفعة في إجارة الأعيان، و العمل في إجارة النفس على الأعمال، و كذا المؤجر و الأجير الأُجرة بمجرّد العقد، لكن ليس لكلّ منهما مطالبة ما ملكه إلّا بتسليم ما ملّكه، فعلى كلّ منهما و إن وجب التسليم لكن لكلّ منهما الامتناع عنه إذا رأى من الآخر الامتناع عنه (1).

______________________________

(1) يقع الكلام في هذه المسألة في أُمور:

الأمر الأوّل: تملك المنفعة بنفس العقد، و قد وقع التعبير في المتون الفقهية بأنّه تملك المنفعة بنفس العقد، كما تملك الأُجرة به «1»، و نفى وجدان الخلاف فيه صاحب الجواهر قدس سره، بل قال: الإجماع بقسميه عليه «2»، و حكي عن أبي حنيفة خلاف ذلك، و أنّ المؤجر يملك الأُجرة بنفس العقد، و المستأجر لا يملك المنفعة و إنّما تحدث في ملك المكري، ثمّ يملك المكتري من المكري حين حدوثه في ملكه «3»، و قبل الخوض في ذلك ينبغي تقديم أُمور:

أحدها: الظاهر أنّه ليس المراد بنفس العقد خصوص ما إذا كان السبب لتحقّق الإجارة هو اللفظ؛ أي الإيجاب و القبول المعبّر عنه بالعقد، بل الأعمّ منه و من السبب الفعلي أي المعاطاة، بناءً على صحّة جريانها في الإجارة كالبيع و تأثيرها في الملكيّة كالعقد، فالقائل بعدم تحقّق الملكيّة بمجرّد العقد بالإضافة إلى المنفعة يقول بعدم تحقّقها بمجرّد المعاطاة أيضاً.

______________________________

(1) الخلاف: 3/ 489 مسألة 3، المهذّب: 1/ 472، إصباح الشيعة: 276، شرائع الإسلام: 2/ 183، إرشاد الأذهان: 1/ 422، الحدائق الناضرة: 21/ 579.

(2) جواهر الكلام: 27/ 271.

(3) الخلاف: 3/ 489 مسألة 3، المبسوط للسرخسي: 15/ 108 109، المغني لابن قدامة: 6/ 13.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 236

..........

______________________________

ثانيها: أنّ المراد بالمنفعة التي وقع

الاختلاف بين أبي حنيفة و غيره من فقهاء المسلمين في تملّكها بمجرّد العقد هو منفعة مثل الدار و الدّابة و العبد، ضرورة أنّ منفعة الأشجار المثمرة التي هي عبارة عن الثمرة الموجودة الحاصلة لها لا يتوقّف تملّكها على شي ء آخر؛ لأنّها موجودة فعلًا، و لا يكون وجودها تدريجياً، فلا مانع من تملّكها بناءً على كون المعاملة الواقعة صحيحة من طريق الإجارة، و كذا إذا استأجر أجيراً لعمل كلّي في ذمّته، فإنّه لا يتوقّف تملّك المستأجر على شي ء؛ لأنّ موطن ملكه هي الذمّة، و المملوك موجود فيها فعلًا، و ما يتحقّق من الأجير بعد ذلك من العمل يكون مصداقاً لما كان مملوكاً للمستأجر، لا أنّه بنفسه مملوك حتّى يقال بعدم اتّصافه بالوجود حال العقد.

و الدليل على ما ذكرنا أن الشيخ قدس سره في الخلاف «1» ذكر في عنوان المسألة استئجار الدار و الدابّة و العبد فقط، فراجع.

ثالثها: إنّ هذا البحث إنّما يجري بناءً على ما هو المشهور من كون الإجارة مؤثّرة في تمليك المنفعة، و أمّا بناءً على ما احتملناه بل قوّيناه «2» من أنّ ما ينتقل إلى المستأجر من المؤجر في إجارة الأعيان إنّما هو حقّ الانتفاع الثابت للمؤجر باعتبار كونه مالكاً للعين، و ليس هنا ملكيّة بلحاظ المنفعة حتّى بالإضافة إلى المؤجر، كما يساعده الاعتبار العقلائي أيضاً؛ لأنّ المنفعة ليست شيئاً مملوكاً يحتاج إلى مالك، فلا موقع لهذا النزاع أصلًا، إذ ليس في البين تمليك منفعة أصلًا حتّى ينازع في زمان حصول الملكيّة بالإضافة إليها، و قد صرّح المحقّق الرشتي قدس سره «3» بهذا المطلب في مقام

______________________________

(1) الخلاف: 3/ 489 مسألة 3.

(2) في ص 8 10 و 55.

(3) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 225.

تفصيل

الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 237

..........

______________________________

الجواب عن أبي حنيفة في هذا المقام.

رابعها: أنّه لا ملازمة بين دعوى عدم تملّك المنفعة بنفس العقد، و بين القول بعدم تملّك الأُجرة بنفس العقد أيضاً، فإنّه يمكن أن يقال بالأوّل دون الثاني، كما صرّح بذلك القائل بعدم تملّك المنفعة بالعقد على ما عرفت من مرامه، و ما قاله المحقّق الرشتي قدس سره «1» من أنّ المحكي عن أبي حنيفة هو التلازم بين الأمرين فهو مخالف لما حكاه عنه في الخلاف.

و كيف كان، فدعوى الملازمة مبتنية على اقتضاء المبادلة و المعاوضة لكون دخول الأُجرة في ملك المؤجر على نهج دخول المنفعة في ملك المستأجر، فكما أنّ الثاني تدريجي بناءً على هذا القول، كذلك الأوّل يلزم أن يكون بنحو التدريج.

و الظاهر بطلان هذه الدعوى، فإنّ المبادلة و المعاوضة لا تكون مقتضية لذلك بوجه، فإنّه إن كان المعوّض للأُجرة هي المنفعة الموجودة فعلًا كوجود الأُجرة كذلك لكان اللّازم أن لا يتحقّق بينهما التفكيك من هذه الجهة، و أمّا لو كان المعوّض للأُجرة الفعلية هي المنفعة الموجودة تدريجاً فمقتضى المبادلة و المعاوضة التفكيك، و إلّا يلزم التفكيك كما هو غير خفي.

خامسها: إنّ ظاهر التعبير بأنّ المنفعة تملك بنفس العقد مع جعل المخالف في الحكم أبا حنيفة و من يماثله يشعر بل يدلّ على أنّ المخالف لا يقول بسببية العقد لحصول الملكيّة بالإضافة إلى المنفعة، مع أنّه ليس كذلك، فإنّه أيضاً لا يرى السبب لذلك إلّا نفس العقد. غاية الأمر أنّه يقول بأنّ الملكيّة حيث تحتاج إلى محلّ ثابت فلا بدّ من أن توجد المنفعة حتّى تتّصف بالملكية، فالسبب لحصولها عند وجود

______________________________

(1) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 225.

تفصيل الشريعة في

شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 238

..........

______________________________

المنفعة ليس إلّا العقد، و عليه فمرجع النزاع إلى أنّ المنفعة المملوكة بنفس العقد هل تكون مملوكة دفعة، كما عليه الجمهور من فقهاء المسلمين، أو تكون مملوكة تدريجاً، كما يراه أبو حنيفة و من يماثله؟ فالخلاف في الدفعيّة و التدريجيّة لا في السبب المملّك كما هو ظاهر التعبير، فتدبّر.

إذا عرفت هذه الأُمور فاعلم أنّ منشأ الاختلاف أنّ المنفعة هل تقبل الملكيّة قبل وجودها أم لا؟ و ملخّص تقريب النافي أنّ الملكيّة صفة ثبوتية مفتاقة إلى موضوع موجود و محلّ ثابت، و من المعلوم أنّ المنافع لا تكون موجودة حال العقد، بل توجد شيئاً فشيئاً و بتبعه تعرّض الملكيّة لها أيضاً كذلك.

و أجاب عنه المحقّق الإصفهاني قدس سره بوجهين:

أحدهما: إنّ مقتضى هذا التقريب أنّ المنفعة مع عدم الاستيفاء غير مملوكة، و لا يلتزم به أحد.

ثانيهما: إنّ مقتضاه أنّ المؤجر يصحّ منه التمليك من دون أن يكون مالكاً؛ لأنّ المفروض مقارنة ملك المنفعة و وجودها، و لا معنى لأن يملك المؤجر باستيفاء المستأجر، كما لا يعقل أن يكون المؤجر و المستأجر مالكين معاً في زمان واحد، إذ آن الوجود لا تعدّد فيه حتّى يملك المؤجر في آن و المستأجر في آن آخر، فإنّ الآن الآخر آن وجود منفعة أُخرى لا المنفعة الاولى.

و بالجملة: المنفعة ليست كالعين حتّى يمرّ عليها زمانان يكون أحدهما زمان ملك المؤجر و الآخر زمان ملك المستأجر ليصحّ تمليك المنفعة من مالكها، ثمّ قال: و قد ذكرنا في أوائل الإجارة: أنّ هذا الإشكال مبنيّ على كون الملكيّة الشرعيّة و العرفيّة التي هي موضوع للأحكام و الآثار من الأعراض و المقولات الواقعيّة، مع أنّا قد بيّنا في محلّه

استحالة ذلك بالبراهين القاطعة و أنّها اعتبار أمر مقولي،

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 239

..........

______________________________

و الاعتبار لا يستدعي إلّا الطرف في أُفق الاعتبار، و المنافع يقدّر وجودها، فيتعلّق بها الملك الاعتباري «1».

و يمكن الجواب عن الوجه الأوّل بمنع اقتضاء التقريب لما أفاده، فإنّه ليس فيه ما يقتضي توقّف اتّصاف المنفعة بالملكيّة على الاستيفاء، فتدبّر.

و أُجيب عن الوجه الثاني تارةً بأنّه يمكن فرض التعدّد في آن الوجود؛ لأنّ ما لا يقبل التعدّد من الآنات إنّما هو الآن العقلي، و أمّا الآن العرفي الذي دائرته أوسع من العقلي فهو قابل لفرض ملك المؤجر و المستأجر معاً فتأمّل. و أُخرى بأنّه على تقدير كون المراد هو الآن العقلي، لكن ترتّب ملك المستأجر على ملك المؤجر لا يلزم أن يكون ترتّباً زمانياً حتّى يحتاج إلى فرض زمانين: أحدهما سابق و الآخر لاحق، بل هو تفرّع عقلي منشؤه التأخّر من حيث الرتبة و إن كان في زمان ليس إلّا التقارن، و في كلا الجوابين ما لا يخفى من النظر.

ثمّ أنّه على فرض صحّة المناقشة في الوجهين لا مجال للخدشة فيما أفاده من أنّ الملكيّة ليست من المقولات الواقعية، بل هي أمر اعتباري لا يستدعي إلّا الموضوع في عالم الاعتبار، و المنافع قابلة لتقدير وجودها مقدّمة لاعتبار الملكيّة، و لا مانع من كون الموضوع للأمر الاعتباري أمراً اعتبارياً آخر، و ليس من قبيل قيام العرض بعرض آخر لو سلّم كونه مستحيلًا. و كيف كان، فهذا هو العمدة في الجواب عن شبهة أبي حنيفة.

ثمّ إنّ صاحب الجواهر قدس سره استدلّ في قبال أبي حنيفة بعد الإجماع بما هذه عبارته: مضافاً إلى أنّ ذلك مقتضى العقد و المراد من

إنشائه، بل هو مقتضى ما دلّ على إفادة

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 158.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 240

..........

______________________________

العقد الملك و تسبيبه له من أَوْفُوا* «1» و غيره، لأصالة عدم اعتبار أمر آخر عليه، كما أنّه مقتضى ما دلّ على حصوله بالاستئجار المتحقّق بالعقد نحو الشراء و البيع، بل لم يقل أحد بالفصل بينهما، و لا ينافي ذلك توقّفه في بعض أفراد العقد على أمر آخر، كالقبض في الصرف و نحوه للدليل «2».

و تبعه في التكلّم في مقام الإثبات زائداً على مقام الثبوت المحقّق الإصفهاني قدس سره، و إن ناقش في التمسّك بالأصل العملي؛ بأنّ غاية مقتضاه أنّ الاعتبار الملكي غير مترتّب على المتقيّد بهذا القيد، و بالتلازم العقلي يقتضي أنّ العقد المجرّد عنه يؤثّر في الملك، مع أنّه لا عبرة بالأُصول المثبتة، و في التمسّك بالأصل اللفظي بأنّه يتوقّف على كون إطلاقات أدلّة الوفاء بالعقد و حلّية البيع و الإجارة واردة مورد إنفاذ الأسباب، و أمّا إذا كانت في مقام المسبّبات و أنّها محقّقة عند الشارع كالعرف، فلا تجدي في دفع الشكّ في اعتبار دخل شي ء في تأثير العقد «3».

أقول: لم أعرف وجهاً للتكلّم في مقام الإثبات أصلًا، فإنّك عرفت أنّه لا شبهة في المسألة إلّا ما حكي عن المخالف المعاند؛ و هي شبهة ثبوتية، و مع دفعها بما تقدّم و إثبات أنّ المنفعة مع تدرّجها في الوجود قابلة لتعلّق الملك الدفعي بها لا يبقى إشكال في المسألة بوجه حتّى يحتاج إلى التمسّك بالأُصول اللفظية و العملية.

و بعبارة اخرى بعد ما عرفت في الأمر الخامس من الأُمور التي قدّمناها؛ أنّ النزاع ليس في أنّ المتّصف بالسببيّة في باب

الإجارة هل هو العقد فقط، أو مع شي ء

______________________________

(1) سورة المائدة 5: 1.

(2) جواهر الكلام: 27/ 271 272.

(3) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 159.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 241

..........

______________________________

آخر، ضرورة أنّ المخالف أيضاً لا يرى إلّا كون العقد بنفسه سبباً، بل النزاع إنّما هو في أنّ المسبّب المترتّب على السبب الذي هو العقد بلا فصل هل هو الملكيّة الدفعيّة أو الملكيّة التدريجيّة؛ لكون طرفها من الأُمور التدريجية المتصرّمة، لا موقع لعقد مقام الإثبات و التكلّم فيه، كيف و قد عرفت أنّ ملكيّة الأُجرة عند المخالف تتحقّق بنفس العقد كما حكاه عنه في الخلاف في عبارته المتقدّمة «1»، فلا وجه للتفكيك إلّا من جهة الشبهة في قابلية المنفعة للملكية، كالأُجرة من دون أن يكون نقص في ذات السبب أو في سببيته، و مع اندفاع الشبهة تتم المسألة بلا إشكال.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ التمسّك بالأدلّة اللفظية، إنّما هو لأجل احتمال استحالة تأثير عقد الإجارة في حصول الملكيّة من جهة أُخرى غير الشبهة المتقدّمة، نظراً إلى أنّه يكفي لدفع هذا الاحتمال التمسّك بالعموم أو الإطلاق؛ لأنّه مع وجوب الوفاء بالعقد يستكشف عدم الاستحالة، فمن مقام الإثبات يعلم حال مقام الثبوت، و أنّه لا امتناع من هذه الجهة. هذا، و لكن لا يخفى أنّ هذا النحو من التمسّك على تقدير صحّته و الغض عمّا فيه من عدم الإمكان للزوم الدور لا يكون مقصوداً لهم بوجه كما يظهر لمن لاحظ كلماتهم فالإنصاف أنّ عقد مقام الإثبات في مثل المقام ممّا لا يترتّب عليه فائدة أصلًا.

ثمّ إنّه يقع الكلام بعد ذلك في أنّ الملكيّة الدفعية الحاصلة بالإضافة إلى المنفعة بمجرّد العقد هل هي ملكيّة مستقرّة

أو متزلزلة؟ و قد صرّح سيّد الأساطين في العروة بأنّ ملكيّة الأُجرة متزلزلة، و أنّ استقرارها يتوقّف على استيفاء المنفعة أو إتمام العمل أو ما بحكمه، و أنّه لو حصل مانع عن الاستيفاء أو عن العمل تنفسخ

______________________________

(1) في ص 235.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 242

..........

______________________________

الإجارة «1». و لكن ظاهره خصوصاً بملاحظة صدر كلامه الدالّ على أنّ المستأجر يملك المنفعة بنفس العقد أنّ ملكيّة المنفعة المتحقّقة بالعقد ملكيّة مستقرّة غير متزلزلة، و بالجملة لم ينقل عن أحد دعوى التزلزل في ملكيّة المنفعة، و سنعترض على كلام العروة بعدم كون ملكيّة الأُجرة أيضاً متزلزلة، و أنّه على تقدير صحّة ذلك في الأُجرة لا يكون فرق بينها و بين المنفعة بوجه.

الأمر الثاني: تملك الأُجرة بنفس العقد من غير توقّف على شي ء آخر، كما هو مقتضى سببيّته و عدم اشتراطه بشي ء آخر كالقبض في بيع الصرف، و هذا ممّا لا خلاف و لا إشكال فيه عندنا معاشر الإمامية، بلا فرق في ذلك بين شرط التأجيل و عدمه، خلافاً لما ينسب إلى ظاهر القواعد من الفرق بين الصورتين، و لكنّه بعد المراجعة إليها لم يظهر لي صحّة هذه النسبة؛ لأنّه ذكر في موضع منها أنّ المؤجر يملك الأُجرة بنفس العقد، و عقّبه بقوله: فإن شرط الأجل لزم «2». و من الواضح أنّ لزوم شرط الأجل لا يلازم توقّف ملكيّة الأُجرة على انقضائه، بل غايته توقّف استحقاق المطالبة عليه.

و ذكر بعد سطرين أنّه إن سلّمت العين التي وقعت الإجارة عليها و مضت المدّة و هي مقبوضة استقرّ الأجر، و إن لم ينتفع «3». و من الواضح أيضاً أنّ هذا الكلام لا دلالة فيه على الفرق

بين الصورتين، بل غايته الدلالة على أنّ استقرار الأُجرة بمضي المدّة لا يتوقّف على استيفاء المنفعة و الانتفاع بالعين المستأجرة، و بالجملة فالظاهر أنّ هذه النسبة لم تقع في محلّها.

______________________________

(1) العروة الوثقى: 5/ 37.

(2) قواعد الأحكام: 2/ 285.

(3) قواعد الأحكام: 2/ 285.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 243

..........

______________________________

نعم، خالفنا في هذا الحكم أهل الخلاف، حيث ذهب مالك إلى أنّ الأُجرة تستحق جزءاً فجزءاً بقدر ما يقبض في المنفعة «1»، و قد عرفت ذهاب أبي حنيفة إلى الفرق بين الأُجرة و المنفعة «2». نعم، وافقنا الشافعي في الحكم بأنّ الأُجرة و المنفعة تملكان بنفس العقد من دون توقّف على شي ء «3».

و مبنى قولي أبي حنيفة و مالك ما مرّ من أنّ المنافع معدومة و المعدوم لا يملك، و حيث إنّها تدريجية الوجود فالملكية أيضاً كذلك.

و يرد عليهما ما تقدّم أيضاً من أنّ الملكيّة لا تكون من الأُمور الحقيقية التي تفتقر إلى موضوع محقق موجود في الخارج، بل هي أمر اعتباريّ قابل لأن يتعلّق بالمنفعة التي هي من الأُمور التدريجية التي يوجد جزء منها و ينعدم ثمّ يوجد جزء آخر و ينعدم و هكذا، مضافاً إلى ما عرفت في تعريف الإجارة من أنّ تمليك المنفعة لا يكون داخلًا في حقيقة الإجارة، بل هي عبارة عن إضافة خاصّة في العين المستأجرة بالنسبة إلى المستأجر معتبرة عند العقلاء، و هذه الإضافة تستتبع ملكيّة المنفعة، لا أنّ حقيقة الإجارة عبارة عن تمليكها «4».

ثمّ إنّ الملكيّة الحاصلة بالعقد هل هي ملكيّة مستقرّة أو متزلزلة؟ وجهان، و قد مرّ تصريح صاحب العروة بالثاني.

و يرد عليه: أنّ المراد بالملكية المتزلزلة في المقام هل هو ما كان ناقصاً من حيث

المقتضي؛ بمعنى ما لم يتحقّق سببه التامّ، غاية الأمر حصول مرتبة من الملكيّة

______________________________

(1) بداية المجتهد: 2/ 228، جواهر الإكليل: 2/ 185، الخلاف: 3/ 490 مسألة 4.

(2) في ص 235.

(3) الأُمّ: 4/ 25 و 27، مغني المحتاج: 2/ 334، الخلاف: 3/ 489 مسألة 3.

(4) تقدّم في ص 9 10.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 244

..........

______________________________

بحصول ما هو سبب لتلك المرتبة، أو أنّ المراد بها ما كان تامّاً من حيث المقتضي، غاية الأمر إمكان زوال الملكيّة بعروض بعض العوارض؟

لا مجال للأوّل، لأنّه مضافاً إلى كونه مخالفاً للفتاوي مخالف لما صرّح به في أوّل كلامه «1»؛ من أنّ مقتضى سببيّة العقود ملكيّة المؤجر الأُجرة بنفس العقد؛ إذ المراد بالسببية هي السببيّة التامّة كما هو واضح، كما أنّه لا مجال للثاني؛ لأنّ إمكان زوال الملكيّة بسبب عروض بعض العوارض لا يوجب اتّصاف الملكيّة بالتزلزل؛ لوضوح أنّ انفساخ الإجارة لأجل حصول المانع عن استيفاء المنفعة لا يوجب أن تكون الملكيّة متزلزلة.

هذا، مضافاً إلى أنّه لم يعرف وجه للفرق بين المنفعة و الأُجرة، حيث صرّح في أوّل كلامه بأنّ المستأجر يملك المنفعة بنفس العقد، و ظاهره الملكيّة المستقرّة، فأيّ فرق بين المنفعة و الأُجرة من هذه الحيثية، خصوصاً مع كون الموجب لتزلزل الثاني هو حصول المانع عن استيفاء الأوّل كانهدام الدار و نحوه.

و دعوى أنّ الفرق كون المنفعة أمراً غير متحقّق، بل تدريجي يوجد جزء منه و ينعدم ثمّ يوجد جزء آخر كذلك كما عرفت، مدفوعة مضافاً إلى أنّ هذا الفرق ليس بفارق فيما هو المهمّ بأنّه يمكن أن تكون الأُجرة أيضاً كذلك كما لا يخفى. فانقدح أنّ ملكيّة الأُجرة الحاصلة بالعقد ملكيّة مستقرّة غير متزلزلة

بوجه.

الأمر الثالث: أنّ ملكيّة المنفعة و كذا الأُجرة و إن كان سببها نفس العقد، إلّا أنّه ليس لكلّ من المالكين مطالبة ما ملكه إلّا بتسليم ما ملّكه، و يجوز امتناع كلّ من

______________________________

(1) العروة الوثقى: 5/ 36 37.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 245

..........

______________________________

المؤجر و المستأجر من تسليم ما انتقل عنه إلى الآخر حتّى يتسلّم ما انتقل إليه.

و بعبارة اخرى حق الحبس ثابت له، و العمدة في ذلك أنّ بناء العقلاء في باب المعاوضات هو الالتزام بالتسليم بإزاء التسليم، و بالتسليط العملي بحذاء التسليط العملي، و إلّا فمقتضى ثبوت الملكيّة بنفس العقد و سلطان المالك على ماله عدم جواز الامتناع و لو مع امتناع الآخر؛ لأنّ عصيان الغير لا يسوّغ عصيان الشخص. و لعلّ من تمسّك بقاعدة بطلان الترجيح من غير مرجّح نظراً إلى عدم ترجيح لأحد المتعاوضين على الآخر، و ذلك يقتضي التقارن في التسليم و التسلّم يكون نظره إلى ما هو البناء للعقلاء في باب المعاوضات، و إلّا فكلّ منهما مكلّف بالوفاء بالعقد، و مخالفة أحدهما لا تسوّغ عصيان الآخر، و ليس ذلك ترجيحاً حتّى يكون بلا مرجّح، فتدبّر.

[قال المؤلّف دام ظلّه في كتاب الإجارة الثاني]:

قال في الشرائع: و يجب تعجيلها أي الأُجرة مع الإطلاق و مع اشتراط التعجيل، و لو شرط التأجيل صحّ بشرط أن يكون معلوماً، و كذا لو شرطها في نجوم «1»، انتهى.

و الظاهر أنّه ليس المراد من التعجيل المشترط هو التعجيل إعطاء الأُجرة قبل أخذ العين أو تسلّم العمل، بل المراد به هو التعجيل الذي حكم بوجوبه في صورة الإطلاق أيضاً، و هو عدم تأخّر دفع الأُجرة عن تسليم العين، و من هنا يصحّ أن

يقال: بأنّ هذا الشرط مؤكّد صرف لا يزيد استحقاقاً عمّا يقتضيه الإطلاق. نعم يورث خيار تخلّف الشرط. نعم،

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 2/ 180.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 246

..........

______________________________

اشتراط التعجيل بالمعنى الأوّل الذي مرجعه إلى اشتراط كون دفع الأُجرة مقدّماً على قبض العين أو تسلّم العمل يكون حكمه حكم اشتراط التأجيل الذي هو عكسه؛ لأنّ مرجع كليهما إلى اشتراط عدم التقارن في التقابض، إمّا لأجل تقدّم دفع الأُجرة، أو لأجل تأخّره، و حينئذٍ يقع الكلام في صحّة هذا الاشتراط و عدمها.

فنقول: منشأ الإشكال في صحّة هذا الشرط إمّا دعوى كونه مخالفاً لكتاب اللّٰه، نظراً إلى أنّ وجوب التقارن في مقام التسليم و التسلّم حكم إلهيّ مكتوب، و إمّا دعوى كونه مخالفاً لمقتضيات العقد، كما نفى البُعد عن وهمها المحقّق الرشتي رحمه الله «1»، لولا الإجماع المحكي عن الغنية «2» و التذكرة «3»، المعتضد بنفي الخلاف في محكي المبسوط «4» و التنقيح «5»، نظراً إلى مبناه من أنّ أمثال هذا من منافيات مقتضيات ماهية العقد، و الظاهر عدم تماميّة كلتا الدعويين.

أمّا الأُولى: فلأنّه لم يقم دليل شرعي على وجوب التقارن في مقام القبض، و قد عرفت أنّ دليل سلطنة الناس على أموالهم «6» لا يدلّ على أزيد من حرمة منع المالك عن ماله و الامتناع عن تسليم ماله إليه، و هذا يقتضي وجوب الدفع إليه، و إن امتنع هو عن التسليم؛ لأنّ عصيانه لا يسوّغ عصيانه، فدليل السلطنة أجنبيّ عن إفادة لزوم المقارنة، فشرط الخلاف لا

______________________________

(1) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 85.

(2) غنية النزوع: 286.

(3) تذكرة الفقهاء: 2/ 294.

(4) المبسوط: 3/ 223.

(5) لم نعثر عليه فيه، لكن نفى الخلاف في التذكرة: 2/ 292

و رياض المسائل: 6/ 22- 23.

(6) عوالي اللئالي: 1/ 222 ح 9، بحار الأنوار: 2/ 272 ح 7، نهج الحق و كشف الصدق: 494 495.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 247

..........

______________________________

يكون مخالفاً لكتاب اللّٰه.

و أمّا الثانية: فلأنّ مقتضى العقد بملاحظة أنّ بناء العقلاء في باب المعاوضات على التسليم و التسلّم المتقارنين و إن كان هو التقارن، إلّا أنّ الظاهر أنّ هذا الاقتضاء إنّما هو في صورة الإطلاق و عدم اشتراط الخلاف.

و بعبارة اخرى مقتضى الإطلاق ذلك، لا أنّه مقتضى نفس العقد و ماهيّته مطلقاً، و لذا ترى أنّ اشتراط تأجيل الثمن في البيع ممّا لا ريب فيه، مع أنّ دعوى خروجه بنحو التخصيص يدفعها إباء مثل ذلك عن التخصيص.

و كيف يمكن أن يدّعى أنّ الإجماع مثلًا انعقد على جواز اشتراط ما يخالف مقتضى العقل في بعض الموارد، كما هو ظاهر.

هذا، و يمكن المناقشة فيما ذكرنا أيضاً من كون التقارن مقتضى إطلاق العقد نظراً إلى أنّ التقارن لا يرتبط بالعقد، بل غاية مقتضاه هو التسليم حين التسلّم و عدم الفصل بينهما، و أمّا التقارن بينهما الموجب لنفي تحقّق عنوان الابتداء و صدقه على عمل واحد منهما فلا يكون من مقتضيات العقد، بل هو مقتضى قاعدة بطلان الترجيح من غير مرجّح، فاشتراط عدمه لا يكون مخالفاً لما يقتضيه العقد أصلًا. اللّهم إلّا أن يقال: إنّ مرجع اشتراط التعجيل أو التأجيل ليس إلى اشتراط عدم التقارن بعنوانه، بل مرجعهما إلى اشتراط الفصل بين التسليم و التسلّم، و قد عرفت أنّ ذلك مخالف لمقتضى إطلاق العقد.

نعم، لو تعلّق الغرض إلى نفي عنوان التقارن و حصول الابتداء من طرف المشترط عليه من دون تحقّق الفصل لكان

ذلك أجنبيّا عن باب

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 248

..........

______________________________

المخالفة لمقتضى العقد رأساً.

و قد انقدح من جميع ما ذكرنا أنّ اشتراط التعجيل أو التأجيل مشمول لعموم دليل الشرط «1» و يجب الوفاء به.

ثمّ إنّه لا إشكال في اعتبار كون الأجل المشترط مضبوطاً، و الكلام يقع تارةً في مانعيّة الجهالة عن نفوذ الشرط، و أُخرى في فساد الإجارة باشتراط الأجل المجهول.

أمّا الأوّل: فذكر المحقّق الأصفهاني رحمه الله: أنّه مبنيّ على صحّة ما أرسله الشهيد رحمه الله من نهي النبيّ صلى الله عليه و آله عن الغرر «2»، مضافاً إلى دعوى انصرافه إلى الالتزامات المعاملية المستقلّة في التحصّل، دون مثل الشرط الذي هو التزام ضمنيّ تبعيّ، خصوصاً إذا لم يكن متعلّقه مالًا، فإنّه لا غرر فيه و لا خطر من حيث عدم ذهاب ماله هدراً، بل فيما إذا كان مالًا أيضاً لا غرر؛ لأنّه غير مقابل بالمال ليذهب هدراً بذهاب مقابله، و ليس مجرّد عدم وصول المال المشترط خطراً و ضرراً. نعم، إن عمّمنا الخطر و الضرر إلى نقض الغرض المعاملي فوقوعه مع الجهل في نقض غرضه الواقع موقع الالتزام وقوع في الخطر و الضرر «3»، انتهى كلامه رحمه الله.

و يرد عليه: أنّه على تقدير صحّة مرسلة الشهيد رحمه الله، و منع دعوى الانصراف المذكورة لا دلالة في الرواية على عدم نفوذ الشرط المتّصف

______________________________

(1) راجع وسائل الشيعة: 18/ 16، كتاب التجارة، أبواب الخيار ب 6 و ج 21/ 276، كتاب النكاح، أبواب المهور ب 20 ذح 4، و مستدرك الوسائل: 13/ 300، كتاب التجارة، أبواب الخيار ب 5.

(2) القواعد و الفوائد: 2/ 61، كذا أرسله الشهيد الثاني في مسالك الأفهام: 5/

178 179، و قد تقدّم البحث فيه في ص 23.

(3) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 52.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 249

..........

______________________________

بالجهالة؛ لما عرفت سابقاً «1» من أنّ الغرر ليس بمعنى الجهالة، بل هو عبارة عن الخطر و التعرّض للمهلكة، و حينئذٍ يكون النهي عنه نهياً مولويّاً مفاده حرمة التعرّض للمهلكة، نظير قوله تعالى وَ لٰا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ «2».

نعم، يمكن التمسّك بالنهي عن بيع الغرر «3» بناءً على دعوى إلغاء الخصوصية و الحكم بكون البيع مذكوراً لأجل كونه الغالب في باب المعاوضات، و على عدم كون الخصوصية الملغاة منحصرة بالالتزامات المعاملية المستقلّة في التحصّل، بل يشمل مثل الشرط الذي هو التزام تبعي غير مستقلّ، و ذلك لأنّ دلالة النهي حينئذٍ على الفساد بعد تعلّقه بالمعاملة غير قابلة للخدشة، كما لا يخفى.

و أمّا الثاني: فذكر المحقّق المذكور فيه ما ملخّصه: أنّ الشرط تارةً بمعنى التقييد، و أُخرى بمعنى الالتزام في ضمن الالتزام، أمّا إذا كان بمعنى التقييد و ورد العقد على المقيّد فلا محالة يكون أحد العوضين غرريّاً بذاته، و إذا ورد التقييد على أحد العوضين كما في التوصيف فلا غرر في ذات أحد العوضين، بل في شأن من شؤونه، و على أيّ تقدير فشرط الأجل ليس كذلك؛ لعدم تحدّد الأعيان بالزمان، فلا معنى للدينار المؤجّل.

و أمّا إذا كان بمعنى الالتزام فجهالة الملتزم به ليست جهالة في أحد العوضين بذاتهما و لا بوصفهما، و البيع ليس إلّا تمليك عين بعوض، فمع

______________________________

(1) في ص 23.

(2) سورة البقرة 2: 195.

(3) تقدّم تخريجه مفصّلًا في ص 22.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 250

..........

______________________________

انحفاظهما و عدم ذهابهما هدراً لا

معنى لسراية الغرر إلى البيع بما هو بيع، و ليس الملتزم به في قبال أحد العوضين و لو لُبّاً حتّى يتحقّق الخطر بملاحظة ما يقابله. نعم، إذا أُريد من الخطر في البيع الخطر في الإقدام المعاملي البيعي فالبيع الخاصّ المشتمل على الشرط المجهول خطريّ و إن لم يكن ذات البيع خطريّاً «1»، انتهى ملخّصاً.

و الإنصاف أنّه لا بدّ من ملاحظة تحقّق الغرر و الخطر عند العقلاء؛ إذ ليست دائرة الغرر عند الشرع بأوسع من دائرته عند العقلاء، و إلّا لكان اللّازم عدم الاقتصار على مجرّد نهي واحد عن بيع الغرر بعد كون المعاملات الغرريّة عند الشارع الغير الغرريّة عند العقلاء، بناءً على الاختلاف رائجة في السوق متداولة بين الناس، إذ في أمثال هذه الموارد لا يكاد يمكن أن يتحقّق الردع على فرضه بمجرّد صدور نهي واحد كما هو واضح، و حينئذٍ فالمدار على العرف و لا بدّ من الرجوع إليه. [انتهى الكلام من كتاب الإجارة الثاني].

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 52 53.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 251

[ما يتحقّق به تسليم المنفعة و العمل

] مسألة 16: لو تعلّقت الإجارة بالعين فتسليم منفعتها بتسليم العين. و أمّا تسليم العمل فيما إذا تعلّقت بالنفس فبإتمامه إذا كان مثل الصلاة و الصوم و الحجّ و حفر بئر في دار المستأجر، و أمثال ذلك ممّا لم يكن متعلّقاً بماله الذي بيد المؤجر، فقبل إتمام العمل لا يستحقّ الأجير مطالبة الأُجرة، و بعده لا يجوز للمستأجر المماطلة. نعم، لو كان شرط منهما على تأدية الأُجرة كلّاً أو بعضاً قبل العمل صريحاً أو ضمنيّاً كما إذا كانت عادة تقتضي التزام المستأجر بذلك كان هو المتّبع. و أمّا إذا كان متعلّقاً بمال

من المستأجر بيد المؤجر كالثوب يخيطه، و الخاتم يصوغه و أمثال ذلك ففي كون تسليمه بإتمام العمل كالأوّل، أو بتسليم مورد العمل كالثوب و الخاتم وجهان بل قولان، أقواهما الأوّل. فعلى هذا لو تلف الثوب مثلًا بعد تمام العمل على نحو لا ضمان عليه، لا شي ء عليه و يستحقّ مطالبة الأُجرة. نعم، لو تلف مضموناً عليه ضمنه بوصف المخيطية لا بقيمته قبلها على أيّ حال حتّى على الوجه الثاني؛ لكون الوصف مملوكاً له تبعاً للعين، و بعد الخروج عن عهدة الموصوف مع وصفه تكون له المطالبة بالأُجرة المسمّاة لتسليم العمل ببدله (1).

______________________________

(1) لا خلاف و لا إشكال في أنّ التسليم من طرف المؤجر في إجارة الأعيان يتحقّق بتسليم العين و يحصل له بذلك حقّ مطالبة الأُجرة، و لا يتوقّف على انقضاء مدّة الإجارة فضلًا عن الاستيفاء فيها، إنّما الإشكال في التسليم الموجب لثبوت استحقاق مطالبة الأُجرة في باب الإجارة على الأعمال، و التحقيق أنّ فيه احتمالات أربعة:

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 252

..........

______________________________

الأوّل: عدم الفرق بينها و بين إجارة الأعيان، فكما أنّ المؤجر هناك يستحقّ مطالبة الأُجرة بتسليم نفس العين، و لا يتوقّف الاستحقاق على انقضاء مدّة الإجارة و لا على استيفاء المنفعة، كذلك الأجير هنا يستحقّ مطالبتها بتسليم نفسه للعمل و إن لم يعمل بعد، بل و لا اشتغل به؛ لعدم وضوح فرق بين المقامين و عدم ثبوت فارق في البين. و دعوى أنّه يمكن أن يقبض الأُجرة و لا يشتغل بالعمل أو لا يتمّه، مدفوعة بثبوت مثل هذا الاحتمال بناءً على القول بتوقّف الاستحقاق على العمل بالنسبة إلى المستأجر، فإنّه يمكن أن يمتنع من تسليم الأُجرة بعد فراغ الأجير

من إتمام العمل، كما هو ظاهر.

الثاني: ثبوت الفرق بين إجارة الأعيان و الإجارة على الأعمال، و أنّ التسليم يتحقّق في الأُولى بتسليم العين، و في الثانية لا يستحقّ الأجير مطالبة الأُجرة إلّا بعد العمل، و الظاهر أنّ هذا هو المشهور بين الأصحاب، و قد حكي عن الرياض أنّه نفى الإشكال و التأمّل عن أنّه ليس للعامل الامتناع من العمل حتّى يقبض «1». و قال في مفتاح الكرامة في ذيل قول العلّامة: لكن لا يجب تسليمها يعني الأُجرة إلّا بعد العمل: «كأنّه ممّا لا خلاف فيه كما في مجمع البرهان «2»، و في موضع آخر منه «3» أنّه إجماعيّ و هو كذلك؛ لأنّ كتب الأصحاب بين مصرّح فيه بذلك كالكتاب «4» و التنقيح «5» و جامع المقاصد «6»

______________________________

(1) كذا في كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 83، و لكن لم نعثر عليه في الرياض.

(2) مجمع الفائدة و البرهان: 10/ 16 17.

(3) مجمع الفائدة و البرهان: 10/ 47 48.

(4) قواعد الأحكام: 2/ 285.

(5) التنقيح الرائع: 2/ 262.

(6) جامع المقاصد: 7/ 111.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 253

..........

______________________________

و الروضة «1» و المسالك «2»، و بين ما هو قضيته ذلك الجارية مجرى التصريح». ثمّ قال في مقام بيان الفرق: «و لعلّ الفرق بينه و بين العين أنّ الواجب على المؤجر في الثاني إنّما هو تسليمها و قد حصل، و ليس عليه أن ينتفع بها باستعمالها و إمضاء الزمان لأنّهما غير مقدورين له، و لا كذلك العمل فإنّه مقدور له، فليعمل ثمّ يأخذ حقّه فتأمّل «3».

و يمكن أن يستدلّ للفرق مضافاً إلى هذا الوجه الاعتباري الذي ذكره صاحب المفتاح بقوله تعالى فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ «4» الظاهر

في تأخّر وجوب إيتاء أجر المطلّقات المرضعات للأزواج عن الإرضاع فلا يجب قبله. و بالنبويّ: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: .. و رجل استأجر أجيراً فاستوفى منه و لم يوفه أجره .. «5». و بما استدلّ به في الحدائق «6» ممّا رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن هشام بن الحكم، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في الجمّال و الأجير، قال عليه السلام: لا يجفّ عرقه حتّى تعطيه أُجرته «7». و من رواية شعيب قال: تكارينا لأبي عبد اللّٰه عليه السلام قوماً يعملون في بستان له و كان أجلهم إلى العصر، فلمّا فرغوا قال

______________________________

(1) الروضة البهية: 4/ 333.

(2) مسالك الأفهام: 5/ 179.

(3) مفتاح الكرامة: 7/ 116.

(4) سورة الطلاق 65: 6.

(5) عوالي اللئالي: 3/ 253 ح 3، مستدرك الوسائل: 14/ 31، أبواب كتاب الإجارة ب 5 ح 8، صحيح البخاري: 3/ 68 ح 2270.

(6) الحدائق الناضرة: 21/ 573.

(7) الكافي: 5/ 289 ح 2، التهذيب 7: 211 ح 929، وسائل الشيعة: 19/ 106، كتاب الإجارة ب 4 ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 254

..........

______________________________

لمعتب: أعطهم أُجورهم قبل أن يجفّ عرقهم «1». مضافاً إلى ما احتمله في مفتاح الكرامة «2» من الاستناد لعدم وجوب التسليم قبل العمل بالأصل.

هذا، و يرد على الوجه الاعتباري أنّ مقدورية العمل للأجير لا توجب تأخّر استحقاقه عن إتمامه، و لا تكون فارقة بين الإجارة على الأعمال و بين إجارة الأعيان، و لعلّه لذا أمر في المفتاح بالتأمّل.

و على الاستدلال بالآية الشريفة أنّه لم يعلم كون الآية بصدد إفادة تأخّر وجوب إيتاء الأجر عن الإرضاع، بل الظاهر كون النظر فيها إلى إفادة أصل الوجوب، و أنّه

لا يجوز الإخلال بأجر المطلّقات بعد إرضاعهنّ لأولاد الأزواج، و على تقدير كون المراد إفادة الوجوب عقيب الإرضاع يكون الغرض النهي و الزجر عن التأخير، لا إفادة عدم الوجوب قبل تحقّق العمل بتمامه.

ثمّ إن الآية تدلّ على أنّ المترتّب على تماميّة العمل هو وجوب الإيتاء، و المدّعى هو تأخّر استحقاق المطالبة عنه، فلا تطابق بينهما، مضافاً إلى أنّ ترتّب الوجوب على الإرضاع لا ينافي ثبوته قبل تماميته إذا انضم إليه المطالبة؛ لعدم امتناع قيام شرط آخر مقامه على ما حقّقناه في محلّه من أنّ غاية مفاد الجملة الشرطية كون الشرط علّة تامّة لترتّب الجزاء، و أمّا كونه علة منحصرة فلا، و حينئذٍ لا مانع من قيام شرط آخر مقام الإرضاع، و هو الاشتغال به مثلًا مع انضمام المطالبة و البحث في المقام أيضاً إنّما هو صورة المطالبة، كما هو غير خفي.

و أمّا الروايات، فيرد على الاستدلال بها أنّ غاية مفادها النهي عن تأخير

______________________________

(1) الكافي: 5/ 289 ح 3، التهذيب 7: 211 ح 930، وسائل الشيعة: 19/ 106، كتاب الإجارة ب 4 ح 2.

(2) مفتاح الكرامة: 7/ 116.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 255

..........

______________________________

إعطاء الأجر عن جفاف العرق و عدم إعطائه قبله، و لا دلالة فيها على توقّف استحقاق مطالبة الأُجرة على تماميّة العمل و الفراغ منه، بل هنا رواية يمكن الاستشعار بها على ثبوت حق المطالبة قبل الاشتغال بالعمل، و هي رواية هارون بن حمزة الغنوي، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام التي رواها المشايخ الثلاثة قال: سألته عن رجل استأجر أجيراً فلم يأمن أحدهما صاحبه، فوضع الأجر على يدي رجل فهلك ذلك الرجل و لم يدع وفاء و استهلك

الأجر، فقال: المستأجر ضامن لأجر الأجير حتّى يقضي، إلّا أن يكون الأجير دعاه إلى ذلك فرضي به، فإن فعل فحقّه حيث وضعه و رضي به «1».

و كيف كان، فلم تنهض هذه الوجوه لإثبات ما هو المشهور من الفرق بين الإجارتين. و أمّا الأصل الذي احتمل الاستناد إليه في مفتاح الكرامة، فإن كان المراد منه هو استصحاب عدم وجوب تسليم الأُجرة قبل إتمام العمل فذلك لا يثبت توقّف تسليم العمل على إتمامه، و إن كان المراد هو استصحاب عدم تحقّق التسليم قبل إتمام العمل فهذا الاستصحاب غير جار؛ لأنّه كاستصحاب بقاء النهار فيما إذا كان مفهومه مشكوكاً مردّداً بين الغروب و زوال الحمرة المشرقية، كما لا يخفى.

الثالث: أن يقال: بأنّ كلّ جزء من العمل يكون له أُجرة بنظر العرف يستحقّ الأجير بعد الفراغ منه ما يقع بحذائه من الأُجرة المسمّاة، فكما يكون العمل متدرّجاً يكون استحقاق مطالبة الأُجرة أيضاً كذلك بالنسبة.

______________________________

(1) الكافي: 7/ 431 ح 17، الفقيه: 3/ 107 ح 445، التهذيب: 6/ 289 ح 801، وسائل الشيعة: 19/ 109، كتاب الإجارة ب 6 ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 256

..........

______________________________

الرابع: أن يقال: إنّه ليس للأجير أن يمتنع من الشروع في العمل و الاشتغال به حتّى يقبض الأُجرة، بل لا بدّ له الاشتغال. غاية الأمر أنّ الجزء الأخير الذي به يتحقّق الفراغ له أن يمتنع من الإتيان به حتّى يقبض الأُجرة قضيةً لحقّ المعاوضة، فكما أنّ المستأجر له حقّ الحبس بالنسبة إلى تمام الأُجرة كذلك الأجير له حقّ الحبس بعدم إتيان الجزء الأخير.

و يمكن أن يقال في المقام: بأنّه هل يكون في الإجارة على الأعمال عين مستأجرة، مضافاً إلى الأجير و

المستأجر كما في إجارة الأعيان. غاية الأمر أنّ العين هناك تغاير المؤجر و لها وجود مستقل، سواء كان جماداً أو نباتاً أو حيواناً غير ناطق أو ناطقاً إذا كان عبداً، و هنا تكون العين نفس الأجير غير مغايرة معه، أو أنّه لا حاجة في الإجارة على الأعمال إلى أزيد من تحقّق عنواني الأجير و المستأجر و لا حاجة إلى ثبوت العين المستأجرة؟

فعلى الأوّل لا يرى فرق بين الإجارتين أصلًا و لا وجه للتفصيل بينهما بتوقّف استحقاق المطالبة على تماميّة العمل في إجارة الأعمال، و عدم التوقّف على انقضاء مدّة الإجارة و استيفاء المنفعة في إجارة الأعيان، فأيّ فرق من هذه الجهة بين استئجار المرأة للرضاع و بين استئجارها للإرضاع. نعم، يرد على هذا الوجه أنّه على تقدير ثبوت العين المستأجرة لا يجوز للأجير التسبيب، بل يجب عليه أن يعمل بالمباشرة و لو لم تشترط، مع أنّ الظاهر أنّهم لا يقولون بذلك، و سيأتي تحقيقه إن شاء اللّٰه تعالى.

و على الثاني الذي مرجعه إلى ثبوت الأُجرة في مقابل ما في ذمّة الأجير من العمل لا يتحقّق التسليم إلّا بتحقّق العمل، و لا يستحقّ مطالبة الأُجرة إلّا بعد تسليم العمل كما هو ظاهر.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 257

..........

______________________________

هذا، و الظاهر هو الاحتمال الثاني الذي ذهب إليه المشهور؛ لأنّه مضافاً إلى كونه مطابقاً لفتوى المشهور، بل المجمع عليه كما ادّعي على ما مرّ و إلى استبعاد وجود العين المستأجرة في إجارة الأبدان كما في إجارة الأعيان يدلّ عليه أنّ مجرّد تسليم الأجير نفسه للعمل من دون أن يتحقّق منه شي ء لا يوجب حدوث أمر جديد بعد الإجارة بالإضافة إلى المستأجر، بخلاف تسليم العين

في إجارة الأعيان، فلا بدّ من الشروع في العمل، بل من إتمامه ليتحقّق ما هو الغرض من الإجارة، كما لا يخفى.

و أمّا التفصيل في الإجارة على الأعمال بالنحو الذي أُشير إليه في المتن فمنشؤه ما حكي عن المبسوط، حيث قال في أثناء كلام له في مسألة التلف-: «إن كان العمل في ملك الصانع لا يستحقّ الأُجرة حتّى يسلّم، و إن كان في ملك المستأجر استحق الأُجرة بنفس العمل» «1».

و الظاهر من هذه العبارة أنّه إن كان العمل ممّا له أثر في مال المستأجر كالخياطة التي لها أثر في ثوبه يستحقّ الأجير الأُجرة بنفس العمل، و لا يتوقّف استحقاقه على تسليم الأثر المتوقف على تسليم ما فيه الأثر و هو الثوب، و أمّا إن لم يكن العمل له أثر في مال المستأجر، بل كان في مال العامل و ملكه فاستحقاق مطالبة الأُجرة موقوف على تسليمه. و الظاهر إجمال هذه الصورة؛ لأنّ العمل الذي لم يكن له أثر في مال المستأجر تارةً يكون مثل الصلاة و الحجّ و الزيارة و نظائرها و أُخرى مثل الحمل بنفسه أو بدابّته إلى مكان كذا، ففي الأوّل لا يكاد يتحقّق الانفكاك بين الفراغ عن العمل و تماميّته و بين التسليم، و عليه فإن كان المراد بقوله: حتّى يسلّم،

______________________________

(1) انظر المبسوط: 3/ 242 243، و الحاكي هو صاحب مفتاح الكرامة: 7/ 117.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 258

..........

______________________________

هو الفراغ من العمل و إتمامه فلم يبق فرق بين الصورتين. و إن كان المراد به توقّف الاستحقاق على التسليم المتوقف على شي ء آخر بعد الفراغ عن العمل فمن الواضح أنّه ليس هنا شي ء يتوقّف الاستحقاق عليه و يتحقّق به التسليم.

و

في الثاني الذي هو عبارة عن مثل حمل المتاع إن كان الاستئجار لمجرّد الحمل إلى ذلك المكان لا يتوقّف استحقاق الأُجرة على التسليم، و لا فرق بينه و بين الفرض الثاني كما لا يخفى.

و يظهر من الجواهر حيث فسرّ عبارة الشرائع، حيث قال: «و يستحقّ الأجير الأُجرة بنفس العمل، سواء كان في ملكه أو ملك المستأجر، و منهم من فرّق، و لا يتوقّف تسليم أحدهما على الآخر» «1» بأنّ المراد من قوله: «في ملكه» هو كالثوب يخيطه في بيته «2» أنّ ملك الصانع و كذا ملك المستأجر ظرف مكان للعمل المستأجر عليه، لا أنّه مورده و متعلّقه، و عليه فيصير مراد الشيخ قدس سره أنّ خياطة الثوب مثلًا إن وقعت في ملك الصانع كبيته أو دكانه يتوقّف استحقاق مطالبة الأُجرة على تسليم الثوب، و إن وقعت في ملك المستأجر كداره مثلًا لا يتوقّف الاستحقاق على ذلك، بل يستحقّها بنفس العمل، و لعلّ الوجه فيه عدم الافتقار إلى التسليم في الفرض الثاني بعد عدم خروج الثوب عن تحت استيلائه و كونه بعد في سلطانه، فكأنّ التسليم حاصل، و هذا بخلاف الفرض الأوّل، فإنّ الثوب في حال الخياطة و كذا بعدها قبل التسليم يكون تحت استيلاء الأجير.

و يظهر من جامع المقاصد في شرح عبارة القواعد وجوب التسليم مطلقاً، حيث

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 2/ 181.

(2) جواهر الكلام: 27/ 237.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 259

..........

______________________________

فسّر قول العلّامة فيها بعد الحكم بعدم وجوب تسليم الأُجرة إلّا بعد العمل: «و هل يشترط تسليمه الأقرب ذلك» «1» بأنّه هل يشترط تسليم ذلك العمل إلى المستأجر في وجوب تسليم الأُجرة الأقرب ذلك، و استدلّ عليه بأنّه معاوضة فيجب

التقابض، و فرّع عليه أنّه يجوز للعامل الحبس «2»، و قد اعترض عليه مفتاح الكرامة بعدم كونه متّجهاً، لا باعتبار الدليل و لا التفريع و لا بالنسبة إلى غير الأقرب و قد بيّن وجه كلّ واحد من الأُمور الثلاثة، فراجع «3».

و بالجملة: فظاهر جامع المقاصد وجوب التسليم مطلقاً، و لذا اعترض على كلام الشيخ في المبسوط بأنّه ليس بشي ء؛ لأنّه لا يتحقّق التسليم إلّا أن يصير في يد المستأجر.

و ممّا ذكرنا ظهر أنّ الأقوال في المسألة ثلاثة: القول بالاستحقاق بمجرّد الفراغ عن العمل مطلقاً كما اختاره الشرائع و جمع آخر «4» و القول بلزوم التسليم مطلقاً كما اختاره جامع المقاصد و فسّر به عبارة القواعد، و التفصيل بين ما إذا كان في ملكه و ما إذا كان في ملك المستأجر، كما تدلّ عليه عبارة المبسوط.

و التحقيق في المقام يقتضي ملاحظة ما هو محلّ البحث و الكلام ليتّضح الصحيح عن سقيم المرام، فنقول و على اللّٰه الاتكال و به الاعتصام: قد وقع الخلط و الاشتباه في كلمات جماعة من الأعلام، و الذي ينبغي أن يقال: إنّ البحث في هذه المسألة إنّما هو بعد الفراغ عن عدّة مسائل مذكورة فيما سبق، و هي أنّ عقد الإجارة يؤثّر في

______________________________

(1) قواعد الأحكام: 2/ 285.

(2) جامع المقاصد: 7/ 112.

(3) مفتاح الكرامة: 7/ 117 118.

(4) كالعلّامة في إرشاد الأذهان: 1/ 424، و المحقّق الأردبيلي في مجمع الفائدة و البرهان: 10/ 47.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 260

..........

______________________________

حصول الملكيّة للطرفين ملكيّة مستقرّة، خلافاً لصاحب العروة على ما مرّ «1».

غاية الأمر أنّ استحقاق المطالبة إنّما يتوقّف على التسليم، و قد عرفت أنّ التسليم في إجارة الأعيان إنّما يتحقّق

بتسليم نفس العين «2»، و أنّ به يستحقّ المؤجر مطالبة الأُجرة، و أمّا في الأبدان فالمشهور أنّ التسليم فيها يتحقّق بتماميّة العمل، و أنّه لا يثبت استحقاق المطالبة للأُجرة قبل إكمال العمل، و عليه فما يمكن أن يقع محلّاً للبحث هنا هو أنّ استحقاق مطالبة الأُجرة هل يتوقّف على شي ء آخر زائد على إتيان العمل، الذي هو مورد الإجارة، كتسليم مورد العمل و متعلّقه إلى المستأجر، أو لا يتوقّف إلّا على نفس الوفاء بعقد الإجارة، الذي يتحقّق بإتيان متعلّقه الذي هي الخياطة في المثال المفروض؟

و عليه فما أصرَّ عليه في الجواهر من إثبات أنّ متعلّق الإجارة في المثال هي نفس فعل الخياطة، و أنّه ليس في يد الأجير إلّا الثوب الذي هو للمستأجر مع صفته، و لا شي ء منهما مورد عقد الإجارة حتّى يجري عليه حكم المعاوضة، إذ موردها إنّما هو العمل الذي تولّد منه الصفة المزبورة و تسليمه إيقاعه؛ لأنّ تسليم كلّ شي ء بحسب حاله كأنّه في غير المحلّ؛ إذ لم يدع أحد أنّ متعلّق الإجارة أمر زائد على فعل الخياطة، بل مرجع ادّعائه إلى توقّف الاستحقاق على شي ء زائد على متعلّق الإجارة، و هو تسليم الثوب مثلًا.

و هذا و إن لم يساعده دليل إلّا أنّ القائل به يمكن أن يستند إلى أنّ بناء العقلاء في مثل هذا النحو من الإجارة على عدم ثبوت الاستحقاق قبل تسليم الثوب المخيط إلى المستأجر مطلقاً، أو في خصوص ما إذا خاطه في بيته على

______________________________

(1) في ص 241.

(2) في ص 252.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 261

..........

______________________________

الاحتمالين المتقدمين في كلام الشيخ، و عليه فما يمكن أن يقال عليه منع هذا البناء؛ لعدم الفرق

عند العقلاء بين الموارد أصلًا، لأنّ المناط عندهم في ثبوت حقّ المطالبة مجرّد الفراغ من العمل المستأجر عليه، من دون فرق بين الموارد، و يؤيّد ما ذكرنا ما أفاده المحقّق الرشتي قدس سره بعنوان التأييد أو الدليل؛ من أنّه لو استؤجر على خياطة ثوب مغصوب مثلًا غير مقدور على تسليمه صحّ بلا إشكال، مع أنّ إمكان الإقباض الذي هو شرط صحّة العقد مفقود هنا، و على مذهب الشيخ لا تصح هذه الإجارة «1».

هذا، مضافاً إلى ما يمكن أن يقال من أنّ يد الأجير يد أمانيّة بمنزلة يد المستأجر، و عليه فوقوعه في يده بمنزلة التسليم إلى المستأجر، فالتسليم في جميع الموارد متحقّق، كما إذا أمر المستأجر بالتسليم إلى شخص آخر.

ثمّ إنّه حكى في المفتاح عن الحواشي أنّ المنقول وجوب تسليم الأُجرة في الحجّ أي قبل الشروع فيه و إن لم يعط الأُجرة و تعذّر الحجّ إلّا بها كان له الفسخ، و ما عدا الحجّ يجوز حبس الأُجرة إلى بعد العمل، و حكى عن مجمع البرهان «2» أنّه نقل قولًا بأنّه لا يجوز للوصي تسليم الأُجرة للأجير في العبادات إلّا مع إذن الموصي صريحاً أو فحوى، إلّا أن يكون العمل موقوفاً عليه كالحجّ، فلو امتنع كان للأجير فسخه بل هو يفسخ بنفسه «3».

و استشكل في الجواهر «4» في جواز الفسخ للأجير، نظراً إلى إقدامه على الإجارة

______________________________

(1) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 112.

(2) مجمع الفائدة و البرهان: 10/ 17.

(3) مفتاح الكرامة: 7/ 116.

(4) جواهر الكلام: 27/ 245.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 262

..........

______________________________

التي مقتضاها ذلك.

هذا، و الظاهر أنّه لا فرق بين الحجّ و بين غيره، و مجرّد توقّف مثله على المئونة لا يوجب

ثبوت الاستحقاق قبل العمل، و تعارف التسليم قبله منقوض بعدم تعارف تسليم تمام الأُجرة في إجارة الأعيان مطلقاً، بل ربما تكون مطالبتها مورداً لتقبيح أهل العرف و العقلاء، كما لا يخفى.

ثمّ إنّه يترتّب على ما ذكرنا من كون التسليم في مثل خياطة الثوب إنّما هو بإتمام العمل لا بتسليم مورده، أنّه لو تلف الثوب بعد تمام العمل على نحو لا ضمان عليه، كما إذا لم يكن هناك تعدّ و لا تفريط و لم يكن شرط الضمان بناءً على صحّته، لا شي ء عليه، بل تستحق مطالبة الأُجرة لفرض تماميّة العمل.

نعم، لو تلف مضموناً عليه ضمنه بوصف المخيطية لا بقيمته قبلها على كلا الوجهين حتى الوجه الثاني؛ لأنّ الوصف مملوك لمالك العين تبعاً لها، و بعد الخروج عن عهدة الموصوف مع وصفه تكون له المطالبة بالأُجرة المسمّاة لتسليم العمل ببدله، كما هو ظاهر.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 263

[امتناع المؤجر من تسليم العين المستأجرة

] مسألة 17: لو بذل المستأجر الأُجرة، أو كان له حقّ أن يؤخّرها بموجب الشرط و امتنع المؤجر من تسليم العين المستأجرة يجبر عليه، و إن لم يمكن إجباره فللمستأجر فسخ الإجارة و الرجوع إلى الأُجرة، و له إبقاء الإجارة و مطالبة عوض المنفعة الفائتة من المؤجر. و كذا إن أخذها منه بعد التسليم بلا فصل أو في أثناء المدّة، لكن في الثاني لو فسخها تنفسخ بالنسبة إلى ما بقي من المدّة فيرجع إلى ما يقابله من الأُجرة (1).

______________________________

(1) قد تعرّض لهذه المسألة المحقّق في الشرائع بعنوان منع المؤجر المستأجر من استيفاء المنفعة، و قال في حكمها: «سقطت الأُجرة، و هل له أن يلتزم و يطالب المؤجر بالتفاوت؟ فيه تردّد و الأظهر نعم» «1».

و

كيف كان، فللمسألة صور؛ فإنّ المنع تارةً يكون قبل إقباض العين المستأجرة و أُخرى بعده، كما أنّه في الصورة الأُولى تارةً لا يكون المستأجر متمكِّناً من الإجبار حتّى تمضي المدّة بأسرها، و أُخرى يكون و لكن لم يفعل، كما أنّه تارةً يستوفي المؤجر المنفعة، و أُخرى لا يستوفي هو أيضاً بل تتلف تحت يده.

ففيما إذا كان المنع قبل الإقباض و لم يتمكّن المستأجر من الإجبار و كان هو المستوفي للمنفعة وجوه، بل أقوال:

أحدها: انفساخ الإجارة قهراً، الذي عبّر عنه في العبارة المتقدّمة بسقوط الأُجرة، و قد حكي هذا القول عن الشيخ «2» و الفاضل في محكي التذكرة «3».

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 2/ 186.

(2) النهاية: 444.

(3) تذكرة الفقهاء: 2/ 326.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 264

..........

______________________________

ثانيها: لزوم العقد و بقاؤه على حاله و استحقاق المستأجر أُجرة مثل المنفعة و كون المؤجر ضامناً لها.

ثالثها: تخيير المستأجر بين الفسخ و إرجاع الأُجرة المسمّاة، و بين الإمضاء و الرجوع بالتفاوت؛ و هو الذي استظهره المحقّق في عبارته المتقدّمة. و إن كان الجمع بين الجزم بالانفساخ كما هو ظاهر العبارة و بين احتمال التخيير ثمّ استظهاره ممّا لا يناسب كما هو غير خفي، و لكنّ صريح المتن اختيار هذا الوجه.

و كيف كان، فقد استدلّ للقول الأوّل بأنّ ذلك بمنزلة التلف قبل القبض المقتضي للانفساخ؛ لتعذر تحقّق المعاوضة حينئذٍ.

و بعبارة اخرى: قاعدة التلف قبل القبض عامّة شاملة للتلف الاختياري أيضاً، من دون فرق بين ما إذا كان مستنداً إلى الأجنبي أو إلى البائع أو المؤجر.

و يرد عليه: أنّ هذه القاعدة و إن لم تكن مختصّة بباب البيع، بل تجري في مثل الإجارة أيضاً لإلغاء الخصوصية عن دليلها الوارد

في مورد البيع «1»، و إن ناقشنا سابقاً «2» في إلغاء الخصوصية بعد كون الحكم مخالفاً للقاعدة، إلّا أنّ الظاهر اختصاصها بالتلف القهري، و لا يشمل التلف الاختياري الصادر من البائع أو المؤجر. نعم، رواية عقبة بن خالد المعروفة الواردة في مورد سرقة المتاع من البائع «3» و إن كان موردها السرقة التي هي أمر اختياريّ، إلّا أنّ الحكم بالانفساخ فيها إنّما هو لأجل حصول التلف من البائع قهراً، لا لأجل حصول السرقة من

______________________________

(1) عوالي اللئالي: 3/ 212 ح 59، مستدرك الوسائل: 13/ 303، كتاب التجارة، أبواب الخيار ب 9 ح 1.

(2) في ص 223 228.

(3) الكافي: 5/ 171 ح 12، التهذيب: 7/ 21 ح 89 وص 230 ح 1003، وسائل الشيعة: 18/ 23، كتاب التجارة، أبواب الخيار ب 10 ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 265

..........

______________________________

السارق اختياراً.

و بالجملة: لا ينبغي الإشكال في اختصاص القاعدة بالتلف القهري، و عدم شمولها للتلف الاختياري من البائع أو المؤجر في المقام.

و استدلّ للقول الثاني بعموم قاعدة الإتلاف، فإنّ المنفعة التي استوفاها المؤجر مال للمستأجر قد أتلفه عليه، فلا محيص من أن يكون ضامناً له يجب عليه الخروج عن العهدة بأداء أُجرة المثل مع قبض الأُجرة، أو التفاوت مع عدم القبض و الاتّحاد من حيث الجنس و كونها كليّة لا شخصيّة. نعم، كون المنفعة مالًا للمستأجر دون المؤجر يتوقّف على عدم جريان قاعدة التلف قبل القبض، الحاكمة بالانفساخ هنا؛ لما مرّ من اختصاصها بالتلف القهري من البائع أو المؤجر، ضرورة أنّه مع جريانها لا مجال للرجوع إلى قاعدة الإتلاف، التي يكون موضوعها مال الغير.

و بالجملة: فأدلّة لزوم العقد بضميمة كون مقتضى القاعدة عدم

الانفساخ، و بضميمة قاعدة الإتلاف أيضاً تحكم ببقاء الإجارة على حالها و استحقاق المستأجر أُجرة مثل المنفعة المستوفاة على المؤجر.

و أمّا القول الثالث، فقد استدلّ له بوجهين:

أحدهما: أنّه اجتمع في المقام قاعدتان: قاعدة التلف قبل القبض بناءً على عدم اختصاصها بالتلف القهري و شمولها لمثل المقام و قاعدة الإتلاف، و مقتضى الاولى كون المؤجر ضامناً بالضمان المعاوضي، و مرجعه إلى رجوع الأُجرة المسمّاة إلى المستأجر، و مقتضى الثانية كونه ضامناً بالضمان الواقعي، و مرجعه إلى ثبوت اجرة المثل عليه، و حيث إنّه لا يمكن للمستأجر إعمال القاعدتين لتضادّ المقتضيين، و لا مرجّح في البين، و لا موجب لرفع اليد عن كلا الأمرين، فلا محالة يكون مخيّراً

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 266

..........

______________________________

في إعمال السببين، فله الأخذ بالقاعدة الاولى و مطالبة الأُجرة المسمّاة، و له الأخذ بالقاعدة الثانية و مطالبة الأُجرة الواقعية.

و يرد على هذا الوجه مضافاً إلى منع المبنى؛ و هو شمول قاعدة التلف لمثل المقام كما عرفت، و مضافاً إلى أنّه على تقدير تماميته لا يثبت به تخيير المستأجر كما هو المدّعى، و من الممكن أن يكون التخيير ثابتاً للمؤجر أو للحاكم كما لا يخفى أنّه لا يعقل التزاحم بين القاعدتين؛ لأنّ موضوع قاعدة الإتلاف مال الغير و جريان قاعدة التلف بناءً على الشمول كما هو المفروض ينفي كونه مال الغير، ضرورة أنّه مع جريان هذه القاعدة لا تكون المنفعة إلّا مالًا للمؤجر قد استوفاها و أتلفها، فلم يقع الإتلاف على مال الغير، فمع جريان قاعدة التلف لا يبقى موضوع لقاعدة الإتلاف، و هذا بخلاف العكس، ضرورة أنّ جريان قاعدة الإتلاف لا ينفي موضوع قاعدة التلف و لا يزيله،

فإنّ موضوعها كون العين مبيعة أو مستأجرة، و هذا لا يزول بجريان قاعدة الإتلاف.

و بالجملة: قاعدة التلف موضوعها محقّق على كلا التقديرين، و جريانها لا يبقى موضوعاً لقاعدة الإتلاف أصلًا، فلا محيص عن الأخذ بها و الحكم بالانفساخ، و تحقّق الضمان المعاوضي.

ثانيهما: ثبوت خيار تعذّر التسليم هنا، فإن اختار فسخ العقد يرجع إلى الأُجرة المسمّاة بعد تحقّق الفسخ، و إن اختار الإمضاء تكون المنفعة المستوفاة ملكاً له قد أتلفها المؤجر، فهو ضامن نظراً إلى قاعدة الإتلاف.

و قد تنظّر في هذا الوجه المحقّق الرشتي قدس سره بقوله: «و فيه نظر؛ لأنّ تعذّر التسليم ليس من أسباب الخيار المنصوصة، بل من قاعدة نفي الضرر، و هي إنّما تجري إذا لم يكن هناك مغرم و إلّا فلا ضرر، و لأجل ذلك علّل الخيار في الإتلاف بعض أهل

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 267

..........

______________________________

النظر من المعاصرين قدس سره بوجه آخر؛ و هو أنّ وجود المغرم إنّما ينفع في جبران ضرر المالية، و أمّا الغرض المتعلّق بالخصوصية في المعوّض المتلف فلا ينجبر به، و هي صفة مقصودة فوتها سبب للخيار، كفوات سائر الأوصاف المقصودة في العوضين، و فيه نظر؛ لأنّ خصوصية العين ليست من الصفات الزائدة على عنوان المبيع مثلًا، فلا معنى لإجراء قاعدة تخلّف الوصف عند الإتلاف، بل لا بدّ من إجراء قاعدة التلف قبل القبض إن عمّ دليله، و إلّا تعذّر التسليم» «1».

و قد انقدح من جميع ما ذكرنا أنّ الأوفق بالقواعد من الوجوه الثلاثة المتقدّمة هو الوجه الثاني الذي مرجعه إلى لزوم العقد و بقائه على حاله، و رجوع المستأجر إلى المؤجر بالأُجرة الواقعية لقاعدة الإتلاف، و الظاهر عدم كون المسألة إجماعية

حتّى يخاف مخالفة الإجماع و يحكم بغير ما تقتضيه القواعد. هذا كلّه فيما لو كان فوات المنفعة على المستأجر باستيفاء المؤجر.

و أمّا لو فاتت المنفعة تحت يد المؤجر من غير تصرّف و استيفاء، كما إذا امتنع من تسليم العين المستأجرة و لم يستوف هو أيضاً المنفعة أصلًا، فالظاهر أنّ الحكم فيه أيضاً هو ضمان أُجرة مثل المنفعة. غاية الأمر أنّ سبب الضمان في الصورة المتقدّمة كان هو الإتلاف، و في هذه الصورة قاعدة اليد، فالافتراق بين الصورتين إنّما هو في سبب الضمان، بل يمكن أن يقال بشمول دليل الإتلاف «2» لهذه الصورة أيضاً، نظراً إلى أنّه لا فرق في تحقّق معنى الإتلاف بين أن يكون بإعدام الموجود أو بالمنع من الوجود.

______________________________

(1) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 299 300.

(2) راجع القواعد الفقهية للمؤلّف دام ظلّه: 1/ 45.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 268

..........

______________________________

و كيف كان، فلا خفاء في ثبوت ضمان أُجرة مثل المنفعة الفائتة تحت يد المؤجر.

و أمّا قاعدة التلف، فقد عرفت عدم شمولها لمثل المقام من التلف الاختياري، و لأجله يشكل الحكم فيما لو فاتت المنفعة من دون أن يكون تحت يد المؤجر، كما إذا آجر دابّة مرسلة خارجة عن يد المؤجر، ثمّ حبس المستأجر القادر على أخذها و التسلّط عليها، و منعه عن استيفاء المنفعة إلى آخر المدّة، أو آجر الدابّة الشاردة المتمكّن من إعادتها فأهمل في إعادتها حتّى مضت المدّة.

وجه الإشكال أنّه لا تجري هنا قاعدة الإتلاف كما هو المفروض، و لا قاعدة اليد كما هو أيضاً كذلك، و لا قاعدة التلف الحاكمة بالانفساخ لعدم كون التلف قهرياً، و هو المأخوذ في موضوعها كما مرّ، و ليس مجرّد عدم قبض

المنفعة بقبض العين في تمام المدّة موجباً للحكم بالانفساخ و ملاكاً له، كما يظهر من المحقّق الإصفهاني قدس سره «1»، فإنّ الانفساخ كما عرفت إنّما يكون على خلاف القاعدة، و إذا فرض عدم شمول دليله لمورد فلأيّ شي ء يحكم بالانفساخ فيه، و ما نحن فيه من هذا القبيل، كما أنّه يرد عليه أيضاً أنّه بعد الاعتراف بأنّ دليل التلف يختص بالتلف القهري، و لا يشمل التلف الاختياري لا يبقى مجال للبحث في أنّ دليل التلف هل يشمل التلف تحت اليد العادية أم لا؟ كما لا يخفى.

و الإنصاف أنّ هذه الصورة من المسألة مشكلة، و اللّازم التأمّل فيها و في كلمات الأعلام سيّما المحقّق المذكور و المحقّق الرشتي 0 «2»؛ لعدم خلوّ كلامهما عن التهافت فراجع.

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 258 259.

(2) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 301.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 269

..........

______________________________

بقي في المسألة فرعان آخران:

الأوّل: لو استوفى المؤجر المنفعة في بعض المدّة و سلم العين المستأجرة بعده إلى المستأجر، فبالإضافة إلى المنفعة الفائتة الماضية تجري الوجوه الثلاثة المتقدّمة؛ من الانفساخ، و ثبوت اجرة المثل، و الخيار. نعم، يمتاز المقام عن المسألة المتقدّمة بما أفاده المحقّق الرشتي قدس سره؛ من أنّه على الانفساخ يثبت له خيار تبعّض الصفقة في الباقي «1»، و ظاهره اختصاص ثبوت خيار التبعّض بمبنى الانفساخ فقط، و أمّا على المبنيين الآخرين فلا وجه لثبوت هذا الخيار أصلًا، و ذلك لأنّ التبعّض في أثر العقد و هو الملك إنّما تحقّق في خصوص المبنى الأوّل، فإنّ المعقود عليه ملك المجموع، فإذا انفسخ في البعض منه يلزم التبعّض في الملك، فله الخيار، بخلاف ما إذا قلنا بثبوت اجرة المثل

على عهدة المؤجر، فإنّه لم يتحقّق التبعّض في أثر العقد حينئذٍ، بل ثبوت ملك الأُجرة مؤكّد لبقاء أثر العقد، و كذا إذا قلنا بثبوت خيار تعذّر التسليم، فإنّه لا ينافي أثر العقد بل مؤكّد لبقائه.

و لكنّه ذكر المحقّق الأصفهاني أنّ هذا مبنيّ على قصر خيار التبعّض على التبعّض في الملك، و أمّا إذا كان أعمّ منه و من التبعّض في الغرض المعاملي؛ و هو الانتفاع بالمجموع، فالتبعّض في الغرض كما يجري على مبنى الانفساخ كذلك على مبنى التغريم، فإنّ الملاك فوات الانتفاع بالمجموع مع تعلّق الغرض المعاملي به، فلزوم العقد و قصر الانتفاع على التبعّض ضرر لا ينجبر إلّا بالخيار في فسخ العقد رأساً. قال: و منه تبيّن أنّ خيار التعذّر في الفائت لا يكون جبراً لهذا الضرر، ثمّ استشهد على كون الموجب للخيار هو التبعّض في الغرض المعاملي بما حقّق في البيع؛ من أنّه

______________________________

(1) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 300.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 270

..........

______________________________

إذا تعذّر تسليم بعض المبيع دون بعض كان له الخيار بفسخ العقد رأساً، مع أنّ تعذّر البعض لا يوجب خروجه عن الملك، بل لا يوجب إلّا التبعّض في الغرض المعاملي «1».

و يمكن أن يناقش فيما أفاده بأنّ ما حقّق في البيع إنّما هو ثبوت الخيار عند تعذّر تسليم بعض المبيع، و أمّا أنّ هذا الخيار هو خيار التبعّض فلم يتحقّق، بل الظاهر أنّه هو خيار تعذّر التسليم. غاية الأمر أنّه يكفي في ثبوت هذا الخيار تعذّر تسليم بعض المبيع أيضاً، فلا دلالة له على كون الملاك في خيار التبعّض هو التبعّض في الغرض المعاملي، و إن لم يحصل التبعّض في أثر العقد أصلًا، و قد

اعترف هو قدس سره بمثله في المقام، حيث صرّح في ابتداء كلامه بأنّه بالإضافة إلى المنفعة الفائتة في بعض المدّة يجري جميع ما ذكر في تمام المدّة «2»، مع أنّه من جملة ما ذكر في تمام المدّة خيار تعذّر التسليم، فيظهر منه ثبوت هذا الخيار مع تعذّر تسليم البعض كما هو ظاهر.

و كيف كان، فظاهر الأصحاب أنّه على تقدير ثبوت خيار تعذّر التسليم في المقام كما هو أحد الوجوه الثلاثة المتقدّمة إمّا أن يفسخ العقد كلّاً أو يلتزم به كذلك، و قد حكي عن جامع المقاصد «3» و المسالك «4» احتمال صحّة الفسخ في خصوص الماضي، و إن اقتضى تبعّض العقد على المؤجر؛ لأنّه ضرر لحقه بفعله و عدوانه، بل صرّح المحقّق الإصفهاني قدس سره بأنّه إذا كان الخيار لأجل التعذّر فلا بدّ من قصر الفسخ على خصوص المتعذّر و هو الفائت، و لا يصغي إلى دعوى وحدة العقد، فإمّا أن

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 259 260.

(2) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 259.

(3) جامع المقاصد: 7/ 146.

(4) مسالك الأفهام: 5/ 219.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 271

..........

______________________________

يبقى أو ينحلّ كما عن بعض أعلام السادة «1». غاية الأمر أنّه إذا التزم بالعقد فقد تحمّل الضرر بنفسه، و أمّا إذا فسخ العقد في الفائت لزمه تبعّض الملك في الباقي، و هو على الفرض ضرر، فله إعمال الخيار في الباقي، و ليس هذا إقداماً منه على الضرر؛ لأنّ مجرّد تبعّض الملك مع عدم لزومه ليس ضرراً مستقراً لا يتمكّن من دفعه، فاستقرار الضرر و عدم التخلّص عنه مستند إلى حكم الشارع بلزوم العقد في الباقي لا إلى إعمال الفسخ في الماضي، فله

رفعه بإعمال الفسخ في الباقي فتدبّر «2».

أقول: سنذكر في مسألة تلف بعض العين المستأجرة أنّ الإجارة و إن كانت تنحلّ إلى إجارات متعدّدة حسب تعدّد الأبعاض، إلّا أنّه لا منافاة بينه و بين ثبوت الخيار في جميع أبعاضه مع تلف البعض فقط، المستلزم للبطلان أو الانفساخ في خصوص ذلك البعض؛ لأنّ الملاك فيه تعدّد المطلوب مع التوصّل إليه بعقد واحد، و عليه فلا مجال لقصر الفسخ في خيار التعذّر على خصوص الفائت المتعذّر، بل له أن يفسخ في المجموع، بل ليس له الفسخ في البعض أصلًا؛ لأنّه بعد ثبوت الخيار في المجموع لا وجه لتبعّضه أصلًا، فلا تصل النوبة إلى البحث عن ثبوته للمؤجر بعد حصول التبعّض بالإضافة إليه في جانب الأُجرة، أو ثبوته بالإضافة إلى الباقي لحصول التبعّض للمستأجر بالنسبة إليه، كما أنّه لو وصلت النوبة إلى هذين الأمرين يكون مقتضى القاعدة ثبوته للمؤجر، و عدوانه و ظلمه لا يرفع الحكم الوضعي الثابت له.

كما أنّ مقتضى القاعدة عدم ثبوته للمستأجر بالإضافة إلى الباقي؛ لأنّ إعمال

______________________________

(1) راجع العروة الوثقى: 5/ 47 مسألة 10.

(2) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 260.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 272

..........

______________________________

الخيار منه في الماضي فقط إقدام منه على الضرر عرفاً، و ما أفاده من أنّ التبعّض مع عدم اللزوم لا يكون ضرراً مستقراً لا يتمكّن من رفعه مخدوش؛ بأنّ المفروض أنّ عدم اللزوم إنّما يراد إثباته من طريق الضرر، فكيف يدفع به، فتأمّل.

مضافاً إلى النقض بما إذا أقدم المغبون على المعاملة الغبنية مع العلم و الالتفات إلى أصل الضرر و مقداره، فإنّه بناءً على ما أفاده لا يكون مثل هذا الإقدام مانعاً عن ثبوت خيار الغبن

الذي يكون مستنده قاعدة نفي الضرر؛ لأنّ مجرّد المغبونية لا يوجب تحقّق عنوان الضرر إلّا مع ضمّ اللزوم الذي هو حكم الشارع، و مع العلم بالغبن أيضاً يكون الضرر مستنداً إلى حكم الشارع، ضرورة أنّه مع عدم اللزوم لا يكون في البين ضرر مستقرّ لا يتمكّن من دفعه، فتدبّر.

الثاني: لو كان منع المؤجر بعد إقباض العين المستأجرة فالمحكي عن المحقّق و الشهيد الثانيين 0 «1» لزوم العقد و عدم ثبوت الخيار للمستأجر؛ نظراً إلى استقرار العقد بالإقباض المعتبر في المعاوضة و حصول براءة الذمّة للمؤجر، كما إذا استردّ البائع المبيع بعد إقباضه، فإنّ تلفه حينئذٍ لا يوجب الانفساخ، و لا تجري فيه قاعدة التلف قبل القبض، فالمقام نظير ما إذا منعه الأجنبيّ بعد القبض أو غصبه الغاصب كذلك، فكما أنّه لا خيار فيه للمستأجر كذلك فيما نحن فيه.

هذا، و لكن الظاهر ثبوت الفرق بين باب الإجارة و باب البيع، فإنّه هناك يتحقّق قبض المبيع بإقباض البائع، و لا يكون استرداده منافياً لتحقّق القبض المانع عن الانفساخ، و الموجب لخروج البائع عن ضمان المبيع، و أمّا هنا فقبض المنافع و إن كان يتحقّق بقبض العين، إلّا أنّه حيث تكون المنافع تدريجية الوجود لا يكفي

______________________________

(1) جامع المقاصد: 7/ 148، مسالك الأفهام: 5/ 219، الروضة البهية: 4/ 352.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 273

[لو آجرت الدابّة فشردت]

مسألة 18: لو آجر دابّة من زيد فشردت بطلت الإجارة، سواء كان قبل التسليم أو بعده في أثناء المدّة إن لم يكن بتقصير من المستأجر في حفظها (1).

______________________________

إقباض العين في زمان في إقباض المنافع مطلقاً، بل يحتاج إقباض المنافع في جميع مدّة الإجارة إلى قبض العين و إبقائها تحت

يد المستأجر في تلك المدّة، فاستردادها يمنع عن تحقّق إقباض المنفعة بعده، و عليه فيكون منع المؤجر بعد الإقباض مساوياً من حيث الحكم لمنعه قبله، فتجري فيه الوجوه الثلاثة المتقدّمة؛ و هي الانفساخ و ثبوت اجرة المثل و التخيير بين الأمرين، و قد عرفت منّا الإشكال في جريان قاعدة التلف لمثل هذه الفروض، و لكن ربما يشكل جريانها من ناحية أُخرى؛ و هي أنّ مورد قاعدة التلف إنّما هو البيع، و لحوق الإجارة به إنّما كان مستنداً إلى الإجماع، و مع ثبوت الاختلاف في هذه الفروض لا إجماع، فلا مجال لقاعدة التلف أصلًا.

و لكن يمكن دفع هذا الإشكال بأنّه لا منافاة بين الأمرين، فإنّ الإجماع انعقد على عدم اختصاص قاعدة التلف بباب البيع، و لا خلاف في هذه الجهة بينهم، و منشأ الاختلاف في هذه الفروض أُمور ترجع إلى مقام التطبيق من جهة كون المنع بعد الإقباض هل يكون تلفاً بعده، أو تلفاً قبل القبض لاختلاف المنفعة و العين في القبض، و من بعض الجهات الأُخر؟ فهذه الاختلافات لا تنافي الإجماع على أصل الإلحاق، كما هو ظاهر.

(1) الظاهر أنّ حكم الدابّة الشاردة حكم تلف العين المستأجرة الذي سيأتي الكلام فيه مفصّلًا، كما أنّ حكم ما إذا كان هناك تقصير من المستأجر في حفظها حكم إتلافها بلحاظ بقاء الإجارة و عدمه، و سيأتي الكلام فيه كذلك إن شاء اللّٰه تعالى.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 274

[لو انقضت المدّة و لم يستوف المستأجرُ المنفعةَ بعد التسليم]

مسألة 19: لو تسلّم المستأجر العين المستأجرة و لم يستوف المنفعة حتّى انقضت مدّة الإجارة، كما إذا استأجر داراً مدّة و تسلّمها و لم يسكنها حتّى مضت المدّة، فإن كان ذلك باختيار منه استقرّت عليه الأُجرة.

و في حكمه ما لو بذل المؤجر العين المستأجرة فامتنع المستأجر عن تسلّمها و استيفاء المنفعة منها حتّى انقضت. و هكذا الحال في الإجارة على الأعمال، فإنّه إذا سلّم الأجير نفسه و بذلها للعمل و امتنع المستأجر عن تسلّمه كما إذا استأجر شخصاً يخيط له ثوباً معيّناً في وقت معيّن و امتنع من دفعه إليه حتّى مضى الوقت فقد استحقّ عليه الأُجرة، سواء اشتغل الأجير في ذلك الوقت مع امتناعه بشغل آخر لنفسه أو غيره أو بقي فارغاً، و إن كان ذلك لعذر بطلت الإجارة، و لم يستحقّ المؤجر شيئاً من الأُجرة إن كان ذلك عذراً عامّاً لم تكن العين معه قابلة لأن تستوفى منها المنفعة، كما إذا استأجر دابّة للركوب إلى مكان فنزل ثلج مانع عن الاستطراق، أو انسدّ الطريق بسبب آخر، أو داراً للسكنى فصارت غير مسكونة؛ لصيرورتها معركة أو مسبعة و نحو ذلك. و لو عرض مثل هذه العوارض في أثناء المدّة بعد استيفاء المستأجر مقداراً من المنفعة بطلت الإجارة بالنسبة. و إن كان عذراً يختصّ به المستأجر كما إذا مرض و لم يتمكّن من ركوب الدابّة المستأجرة ففي كونه موجباً للبطلان و عدمه وجهان، لا يخلو ثانيهما من رجحان. هذا إذا اشترط المباشرة بحيث لم يمكن له استيفاء المنفعة و لو بالإجارة، و إلّا لم تبطل قطعاً (1).

______________________________

(1) أمّا استقرار الأُجرة في الفرض الأوّل فلفرض تحقّق التسليم من المؤجر

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 275

..........

______________________________

و التسلّم من المستأجر، و صلاحيّة العين للانتفاع بها في مدّة الإجارة، و كون عدم استيفاء المنفعة مستنداً إلى اختيار المستأجر من دون أن يكون هناك مانع عن الاستيفاء، و كذا في

الفرض الثاني الذي بذل المؤجر العين المستأجرة و امتنع المستأجر من تسلّمها و استيفاء المنفعة، فإنّ الملاك في التسليم ما يرتبط بعمل المؤجر و بذله، و لا دخل لتسلّم المستأجر فيه أصلًا.

و هكذا في الإجارة على الأعمال، فإنّه إذا سلّم الأجير نفسه و بذلها للعمل و جعلها باختيار المستأجر لكنّه امتنع عن تسلّمه يكون الأجير مستحقاً للأُجرة، و إن كان العمل المستأجر عليه غير متحقّق في الخارج، فإنّ عدم تحقّقه يكون مستنداً إلى المستأجر الذي امتنع من دفع الثوب مثلًا إليه لا إلى الأجير، و لا فرق في استحقاق الأجير بين أن يبقى فارغاً غير شاغل بشغل أو يشتغل بأمر آخر لنفسه أو غيره، كما لا يخفى.

و أمّا إذا كان عدم الاستيفاء لأجل ثبوت العذر فتارةً يكون العذر عامّاً و أُخرى يكون خاصّاً.

فإن كان العذر عامّاً بحيث تخرج العين معه عن قابلية استيفاء المنفعة كالأمثلة المذكورة في المتن، فإن كان ذلك بالإضافة إلى تمام مدّة الإجارة فالقاعدة تقتضي بطلان الإجارة؛ لعدم كون العين واجدة لجميع الشروط المعتبرة فيها؛ لأنّ من جملة الشروط إمكان استيفاء المنفعة منها، فلا محيص عن الحكم ببطلان الإجارة من رأس.

و إن كان ذلك بالإضافة إلى بعض المدّة، كما لو عرض مثل هذه العوارض في الأثناء بعد استيفاء المستأجر مقداراً من المنفعة أو إمكانه و إن لم يستوف، فتتبعّض الإجارة و تصير باطلة في المدّة الباقية بعد العروض، و في ثبوت الخيار و عدمه ما

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 276

[لو منع الغاصب المستأجر عن استيفاء المنفعة

] مسألة 20: إذا غصب العين المستأجرة غاصب و منع المستأجر عن استيفاء المنفعة، فإن كان قبل القبض تخيّر بين الفسخ و الرجوع بالأُجرة المسمّاة على

المؤجر لو أدّاها، و بين الرجوع إلى الغاصب بأُجرة المثل، و إن كان بعد القبض تعيّن الثاني (1).

______________________________

مرّ و يأتي مفصلًا.

و إن كان العذر خاصّاً فتارةً تكون المباشرة مشروطة في الإجارة و أُخرى لا تكون كذلك.

ففي الصورة الأُولى ربما يحتمل البطلان، نظراً إلى أنّه لا يمكن للمستأجر استيفاء المنفعة بوجه؛ لفرض ثبوت العذر و أخذ قيد المباشرة، و لكنّ الأرجح كما في المتن هو عدم البطلان؛ لأنّ عدم الإمكان للمستأجر لا يخرج العين المستأجرة عن صلاحية الاستفادة و استيفاء المنفعة بوجه، و الملاك في صحّة الإجارة هي صلاحية العين لذلك عرفاً و قابليتها عند العقلاء؛ و هي موجودة في الفرض.

و في الصورة الثانية لا مجال لاحتمال البطلان أيضاً؛ لأنّه يمكن للمستأجر الاستيفاء؛ بأن يؤجرها من آخر لفرض عدم كون المباشرة مشروطة.

(1) أقول: قال المحقّق في الشرائع: و لو منعه ظالم قبل القبض كان بالخيار بين الفسخ و الرجوع على الظالم بأُجرة المثل، و لو كان بعد القبض لم تبطل و كان له الرجوع على الظالم «1».

و الظاهر أنّه ليس مراده من الفسخ هو الفسخ بخيار التعذّر، بل مراده منه هو

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 2/ 186.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 277

..........

______________________________

الانفساخ الذي عبّر عنه في عبارته المتقدّمة فيما لو منعه المؤجر من استيفاء المنفعة بسقوط الأُجرة، و عليه فالتخيير في هذا الفرع عين التخيير في الفرع السابق، و يؤيّد ما ذكرنا من أنّ مراده بالفسخ هو الانفساخ حكمه بعدم البطلان، الظاهر في عدم الانفساخ فيما لو كان منع الظالم بعد القبض، فإنّه مشعر بل ظاهر في أنّ المراد بالفسخ في الصورة الأُولى و هي ما لو كان قبل القبض هو البطلان

بمعنى الانفساخ، و عليه فالظاهر جريان الوجوه الثلاثة المتقدّمة في هذا الفرع أيضاً.

نعم، يمتاز هذا الفرع بأمرين:

أحدهما: أنّه احتمل في مفتاح الكرامة «1» وفاقاً للمسالك «2» جواز الرجوع بأُجرة المثل على المؤجر في الصورة الأُولى أيضاً، لكونه ضامناً للمنفعة ما دام لم يسلّم العين.

و لكنّه مدفوع بأنّه إن أُريد بالضمان ضمان المعاوضة فالمفروض أنّ الرجوع بالأُجرة أعني أُجرة المثل إنّما هو مع عدم الانفساخ الموجب لضمان المؤجر، ضرورة أنّه معه لا يرجع إلّا بالأُجرة المسمّاة. و إن أُريد به ضمان اليد فلا وجه لثبوته في حقّ المؤجر أصلًا، كما هو واضح لا يخفى.

ثانيهما: أنّه ربما يقال: بأنّ تعيّن الانفساخ هنا أظهر من الفرع السابق؛ لأنّ السرقة إذا كانت منزّلة منزلة التلف الموجب للانفساخ كان إتلاف الأجنبي أولى بذلك؛ لأنّ التلف في سرقة الأجنبي إنّما هو لعدم رجاء عوده عادةً، و الإتلاف موجب لامتناع عوده عقلًا؛ لأنّ المنفعة المحدودة بزمان خاصّ يستحيل عودها

______________________________

(1) مفتاح الكرامة: 7/ 158.

(2) مسالك الأفهام: 5/ 218.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 278

..........

______________________________

بعد فواتها، لاستحالة إعادة المعدوم، و هذا لا يوجب أن يكون إتلاف المؤجر كذلك؛ لأنّ التلف من البائع إذا كان مقصوراً على القهري، فهذا الإتلاف بالنسبة إلى البائع أو المؤجر اختياري لا قهري، بخلاف سرقة الأجنبي أو إتلافه، فإنّهما بالنسبة إلى البائع قهري، و قد يقال: بأنّ وجه التخيير هنا أيضاً أقوى من الفرع السابق؛ نظراً إلى أنّ صدق التعذّر هنا أوضح من ذلك الفرع، فإنّه إذا كان الإتلاف من الأجنبي الظالم يتحقّق عنوان التعذّر الموجب للخيار، و هذا بخلاف ما إذا كان الإتلاف من البائع أو المؤجر، فإنّه لا يصدق عنوان التعذّر كما هو

ظاهر.

و لكنّه مندفع بما أُفيد من أنّه كذلك إذا كان المدار على عنوان التعذّر بدليل لفظي، و أمّا إذا كان المدار على ضررية لزوم البيع من جهة عدم إمكان التسليم فالميزان هو الضرر الناشئ من التعذّر من دون فرق بين أسبابه.

و قد تبيّن ممّا ذكرنا أنّ الأوفق بالقواعد في هذا الفرع هو تحقّق الانفساخ، و تعيّنه لدلالة رواية عقبة «1» على ذلك بطريق أولى كما ذكرنا، و إن كان الأوفق بها في الفرع المتقدّم هو تعيّن الرجوع إلى المؤجر بأُجرة المثل، و مقتضى الانفساخ في المقام ضمان المؤجر للمستأجر بضمان المعاوضة، و ضمان الأجنبي للمؤجر بضمان اليد، فتدبّر.

________________________________________

لنكرانى، محمد فاضل موحدى، تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، در يك جلد، مركز فقهى ائمه اطهار عليهم السلام، قم - ايران، اول، 1424 ه ق

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة؛ ص: 278

هذا كلّه فيما لو كان منع الظالم قبل القبض. و أمّا لو كان المنع بعده، فقد عرفت أنّ عبارة الشرائع صريحة في تعيّن الرجوع إلى الظالم بأُجرة مثل المنفعة.

و ربّما يشكل الفرق بين هذا المقام الذي فصّل فيه في الشرائع بين القبض و عدمه، و بين المقام المتقدّم؛ و هو منع المؤجر الذي أطلق فيه الحكم، وجه

______________________________

(1) الكافي: 5/ 171 ح 12، التهذيب: 7/ 21 ح 89 وص 230 ح 1003، وسائل الشيعة: 18/ 23، كتاب التجارة، أبواب الخيار ب 10 ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 279

..........

______________________________

الإشكال أنّه إن كان قبض العين كافياً في قبض المنافع مع تدرّجها في الوجود، و لم يكن قبض العين في كلّ زمان قبضاً لمنفعتها في ذلك الزمان، بل

كان قبضها فيه قبضاً للمنفعة في جميع المدّة، فاللّازم التفصيل في المقام المتقدّم أيضاً بين صورتي القبض و عدمه و إن لم يكن قبض العين كافياً في قبض المنفعة في جميع المدّة، بل كان قبضها في كلّ زمان قبضاً لمنفعتها في ذلك الزمان، فاللّازم أن لا يفصّل في هذا المقام أيضاً بين الصورتين؛ لأنّ منع الظالم و لو كان بعد القبض يمنع عن تحقّق القبض بالإضافة إلى المنفعة فيما بعد المنع من المدّة، فالجمع بين الإطلاق في ذلك المقام و التفصيل في هذا المقام لا وجه له.

و قد أجاب عن هذا الإشكال المحقّق الرشتي قدس سره بما هذه عبارته: «إنّ ما تقدّم في منع المؤجر بعد القبض من عدم كفاية قبض العين في قبض المنافع لكونها تدريجية لا يأتي في المقام؛ لأنّه إنّما لا يكفي إذا انتزع العين هو من يد المستأجر، فإنّ انتزاعه ينافي القبض المعتبر في المنفعة المستقبلة، لأنّ القبض هو التخلية التامّة، و هي لا تحصل مع الغصب بعد القبض، و أمّا إذا كان الغاصب غير المؤجر فمن جانبه حصل التخلية التامّة و الإقباض الكامل، فيلزم العقد» «1».

و يظهر من هذه العبارة أنّ الفارق بين المقامين حصول القبض و عدمه، نظراً إلى أنّه عبارة عن التخلية التامّة، المنافية لمنع المؤجر و غير المنافية لمنع الغاصب الأجنبي، ففي الحقيقة منع المؤجر و غصبه مانع عن أصل تحقّق القبض بخلاف منع الأجنبي.

و أورد على هذا الجواب المحقّق الإصفهاني قدس سره بما يرجع إلى أنّ التخلية و إن كانت

______________________________

(1) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 302.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 280

..........

______________________________

تامّة كاملة لا تكفي في الخروج عن ضمان المعاوضة، و الدليل

عليه رواية عقبة بن خالد المشتملة على أنّه اشترى المتاع و تركه عنده، فإنّ الظاهر أنّ تمكين البائع مفروض، و المشتري أبقاه على حاله بالاختيار، و مع ذلك حكم بالضمان بسرقة المتاع «1».

و الحقّ كما أفاده من أنّ وجه الفرق بين المقامين ينشأ من الفرق بين حدوث القبض و بقائه، فانّ الإقباض حدوثاً إيجاد الاستيلاء على العين، و بقاءً إدامته على حاله بعدم استرداده، فمنع المؤجر في الأثناء مضادّ للإدامة، فينافي تحقّقه بقاءً، بخلاف منع الأجنبي، فإنّ المؤجر لم يتحقّق منه ما يضادّ إدامة العين تحت يده، و لا يجب عليه التحفّظ على ما أقبضه بمنع الظالم للمستأجر، فلا وجه لانفساخ العقد، بل لا بدّ من رجوع المستأجر إلى الغاصب لأخذ أُجرة المثل لأنّه ضامن.

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 264.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 281

[تلف العين المستأجرة و إتلافها

] مسألة 21: لو تلفت العين المستأجرة قبل قبض المستأجر بطلت الإجارة، و كذا بعده بلا فصل معتدّ به أو قبل مجي ء زمان الإجارة، و لو تلفت في أثناء المدّة بطلت بالنسبة إلى بقيّتها، و يرجع من الأُجرة بما قابلها؛ إن نصفاً فنصف، أو ثلثاً فثلث و هكذا. هذا إن تساوت اجرة العين بحسب الزمان، و أمّا إذا تفاوتت تلاحظ النسبة، مثلًا لو كانت اجرة الدار في الشتاء ضعف أُجرتها في باقي الفصول، و بقي من المدّة ثلاثة أشهر الشتاء يرجع بثلثي الأُجرة المسمّاة، و يقع في مقابل ما مضى من المدّة ثلثها، و هكذا الحال في كلّ مورد حصل الفسخ أو الانفساخ في أثناء المدّة بسبب من الأسباب. هذا إذا تلفت العين المستأجرة بتمامها، و لو تلف بعضها تبطل بنسبته من أوّل الأمر

أو في الأثناء بنحو ما مرّ (1).

______________________________

(1) في هذه المسألة فروع لا بدّ من التكلّم فيها: تلف العين المستأجرة و إتلافها الأوّل: تلف العين المستأجرة قبل إقباضها من المستأجر، و الظاهر أنّه موجب للبطلان، و قد نفى صاحب الجواهر قدس سره وجدان الخلاف فيه «1»، حاكياً للاعتراف به عن محكي التذكرة «2»، و قد وقع الإشكال في الدليل على ذلك في باب الإجارة؛ لأنّ النبويّ المعروف «3» و خبر عقبة بن خالد المعروف «4» في كتاب البيع قد ورد كلّ منهما في باب البيع، فلا يبقى وجه للإلحاق إلّا الفحوى أو تسالم الأصحاب.

______________________________

(1) جواهر الكلام: 27/ 277.

(2) تذكرة الفقهاء: 2/ 322.

(3) عوالي اللئالي: 3/ 212 ح 59، مستدرك الوسائل: 13/ 303، كتاب التجارة، أبواب الخيار ب 9 ح 1.

(4) الكافي: 5/ 171 172 ح 12، التهذيب: 7/ 21 ح 89 وص 230 ح 1003، وسائل الشيعة: 18/ 23، كتاب التجارة، أبواب الخيار ب 10 ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 282

..........

______________________________

نعم، قال في الجواهر: قد يقال: إنّ الوجه في التعدية المزبورة مع اختصاص الدليل بالبيع هو بناء أمثال هذه العقود على المعاوضة الشرعية و العرفية التي هي بمعنى تبديل سلطنة بسلطنة، بل لعلّ ذلك من مقوّماتها، فتعذّره حينئذٍ يقتضي انتفاءها «1».

و أورد على هذا الوجه المحقّق الإصفهاني قدس سره بما حاصله: أنّه إن كان الغرض أنّ عقد البيع بمدلوله المطابقي يقتضي الاستيلاء الاعتباريّ و الخارجي معاً ففيه: أنّ مدلول البيع تسبيبيّ يتسبّب إليه بالعقد الإنشائي، و السلطنة الفعلية الخارجية تستحيل أن توجد بسبب إنشائيّ، و إن كان الغرض أنّ حصول الملكيّة الشرعية يتوقّف على حصول السلطنة الفعلية المتحقّقة بالقبض فهو

أمر معقول، إلّا أنّه لا دليل عليه إلّا في باب الصرف و السلم فقط، و لا دليل على اعتبار القبض في غيرهما من أنواع البيع فضلًا عن سائر المعاوضات، مع أنّ مقتضى ذلك عدم تماميّة المعاوضة قبل القبض، و المعروف في التلف قبل القبض انفساخ العقد بالتلف بعد انعقاده و تأثيره «2».

أقول: يمكن الجواب عنه بأنّه هنا احتمال ثالث؛ و هو أنّ الغرض الأصلي و المطلوب الأوّلي في باب المعاملات المعاوضية هو تحقّق السلطنة و الاستيلاء الخارجي، من دون أن يكون ذلك مدلولًا مطابقياً للعقد حتّى يمنع ذلك، نظراً إلى استحالة تحقّق السلطنة الخارجية بسبب إنشائيّ، و من دون أن يكون حصول الملكيّة الاعتبارية متوقّفاً على حصول السلطنة في الخارج حتّى يمنع ذلك؛ لأجل

______________________________

(1) جواهر الكلام: 27/ 277.

(2) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 171.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 283

..........

______________________________

عدم الدليل عليه في غير الصرف و السلم، بل من جهة كون بناء المعاملة و المعاوضة على حصول ذلك، و لأجله يقال بوجوب التسليم و التسلّم؛ لما عرفت من أنّه من مقتضيات نفس المعاملة لا الملكيّة المترتّبة عليها، و حينئذٍ يصحّ أن يقال: إنّه مع امتناعه و تعذّره لا يبقى مجال لبقاء المعاملة و استمرارها.

و كيف كان، فقد وقع الإشكال و الخلاف في وجه الحكم ببطلان الإجارة، الظاهر في الانفساخ بعد الانعقاد فيما إذا تلفت العين قبل القبض، و لكن جماعة من المحقّقين تصدّوا لبيان الوجه لذلك بما لا ينتج الانفساخ، بل عدم الانعقاد من رأس، منهم: المحقّق الإصفهاني قدس سره، حيث قال ما ملخّصه: إنّ المملوك بالبيع هي العين، و هي موجودة قارّة حال تأثير العقد في تمليكها المشتري، فعند

عروض التلف له يكون ملكاً للمشتري، فتلفها من مال البائع بانفساخ العقد قبل التلف آناً ما حتّى يكون تالفاً من مال البائع لا محالة يتوقّف على دليل خاصّ، بخلاف المملوك بعقد الإجارة، فإنّها المنفعة و هي تدريجية، فإذا لم يكن في المدّة المضروبة منفعة لفرض تلف العين فلا شي ء حتّى يملك أو يملّك.

نعم، هذا في التلف الحقيقي، و أمّا في التلف التنزيلي فحال الإجارة حال البيع في كون الانفساخ على خلاف القاعدة «1».

و يرد عليه مضافاً إلى ما عرفت من عدم إفادة هذا الوجه لإثبات الحكم المشهور؛ و هو الانفساخ قبل التلف آناً ما-: أنّ مقتضى ذلك عدم جواز تقدير المنفعة حال العقد، و الحكم بثبوت ملكيتها بسبب العقد، ضرورة أنّه إذا كانت

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 172، و راجع جواهر الكلام: 27/ 278، و كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 233- 234.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 284

..........

______________________________

المنفعة المعدومة حال العقد قابلة لفرض وجودها و تقديرها حينه مقدّمة لاعتبار الملكيّة، كما أفادوه في مقام الردّ على أبي حنيفة «1» القائل بتوقّف الملكيّة على وجود المنفعة في الخارج، فمع تقديرها و الحكم بعروض الملكيّة لها بسبب العقد لا مجال لجعل التلف قبل القبض كاشفاً عن عدم انعقاد الإجارة من رأس، بحيث يكون مرجعه إلى أنّ من شرائط تأثير الإجارة في حدوث الملكيّة، و حصول أصل النقل و الانتقال بقاء متعلّقها الذي هو العين إلى زمان تحقّق القبض.

و هذا مع أنّه لا دليل عليه ممّا لا يساعده العرف و العقلاء. بل غاية الأمر أنّ التلف قبل القبض عندهم مانع عن استمرار أثر الإجارة و دوام تأثيرها، فهل الإجارة في هذه الصورة عندهم

بمنزلة وقوع البيع على عين شخصية بتخيّل وجودها في الخارج مع انكشاف تلفها حال البيع؟ و من الواضح أنّه لا مشابهة بين المقامين عند العقلاء، بل الظاهر عندهم عدم انعقاد الثاني بخلاف الأوّل، فإنّه انعقد صحيحاً و لم يستمرّ.

هذا، مضافاً إلى أنّه من البعيد جدّاً خفاء هذا المعنى على المحقّقين من الفقهاء، حتّى يحكموا من أجله بالبطلان حين التلف الظاهر في الانفساخ، دون عدم الانعقاد من رأس على ما هو مقتضي هذا الوجه، فلا بدّ حينئذٍ من التفحّص عن وجه حكمهم بذلك في هذا المقام، بل الظاهر عدم اختصاص اتّحاد هذا المقام مع باب البيع بخصوص هذا الحكم، كما استظهره صاحب الجواهر أيضاً، حيث قال: ظاهر الأصحاب في المقام اتّحاد الحكم في المقامين، و أنّ المنفعة هنا بمنزلة المبيع و الأُجرة هنا بمنزلة الثمن، و من هنا يتّجه جريان جميع ما تقدّم هناك في المقام، كالبحث عن

______________________________

(1) الخلاف: 3/ 489 مسألة 3، المغني لابن قدامة: 6/ 13، المبسوط للسرخسي: 15/ 109.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 285

..........

______________________________

تلف الثمن المعيّن، و عن التلف بغير الآفة السماوية، كتلف الأجنبي و البائع و المشتري، و عن تقييد الحكم بما إذا لم يكن عدم القبض من امتناع المستحقّ أو بسؤاله البقاء في يد البائع، و غير ذلك ممّا تقدّم هناك، فلاحظ و تأمّل «1».

و الظاهر أنّ مقتضى إمعان النظر و إعمال الدقّة هو أنّ الوجه في التعدية ليس إلّا إلغاء الخصوصية من الدليل الوارد في باب البيع، بضميمة استفادتهم من ذلك الدليل الانفساخ كما ذكروا هناك «2». نعم، يقع الإشكال حينئذٍ في أنّ الحكم الذي يكون على خلاف القاعدة لا مجال لإلغاء الخصوصية عن

مورده، بل لا بدّ من الاقتصار على خصوص محلّه.

و يمكن دفع الإشكال بأنّ المراد من القاعدة التي يكون الحكم بالانفساخ مخالفاً لها إن كان هي قاعدة كون التلف من مال مالكه، فمع كونه ملكاً للمشتري عند التلف لا مجال للحكم بكونه من مال البائع مع فرض تماميّة العقد و تأثيره في حصول الملكيّة التامّة، ففيه: أنّ مرجع الحكم بالانفساخ إلى اشتراط بقاء العين إلى زمان القبض في بقاء أثر العقد و استمرار تأثيرها، و إلّا فلا يعقل الحكم بالانفساخ أصلًا، فمع فقدان هذا الشرط لا سبيل إلّا للحكم بالانفساخ، و لا يكون على خلاف القاعدة.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ مرجع الاشتراط ليس إلى الانفساخ الذي هو مرادهم، فإنّ اشتراط بقاء العين إلى زمان القبض في بقاء أثر العقد و استمرار صحّته، معناه أنّه مع فقد هذا الشرط لم تكن الإجارة من أوّل الأمر مؤثِّرة في البقاء، لا أنّها كانت

______________________________

(1) جواهر الكلام: 27/ 277.

(2) رياض المسائل: 5/ 127، مفتاح الكرامة: 4/ 596، كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري: 6/ 270.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 286

..........

______________________________

من حيث التأثير تامّة ثمّ عرض لها الانفساخ، كما لا يخفى.

و إن كان المراد هو الإطلاق الذي يكون الاشتراط مخالفاً له ففيه: أنّ الاشتراط و الحكم باعتبار شي ء في تأثير العقد حدوثاً أو بقاءً ليس من الخلاف بوجه حتّى لا يجوز إلغاء الخصوصية من مورده إلّا مع بيّنة قويّة، كما هو ظاهر.

فالإنصاف أنّ حكمهم بثبوت الملكيّة التامّة بالنسبة إلى المنفعة و الأُجرة معاً بمجرّد العقد كما أشبعنا الكلام فيه فيما تقدّم «1» دليل على أنّ العقد كامل من حيث حدوث التأثير، و لا يتوقّف على ملاحظة بقاء العين

إلى زمان القبض، فالتلف قبله لا بدّ من أن يكون موجباً للانفساخ لا البطلان من رأس، فتدبّر.

و يؤيّد الانفساخ أنّه فيما إذا كانت المنفعة عيناً من الأعيان كما في إجارة الأشجار ذات الثمرة بناءً على صحّة إجارتها لا مجال لدعوى كون التلف كاشفاً عن عدم ملكيّة المنفعة لعدم ثبوتها، ضرورة أنّ المنفعة فيها تكون من الأعيان الموجودة في الخارج، و التلف لا يكشف عن عدم دخولها في ملك المستأجر، بل تكون حينئذٍ كالمبيع في باب البيع، فدعوى البطلان من رأس على فرض تماميتها لا تجري في مثل هذا الفرض.

الثاني: تلف العين المستأجرة بعد العقد و القبض بلا فصل، و ظاهرهم الانفساخ في هذه الصورة أيضاً، و أنّها متّحدة مع الصورة الاولى في الحكم. قال في الجواهر في مقام التعليل للاتّحاد: إنّ المنفعة هي التي بمنزلة المبيع، و لا ريب في تحقّق تلفها قبل قبضها، و إن كان بعد قبض العين التي تستوفى منها، و ليس في الأدلّة ما يقضي بأنّ قبض العين قبض للمنفعة بالنسبة إلى ذلك، و إن كان هو كذلك بالنسبة إلى

______________________________

(1) في ص 235 و 242.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 287

..........

______________________________

استحقاق تسليم الأُجرة و نحوه «1». و تبعه في هذا المحقّق الرشتي قدس سره «2».

و أورد على كليهما المحقّق الإصفهاني قدس سره بأنّ القبض الذي يستحقّ به الأُجرة قبض المنفعة، و قبض العين مقدّمة له، و حيث لا منفعة فلا قبض لأحد طرفي المعاوضة، بل اللّازم إبقاء العين تحت يده في تمام المدّة حتى يكون إقباضاً لتمام المنفعة حتّى يستحقّ مطالبة الأُجرة تماماً «3».

و أنت خبير بأنّ الحكم بتوقّف استحقاق مطالبة تمام الأُجرة على كون العين

تحت يده في تمام المدّة المضروبة مخالف لما هو الثابت عندهم؛ من ثبوت استحقاق مطالبة تمام الأُجرة بمجرّد تسليم العين، كما عرفت الكلام فيه فيما تقدّم «4».

الثالث: تلف العين المستأجرة بعد القبض في أثناء المدّة المضروبة، و المشهور «5» أنّه يصحّ فيما مضى و يبطل في الباقي، معلّلًا له في الجواهر بأنّه كتلف بعض المبيع يعني قبل القبض و عليه فيرجع من الأُجرة بما قابل المتخلّف من المدّة «6»، و ظاهر المشهور أنّ المراد بالبطلان هو الانفساخ الذي حكموا به في الفرعين المتقدّمين، و يؤيّده تعبير بعضهم بذلك كالعلّامة «7» فيما حكي عنه، و مرجعه إلى أنّ العقد كان صحيحاً تامّاً، و بالتلف في الأثناء يعرض له الانفساخ، كالتلف قبل القبض أو بعده بلا فصل، و لكن بناءً على مبنى الجماعة المتقدّمة في الفرع الأوّل لا بدّ أن يقال: بأنّ

______________________________

(1) جواهر الكلام: 27/ 278.

(2) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 235.

(3) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 172 173.

(4) في ص 251 254.

(5) المبسوط: 3/ 223، شرائع الإسلام: 2/ 183، مسالك الأفهام: 5/ 196.

(6) جواهر الكلام: 27/ 278 279.

(7) تذكرة الفقهاء: 2/ 322.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 288

..........

______________________________

المراد من البطلان في الباقي عدم انعقاد الإجارة بالإضافة إليه من أوّل الأمر؛ لعدم ثبوت هذا المقدار من المنفعة في وعاء ثبوته، فلا معنى لتعلّق التمليك به بالعقد.

و على هذا المبنى لا يحتاج الحكم بالبطلان إلى تكلّف إقامة الدليل، بخلاف مبنى المشهور، مضافاً إلى جريان المناقشة في إمكانه على ما عرفت في الفرع الأوّل، فإنّ الحكم بالانفساخ لا بدّ و أن يكون مسبّباً عن خلل فيما يشترط في تأثير عقد الإجارة بقاءً؛ ضرورة أنّه مع

تماميّة الجهات المعتبرة في التأثير حدوثاً و بقاءً لا يبقى موقع للحكم بالانفساخ و عروض البطلان، فالحكم به يكشف عن الخلل في شي ء من الأُمور المعتبرة في التأثير بقاء، و مع وجود هذا الخلل لا بدّ من الحكم بعدم تأثير الإجارة من أوّل الأمر في البقاء، لا التأثير ثمّ الانفساخ.

و بالجملة: فالانفساخ بالمعنى الذي أفتى به المشهور تصوّره لا يخلو عن الإشكال، إلّا أن يقال: بإمكان تصوّره في خصوص باب الإجارة، من جهة أنّ قوام الإجارة إنّما هو بوجود العين المستأجرة، فمع فرض تلفها بعد الإجارة و قبل انقضاء مدّتها لا مجال لاعتبار بقائها عند العقلاء، من دون أن يكون ذلك من جهة الخلل في شرائط التأثير.

و كيف كان، فقد وقع الإشكال في مدرك حكم المشهور بالانفساخ في التلف في الأثناء، و ما يمكن أن يكون وجهاً له أحد أُمور:

أوّلها: ما أفاده في الجواهر: من أنّ التلف في الأثناء بمنزلة تلف بعض المبيع الذي يوجب الانفساخ بالإضافة إلى خصوص التالف «1»، و منشأ هذا الوجه ما تقدّم «2»

______________________________

(1) جواهر الكلام: 27/ 278 279.

(2) في ص 285.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 289

..........

______________________________

من إلغائهم الخصوصية عن الدليل الوارد في البيع، و لكن دعوى عدم تحقّق القبض بالنسبة إلى المنفعة الباقية ممنوعة، فتدبّر.

ثانيها: ما حكي عن بعض أجلّة السادة «1» من أنّ بطلان الإجارة في المقام مستند إلى تعذّر التسليم، ضرورة أنّه مع عدم ثبوت هذا المقدار من المنفعة كيف يمكن تعلّق التسليم به على ما هو ظاهر.

و يرد عليه مضافاً إلى أنّ لازم ذلك البطلان من رأس لا الانفساخ العارض: ما أورد عليه المحقّق الإصفهاني قدس سره من أنّ مقسم القدرة و

العجز هو تسليم الملك، و حيث لا ملك فلا موضوع للتسليم حتّى يوصف بالقدرة عليه تارةً و بالعجز عنه اخرى «2».

ثالثها: انحلال الإجارة بحسب النوع و الغالب إلى إجارات متعدّدة حسب تعدّد المطلوب، فإنّ من يستأجر داراً مثلًا سنة لا يكون له مطلوب واحد و هو سكنى الدار في مجموع السنة، بحيث لو نقص عنها شهر مثلًا لم يتحقّق المطلوب بوجه أصلًا، و عليه فمرجع الانفساخ إلى بطلان الإجارة التي تعلّقت بالمدّة الباقية، و صحّة الإجارة المتعلّقة بالمدّة الماضية، و على هذا الوجه لا مجال للحكم بذلك إلّا في موارد تعدّد المطلوب، مضافاً إلى أنّ مقتضى ذلك هو البطلان من رأس.

رابعها: ما قيل من دلالة طائفة من النصوص عليه:

منها: صحيحة محمّد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: إنّي كنت عند قاضٍ من قضاة المدينة، و أتاه رجلان فقال أحدهما: إنّي اكتريت من هذا دابّة

______________________________

(1) الحاكي هو المحقّق الأصفهاني في بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 175.

(2) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 175.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 290

..........

______________________________

ليبلغني عنها من كذا و كذا إلى كذا و كذا بكذا و كذا، فلم يبلغني الموضع، فقال القاضي لصاحب الدابّة: بلغته إلى الموضع؟ فقال: لا، قد أعيت دابّتي فلم تبلغ، فقال له القاضي: ليس لك كراء إذا لم تبلغه إلى الموضع الذي اكترى دابّتك إليه، قال: فدعوتهما إليّ، فقلت للذي اكترى: ليس لك يا عبد اللّٰه أن تذهب بكراء دابّة الرجل كلّه، و قلت للآخر: يا عبد اللّٰه ليس لك أن تأخذ كراء دابّتك كلّه، و لكن انظر قدر ما بقي من الموضع و قدر ما أركبته، فاصطلحا عليه ففعلا «1».

و دلالتها على ثبوت التقسيط بالنسبة إلى الأُجرة المسمّاة و الكراء المعيّن الذي هو لازم التفكيك من حيث الصحّة فيما مضى و البطلان فيما بقي واضحة لا مجال للخدشة فيها، إلّا أنّه لا دلالة لها على خصوص الانفساخ الذي هو مذهب المشهور كما هو غير خفي، و إن كان لا يترتّب على هذه الجهة ثمرة مهمة.

و منها: رواية أبي شعيب المحاملي الرفاعي قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن رجل قبل رجلًا حفر بئر عشر قامات بعشرة دراهم، فحفر قامة ثمّ عجز، فقال: له جزء من خمسة و خمسين جزءاً من العشرة دراهم «2». و بطريق آخر عنه قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن رجل قبل رجلًا أن يحفر له عشر قامات بعشرة دراهم، فحفر له قامة ثمّ عجز، فقال: تقسّم عشرة على خمسة و خمسين جزءاً، فما أصاب واحداً فهو للقامة الأُولى، و الإثنان للثانية، و الثلاثة للثالثة، و على هذا الحساب إلى العشرة «3».

و دلالتها أيضاً على تقسيط الأُجرة المسمّاة ممّا لا خفاء فيه. غاية الأمر أنّها

______________________________

(1) الفقيه: 3/ 21 ح 57، وسائل الشيعة: 19/ 115، كتاب الإجارة ب 12 ح 1.

(2) الكافي: 7/ 422 ح 3، وسائل الشيعة: 19/ 159، كتاب الإجارة ب 35 ح 1.

(3) الكافي: 7/ 433 ح 22، وسائل الشيعة: 19/ 159، كتاب الإجارة ب 35 ح 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 291

..........

______________________________

تدلّ على التقسيط بالنسبة؛ لعدم تساوي أجزاء العمل، و لكنّه ذكر المحقّق في الشرائع: أنّ هذه الرواية مهجورة «1». و قال صاحب الجواهر قدس سره: إنّها مع عدم معرفة طريق الشيخ إلى سهل، و جهالة الرفاعي غير أنّه

من أصحاب الصادق عليه السلام، لم يعمل بها أحد من الأصحاب إلّا ما حكي عن ابن سعيد في الجامع «2»، و مخالفته للضوابط من وجوه، فوجب طرحها إلى أن قال: و يمكن حملها و إن بعد على ما إذا تناسبت القامات على وجه تكون نسبة القامة الاولى إلى الثانية أنّها بقدر نصفها في المشقّة و الأُجرة و هكذا، ثمّ احتمل بعد ذلك التعدّي عن مورد الرواية إلى غيره «3».

و منها: بعض الروايات الواردة في موت الأجير النائب في الحجّ «4»، و لكن الظاهر أنّه لا دلالة لشي ء منها على الجهة المبحوث عنها في المقام، بل هي واردة في مقام بيان صورة الإجزاء عن المنوب عنه و صورة عدمه، أو مع بيان حكم ما لو أفسد الأجير الحجّ و أنّه يلزم عليه الإعادة من ماله، من دون تعرّض لحكم الأُجرة في صورة الموت قبل الإتمام، فراجع.

و قد انقدح من جميع ما ذكرنا أنّ الحكم بالانفساخ كما هو المشهور مضافاً إلى ثبوت الشبهة فيه من حيث الثبوت لا دليل عليه في مقام الإثبات أيضاً؛ لأنّ غاية مفاد الأدلّة تقسيط الأُجرة، و هو لا ينافي الحكم بالبطلان في المدّة الباقية من رأس، بل ليس مقتضى بعض الوجوه إلّا هذا المعنى كما عرفت.

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 2/ 185.

(2) الجامع للشرائع: 297.

(3) جواهر الكلام: 27/ 292.

(4) وسائل الشيعة: 11/ 185 186، كتاب الحج، أبواب النيابة في الحجّ ب 15.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 292

..........

______________________________

الرابع: ما إذا تلفت العين المستأجرة بعد انتهاء مدّة الإجارة و قبل قبضها، و الذي حكاه المحقّق الإصفهاني قدس سره عن بعض أجلّة السادة «1» أنّه مورد الحكم بانفساخ الإجارة أيضاً، ثمّ أورد

عليه بأنّه إن أُريد أنّه بعنوان التلف قبل القبض فهو عجيب؛ إذ لا مملوك للمستأجر بعد انتهاء مدّة الإجارة حتّى ينفسخ العقد و يعود إلى المؤجر و يعود ما بإزائه إلى المستأجر، و إن أُريد رجوع ما مضى من المنفعة غير المقبوضة التي لم يعرضها التلف و لم يستوفها المستأجر فلا موجب له شرعاً و لا عقلًا، و مجرّد عدم قبض المنفعة المملوكة لا يوجب الانفساخ، فشرط الاندراج تحت عنوان التلف قبل القبض أمران: أحدهما: ثبوت منفعة مملوكة، و الآخر: عروض التلف، و لا ملك بعد انتهاء المدّة و إن عرض التلف، و لا تلف بالإضافة إلى ما لم يقبضه و إن كان مملوكاً «2».

أقول: إنّ تأخير القبض إلى انتهاء مدّة الإجارة تارة يكون مستنداً إلى المؤجر و امتناعه عن الإقباض، و أُخرى يكون مستنداً إلى المستأجر فيرجع إلى امتناعه عن التسلّم و إن كان المؤجر باذلًا للعين في كلّ حين. و هنا فرض ثالث؛ و هو امتناع المؤجر بالفعل و امتناع المستأجر على تقدير بذل المؤجر. و فرض رابع؛ و هو ما كان التأخير مستنداً إلى الظالم الغاصب مثلًا.

أمّا الفرض الأوّل، الذي كان التأخير ناشئاً عن امتناع المؤجر فالظاهر أنّه لا مجال فيه للحكم بالانفساخ؛ لعدم جريان قاعدة التلف قبل القبض هنا؛ إمّا لأنّ جريانها في المقام يتوقّف على اتّصاف العين بكونها مستأجرة كاتّصافها بكونها

______________________________

(1) حكى عنه في بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 175.

(2) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 175 176.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 293

..........

______________________________

مبيعة في باب البيع، و من الواضح عدم ثبوت هذا الوصف لها في حال التلف؛ لخروجها عن كونها مستأجرة قبله كما هو المفروض،

و إمّا لما أفاده المحقّق المتقدّم من أنّ المنفعة بالإضافة إلى ما لم يقبضه لم يعرض لها التلف، فكيف يشمله دليل القاعدة.

و ربما يورد على هذا الوجه بأنّه كما تفرض المنفعة المعدومة حال الإجارة موجودة معروضة للملكية، كذلك لا مانع من فرض المنفعة المتحقّقة الماضية قبل التلف معدومة، إذ كما يجوز فرض وجود المعدوم، كذلك يجوز فرض عدم الموجود من دون فرق بينهما.

و لكنّ الظاهر أنّه لا موقع لهذا الإيراد؛ إذ ليس الكلام في الإمكان و الاستحالة، بل في شمول دليل التلف و عدمه، و لا مجال لدعوى الشمول. نعم، يمكن الإيراد على الوجه الأوّل بأنّ قضية التعدّي عن البيع في الدليل الوارد فيه ليست إلّا مقايسة المنفعة بالمبيع لا العين المستأجرة به، و من الواضح أنّ المنفعة المملوكة قد انقضت و التلف عارض بعد انتهاء المدّة، فلا وجه لتوهّم الشمول، بخلاف ما لو كان الموضوع هي العين المستأجرة، فإنّه يمكن دعواه بناءً على كون المشتقّ حقيقة فيما انقضى عنه المبدأ أيضاً.

و كيف كان، فالحكم في هذا الفرض بعد عدم جريان دليل التلف هو ثبوت الخيار من أجل امتناع المؤجر الذي هو بحكم التعذّر الموجب للخيار، فتدبّر.

و أمّا الفرض الثاني، الذي كان التأخير مسبّباً عن امتناع المستأجر من قبض العين فالحكم فيه كالفرض المتقدّم من عدم شمول دليل التلف، بل عدم الشمول هنا ثابت بطريق أولى، كما لا يخفى.

و أمّا من جهة ثبوت الخيار فالظاهر عدمه، بل يثبت عليه الأُجرة المسمّاة،

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 294

..........

______________________________

و لا يجديه التلف بعد الانقضاء بوجه أصلًا.

و أمّا الفرض الثالث: فالحكم فيه إنّما هو كالفرض الأوّل؛ لأنّ التأخير لا يستند فعلًا إلّا إلى المؤجر

كما هناك، و مجرّد امتناع المستأجر على تقدير غير محقّق الوقوع لا يغيّر الحكم كما هو ظاهر.

ثمّ إنّه لو كان التلف في هذه الفروض الثلاثة في أثناء مدّة الإجارة لا بعد انقضائها، ففي الفرض الأوّل تنفسخ الإجارة بالإضافة إلى المدّة الباقية بعد التلف من الأصل، أو من حين التلف على الخلاف المتقدّم، و أمّا بالنسبة إلى المدّة الماضية فالحكم فيه ثبوت الخيار للمستأجر، بناءً على عدم كون الخيار على الفور، و في الفرض الثاني يكون الحكم من حيث الانفساخ كالفرض الأوّل، و أمّا من جهة الخيار فالظاهر عدم ثبوته؛ لعدم امتناع المؤجر على ما هو المفروض، و أمّا الفرض الثالث فالحكم فيه كالفرض الأوّل من كلتا الجهتين.

هذا تمام الكلام في الفروض الثلاثة.

و أمّا الفرض الرابع، الذي يكون التأخير مسبّباً عن أجنبيّ ظالم فصوره كثيرة؛ لأنّ التلف فيه قد يتّفق في أثناء مدّة الإجارة، و قد يتّفق بعد انتهائها، و على التقديرين فتارةً يكون عدم تحقّق القبض لأجل تعلّق الغصب بنفس العين، و أُخرى لأجل منع الظالم المؤجر من الإقباض، و ثالثة لأجل منعه المستأجر من القبض.

أمّا إذا كان التلف في الأثناء و كان السبب لعدم تحقّق القبض غصب الظالم للعين، فالحكم فيه من جهة ما بعد التلف من المنافع الباقية الفائتة يظهر ممّا تقدّم؛ و هو الانفساخ أو البطلان من رأس، و أمّا بالإضافة إلى المنافع الفائتة تحت يد الغاصب، سواء استوفاها الغاصب أم لم يستوفها، فمقتضى ما ذكروه في منع الظالم في غير

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 295

..........

______________________________

صورة التلف أنّ المستأجر مخيّر بين الفسخ و الرجوع بالأُجرة، و بين الرجوع إلى الظالم بعوض ما فات.

و الوجه في ثبوت

خيار الفسخ له هو تعذّر التسليم بسبب الغصب و هو يوجب الخيار، إلّا أنّ ثبوت الخيار في المقام بعد تحقّق التلف مبنيّ على عدم كونه على الفور، أو فرض جهل المستأجر بذلك، فتدبّر.

و أمّا الوجه في الرجوع إلى الظالم مع عدم الفسخ فواضح بعد ضمان الغاصب للمنافع أيضاً، و ربما يحتمل جواز الرجوع إلى المؤجر أيضاً؛ لأنّه يجب عليه ردّ المنافع و تسبيلها بالإضافة إلى المستأجر، و مع عدم الإمكان يكون ضامناً، و لكنّه بعيد، و أبعد منه دعوى جواز الرجوع إلى الغاصب و المؤجر معاً. ثمّ على تقدير جواز رجوعه إلى المؤجر هل يجوز له الرجوع إلى الغاصب؟ فيه إشكال؛ لعدم كون المنفعة الفائتة مملوكة للمؤجر، و الضمان ضمان للمالك، هذا كلّه إذا كانت العين مغصوبة.

و أمّا إذا كان التأخير ناشئاً عن منع الظالم المؤجر من الإقباض فالحكم فيه من جهة ما بعد التلف، كما في الفرض السابق، و أمّا من جهة المنافع الفائتة قبل التلف في أثناء مدّة الإجارة، فالظاهر ثبوت الخيار له أيضاً بين الفسخ و الرجوع بالأُجرة المسمّاة، و بين الرجوع إلى الظالم؛ لاستناد فوات المنفعة إليه، فتشمله قاعدة من أتلف، بناءً على شمولها للمنافع، و يحتمل جواز الرجوع إلى المؤجر أيضاً لما ذكرناه في الفرض المتقدّم.

و أمّا إذا كان التأخير لأجل منع الظالم المستأجر من الإقباض، فربما يقال: بأنّه لا وجه للحكم بتحقّق الانفساخ حينئذٍ؛ لعدم شمول دليل التلف قبل القبض لهذا الفرض بعد ثبوت التمكين التامّ من قبل المؤجر، و كون النقص من طرف المستأجر

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 296

..........

______________________________

و ناحيته، و لكنّ الظاهر الشمول، بل مورد خبر عقبة بن خالد «1» الدالّ

على هذه القاعدة من هذا القبيل، فليراجع. فالحكم فيه من جهة الانفساخ كالفرضين الأوّلين، و أمّا من جهة المنافع الفائتة قبل التلف فالظاهر أنّه ليس له الخيار بين الفسخ و الإمضاء، بل يتعين عليه الإمضاء و الرجوع إلى الظالم بعوض ما فات، بناءً على ما تقدّم، هذا كلّه في التلف في الأثناء.

و أمّا التلف بعد انتهاء مدّة الإجارة في الفروض الثلاثة فيظهر حكمه ممّا قدّمناه في التلف بعد الانتهاء سابقاً، منضمّاً إلى ما ذكرناه هنا من حكم الفروض، فتأمّل جيّداً.

بقي الكلام في فروع:

الأوّل: إتلاف الحيوانات، فقد قال في العروة بعد الحكم بأنّ التلف السماوي موجب للبطلان: و منه إتلاف الحيوانات «2»، و لكن الظاهر أنّ إتلاف الحيوانات إنّما يماثل التلف من جهة الحكم بالانفساخ أو البطلان، و أمّا من الجهات الأُخر التي منها جواز الرجوع إلى مالك الحيوان في بعض الموارد فالمماثلة غير متحقّقة كما هو ظاهر.

الثاني: إتلاف العين المستأجرة بسبب الإنسان، فقد قال في العروة أيضاً:

إنّ إتلاف المستأجر بمنزلة القبض، و إتلاف المؤجر موجب للتخيير بين ضمانه و الفسخ، و إتلاف الأجنبي موجب لضمانه «3».

و ربما يورد على الفرق بين صورتي التلف و الإتلاف بالحكم بالبطلان في الأُولى

______________________________

(1) الكافي: 5/ 171 ح 12، التهذيب: 7/ 21 ح 89 وص 230 ح 1003، وسائل الشيعة: 18/ 23، كتاب التجارة، أبواب الخيار ب 10 ح 1.

(2) العروة الوثقى: 5/ 51 مسألة 13.

(3) العروة الوثقى: 5/ 51 مسألة 13.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 297

..........

______________________________

و بعدمه في الثانية بأنّه لا وجه لهذا الفرق، لثبوت الملاك للحكم بالبطلان في صورة الإتلاف أيضاً؛ لأنّه كما عرفت «1» سابقاً ليس الوجه فيه إلّا انكشاف عدم

ثبوت المنفعة حال العقد، و عدم ثبوتها في علم اللّٰه إلّا بمقدار بقاء العين واقعاً، و هذا الوجه يجري في صورة الإتلاف أيضاً، لعدم الفرق من جهة عدم ثبوت المنفعة بتبع عدم العين بين المقامين و مجرّد كون السبب في الأُولى آفة سماوية غير اختيارية، و في الثانية إتلافاً صادراً عن الإنسان مع كونه اختيارياً غالباً لا يصلح فارقاً فيما هو الملاك للحكم بالبطلان من عدم وجود المنفعة في الواقع و نفس الأمر، و لذا حكي عن سيّدنا العلّامة الأُستاذ البروجردي قدس سره احتمال الحكم بالبطلان في إتلاف المستأجر و إن قوّى خلافه، نظراً إلى أنّ المستأجر بسبب إتلافه العين إنّما أتلف ماله الذي هي المنفعة بيده و اختياره، و مرجعه إلى أنّ العرف يرى الفرق بين التلف السماوي، و بين الإتلاف من جهة أنّ التلف يكشف عن عدم وجود المنفعة في الواقع، و الإتلاف كأنّه إعدام للمنفعة الثابتة في محلّها، و لكنّه ربما يستشكل في ذلك أيضاً بأنّ التلف السماوي إن كان مثل الموت و شبهه فالفرق بينه و بين الإتلاف مسلّم عند العرف، و إن كان مثل الصاعقة و شبهها فلا فرق بينه و بين الإتلاف، خصوصاً لو عمّ التلف لإتلاف الحيوانات للعين المستأجرة أيضاً، و لكنّ الإشكال كما ترى.

و كيف كان، فمع قطع النظر عن ثبوت الفرق عند العقلاء بين المقامين يكون مقتضى حكمهم بالبطلان في صورة التلف مستنداً إلى الوجه المذكور ثبوت البطلان في صورة الإتلاف أيضاً. نعم، لو قلنا بالانفساخ في التلف نظراً إلى دليل التلف قبل

______________________________

(1) في ص 285 286.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 298

..........

______________________________

القبض لا يبقى موقع لإيراد عدم الفرق؛ لأنّه يمكن

أن يقال: إنّ دليل التلف منصرف عن صورة الإتلاف، فلا يشملها دليله.

و كيف كان، فلا بدّ من التكلّم في كلّ واحد من الفروض الثلاثة للإتلاف المذكورة في العروة «1»، فنقول:

أمّا إتلاف المستأجر للعين المستأجرة فقد تقدّم أنّ المذكور فيها أنّه بمنزلة القبض، فإن أراد من ذلك أنّه بمنزلة القبض في انتقال الضمان من المؤجر إلى المستأجر بحيث كان مرجعه إلى عدم شمول دليل التلف قبل القبض، الدالّ على الانفساخ على ما هو المشهور لصورة إتلاف المستأجر، نظراً إلى أنّ إتلافه بمنزلة القبض فلا يتصوّر فيه الإتلاف قبل القبض حتّى يشمله دليل التلف، ففيه: أنّه لم يدلّ على إثبات هذه المنزلة دليل، خصوصاً مع كون المراد من الإتلاف أعمّ ممّا كان بعمد و اختيار، و ما كان صادراً عن خطأ و اشتباه، فإنّه يمكن دعوى ثبوت المنزلة عند العرف في الصورة الاولى، مع التوجّه إلى كون المتلف هي العين المستأجرة، بخلاف غيرها من الصور، و بالجملة دعوى أنّ إتلاف المستأجر بمنزلة القبض بهذا التقريب لا يساعدها دليل و لا برهان.

و إن أراد من ذلك انصراف دليل التلف قبل القبض عن صورة الإتلاف خصوصاً إذا كان من المشتري في باب البيع و من المستأجر هنا فلا بدّ من الرجوع إلى القاعدة المقتضية لثبوت الضمان على من أتلف، و إلى القاعدة الموجبة لصحّة الإجارة و عدم انفساخها، المستلزم لثبوت الأُجرة المسمّاة على المستأجر، فيرد عليه مضافاً إلى إمكان منع الانصراف؛ لأنّ دليل التلف قد علّق فيه الحكم على

______________________________

(1) العروة الوثقى: 5/ 51 مسألة 13.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 299

..........

______________________________

تحقّق التلف، من دون تعرّض لخصوص السبب الموجب له، فأيّ فرق بين ما إذا

كان السبب مثل الصاعقة و الزلزلة، و بين ما إذا كان السبب هو الإنسان أو الحيوان المتلف له، كما سيجي ء في إتلاف المؤجر أنّ قوام الإجارة و اعتبارها عند العقلاء إنّما هو بالعين، فمع تلفها و لو بإتلاف المستأجر لا يبقى مجال لاعتبارها عندهم، فهل ترى بقاء كلّ واحد من المؤجر و المستأجر بهذا الوصف مع عدم وجود العين المستأجرة أصلًا؟

و من هنا يتّضح الفرق بين المقام و بين باب البيع، فإنّه يمكن أن يقال هناك: بأنّه بعد انصراف دليل التلف عن صورة إتلاف المشتري يكون إتلافه إتلافاً لمال نفسه، و لا يعتبر بقاء هذا العنوان بعد كون المتعلّق من الأُمور القارّة غير التدريجية، و أمّا هنا فلا بدّ من فرض ثبوت المنفعة المحدودة بالزمان الذي هو من الأُمور التدريجية، و هي تابعة لوجود العين، فكيف يمكن بقاء شي ء من عنواني المؤجر و المستأجر مع عدم العين و لو كان بإعدام المستأجر، و لذا قد تقدّم احتمال البطلان في هذه الصورة عن سيّدنا العلّامة الأُستاذ قدس سره و إن قوّى خلافه، كما عرفت.

و يمكن أن يقال هناك أيضاً: بأنّه بعد تلف المبيع يختلّ ما هو الركن في البيع و به قوامه، فلا يبقى مجال لعنواني البائع و المشتري حتّى يترتّب عليهما أحكامهما التي منها الإقالة في البيع، كما لا يخفى.

و كيف كان، فالاحتمالات الجارية في إتلاف المستأجر قبل القبض كثيرة:

أحدها: أن يقال بأنّ الإتلاف يكشف عن بطلان الإجارة بسبب عدم وجود المنفعة بحسب الواقع و في علم اللّٰه تعالى، و قد عرفت أنّ مقتضى الحكم بالبطلان في صورة التلف جريان هذا الحكم في الإتلاف أيضاً؛ لعدم الفرق فيما هو الملاك، و لكنّ الظاهر عدم التزامهم

بذلك هنا، و لعلّه كما مرّ من جهة ثبوت الفرق عند العقلاء، فتدبّر.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 300

..........

______________________________

ثانيها: القول بالانفساخ الذي لازمه رجوع الأُجرة المسمّاة إلى المستأجر، و ثبوت ضمانه بالنسبة إلى العين و المنفعة معاً، أمّا العين فواضح، و أمّا المنفعة فلأنّها بعد التفكيك بالإجارة تعدّ مالًا مستقلا فتكون مضمونة، كما إذا تلفت العين المستأجرة لدى الغاصب، فإنّه يضمن العين للمؤجر و المنفعة للمستأجر.

و منشأ هذا الاحتمال إمّا جريان دليل التلف قبل القبض و شموله لصورة الإتلاف بضميمة أنّ مقتضاه هو الانفساخ كما فهمه المشهور «1»، و إمّا ما ذكرنا من أنّ بقاء العين من أركان اعتبار بقاء الإجارة و لا قوام لها عند العقلاء بدونه، فمع انعدامه و لو بإعدام المستأجر لا مجال لاعتبارها عندهم، كما عرفت.

ثالثها: الصحّة و اللزوم كما اختاره صاحب العروة، حيث إنّه الظاهر من قوله: إتلاف المستأجر بمنزلة القبض «2»، و قد عرفت منشأ هذا القول و ما يمكن أن يورد عليه.

رابعها: الصحّة و الخيار، أمّا الصحّة فلعدم ثبوت ما يقتضي البطلان أو الانفساخ، و أمّا الخيار فلتعذّر التسليم بسبب الإتلاف و هو يوجب الخيار. غاية الأمر ضمانه للعين و المنفعة معاً مع الفسخ و للأُولى فقط مع عدمه.

و قد انقدح ممّا ذكرنا أنّ الأقرب بمقتضى الحكم بالبطلان في صورة التلف الحكم به هنا، و دونه في القرب الحكم بالانفساخ للوجه الثاني من الوجهين المتقدّمين، و لكنّ الإنصاف أنّ المسألة بعد مشكلة تحتاج إلى مزيد التأمّل.

و أمّا إتلاف المؤجر للعين المستأجرة فالمحكيّ عن سيّدنا العلّامة الأُستاذ قدس سره أنّه

______________________________

(1) راجع العروة الوثقى: 5/ 49 مسألة 11.

(2) العروة الوثقى: 5/ 51 مسألة 13.

تفصيل الشريعة

في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 301

..........

______________________________

بعد احتماله الوجهين المتقدّمين في صورة إتلاف المستأجر احتمل هنا وجوهاً أربعة: البطلان، و الانفساخ الذي يترتّب عليه رجوع الأُجرة المسمّاة إلى المستأجر، و التخيير بين ضمانه و الفسخ، و تعيّن اجرة المثل عليه.

و الوجه في البطلان ما عرفت في التلف الجاري في جميع صور الإتلاف أيضاً، و في الانفساخ ما ذكرنا من الوجهين في المسألة السابقة، و يقرّب الوجه الأوّل هنا مضافاً إلى بعد دعوى انصراف دليل التلف عن صورة إتلاف البائع هناك و المؤجر هنا وجود القائل بالانفساخ في هذه الصورة في البيع؛ و هو الشيخ في محكي المبسوط «1» و الفاضلان في محكي الشرائع «2» و التحرير «3».

و أمّا الوجه الثالث، الذي مرجعه إلى تخيير المستأجر بين مطالبة المؤجر بالأُجرة المسمّاة، و بين مطالبته بأُجرة المثل فمنشؤه على ما أفاده الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره في باب أحكام القبض من البيع، إمّا لتحقّق سبب الانفساخ و سبب الضمان فيتخيّر المالك في العمل بأحدهما، و إمّا لأنّ التلف على هذا الوجه إذا خرج عن منصرف دليل الانفساخ لحقه حكم تعذّر تسليم المبيع، فيثبت الخيار للمشتري لجريان دليل تعذّر التسليم هنا «4».

و يرد على الوجه الأوّل مضافاً إلى أنّ لازمه تحقّق الانفساخ بمجرّد اختيار دليله من دون حاجة إلى الفسخ، مع أنّ الظاهر الحاجة إليه أنّ الدليلين ليسا في عرض واحد؛ لأنّ دليل الانفساخ ينفي كونه مال الغير، و دليل الضمان موضوعه

______________________________

(1) المبسوط: 2/ 117.

(2) شرائع الإسلام: 2/ 53.

(3) تحرير الأحكام: 2/ 335.

(4) كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري: 6/ 276.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 302

..........

______________________________

مال الغير، و عليه فدليل التلف حاكم

على دليل الإتلاف، و لا معنى لجعلهما في عرض واحد، كما أنّه يرد على الوجه الثاني ابتناؤه على الخروج عن منصرف دليل التلف، مع أنّك عرفت استبعاده في صورة إتلاف البائع و المؤجر، و أمّا وجه تعيّن اجرة المثل فقاعدة «من أتلف» بعد انصراف دليل التلف عن هذه الصورة، و يرد عليه ما عرفت من منع الانصراف.

و أمّا إتلاف الأجنبي للعين المستأجرة فالمذكور في العروة أنّه موجب لضمانه «1» أي ضمان الأجنبي للمستأجر، و أورد عليه بعض الشارحين بأنّ الموجب للفسخ في إتلاف المؤجر و هو تخلّف المقصود الذي هو الانتفاع الخاصّ بالعين موجود هنا أيضاً، فالفرق بينهما في ذلك غير ظاهر «2»، و قوّى البطلان فيه سيّدنا العلّامة الأُستاذ قدس سره في التعليقة على العروة «3». هذا، و يحتمل الحكم بالانفساخ أيضاً؛ لما ذكرنا في وجهه في المسألتين السابقتين.

الثالث: تلف بعض العين المستأجرة، و نقول: تارةً يكون تلف البعض موجباً لانعدام المنفعة التي هي غرض للمستأجر و زوالها رأساً، بحيث يكون قوام المنفعة بوجوده فقط أو مع وجود البعض الباقي، كما إذا استأجر بقرتين مقدّمة لحرث الأرض مع فرض تقوّم الغرض بهما معاً كما في بعض البلاد و الأمكنة، فتلف واحد منهما، و أُخرى يكون تلف البعض موجباً لنقصان المنفعة المطلوبة.

ففي الصورة الأُولى يجري حكم تلف الجميع؛ لأنّ التلف الموجب للانفساخ أو البطلان في باب الإجارة هو تلف المنفعة المتحقّق بتلف العين أو ما يجري مجراه،

______________________________

(1) العروة الوثقى: 5/ 51 مسألة 13.

(2) مستمسك العروة: 12/ 59.

(3) العروة الوثقى: 5/ 51، التعليقة 4.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 303

..........

______________________________

و المفروض تحقّقه في المقام.

و في الصورة الثانية يجري حكم التلف بالنسبة إلى

البعض التالف، فتبطل الإجارة بالإضافة إليه، أو تنفسخ على القولين في باب تلف الجميع، و أمّا بالنسبة إلى البعض الباقي فلا مجال لاحتمال الانفساخ أو البطلان، بل غاية الأمر ثبوت خيار التبعّض.

و دعوى أنّ الإجارة إن انحلّت إلى إجارات متعدّدة حسب تعدّد الأبعاض فلا وجه لثبوت الخيار بالإضافة إلى البعض الباقي، بل لا بدّ من الالتزام بصحّة الإجارة المتعلقة إليه من دون خيار، و إن لم تنحل إليها فلا مجال للحكم بالانفساخ أو البطلان بالنسبة إلى البعض و بالصحّة بالنسبة إلى البعض الآخر.

مدفوعة بأنّ الانحلال و إن كان ممّا لا يكون للارتياب فيه مجال، إلّا أنّه لا ينفي ثبوت الخيار كما في جميع موارده، فإنّ الملاك فيه تعدّد المطلوب مع التوصل إليه بعقد واحد. نعم، لو كان الجمع بين المطلوبين في عقد واحد من باب الجمع في التعبير من دون أن يكون بينهما ارتباط أصلًا، كما إذا استأجر دارين مثلًا بعقد واحد مع عدم تعلّق الغرض بمجموعهما، فالبطلان في البعض لا يوجب الخيار بالإضافة إلى الآخر.

و بالجملة: فالظاهر في المقام ثبوت الخيار بالنسبة إلى البعض الباقي.

ثمّ إنّه ذكر العلّامة قدس سره في القواعد في فروع التلف: لو أمكن الانتفاع بالعين فيما اكتراها له على نقص تخيّر المستأجر أيضاً في الفسخ و الإمضاء بالجميع «1».

و ظاهره بعد وضوح كون المراد بالنقص هو نقصان المنفعة بسبب عروض تلف

______________________________

(1) قواعد الأحكام: 2/ 289.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 304

..........

______________________________

البعض كما في جامع المقاصد «1»، لا الأعمّ منه و من تلف الوصف كما استظهره صاحب المفتاح «2»، عدم ثبوت التقسيط في هذه الصورة، بل يتخيّر المستأجر بين الفسخ و الإمضاء بالجميع، و لكنّه ذكر

جامع المقاصد في شرح عبارة أُخرى من القواعد واردة في حكم العيب أنّه مع ذهاب بعض العين الموجب لنقصان المنفعة يجب التقسيط قطعاً مع الخيار «3».

و هنا احتمال ثالث؛ و هو انفساخ الإجارة بالإضافة إلى جميع الدار، نظراً إلى عدم ثبوت المنفعة الكاملة بحسب الواقع و لو في شطر من الزمان، فليست المنفعة الملحوظة في الإجارة ثابتة في ذلك الجزء، فتبطل الإجارة بالنسبة إلى الجميع، فتدبّر.

الرابع: لو آجره عيناً كليّة كالدابّة الكليّة بناءً على عدم اعتبار كون متعلّق الإجارة عيناً شخصية كما هو الظاهر و المعروف فتلف الفرد الذي عيّن الكلّي فيه قبل قبضه أو بعده فهل يجري فيه حكم تلف العين الشخصية أم لا؟ و تحقيق القول في ذلك يقتضي التكلّم في أُمور:

الأوّل: إنّ تعلّق الإجارة بالأمر الكلّي يتصوّر على أنحاء مختلفة حسب اختلاف أنحاء الكلّي، ضرورة أنّ الكلّي الذي يتعلّق به الإجارة تارةً يكون كليّاً مطلقاً قابلًا للانطباق على الأفراد المحقّقة الموجودة فعلًا في الخارج، و على الأفراد المقدّرة التي يمكن أن توجد بعد ذلك، كما إذا كان المتعلّق دابّة كليّة موصوفة بأوصاف رافعة للغرر و الجهالة. و أُخرى يكون كليّاً في المعيّن

______________________________

(1) جامع المقاصد: 7/ 142.

(2) مفتاح الكرامة: 7/ 155.

(3) جامع المقاصد: 7/ 92.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 305

..........

______________________________

نظير الصاع من الصبرة المعيّنة الموجودة في الخارج، و الملاك فيه هو الانطباق على خصوص الأفراد الموجودة في الخارج فعلًا. و ثالثة يكون كلياً ليس له إلّا فرد واحد، نظير مفهوم واجب الوجود الذي ينحصر مصداقه بذات البارئ جلّ شأنه.

و هنا فرض رابع؛ و هو ما إذا كان المتعلّق نظير الدار المأخوذة شخصية من حيث العرصة و كليّة

من حيث البناء، بحيث لا تكون إعادتها بعد الانهدام قادحة في بقاء المتعلّق، كما سنذكره إن شاء اللّٰه تعالى في حكم فروض الانهدام «1».

و فرض خامس؛ و هو ما إذا كان المتعلّق عيناً شخصيّة و لكنّها أُخذت في الإجارة كليّة من حيث الزمان، كما لو آجره دابّة معيّنة شهراً من السنة المتّصلة بالعقد بناءً على صحّة هذا النحو من الإجارة، كما نفينا عنها البعد سابقاً «2» على تقدير عدم اختلاف الشهور من جهة المالية و تساوي المجموع من هذه الحيثيّة.

الثاني: لا ينبغي الارتياب في جريان حكم التلف في الفرض الأخير فيما إذا تلفت الدابّة المعيّنة قبل قبضها أو بعده في الأثناء، و كذا في جريانه في الفرض الرابع مع امتناع اعادة البناء قبل القبض أو في الأثناء، و كذا في جريانه في الفرض الثالث مع تلف الفرد المنحصر قبل القبض أو بعده، و كذا في جريانه في الفرض الثاني مع تلف جميع الأفراد قبل قبض واحد منها أو بعده.

و أمّا الفرض الأوّل: فربما يقال: بأنّ تلف الأفراد الموجودة إلى انقضاء مدّة

______________________________

(1) في ص 312 و ما بعدها.

(2) في ص 128 130.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 306

..........

______________________________

الإجارة يقتضي جريان حكم التلف من البطلان أو الانفساخ، و لكنّه محلّ نظر بل منع؛ لأنّ انتفاء جميع الأفراد بعد الإجارة يوجب خيار تعذّر التسليم، لا البطلان أو الانفساخ.

الثالث: ذكر في الجواهر: أنّه إذا كانت يعني العين الواقعة مورد الإجارة كليّة و قد دفع المؤجر فرداً فتلف عند المستأجر فالظاهر عدم انفساخ الإجارة، بل ينفسخ الوفاء المزبور و يستحقّ عليه فرداً آخر، و دعوى تشخيص الحقّ فيه ممنوعة كما عرفته سابقاً في نظائره «1».

و

أورد عليه المحقّق الإصفهاني قدس سره بعد فرض المسألة فيما إذا وقع عقد الإجارة على عين كليّة، و تعيّنت بتعيين المؤجر و قبول المستأجر في فرد بأنّه لا معنى للانفساخ لا في العقد و لا في الوفاء، نظراً إلى أنّه كما لا يكون التالف مملوكاً من الأوّل كذلك لا يكون الفرد التالف أيضاً كذلك، و حيث لم يكن مملوكاً من الأوّل لم يعقل انطباق الكلّي المملوك بعقد الإجارة على المنفعة التي لا يعقل وجودها في ظرف استيفائها «2».

أقول: ربما يحتمل تشخّص الحقّ الكلّي في خصوص الفرد الذي عيّنه المؤجر و قبله المستأجر، خصوصاً إذا تحقّق القبض في الخارج أيضاً، نظراً إلى أنّ لازم عدم التشخّص كون الاختيار بيد المؤجر إذا لم يشترط ثبوت الاختيار للمستأجر، و عليه فيلزم أن يكون للمؤجر في كل آن و زمان أخذ الفرد المعيّن من يد المستأجر، و إعطاء فرد آخر إليه، و من المعلوم عدم مساعدة العرف و العقلاء على ذلك في جميع

______________________________

(1) جواهر الكلام: 27/ 279.

(2) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 176 177.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 307

..........

______________________________

الموارد، خصوصاً إذا كانت العين المستأجرة من قبيل الدار و نحوه. و لكن لا يخفى عدم مساعدتهم على أصل الاحتمال، بحيث يكون تلف الفرد عندهم موجباً لانعدام الإجارة بانعدام ما هو الركن فيها، فتدبّر جيّداً.

الخامس «1»: إذا تلفت العين التي هي محلّ العمل الذي استؤجر الشخص عليه، كتلف الثوب الذي استؤجر الخيّاط لخياطته، فالذي صرّح به في العروة أنّ تلفها أو إتلاف المؤجر أو الأجنبي إيّاها قبل العمل أو في الأثناء، بل و كذا إتلاف المستأجر المالك لها يوجب بطلان الإجارة و رجوع الأُجرة كلّاً

أو بعضاً إلى المستأجر «2»، و لكنّه قدس سره عطف قبل ذلك تلف محلّ العمل بتلف العين المستأجرة، و ظاهره جريان حكم إتلافها في إتلافه، فيجري فيه التفصيل المتقدّم في الإتلاف. و لذا أورد عليه سيّدنا العلّامة الأُستاذ قدس سره في الحاشية بالمخالفة بين المقامين، و استقرب هو البطلان في كلتا الصورتين «3».

و كيف كان، فالظاهر أنّ حكم التلف في المقام يعلم ممّا ذكرنا في حكمه في العين المستأجرة، فإنّه إذا استؤجر الخيّاط لخياطة ثوب معيّن يكون غرض المستأجر متعلّقاً بخياطته بالخصوص لا يبقى مجال لبقاء الإجارة مع تلفه أو إتلافه مطلقاً؛ لانعدام ما هو الركن في الإجارة، بخلاف ما إذا استؤجر لخياطة ثوب لا يتعلّق الغرض به بالخصوص، فإنّ انعدامه لا يوجب الخلل فيما هو الركن، كما أنّه إذا كان الأجير أجيراً خاصّاً يكون جميع منافعه أو خصوص منفعة الخياطة مثلًا للمستأجر لا يكون تلف الثوب أو إتلافه موجباً للخلل في الإجارة بوجه، كما

______________________________

(1) أي الفرع الخامس.

(2) العروة الوثقى: 5/ 63 64 مسألة 1.

(3) العروة الوثقى: 5/ 50، التعليقة 4 وص 63، التعليقة 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 308

..........

______________________________

صرّح به في العروة، حيث قال: نعم، لو كانت الإجارة واقعة على منفعة المؤجر؛ بأن يملك منفعته الخياطي في يوم كذا يكون إتلافه لمتعلّق العمل بمنزلة استيفائه؛ لأنّه بإتلافه إيّاه فوّت على نفسه المنفعة «1».

و أورد عليه المحقّق الشارح بما حاصله: عدم الفرق بين الصورتين، إذ في هذه الصورة يقال أيضاً: إنّ تعذّر العين يوجب تعذّر المنفعة الخاصّة، بل يمكن أن يكون البطلان فيها أظهر؛ لعدم قيام غيره مقامه فيها بخلاف الاولى، لكنّه فرق لا يوجب إلّا الأولوية إلى أن

قال: و أمّا دعوى المصنّف قدس سره أنّ إتلافه بمنزلة الاستيفاء فغير ظاهرة، و إلّا كان تلفه بمنزلة حصولها و لا يظنّ التزامه بذلك، و مثله دعوى كون تسليم المؤجر نفسه للعمل موجباً لاستقرار الأُجرة، فإنّه يسلّم إذا كانت المنفعة مقدورة و الإجارة باقية على صحّتها، و قد عرفت خلافه «2».

و بالجملة: إذا كان الأجير أجيراً خاصّاً بأحد الوجهين المذكورين، فتارةً يكون الثوب المأخوذ في الإجارة ثوباً معيناً كما هو المفروض في العروة ظاهراً، بناء على صحّة هذا النحو من الاستئجار، و أُخرى لا يكون الثوب المأخوذ فيها كذلك، ففي الصورة الثانية لا مجال لتوهّم البطلان مع التلف أو الإتلاف، و أمّا الصورة الأُولى فهل الحكم فيها عدم البطلان بسبب إتلاف المستأجر؛ لما أفاده في العروة من أنّ إتلافه بمنزلة استيفائه؛ لأنّه بإتلافه إيّاه فوّت على نفسه المنفعة بخلاف ما إذا كان العمل في ذمته، أو البطلان فيها و في الصورة الأُولى أيضاً لما تقدّم من الشارح، أو عدم البطلان في شي ء منهما كما في تعليقة بعض من المحشين؟ «3» وجوه و أقوال

______________________________

(1) العروة الوثقى: 5/ 64 مسألة 1.

(2) مستمسك العروة: 12/ 75 76.

(3) العروة الوثقى: 5/ 64، التعليقة 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 309

..........

______________________________

و الظاهر أنّ القول الأوّل أوفق بالقواعد، لأنّ إتلاف المستأجر للثوب في هذه الصورة بمنزلة إتلاف العين المستأجرة من المستأجر. و دعوى أنّ ما هو بمنزلة العين هو شخص الأجير فإتلافه بمنزلة إتلافها، و أمّا إتلاف الثوب الذي هو مورد الإجارة فلا، مدفوعة بعدم الفرق من هذه الحيثية بين الأمرين، فإنّه كما أنّ إتلاف الأجير لا يوجب خللًا في الإجارة فكذلك إتلاف الثوب المعيّن المذكور

في هذا النحو من الإجارة، فتدبّر.

السادس: ما إذا تجدّد الفسخ في الأثناء، و قد حكم فيه المحقّق قدس سره بالصحّة فيما مضى و البطلان فيما بقي «1»، كصورة التلف في الأثناء.

و ربما احتمل في هذه الصورة بل صورة التلف جواز الرجوع إلى تمام الأُجرة المسمّاة، و رجوع المؤجر إلى أُجرة المثل للمقدار من المنفعة الذي استوفاه؛ نظراً إلى أنّ مقتضى الفسخ عود كلّ من العوضين إلى مالكه بتمامه.

و قبل الخوض في ذلك لا بدّ من الجواب عمّا ربما يمكن أن يتوهم في المقام من الشبهة العقلية في كلا الطرفين من المسألة المفروضة، فنقول:

أمّا الشبهة على تقدير أن يكون الفسخ مؤثّراً من حينه لا من حين العقد، فهي أنّ العقد أمر واحد مؤثّر في مقتضاه الذي هو أيضاً كذلك و لا يعقل التفكيك فيه، بل لا بدّ إمّا من بقائه بتمامه، و إمّا من انحلاله كذلك.

و الجواب: إنّ العقد أمر اعتباري قابل للتفكيك فيه باعتبار متعلّقه، و إن شئت قلت: إنّه متعدّد لبّا، و لا بأس بأن يفسخ العقد بالنسبة إلى المدّة الباقية، فقط فالشبهة على هذا التقدير مندفعة.

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 2/ 183.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 310

..........

______________________________

و أمّا الشبهة على تقدير كون الفسخ مؤثّراً من حين العقد، فهي أنّ الأمر المتأخّر كيف يعقل أن يؤثِّر في الأمر المتقدّم، ضرورة أنّ المنافع التي استوفاها بعنوان الملكيّة قد انقضت، و كيف يمكن أن تصير ملكاً للمؤجر موجباً لثبوت اجرة المثل.

و تندفع أيضاً بأنّ الأُمور الاعتبارية خارجة عن حريم التأثير و التأثّر الحقيقي الموجود في الأُمور الحقيقية، و عليه فلا مانع من اعتبار العقد بعد تحقّق الفسخ في الأثناء كأن لم يتحقّق أصلًا،

فالمسألة خالية عن الشبهة العقليّة.

ثمّ إنّه لا بدّ من ملاحظة أنّ ترتّب الانفساخ من حين الفسخ أو من حين العقد على الفسخ هل هو أمر قهري شرعي؛ بمعنى أنّه ليس للفاسخ إلّا حقّ الفسخ، و أمّا كون الانفساخ من الحين أو من الأصل فهو أمر خارج عن حدود اختياره و إرادته، أو أنّه أيضاً بيد الفاسخ فيمكن له الفسخ من الحين و يمكن له الفسخ من الأصل، أو أنّه لا بدّ من التفصيل بين أنحاء الخيارات؟ وجوه و احتمالات، و الذي يظهر منهم هو الاحتمال الأوّل، و لكن مقتضى التحقيق هو الأخير كما أفاده المحقّق الإصفهاني قدس سره «1»:

فإن كان سبب الفسخ هو اشتراط الخيار في متن العقد فالظاهر أنّه تابع لكيفيّة الاشتراط، فإن كان الشرط هو الفسخ المؤثّر من حينه فليس له إلّا ذلك، كما أنّه لو كان الشرط هو الفسخ من الأصل يؤثّر فسخه في ذلك من غير إشكال، و لا يبعد أن تكون الإقالة من هذه الحيثيّة بيد الطرفين أيضاً، بناءً على جريانها في الإجارة

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 174.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 311

..........

______________________________

كما عرفت الكلام فيها في أوّل الكتاب «1».

و إن كان سبب الفسخ هو الخيار الذي كان المدرك له قاعدة نفي الضرر بناءً على دلالتها على الخيار المصطلح على خلاف ما قلناه مراراً فاللّازم ملاحظة أنّ الضرر هل يندفع بانحلال المعاملة من حين الفسخ أولا يندفع إلّا بانحلاله من رأس؟

و إن كان السبب هو الخيار الذي دلّ على ثبوته الأدلّة الخاصّة كخيار العيب مثلًا، فاللّازم ملاحظة تلك الأدلّة الخاصّة، و أنّ مفادها هل هو الفسخ في المجموع كما اختاره المشهور «2»، حيث

قالوا بعدم استحقاق إعمال الخيار في ردّ بعض المعيب، أو المعيب الذي اشتراه مع الصحيح، أو أنّ مفادها ثبوت حقّ الفسخ و لو في الأبعاض؟ و البحث في ذلك موكول إلى محلّه.

و قد انقدح ممّا ذكرنا أنّ ما نسب إلى المشهور «3» في المقام من أنّ الفسخ مطلقاً بأيّ سبب كان لا يؤثِّر إلّا من الحين، و لازمه تقسيط الأُجرة المسمّاة ليس إطلاقه في محلّه، و قد ذكر بعض المتتبعين: أنّ هذه النسبة غير ثابتة «4»، و الأمر سهل بعد ما عرفت.

ثمّ إنّه بملاحظة ما ذكرنا من حكم صورة تجدّد الفسخ في الأثناء بعد القبض يعلم حكم سائر صور الفسخ بضميمة ما ذكرنا في التلف من حكم جميع الأقسام و الصور، فلا نطيل بالتعرّض لها تفصيلًا.

______________________________

(1) في ص 132 136.

(2) مسالك الأفهام: 3/ 286، رياض المسائل: 5/ 179 180، مفتاح الكرامة: 4/ 629 630، جواهر الكلام: 23/ 247 248، كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري: 5/ 310، بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 174.

(3) العروة الوثقى: 5/ 41 مسألة 5.

(4) العروة الوثقى: 5/ 41، التعليقة 4.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 312

[لو آجر داراً فانهدمت بطلت الإجارة]

مسألة 22: لو آجر داراً فانهدمت بطلت الإجارة إن خرجت عن الانتفاع الذي هو مورد الإجارة بالمرّة، فإن كان قبل القبض أو بعده بلا فصل قبل أن يسكن فيها رجعت الأُجرة بتمامها، و إلّا فبالنسبة كما مرّ. و إن أمكن الانتفاع بها من سنخ مورد الإجارة بوجه يعتدّ به عرفاً، كان للمستأجر الخيار بين الإبقاء و الفسخ، و لو فسخ كان حكم الأُجرة على حذو ما سبق. و إن انهدم بعض بيوتها، فإن بادر المؤجر إلى تعميرها بحيث لم يفت الانتفاع أصلًا

ليس فسخ و لا انفساخ على الأقوى، و إلّا بطلت الإجارة بالنسبة إلى ما انهدمت و بقيت بالنسبة إلى البقيّة بما يقابلها من الأُجرة، و كان للمستأجر خيار تبعّض الصفقة (1).

______________________________

(1) هذه المسألة من المسائل التي وقع التعرّض لها من زمن القدماء إلى زماننا هذا، و في مفتاح الكرامة: قد نطقت عبارات الأصحاب من المقنعة «1» إلى الكتاب يعني القواعد «2» بأمرين: الأوّل: أنّه إذا انهدم المسكن ثبت له الخيار إلّا أن يعيده المالك، أو نحو ذلك، الثاني: إذا انهدم المسكن سقطت الأُجرة إلّا أن يعيده، و قد علمت أنّ الظاهر أنّ معنى سقوط الأُجرة ثبوت الخيار، فالجميع بمعنى واحد، و قد ذكر قبل ذلك أنّ الأمر الثاني واقع في عبارات المقنعة و النهاية «3» و المراسم «4» و الوسيلة «5».

و قد زيد عليها أي على إحدى العبارتين بعض القيود من بعض الفقهاء،

______________________________

(1) المقنعة: 640.

(2) قواعد الأحكام: 2/ 289.

(3) النهاية: 444.

(4) المراسم العلويّة: 199.

(5) الوسيلة: 267 268.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 313

..........

______________________________

كالتقييد بما إذا أمكن إزالة المانع «1»، أو بما إذا بقي أصل الانتفاع «2»، أو بما إذا لم يكن الانهدام من ناحية المستأجر «3»، و لكنّ الظاهر استفادة كلّ ذلك من العبارة بحيث لا يحتاج إلى التنبيه عليه «4»، فتدبّر.

و كيف كان، فاعلم أنّه إذا انهدم المسكن و خرج عن الانتفاع بالمرّة، أو عن الانتفاع الذي استأجره له بنحو التقييد و وحدة المطلوب، و لم يمكن الإعادة في المدّة المأخوذة في الإجارة، فالظاهر كما صرّح به جماعة «5» هو بطلان الإجارة فيما إذا كان قبل القبض، أو بعده قبل مجي ء زمان السكنى.

و أمّا الانهدام مع إمكان الإعادة فمع عدم

الإعادة من المالك يكون ظاهر العبارات ثبوت خيار الفسخ للمستأجر، و مع الإعادة بحيث لا يفوت شي ء من المنافع محلّ خلاف بين الأعلام، و قبل الخوض في ذلك لا بدّ من التعرّض لدفع شبهة عقلية يمكن إيرادها في المقام؛ و هي أنّه بالانهدام تنعدم العين الشخصية التي هي مورد الإجارة، و الإعادة لا توجب بقاء الإجارة؛ لأنّها تستلزم ثبوت عين أُخرى مغايرة لما هو مورد الإجارة، فلا مجال للبحث عن ثبوت الخيار و عدمه، بل اللّازم الحكم بالبطلان بمجرّد الانهدام، سواء كانت الإعادة ممكنة أم لا، و سواء أعادها أم لم يعدها.

و الجواب عنها: أنّ الغرض غالباً فيما لو كان مورد الإجارة هي العين الشخصية

______________________________

(1) جامع المقاصد: 7/ 141، مسالك الأفهام: 5/ 219، الروضة البهية: 4/ 353.

(2) جامع المقاصد: 7/ 141، مسالك الأفهام: 5/ 219، الروضة البهية: 4/ 353.

(3) نسبه إلى الشهيد في مفتاح الكرامة: 7/ 154، و اختاره في الحدائق الناضرة: 21/ 558.

(4) مفتاح الكرامة: 7/ 153 154.

(5) كالشيخ في المبسوط: 3/ 222 و 224، و ابن إدريس في السرائر: 2/ 258، و الشهيد الثاني في مسالك الأفهام: 5/ 219، و الطباطبائي في رياض المسائل: 6/ 32.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 314

..........

______________________________

الخارجية إنّما تعلّق بها لأجل منافعها التي لا يتوقّف الوصول إليها على بقاء هذه الشخصية، أ لا ترى أنّ من استأجر داراً مخصوصة للسكنى يكون غرضه السكونة في مثل هذه الدار الواجدة للجهات المنظورة له، و لا غرض له إلى نفس هذه الشخصية حتّى تكون إعادتها بالكيفيّة الأوّلية مخالفة لغرضه. نعم، قد يتحقّق التخلّف مع الإعادة و لكنّه من الفروض النادرة، فهذه الشبهة مخالفة لما عليه يبتني

أساس باب المعاملات من ملاحظة الأغراض العرفية و الأنظار العقلائية، فدعوى البطلان مع إمكان الإعادة ساقطة بالمرّة.

ثمّ إنّه لا يتوهّم أنّ مقتضى ما ذكرنا جواز الإبدال فيما لو آجره دابّة معيّنة لأجل الحمل أو الركوب مثلًا ثمّ هلكت الدابّة قبل ذلك، نظراً إلى أنّ الغرض يتعلّق نوعاً بالركوب أو الحمل، من دون نظر إلى خصوص الدابّة المعينة المستأجرة التي عرض لها التلف، و عليه فيجوز لصاحب الدابّة إبدالها بدابّة اخرى واجدة للجهات الملحوظة فيها أي في الدابّة الاولى مع أنّ الظاهر بطلان الإجارة بسبب موت الدابّة المستأجرة المعيّنة.

وجه فساد التوهّم المزبور ثبوت الفرق بين المقام و بين الدابّة المفروضة، فإنّ مغايرة الدابّة الثانية مع الأُولى لدى العرف أيضاً متحقّقة، و مورد الإجارة إنّما هي الأُولى دون الثانية، فلا وجه لبقاء الإجارة، و أمّا المقام فالعين المعادة لا تتّصف بالمغايرة معها قبل الإعادة، فالمقايسة فاسدة.

ثمّ إنّه يرجع إلى ما ذكرنا من أنّ الحكم بالصحّة و عدمها يدور مدار أخذ الخصوصيّة بنحو يبقى مورد الإجارة بعد الانهدام و الإعادة و عدمه ما حكاه المحقّق الرشتي قدس سره عن شيخه العلّامة بعد توصيفه بأنّه تحقيق رشيق و حاصله: أنّ الخصوصية إمّا أن تكون داخلة في متعلّق الإجارة دخول الجزء المقوّم في الكلّ،

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 315

..........

______________________________

و إمّا أن تكون خارجة و إن كانت مقصودة كالكتابة في العبد الكاتب، و إمّا أن تكون داخلة باعتبار كونها إحدى الخصوصيات مخيّراً بينها أو مقدّماً بعضها على بعض، كما في صورة تعدّد المطلوب. فإن كان الأوّل تعيّن الانفساخ، و إن كان الثاني تعيّن الخيار، و إن كان الثالث تعين اللزوم على التسوية بين الخصوصيات و الخيار

على الترتيب.

هذا حكم الصور، و لكن الواقع في الخارج المتعارف بين الناس في إجارات الدور و المساكن هو الثالث. و يمكن توجيه الخيار على الوجه الأوّل أيضاً بدعوى اتّحاد الخصوصية المعادة مع الاولى في نظر العرف، و إن كانتا متغايرتين بالدقّة، فلا منافاة بين الأخذ بظاهر العقد القاضي بكون الخصوصية الأُولى داخلة في العقد، و بين عدم البطلان و الانفساخ مع إمكان الإعادة، و إن ثبت الخيار من جهة تبدّل الخصوصية «1».

و قد انقدح لك ممّا ذكرنا حكم الإجارة من حيث الصحّة و عدمها فيما لو أعاد المؤجر العين المستأجرة بسرعة بحيث لم يفت شي ء من المنافع، و أمّا لو أعادها بحيث فات مقدار معتدّ به من المنافع، فالكلام فيه من الجهة الراجعة إلى البطلان و عدمه، أنّه تارةً يكون زمن الانهدام الفاصل في البين مصادفاً لزمان يكون داخلًا في الإجارة بنحو التبع، بحيث لم يتعلّق غرض المستأجر به إلّا كذلك، كالليل الداخل في إجارة الدكّان مثلًا، فإنّ الغرض من استئجاره إنّما هو الاشتغال بالاكتساب فيه، و هو لا يتحقّق نوعاً إلّا في اليوم. غاية الأمر أنّه لم يعهد إجارته في خصوص الأيّام بحيث تكون في الليالي مرتبطة بالمؤجر. و أُخرى يكون زمن

______________________________

(1) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 304.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 316

..........

______________________________

الانهدام مصادفاً لزمان يكون ملحوظاً للمستأجر مقصوداً له بالذات، سواء كان الانهدام متحقّقاً في حال استيفاء المستأجر للمنفعة، أو إرادته، أو في حال عدم الاستيفاء و إرادته للسفر و نحوه.

و البحث عن هاتين الصورتين تارةً يقع من حيث حكم الإجارة صحّة و بطلاناً في خصوص زمان الانهدام، و أُخرى من حيث حكمها كذلك في الزمان السابق على

الانهدام لو كان واقعاً في أثناء مدّة الإجارة، و ثالثة من جهة حكم ما بعد الانهدام و الإعادة و التعمير.

أمّا حكم زمن الانهدام في الصورة الأُولى؛ كما إذا انهدم الدكّان مثلًا في الليل فإعادة المؤجر قبل دخول النهار، بحيث كانت الخصوصيّة المعادة متّحدة بنظر العرف مع الخصوصية الأُولى، التي وقعت متعلّقة للإجارة، فمقتضى القاعدة و إن كان بطلان الإجارة في هذا المقدار من الزمان، لعدم ثبوت العين المستأجرة و عدم ترتّب المنفعة عليها بهذا المقدار، إلّا أنّه حيث يكون الليل داخلًا في مدّة الإجارة تبعاً بحيث لم يتعلّق الغرض الأصلي إلّا بالاشتغال فيه بالاكتساب في خصوص الأيّام، فالظاهر أنّ فوات المنفعة بهذا المقدار بمنزلة عدم فوات المنفعة أصلًا، فلا مجال للبطلان بحسب نظر العرف، و إذا لم تكن الإجارة في زمان انهدام العين باطلة، ففي زمان عدم تحقّق الانهدام، و كذا زمان الإعادة و التعمير أي بعدهما لا تتّصف بالبطلان بطريق أولى، إلّا أن لا تكون الخصوصيّة المعادة متّحدة مع الاولى، و هو خروج عن الفرض.

و أمّا حكم زمان الانهدام في الصورة الثانية، كما إذا انهدمت الدار في مدّة الإجارة و كانت الإعادة متوقّفة على مضيّ أيّام مثلًا، فالظاهر بطلان الإجارة في هذا المقدار، لعدم ثبوت المنفعة فيه بحسب الواقع و نفس الأمر، فهو بحكم التلف.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 317

..........

______________________________

غاية الأمر أنّه حيث تكون العين ممكنة الإعادة لا يجري في هذه الصورة حكم التلف الحقيقي، و أمّا من هذه الجهة فيشترك المقامان كما هو غير خفيّ، و لا فرق في هذه الصورة بين ما إذا كان المستأجر في حال الاستيفاء أو مريداً له، و بين ما إذا كان غائباً

غير مريد للاستيفاء لأجل السفر و نحوه، و ذلك لأنّ مجرّد عدم إرادة الاستيفاء لا يوجب أن لا يكون الغرض متعلّقاً بسبب الإجارة بتملّك المنفعة في جميع مدّة الإجارة، و اللّازم رعاية الغرض المعاملي كما هو غير خفيّ. و بالجملة فالظاهر أنّه لا مجال للإشكال في بطلان الإجارة في خصوص زمان الانهدام في هذه الصورة بكلا الفرضين.

نعم، يقع الكلام في حكم الزمان السابق على الانهدام و اللاحق على الإعادة و التعمير، أمّا الزمان السابق فلا وجه لدعوى بطلان الإجارة فيه إلّا مع فرض كون مجموع الزمان المذكور في الإجارة مأخوذاً بنحو وحدة المطلوب، كما هو الفرض غير الغالب، و أمّا في الفروض الشائعة الغالبة التي يكون الغرض فيها متعلّقاً بأجزاء الزمان على نحو الاستقلال لا بالمجموع من حيث هو مجموع، فلا مجال لاحتمال البطلان في الزمان السابق، الذي كانت العين فيه معدّة للاستيفاء، سواء استوفى منها أم لا، و أمّا الزمان اللاحق على الإعادة و التعمير فالظاهر أنّه أيضاً كذلك.

و دعوى أنّه كيف تعود الإجارة صحيحة مع الحكم ببطلانها زمن الانهدام مدفوعة بما عرفت «1» من تعدّد المطلوب بحسب تعدّد أجزاء الزمان، و هو يوجب انحلال الإجارة إلى إجارات متعدّدة حسب ذلك التعدّد، فعروض البطلان لبعضها

______________________________

(1) في ص 289.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 318

..........

______________________________

بسبب فوات المنفعة لا يوجب خروج البقيّة عن الحكم بالصحّة، فتدبّر جيّداً، هذا كلّه حكم الإجارة مع الانهدام من جهة الصحّة و البطلان.

و أمّا من حيث ثبوت الخيار فربما يقال بأنّه لا مجال للبحث عن هذه الجهة بعد البحث عن الصحّة و البطلان؛ لأنّه مع فرض الصحّة في جميع أجزاء الزمان كما إذا لم يفت شي ء

من المنفعة أصلًا، أو لم يفت شي ء من المنفعة التي تعلّق بها الغرض الأصلي، تكون الإجارة صحيحة لازمة، و لا موقع لدعوى ثبوت الخيار فيها أصلًا، و مع فرض البطلان كما إذا فاتت المنفعة في بعض أجزاء الزمان لا وجه لدعوى الخيار في الإجارة الباطلة؛ لأنّ العقد الذي يمكن جريان الخيار فيه هو ما كان متّصفاً بالصحّة كما هو واضح، و عليه فالبحث في الخيار و عدمه لا مجال له بعد وضوح حكم الإجارة صحّة و بطلاناً.

و الجواب: أنّه يمكن البحث فيه على كلا التقديرين:

أمّا على تقدير صحّة الإجارة في جميع أجزاء الزمان فيمكن أن يكون الخيار لأجل تخلّف الوصف، كما إذا كان غرض المستأجر متعلّقاً بالعين بوصف كون عماراتها و بنائها قديمة، فمع الانهدام و الإعادة و إن لم يتحقّق التغاير الموجب للبطلان بحسب نظر العرف إلّا أنّه انعدم الوصف الذي كان ملحوظاً للمستأجر، و من الظاهر أنّ انعدام الوصف لا ينجبر إلّا بالخيار.

و أمّا على تقدير البطلان فلأنّ البطلان إنّما هو في مقدار خاصّ من الزمان، و يمكن ثبوت الخيار للمستأجر بالنسبة إلى غيره من الزمانين، أو خصوص الزمان اللاحق على الإعادة و التعمير، فللبحث عن ثبوت الخيار بعد البحث عن الصحّة و البطلان مجال واسع.

و كيف كان، فهل الانهدام بمجرّده يوجب الخيار أم لا؟ الظاهر أنّهم يحكمون

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 319

..........

______________________________

بأنّ مجرّد الانهدام مورث له، من غير فرق بين ما إذا أعاده المالك و ما إذا لم يعده، و كذا من دون فرق في صورة الإعادة بين ما إذا كانت بسرعة بحيث لا يفوت شي ء من المنافع، و ما إذا لم تكن كذلك. قال في

محكي الإيضاح: اعلم أنّه إمّا أن يفوت شي ء من المنافع على المستأجر أو لا، فإن كان الأوّل فله الفسخ قطعاً، و إن لم يفت فهي المسألة يعني المسألة المفروضة في القواعد بقوله: فإن بادر المالك إلى الإعادة فالأقرب بقاء الخيار «1» لأنّ النصّ على أنّ الانهدام سبب للخيار، و الشارع إذا علّق حكماً بوصف لم يعتبر حصول الحكمة التي هي مظنتها بالفعل، فمن ثمّ جاز الفسخ، و من حيث إنّه لم يفت شي ء من المنافع التي وقع عليها العقد [فلا خيار]، و الأصحّ الأوّل «2». و نسب إلى الرياض «3» وفاقاً للمحكي عن شرح العميدي «4» على القواعد عدم الخيار و لزوم العقد إذا لم يفت شي ء من المنافع و بادر المالك إلى الإعادة.

و الحقّ أنّ مستند ثبوت الخيار بنفس الانهدام إمّا أن يكون هو النصّ، أو ما بحكمه كالذكر في مثل كتب المقنعة و النهاية و المراسم من الكتب المعدّة لإيراد فتاوى الأئمّة عليهم السلام بعين الألفاظ الصادرة عنهم، و إمّا أن يكون هو الإجماع، و إمّا أن يكون حديث نفي الضرر «5»:

أمّا النصّ فنحن لم نتحقّقه، و إن كان صريح الإيضاح في العبارة المتقدّمة وجود

______________________________

(1) قواعد الأحكام: 2/ 289.

(2) إيضاح الفوائد: 2/ 254.

(3) رياض المسائل: 6/ 32 33.

(4) كنز الفوائد: 2/ 14.

(5) وسائل الشيعة: 25/ 428 429، كتاب إحياء الموات ب 12 ح 3 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 320

..........

______________________________

نصّ في هذا الباب و لكنّه لم يشر إليه غيره، و قال في مفتاح الكرامة: إنّا لم نجده «1»، و أمّا ما هو بحكم النص فالإشكال فيه من وجهين:

الأوّل: أنّ كونه بحكم النصّ محلّ نظر عند بعض الأعلام،

و إن كان سيّدنا العلّامة الأُستاذ قدّس سرّه الشريف يعامل مع هذه الكتب معاملة كتب الأخبار و الروايات اعتماداً على القرائن التي منها ادّعاء أصحاب تلك الكتب ذلك، و لكنّه ربما قيل بمنع صحّة هذا الادّعاء، و التحقيق في محلّه.

الثاني: أنّ دلالة عبارات تلك الكتب على ثبوت الخيار بمجرّد الانهدام مطلقاً و لو مع إعادة المالك بسرعة بحيث لا يفوت شي ء من المنافع ممنوعة، كما يظهر بمراجعتها «2».

و أمّا الإجماع فمضافاً إلى مخالفة بعض الفقهاء ممّن تقدّم و مناقشة بعض آخر في الحكم كصاحب الجواهر «3» فالظاهر عدم كونه دليلًا مستقلا في قبال حديث نفي الضرر و مثله.

و أمّا الحديث فمضافاً إلى احتمال أن تكون القاعدة صادرة في مقام أعمال الحكومة و السلطنة من دون أن يكون لها نظارة إلى الأحكام الأوّلية، كما في قاعدة الحرج و مثلها، و إلى ما ذكرناه مراراً من عدم إفادته للخيار الذي هو من الحقوق و يكون قابلًا للإسقاط، بل غايته نفي اللزوم على نهج العقود الجائزة بالذات نقول: إنّ دلالته على ثبوت الخيار بمجرّد الانهدام مطلقاً ممنوعة، فإنّه مع الإعادة بسرعة بحيث لا يفوت شي ء من المنافع لا يتحقّق هنا ضرر أصلًا، و مع الفوات

______________________________

(1) مفتاح الكرامة: 7/ 154.

(2) المقنعة: 640، النهاية: 444، المراسم العلوية: 199.

(3) جواهر الكلام: 27/ 310.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 321

..........

______________________________

أيضاً كذلك لما عرفت «1» من بطلان الإجارة زمن الفوات، فلا وجه للخيار إلّا من جهة تبعّض الصفقة، فتأمّل.

و بالجملة: فلم يظهر لنا مستند للحكم بثبوت الخيار بنفس الانهدام حتّى يتكلّم في بقائه مع الإعادة بسرعة و عدمه.

و يمكن أن يكون مستند الخيار تخلّف الوصف؛ نظراً إلى أنّ

الإعادة و إن لم تكن موجبة لتحقّق المغايرة بنظر العرف، إلّا أنّها توجب تخلّف الوصف لأجل تبدّل الخصوصيّة، و من الممكن أن يكون غرض المستأجر متعلّقاً بالخصوصية المنتفية لأجل الانهدام، فالخيار حينئذٍ خيار تخلّف الوصف كما أشار إليه الشيخ الأعظم قدس سره في عبارته المتقدّمة «2»، و لكنّ الظاهر أنّه أيضاً لا ينتج الخيار في جميع الموارد، إذ قد لا تكون الإعادة مستلزمة لتخلف الوصف الذي هو غرض المستأجر بوجه، مع أنّ ظاهرهم أنّ الانهدام بعنوانه موجب للخيار، فتدبّر.

ثمّ إنّه وقع الخلاف بين القائلين بثبوت الخيار بمجرّد الانهدام في بقائه بعد إعادة المالك، فمقتضى العبارتين المتقدمتين بناء على كون المراد منهما أمراً واحداً؛ و هو ثبوت الخيار بانهدام المسكن أنّ إعادة المالك مسقطة للخيار، و ظاهر إطلاقهما عدم الفرق بين ما إذا كانت الإعادة بسرعة أو مع التراخي، و لكن قال المحقّق في الشرائع بعد حكمه بفسخ الإجارة إلّا أن يعيده صاحبه و يمكنه معه: و فيه تردّد «3».

و قد خصّ تردّده في محكي المسالك بما إذا أعاده بسرعة، بحيث لا يفوت شي ء

______________________________

(1) في ص 316.

(2) في ص 314 315.

(3) شرائع الإسلام: 2/ 186.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 322

..........

______________________________

من المنافع و إن قلّ، قال: و إلّا بقي الخيار بغير تردّد «1».

و قال العلّامة قدس سره في القواعد: فإن بادر المالك إلى الإعادة فالأقرب بقاء الخيار «2»، و استفاد من هذه العبارة صاحب الإيضاح «3» و جامع المقاصد «4» أنّ المراد من المبادرة هي المسارعة بحيث لا يفوت شي ء من النفع. و قال الفاضل العميدي بالتفصيل بين ما إذا لم يفت شي ء من النفع فلا خيار، و إلّا كان مستمرّاً

«5». و المحكي عن الروضة أنّه قوّى بقاء الخيار إذا أعاده بسرعة بحيث لا يفوت عليه شي ء معتدّ به «6».

قال في المفتاح: و هو خلاف صريح جامع المقاصد و المسالك و ظاهر الإيضاح، ثمّ قال: و قد يلوح القول ببقاء الخيار من السرائر «7» و النافع «8» و مجمع البرهان «9»، و في الكفاية «10» التردّد كالشرائع، و جزم في المفاتيح «11» بما في المسالك «12».

و المحكي عن الرياض أنّه إن ثبت الخيار بنفس الانهدام من حيث هو اتّجه العمل

______________________________

(1) مسالك الأفهام: 5/ 219.

(2) قواعد الأحكام: 2/ 289.

(3) إيضاح الفوائد: 2/ 254.

(4) جامع المقاصد: 7/ 141.

(5) كنز الفوائد في حلّ مشكلات القواعد: 2/ 14.

(6) الروضة البهية: 4/ 353.

(7) السرائر: 2/ 457.

(8) المختصر النافع: 248.

(9) مجمع الفائدة و البرهان: 10/ 60 61.

(10) كفاية الأحكام: 126.

(11) مفاتيح الشرائع: 3/ 102.

(12) مفتاح الكرامة: 7/ 154.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 323

..........

______________________________

بالاستصحاب، و لكنّه غير معلوم إذ لا دليل إلّا نفي الضرر و قد زال، أو الإجماع و ضعفه أظهر لمكان الخلاف «1».

و أورد عليه في المفتاح أوّلًا: بأنّ الإجماع معلوم و منقول في ظاهر الغنية «2»، و ثانياً: بأنّ لهم أن يقولوا: إنّا و إن قلنا بثبوت الخيار بنفس الانهدام نمنع جريان الاستصحاب بما ذكروه في توجيه خياري الغبن و الرؤية «3».

و أجاب عنه المحقّق الرشتي قدس سره بما حاصله: أنّ الإجماع المنقول في ظاهر الغنية إنّما هو فيما قبل الإعادة و الكلام فيما بعدها، كيف و قد نقل هو خلاف جماعة في ذلك، و الكلام ليس في فورية الخيار و التراخي حتّى يمنع جريان الاستصحاب بما ذكروه في الخيارين «4».

و لعلّ نظره

قدس سره إلى أنّ البحث هنا ليس في الفورية و التراخي، لأجل أنّ الكلام في إسقاط الإعادة للخيار و عدمه بعد تسلّم بقائه مع عدم الإعادة و إن طال الزمان؛ لأنّ هذه الجهة مفروغ عنها عند القائلين بثبوت الخيار بمجرّد الانهدام، لأجل النصّ أو الإجماع أو غيرهما، و عليه فمنع جريان الاستصحاب في الخيارين اللّذين يكون البحث فيهما عن الفورية و التراخي لا يلازم المنع هنا بعد كون الشكّ في مسقطية الإعادة للخيار الثابت مع عدمها، كما لا يخفى.

نعم، ربما يخدش في ذلك بأنّ الظاهر كون الخيارات عند المشهور مبنيّة على الفورية، و عليه فكيف يجتمع ذلك مع القول ببقاء الخيار هنا فيما إذا لم يعد، و إن

______________________________

(1) رياض المسائل: 6/ 32 33.

(2) لاحظ غنية النزوع: 287.

(3) مفتاح الكرامة: 7/ 155.

(4) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 304.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 324

..........

______________________________

طال الزمان فهل في المقام خصوصية مقتضية لذلك مع أنّ الظاهر عدم ثبوتها؟ كما يظهر بالتأمّل.

و يمكن الجواب عن هذه الخدشة مضافاً إلى أنّ دعوى كون جميع الخيارات عند المشهور مبنية على الفورية ممنوعة جدّاً بأنّه يمكن أن يكون الخيار عندهم في المقام أيضاً كذلك، و فرض الشكّ في البقاء مع اتّصاف الخيار بالفورية إنّما يتصوّر فيما إذا كان علم المستأجر بالانهدام متحقّقاً بعد الإعادة، ضرورة أنّ الفورية في مواردها إنّما هي بعد العلم بسبب الخيار لا بعد ثبوت السبب واقعاً، و إن لم يعلم به صاحب الخيار، ففي هذا الفرض يكون الشكّ في الخيار بعد العلم شكّاً في بقاء الخيار المتحقّق بالانهدام واقعاً، و على تقدير ثبوته لا يكون إلّا فوريّاً على ما هو المفروض، و لكنّ الظاهر

أنّه ليس محلّ كلامهم في الشكّ في البقاء خصوص هذه الصورة، بل أعمّ منها و ممّا إذا كان العلم بالانهدام متحقّقاً قبل الإعادة، و عليه فالظاهر عدم ذهابهم إلى الفوريّة في المقام، فتدبّر جيّداً.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 325

[حكم الإجارة الفاسدة

] مسألة 23: كلّ موضع كانت الإجارة فاسدة تثبت للمؤجر اجرة المثل بمقدار ما استوفاه المستأجر من المنفعة، أو تلفت تحت يده أو في ضمانه. و كذلك في إجارة النفس للعمل، فإنّ العامل يستحقّ اجرة مثل عمله. و الظاهر عدم الفرق في ذلك بين جهل المؤجر و المستأجر ببطلان الإجارة و علمهما به. نعم، لو كان البطلان من ناحية الإجارة بلا اجرة أو بما لا يتموّل عرفاً لا يستحقّ شيئاً؛ من غير فرق بين العلم ببطلانها و عدمه. و لو اعتقد تموّل ما لا يتموّل عرفاً فالظاهر استحقاقه اجرة المثل (1).

______________________________

(1) قال في الشرائع: و كلّ موضع يبطل فيه عقد الإجارة يجب فيه اجرة المثل مع استيفاء المنفعة أو بعضها، سواء زادت عن المسمّى أو نقصت عنه «1». و في الجواهر بعد ذلك: بلا خلاف أجده في شي ء من ذلك، بل قد يظهر من إرسالهم ذلك إرسال المسلّمات أنّه من القطعيّات «2».

و الظاهر أنّ مورد عدم الخلاف بل ظهور كونه من القطعيات إنّما هو أصل المسألة بنحو الإجمال، و إلّا فهي قابلة للملاحظة بالنظر إلى حدودها و بعض الاختلافات الواقعة فيها، و لتوضيح الحال لا بدّ من بيان صورة المسألة و القيود المأخوذة فيها و موارد وقوع الاختلاف، فنقول: الظاهر من قوله: «و كلّ موضع يبطل فيه عقد الإجارة» إنّ البطلان إنّما يعرض للعقد بعد ما وقع متّصفاً بالصحّة حدوثاً واقعاً،

و عليه فلا بدّ من فرض الكلام فيما إذا عرض له البطلان بعد الوقوع؛

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 2/ 181 182.

(2) جواهر الكلام: 27/ 246.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 326

..........

______________________________

مثل ما إذا تلفت العين المستأجرة في أثناء المدّة، مع أنّه من المعلوم عدم كون هذا الفرض مراداً لهم، ضرورة أنّه في تلك الصورة لا مجال لدعوى كون ثبوت اجرة المثل و سقوط قسطه من الأُجرة المسمّاة من المسلّميّات و القطعيّات، و ذلك لثبوت التقسيط فيه كما عرفته «1» مفصّلًا، و عليه فمفروض الكلام ما إذا انكشف بطلان الإجارة رأساً لخلل فيها، سواء كان الانكشاف بعد انقضاء المدّة أو في الأثناء، فتعبير المتن أولى من عبارة الشرائع.

ثمّ إنّ بطلان الإجارة تارةً يكون لأجل عدم ذكر الأُجرة فيها أو اشتراط عدمها، و أُخرى يكون لأجل أمر آخر، و قد فصّل بينهما الشهيد قدس سره في محكيّ حواشيه «2»، و استحسنه في المسالك «3»، و قد صرّح به في المتن، بل ربما يستظهر من عبارة الشرائع، حيث قال: سواء زادت عن المسمّى .. «4»، فإنّ ذكر المسمّى قرينة على فرض الأُجرة المسمّاة في العقد، فلا بدّ من البحث في ذلك، و كذا في أنّ ثبوت اجرة المثل هل يختصّ بما إذا كانت المنفعة مستوفاة بتمامها أو ببعضها، سواء استوفاها بنفسها بالمباشرة أو بغيرها بالتسبيب أو يعمّ ما إذا فاتت المنفعة تحت يده تماماً أو بعضاً، بحيث لم يستوف منها شيئاً؟ و كذلك لا بدّ من ملاحظة أنّ الحكم بثبوت الأُجرة يختصّ بما إذا كانا جاهلين بالفساد و لا يعمّ ما إذا كانا عالمين به، أو كان أحدهما جاهلًا و الآخر عالماً كما هو المحكي عن

الأردبيلي «5» و غيره «6» ممّن

______________________________

(1) في ص 287 292.

(2) غاية المراد: 2/ 318.

(3) مسالك الأفهام: 5/ 184.

(4) شرائع الإسلام: 2/ 182.

(5) مجمع الفائدة و البرهان: 10/ 49 50.

(6) رياض المسائل: 6/ 40، مناهج المتّقين: 310.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 327

..........

______________________________

تبعه أو يعمّ جميع الصور؟

و كذلك لا بدّ من النظر في أنّه في صورة عدم ذكر الأُجرة في العقد أو اشتراط عدمها التي قال الشهيدان فيها بعدم ثبوت اجرة المثل، هل فرق بين إجارة الأعيان و الإجارة على الأعمال كما حكي عن جامع المقاصد، حيث قال: و هذا صحيح في العمل، أمّا مثل سكنى الدار التي يستوفيها المستأجر بنفسه، فإنّ اشتراط عدم العوض إنّما كان في العقد الفاسد الذي لا أثر لما تضمّنه من التراضي، فحقّه وجوب اجرة المثل، و مثله ما لو باعه على أن لا ثمن عليه، و لو اشترط في العقد عدم الأُجرة على العمل فعمل فلا شي ء؛ لتبرّعه بعمله «1» أو أنّه لا فرق بينهما؟ كما عليه صاحب المسالك «2» و أجاب عن جامع المقاصد، و صرّح به المتن أيضاً.

ثمّ إنّ الحكم بالبطلان في صورة اشتراط عدم الأُجرة إنّما يصحّ فيما إذا كان المشروط عدم ثبوت الأُجرة رأساً، و أمّا لو كان المشروط عدم استحقاق المؤجر لمطالبتها، الراجع إلى سقوطها بعد ثبوتها فلا مجال لدعوى البطلان كما مرّ سابقاً «3»، كما أنّ الحكم بعدم ثبوت اجرة المثل في هذه الصورة إنّما هو فيما إذا كان المشروط عدم الأُجرة رأساً أعمّ من اجرة المثل، و أمّا لو كان المشروط عدم ثبوت خصوص الأُجرة المسمّاة، فلا وجه لدعوى عدم ثبوت أُجرة المثل، كما لا يخفى.

ثمّ إنّ الحكم

في أصل المسألة بوجوب اجرة المثل ليس مجرّد حكم تكليفي محض، بل هو حكم ناشئ من الحكم الوضعي، و هو ضمان المنفعة تماماً أو بعضاً،

______________________________

(1) جامع المقاصد: 7/ 120 121.

(2) مسالك الأفهام: 5/ 184.

(3) في ص 109 111.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 328

..........

______________________________

فلا بدّ من البحث في هذا الحكم.

إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم أنّه ينبغي البحث أوّلًا فيما هو القدر المتيقّن من مفروض المسألة، و هو ما إذا انكشف بطلان الإجارة من غير ناحية عدم ذكر الأُجرة أو اشتراط العدم في أثناء المدّة أو بعدها، بعد استيفاء المستأجر المنفعة بنفسه مع كونهما جاهلين بالفساد، بحيث لو كانا عالمين به لما أقدما على مثل هذه المعاوضة، و كون الأُجرة متموّلة شرعاً و ملكاً للمستأجر، ثمّ البحث في سائر الفروض، فنقول: الدليل على ثبوت الضمان في المقام على ما قيل أُمور لا بدّ من التعرّض لها:

الأوّل: الإجماع، و قد استدلّ به في الجواهر «1» و تبعه المحقّق الشارح للعروة، بل قال: إنّ العمدة في المقام هو الإجماع «2».

و الظاهر عدم كون الإجماع في مثل المقام واجداً لشرائط الحجّية؛ لأنّه مضافاً إلى عدم معلومية كون المسألة من المسائل المتلقّاة عن الأئمّة المعصومين صلوات اللّٰه عليهم أجمعين لعدم التعرّض لها ظاهراً في الكتب المعدّة لمثل ذلك يحتمل قويّاً أن يكون مدرك المجمعين هي القواعد المتعدّدة المذكورة فيما بعد، و مع هذا الاحتمال لا يبقى للاتّكال عليه مجال.

الثاني: قاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» و استدلّ بها أيضاً في الجواهر «3»، و ظاهره أنّها قاعدة مستقلّة بهذا العنوان في مقابل قاعدة الاحترام، و قاعدتي اليد و الإتلاف و سائر القواعد التي استند إليها في باب

الضمان، مع

______________________________

(1) جواهر الكلام: 27/ 246.

(2) مستمسك العروة: 12/ 65.

(3) جواهر الكلام: 27/ 246.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 329

..........

______________________________

أنّ الظاهر عدم كونها قاعدة مستقلّة في مقابل تلك القواعد، بل هي قاعدة اصطيادية مستفادة من القواعد الأُخر، الحاكمة بثبوت الضمان في موارد العقود الفاسدة.

و كيف كان، فمع غمض النظر عن هذه الجهة نقول: قد كثر الكلام حول هذه القاعدة و وقع النقض و الإبرام بالنسبة إليها، و لكن الذي يرتبط منها بباب الإجارة بالخصوص هو الذي ينبغي التكلّم فيه هنا؛ و هو أنّه هل يكون عقد الإجارة من صغريات هذه القاعدة أم لا؟ و بعبارة اخرى هل يكون في صحيح الإجارة ضمان حتّى يكون في فاسدها أيضاً ذلك أم لا؟

و منشأ الإشكال، الاختلاف في حقيقة الإجارة و ماهيّتها، فإن كان الطرفان فيها هما الأُجرة و المنفعة بحيث كان العقد وارداً عليهما، كما هو ظاهر تعريفها بأنّها تمليك المنفعة بعوض، لكانت المنفعة التي هي طرف العقد أيضاً مضمونة بالمسمّى في الإجارة الصحيحة، فيلزم أن تكون في فاسدها أيضاً كذلك.

و أمّا لو كان الطرف الآخر هي نفس العين المستأجرة دون المنفعة كما يظهر من تحديدها بأنّها إضافة في العين تستتبع ملكيّة المنفعة على ما مرّ سابقاً «1» من ترجيح هذا التعريف لكانت الإجارة بلحاظ المنفعة خارجة عن هذه القاعدة؛ لعدم ثبوت الضمان حينئذٍ في صحيحها فضلًا عن فاسدها؛ لأنّ المنفعة على هذا التقدير خارجة عن مورد العقد.

و من الواضح أنّ القاعدة أصلًا و كذا عكساً ناظرة إلى ما هو طرف للعقد و هو واقع عليه، اللّهمَّ إلّا أن يقال: بأنّ كون الإجارة إضافة في العين لا يقتضي عدم كون

______________________________

(1) في ص

10.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 330

..........

______________________________

المنفعة مورداً للعقد و مضمونة في صحيحه؛ لظهور أنّ الأُجرة عند العقلاء إنّما تقع بإزاء المنفعة و في مقابلها، و المصحّح لصدق الضمان هو هذا التقابل الذي مرجعه إلى عدم كونها مفوّضة إلى المستأجر مجّاناً و بلا عوض، فالظاهر حينئذٍ بمقتضى ما ذكر كون الإجارة من مصاديق هذه القاعدة، فاللازم ثبوت اجرة المثل في فاسدها، و لكنّك عرفت عدم كون هذه القاعدة قاعدة مستقلّة بحيث يتّكل عليها كذلك.

الثالث: قاعدة الإقدام التي استند إليها في المقام المحقّق الإصفهاني قدس سره «1»، نظراً إلى أنّ مثلها هو المدرك لثبوت الضمان لا نفس قاعدة ما يضمن، و أوّل من استند إلى هذه القاعدة على ما حكي «2» شيخ الطائفة الإماميّة في المبسوط «3»، ثمّ تبعه فيه بعض من أجلّاء الفقهاء، كالمحقّق و الشهيد الثانيين 0 «4».

و قد اعترض عليهم بعدم إجدائها في موارد العقود الفاسدة؛ لعدم تحقّق موضوع الإقدام، فإنّ ما أقدم عليه المتعاقدان هو الضمان الخاصّ؛ و هو كون ما انتقل إليه مضموناً بإزاء خصوص الطرف الآخر المنتقل عنه، فإنّ المشتري مثلًا إنّما أقدم على ضمان المبيع بخصوص الثمن الواقع بإزائه، و المستأجر في المقام إنّما أقدم على ضمان المنفعة قبال الأُجرة المسمّاة، و المفروض أنّه مع فساد العقد ينتفي هذا الضمان، و الضمان الآخر ليس ممّا أقدم عليه المتعاقدان، فما أقدما عليه غير واقع لفرض الفساد، و الضمان الآخر لا يكون مقدماً عليه بوجه.

و أجاب عن هذا الاعتراض المحقّق الخراساني قدس سره في تعليقته على متاجر الشيخ

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 93 94.

(2) الحاكي هو الشيخ الأنصاري في كتاب المكاسب: 3/ 182 و 188.

(3)

المبسوط: 3/ 58، 65، 68، 85 و 89.

(4) جامع المقاصد: 6/ 324، الروضة البهية: 3/ 236، مسالك الأفهام: 3/ 154 و 160 و ج 4/ 56.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 331

..........

______________________________

الأعظم قدس سره بما لفظه: يمكن أن يقال: بأنّهما أقدما على أصل الضمان في ضمن الإقدام على ضمان خاصّ، و الشارع إنّما لم يمض الضمان الخاصّ لا أصله، مع أنّ دليل فساد العقد ليس بدليل على عدم إمضائه فافهم. لكن لا دليل على كون الإقدام سبباً للضمان أصلًا «1».

و قد أوضح مرامه تلميذه المحقّق الإصفهاني قدس سره في كتاب الإجارة بما حاصله يرجع إلى أنّ الإقدام على التضمين متحقّق في ضمن الإقدام على التمليك، لأنّ الملحوظ هو العوض بما هو مال بضميمة الخصوصية، و المعوّض بطبيعيه المجامع مع وجوده و مع تلفه، و التعويض أيضاً كذلك، الملائم مع كونه عوضاً في حال وجود المعوّض و في حال تلفه، و عليه فالإقدام الضمني على التضمين الذي هو عبارة أُخرى عن شرط الضمان ثابت، و الدليل على فساد العقد إنّما يدلّ على عدم نفوذه بما هو تمليك، و لا يستلزم عدم نفوذ الالتزام الشرطي.

ثمّ أجاب عنه:

أوّلًا: بأن هذه الطبيعيّات منتزعة ممّا أقدما عليه لا أنّها داخلة في دائرة الإقدام.

و ثانياً: بأنّ شرط الضمان الذي هو مرجع الإقدام الضمني إنّما يكون له أثر إذا وقع في ضمن عقد صحيح، و المفروض في المقام فساده و عدم صحّة الشرط الابتدائي «2».

و التحقيق أنّ التمسّك بهذه القاعدة لثبوت الضمان في موارد العقود الفاسدة المعاوضية ممنوع؛ لأنّها مخدوشة صغرى و كبرى؛ أمّا الصغرى فلأنّ الواضح أنّ الإقدام المتحقّق في الخارج ليس إلّا فرداً من الإقدام متعلّقاً

بالضمان الخاصّ،

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقّق الخراساني: 31.

(2) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 94.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 332

..........

______________________________

و لا نظر للمتعاقدين إلى غيره أصلًا، خصوصاً فيما إذا كانا جاهلين بفساد المعاملة، الذي قد عرفت أنّه القدر المتيقّن من مفروض المقام، فدعوى ثبوت إقدام آخر على أصل الضمان في ضمن الإقدام على الضمان الخاصّ لا شاهد لها أصلًا.

ثمّ على تقدير تسليم هذه الدعوى نقول: إنّها غير منطبقة على الغرض الأصلي و هو إثبات أُجرة المثل؛ لأنّ الإقدام على أصل الضمان إن كان المراد به هو الإقدام على ما هو نتيجة الضمان في موارده؛ و هو اجرة المثل في الإجارة، و المثل أو القيمة في البيع و نحوه، بمعنى أنّ الإقدام الضمني إنّما هو الإقدام على خصوص اجرة المثل مثلًا، كما ربما يظهر من تقريب كلام المحقّق الخراساني قدس سره على ما عرفت، فيردّه وضوح خلافه، ضرورة أنّ المقدم لا يكون متوجّهاً إلى أُجرة المثل أصلًا، فكيف يقدم عليها. و إن كان المراد به هو الإقدام على أصل الضمان الذي مرجعه إلى عدم كون المال له مجّاناً و بلا اجرة فنقول: إنّه على تقدير تسليمه لا يكاد يثبت اجرة المثل بخصوصها؛ لأنّها بخصوصيتها لم يكن مقدماً عليها بوجه.

و أمّا الكبرى فكما أفاده المحقّق الخراساني قدس سره في ذيل كلامه لا دليل على كون الإقدام سبباً للضمان كاليد و الإتلاف و نحوهما، فالإقدام على تقدير ثبوته موضوعاً يحتاج إلى دليل الإمضاء، و لم يعلم كونه بنفسه عند العقلاء كذلك حتّى يكون عدم الردع كافياً في ثبوت الإمضاء.

الرابع: قاعدة الاحترام التي يدلّ عليها رواية أبي بصير، عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول

اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: سباب المؤمن فسوق، و قتاله كفر، و أكل لحمه معصية، و حرمة ماله كحرمة دمه «1». و تقريب الاستدلال بها من وجهين

______________________________

(1) الكافي: 2/ 359 ح 2، وسائل الشيعة: 12/ 297، كتاب الحج، أبواب أحكام العشرة ب 158 ح 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 333

..........

______________________________

أحدهما: أن يقال: إنّ المراد من الحرمة المتعلّقة بمال المؤمن هي الحرمة التكليفية، نظراً إلى وقوعها في سياق الأحكام التكليفية التي يدلّ عليها الفسوق و الكفر و المعصية، و إلى ظهور التشبيه بحرمة الدم في التكليف؛ لأنّ المشبه به هو ما يدلّ عليه قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «و قتاله كفر»، و يكون مدلولها حينئذٍ أنّ ما يترتّب على التعرّض لمال المؤمن هو الذي يترتّب عي التعرّض لقتاله، و هي شدة المبغوضية المعبّر عنها بالكفر.

و كيف كان، فغاية مفادها على هذا الوجه هو مجرّد الحكم التكليفي، و حينئذٍ فلا بدّ في استفادة الضمان منها.

إمّا من أن يقال كما حكي عن بعض أجلّة السادة بأنّ حرمة المزاحمة و إن كانت حكماً تكليفياً إلّا أنّه حيث تكون المزاحمة محرمة حدوثاً و بقاءً، و عدم تدارك المال بعد تلفه إبقاء للمزاحمة، و رفعها لا يتحقّق إلّا بتدارك المال، فاللّازم من هذا هو الضمان الوضعي «1».

و إمّا من أن يقال كما أفاده المحقّق الإصفهاني قدس سره: بأنّ المال المضاف إلى المسلم بإضافة الملكيّة له جهتان:

الأُولى: حيثية الملكيّة و رعايتها و احترامها عبارة عن عدم التصرّف فيما هو تحت سلطان الغير إلّا بإذنه.

الثانية: جهة المالية، و رعاية هذه الجهة و احترام هذا الشأن أن لا يجعله هدراً بحيث يعامل

معه معاملة ما لا مالية له، فالمال المضاف بإضافة الملكيّة له حرمتان: من حيث المضاف، و من حيث الإضافة.

______________________________

(1) حكى عنه المحقّق الأصفهاني في بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 95.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 334

..........

______________________________

و لكنّه قدس سره أورد على ما أفاده البعض بأنّ حقيقة مزاحمة أحد في ماله لا تعقل إلّا في المال الموجود، و لا تعقل في المعدوم لا حدوثاً و لا بقاءً، إلّا إذا فرض ثبوت البدل في ذمته ليقال تحرم مزاحمته في المحقّق وجوده خارجاً و المقدر وجوده في الذمة، فعدم تداركه و عدم تمكين المالك من التصرّف فيه بإخراجه من التقدير إلى التحقيق نوع من المزاحمة، لكن الكلام في إثباته في الذمة بنفس قاعدة الاحترام، فكيف يعقل أن تكون محقّقة لموضوعها.

و على ما أفاده نفسه أوّلًا: بأنّ الظاهر من حرمة المال المضاف بإضافة الملكيّة حرمة المضاف بما هو مضاف، كما في كلّ أثر مترتّب على المتحيث بحيثية، فإنّ الظاهر كون الحيثيّة تقييديّة لا تعليليّة، و مقتضاه إثبات احترام الإضافة لا احترام ذات المضاف، و اللّازم حينئذٍ أن يكون المفاد و المعنى احترام المملوك الذي هي الجهة الاولى من الجهتين المتقدمتين، الذي يكون مقتضاه عدم التصرّف فيما هو تحت سلطان الغير إلّا بإذنه، و احترام الملكيّة لا يقتضي أخذ المال بعنوانه في الموضوع، لحرمة التصرّف في ملك الغير، فإنّها لا تدور مدار ماليّته، إلّا أنّ الذي يهوّن الخطب أخذ عنوان المال فيما يتمحّض في الحكم التكليفي، كقوله عليه السلام: فلا يحلّ لأحد أن يتصرّف في مال غيره بغير إذنه «1»، و منه يعلم أنّ أخذ المال في موضوع هذا الحكم الذي لا يدور مدار ماليته باعتبار

غلبة كون المضاف مالًا، فتدبّر.

و ثانياً: بأنّ القاعدة لا تعمّ عمل الحرّ؛ لأنّ الظاهر من إضافة المال بعنوانه هي إضافة الملكيّة أو الحقّية، و عمل الحرّ و إن كان في نفسه مالًا لكنّه غير مضاف إلى عامله بإضافة الملكيّة، بل أضافه الكتابة إلى الكاتب و الخياطة إلى الخيّاط من

______________________________

(1) كمال الدين: 520 ح 49، الاحتجاج: 2/ 299، وسائل الشيعة: 9/ 540، كتاب الخمس، أبواب الأنفال ب 3 ح 7.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 335

..........

______________________________

إضافة العرض إلى موضوعه و الفعل إلى فاعله، لا الملك إلى مالكه، و صحّة إجارة نفسه للعمل لا تدلّ على كونه مملوكاً له، بل هي كصحّة بيعه كلّياً في ذمّته، فإنّ البائع لا يملك الكلّي، بل من حيث سلطانه على نفسه له إجارة نفسه للعمل و التعهّد بمال في ذمته بعوض، فصحّة تمليك العمل و تمليك كلّي الحنطة مثلًا لمكان تلك السلطنة لا لملك العمل و الحنطة قبلًا، و هو واضح جدّاً.

و ثالثاً: بما حاصله؛ عدم شمول القاعدة للمنافع الفائتة و الأعمال القائمة بالعامل من دون تسبيب من المستأجر؛ لأنّ مجرّد وصول نفع من الغير لا يوجب الضمان، و إلّا لوجب القول به مع عدم العقد الفاسد أيضاً، و العقد الفاسد ليس تسبيباً إلى إيجاد العمل ليجب حفظ حرمته بأداء بدله، بل تسبيب إلى الملكيّة و المفروض عدم حصولها «1».

و أُجيب عمّا أورده على البعض بأنّه يمكن أن يقال بثبوت الملازمة العرفية بين حرمة المزاحمة الثابتة حال وجود العين بلا إشكال، و بين الضمان و وجوب التدارك بعد التلف، فإنّ العرف إذا القي عليه هذا الحكم التكليفي الذي لا يعقل تحقّق موضوعه إلّا في حال وجود

العين ينسبق إلى ذهنه ثبوت الحكم الوضعي أيضاً، و عليه فلا حاجة إلى فرض ثبوت البدل في الذمة تحقيقاً لموضوع المزاحمة حتّى يكون الاستدلال بالقاعدة دوريّاً.

و يمكن الجواب عمّا أورده على نفسه أوّلًا ممّا يرجع محصله إلى أنّ الإضافة إلى المؤمن تصرف الكلام إلى الجهة الاولى من الجهتين المتقدّمتين بأنّ الإضافة ليست لأجل كونها حيثيّة تقييدية في ثبوت الحرمة، بل إنّما هي لأجل التمييز بين الأموال

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 95 97.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 336

..........

______________________________

التي هي الموضوع لهذا الحكم، و بين ما هو خارج عنه، ففي الحقيقة يرجع الكلام إلى أنّ الأموال تكون على قسمين: قسم تثبت له الحرمة؛ و هو ما يكون متعلّقاً بالمؤمن، و قسم خارج عن موضوع هذا الحكم؛ و هو ما يكون مضافاً إلى غيره، فالأثر المترتّب على الإضافة إنّما هو تشخيص الموضوع عن غيره، و لا دلالة فيها على أنّ الموضوع هو المضاف بما هو مضاف، و عليه فلا حاجة إلى التجشّم الذي ارتكبه من أنّ أخذ المال في الموضوع مع كون الحكم دائراً مدار الملكيّة و هي أعمّ من المالية إنّما هو باعتبار غلبة كون المضاف مالًا، فتأمّل جيّداً.

و عمّا أورده ثانياً بأنّه على فرض تسليم كون عمل الحرّ مالًا لا مجال لإخراجه عن هذه القاعدة؛ لأنّ المصحح لدخوله فيها هي صحّة إضافة المال إلى المؤمن و المفروض ثبوتها، و دعوى أنّ الظاهر كون الإضافة إضافة ملكيّة أو حقّيّة مدفوعة بخروجها عن الشاهد، بل اللّازم مجرّد صحّة الإضافة التي لا محيص عنها على تقدير كون العمل مالًا و العامل مؤمناً، كما هو غير خفيّ.

و أمّا ما أورده ثالثاً، فالظاهر تماميّته

إلّا أنّه ليس إشكالًا على القاعدة؛ بل على الاستناد إليها لجميع فروض المسألة كما هو ظاهر. هذا تمام الكلام في تقريب الاستدلال بالقاعدة من الوجه الأوّل، الذي مرجعه إلى كون مدلولها مجرّد حكم تكليفي.

و أمّا الوجه الثاني: فهو أنّه يمكن أن يقال بكون المراد من الحرمة في الرواية هي الحرمة الوضعيّة، أو الأعمّ منها و من التكليفية، بقرينة أنّ المنسبق إلى الأذهان من هذه العبارة هي الحرمة الوضعيّة أو الأعمّ، و حينئذٍ لا مانع عن الاستدلال بها للمقام لو لم يناقش فيها بأنّها لا تكون إلّا بصدد أصل التشريع، و لا دلالة لها على الإطلاق، أو بأنّها في مقام إفادة مرتبة الحرمة و أنّها هي مرتبة حرمة الدم، فلا بدّ حينئذٍ من إحراز أصل الحرمة مع قطع النظر عن القاعدة حتّى

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 337

..........

______________________________

يصحّ التمسّك بها، بل لا حاجة إليها حينئذٍ؛ لأنّ الكلام إنّما هو في أصل ثبوت الحرمة لا في مرتبتها.

و كيف كان، فمع قطع النظر عن هاتين المناقشتين يتمّ الاستدلال بالرواية التي هي المدرك للقاعدة في المقام.

الخامس: قاعدة الإتلاف، التي تستفاد من التتبع في الروايات الواردة في الموارد المختلفة، و من التعليل الواقع في بعضها، و إن لم تكن منصوصة بالعبارة المعروفة على الظاهر، و على أيّ فقد قيل: بأنّ شمولها للمنافع المستوفاة و الأعمال كذلك واضح؛ لأنّ إتلاف المنافع المتدرّجة في الوجود إنّما هو باستيفائها تدريجاً، و ليست كالأعيان بحيث يكون لها إتلاف محض، و كذا المنافع المفوّتة بناءً على شمول الإتلاف للتفويت؛ و هو المنع عن الوجود و إبقاء العدم على حاله، و أمّا المنافع الفائتة و الأعمال غير المستوفاة فلا تكاد تعمّهما

القاعدة.

و الظاهر أنّ شمول القاعدة للمنافع المستوفاة أو المفوّتة أيضاً محلّ إشكال؛ لأنّ المنافع و إن كانت مالًا إلّا أنّ صدق الإتلاف على الاستيفاء أو التفويت مشكل، بل صدقه على الأوّل أشكل، فتأمّل، و كذا يشكل الحكم بشمول القاعدة لصورة الجهل بفساد المعاملة؛ نظراً إلى ظهورها في ترتّب الضمان على الإتلاف فيما إذا أحرز كون المال للغير، بل شمولها لصورة العلم بالفساد أيضاً كذلك؛ لأنّ الإتلاف حينئذٍ يكون أيضاً مبتنياً على كونه مال النفس، و لو عند العقلاء القائلين بصحّة المعاملة، و لكن هذا الإشكال الأخير مندفع فتأمّل.

السادس: قاعدة اليد، التي هي مدلول رواية رواها جماعة من أصحاب الصحاح؛ كابن ماجة و الترمذي و أبي داود على ما حكي عن قتادة، عن الحسن البصري، عن سمرة بن جندب، عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: على اليد ما أخذت

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 338

..........

______________________________

حتّى تؤدّي أو تؤديه «1». و روى: «قبضت»، مكان «أخذت». و شاع التمسّك بهذا الحديث بين الفقهاء المتأخّرين من الإماميّة دون القدماء منهم، و عليه فانجبار ضعف سنده غير معلوم، بل معلوم العدم و التحقيق في محلّه.

و كيف كان، فمع قطع النظر عن السند نقول: إنّ الاستدلال بهذه القاعدة للمقام يبتني على إبطال دعوى من يقول باختصاصها ابتداءً بالأيادي القاهرة العادية، كما حكي عن بعض الأجلّة، و كذا على إبطال قول من يدّعي أنّ عروض كثرة التخصيص لها مانع عن جواز التمسّك بها في الموارد المشكوكة، كما ربما ينسب إلى بعض آخر، و كذا يبتني على دعوى عدم اختصاص القاعدة بصورة وجود المأخوذ، نظراً إلى أنّه ليس مفادها مجرّد إيجاب الأداء، و

لو كان متوقّفاً على بذل مال و صرف مئونة، بل مفادها وجوب الأداء ما دامت العين موجودة، و مثله أو بدله مع التلف بالتقريب المذكور في محلّه، الذي يرجع إلى إفادة القاعدة للحكم الوضعي و هو ضمان المأخوذ.

و العمدة في المقام ابتناء التمسّك بالقاعدة على شمولها للمنافع، و عدم اختصاصها بالأعيان الموجودة في الخارج، و منشأ الإشكال ما قاله الشيخ الأعظم قدس سره في مسألة ضمان المنافع غير المستوفاة في المقبوض بالعقد الفاسد؛ من أنّه لا إشكال في عدم شمول صلة الموصول للمنافع، و حصولها في اليد بقبض العين لا يوجب صدق الأخذ، و دعوى أنّه كناية عن مطلق الاستيلاء الحاصل في المنافع بقبض الأعيان مشكلة «2».

و قال المحقّق الإصفهاني قدس سره: إنّه ليس وجه الإشكال عدم صدق الأخذ بالنسبة

______________________________

(1) سنن ابن ماجة: 3/ 147 ح 2400، سنن الترمذي: 3/ 566 ح 1269، سنن أبي داود: 3/ 526 ح 3561، عوالي اللآلي: 2/ 345 ح 10، مستدرك الوسائل: 17/ 88، كتاب الغصب ب 1 ح 4.

(2) كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري: 3/ 204.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 339

..........

______________________________

إلى المنافع، فإنّ الأخذ بما هو لا يختصّ بالأعيان الخارجيّة بل يعم الأُمور المعنويّة كالعهد و الميثاق، فضلًا عن شمول المنافع التي هي من حيثيّات العين الخارجية و شؤونها، كما أنّه ليس وجه الإشكال إرادة الجارحة المخصوصة من اليد كي يختص بالأعيان القابلة للقبض بالجارحة، إذ لا ريب في أنّها كناية عن الاستيلاء، و لذا لا ريب في صدق وضع اليد على الأراضي و العقار بالاستيلاء عليها. بل وجه الإشكال أمران، ثمّ ذكر الأمر الأوّل مع جوابه. و قال في الأمر الثاني الذي

اختاره ما ملخّصه: إنّ مقتضى على اليد أنّ ما يدخل في العهدة بوضع اليد عليه ما كان أدائياً و قابلًا للأداء بعد أخذه، و هذا شأن العين. و أمّا المنافع، فما فات منها و هي المأخوذة غير أدائية بنفسها، و ما لم تفت فهي غير مأخوذة و لا كلام فيه «1».

و الظاهر أنّ إشكال الشيخ قدس سره ليس لأجل الوجه الذي أفاده هذا المحقّق، بل وجه الإشكال ظهور عبارة القاعدة في كون موضوعها هو المال الذي يمكن تعلّق الأخذ به بالذات و بلا واسطة، و هذا شأن العين. و أمّا المنافع، فهي و إن كانت قابلة للاتّصاف بالمأخوذية، إلّا أنّ الأخذ لا يتعلّق بها من دون واسطة، فالقاعدة لا تشملها لظهورها في المأخوذ بلا واسطة.

و أمّا الوجه الذي أفاده المحقّق المزبور فيرد عليه منع ظهور القاعدة في الاختصاص بما كان قابلًا للأداء كي يختصّ بغير المنافع، بل فائدة ذكر الغاية مجرّد استمرار الحكم و ثبوته إلى حين تحقّقها، أ لا ترى أنّ قوله عليه السلام: كلّ شي ء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر «2» هل يختصّ بما إذا كان قابلًا للعلم بقذارته، أو أنّ الظاهر كونه غاية

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 98 99.

(2) المقنع: 15، مستدرك الوسائل: 2/ 583، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات ب 30 ح 4، وسائل الشيعة: 3/ 467، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات ب 37 ح 4 باختلاف.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 340

..........

______________________________

للحكم بطهارة مشكوك النجاسة مطلقاً؟ و مثله قوله عليه السلام: البيّعان بالخيار حتّى يفترقا «1». فإنّ الظاهر ثبوت خيار المجلس و لو مع عدم إمكان الافتراق بينهما، كما إذا كانا واحداً فتدبّر.

و كيف كان، فان

كان الوجه في إشكال الشيخ قدس سره ما أفاده المحقّق المزبور فقد عرفت ما فيه، و إن كان الوجه فيه ما ذكرنا فيرد عليه منع ظهور القاعدة في الاختصاص بما كان تعلّق الأخذ به بالذات و بلا واسطة ممكناً، بل الظاهر أنّ الأخذ في عبارتها أعمّ فيشمل المنافع أيضاً.

السابع: قاعدة الضرر المستفادة من قوله صلى الله عليه و آله في رواية سمرة بن جندب: لا ضرر و لا ضرار «2». و التحقيق في السند و اعتبار القاعدة موكول إلى محلّه و الغرض هنا بيان مفادها و مدلولها، فنقول: مختصر الكلام فيها أنّه إمّا أن يقال: بأنّ كلمة «لا» فيها للنهي، و إمّا أن يقال: بأنّها للنفي، و على التقدير الأوّل فتارةً يقال: بأنّ النهي فيها حكم من الأحكام الإلهيّة، كسائر النواهي المتوجّهة إلى المكلّفين، و مرجعه حينئذٍ إلى أنّه لا يجوز أن يضرّ أحد بالنسبة إلى آخر، و يحرم أن يتحقّق الإضرار منه بالإضافة إلى الغير، و أُخرى يقال: بأنّ النهي فيها نهي صادر عن النبي صلى الله عليه و آله في مقام أعمال السلطنة و الحكومة، و ليس حكماً من الأحكام الإلهيّة العامّة الشاملة لجميع المكلّفين، و اختار هذا الوجه الماتن دام ظلّه في رسالته في هذه القاعدة «3».

فإن قلنا بالثاني فالتمسّك بهذه القاعدة في شي ء من الأحكام الفقهية التي من جملتها المقام في غير محلّه؛ لعدم دلالتها على حكم من الأحكام إثباتاً أو نفياً، كما هو

______________________________

(1) الكافي: 5/ 170 ح 4 و 5، وسائل الشيعة: 18/ 5، كتاب التجارة، أبواب الخيار ب 1 ح 1 و 2.

(2) الكافي: 5/ 292 ح 2، الفقيه: 3/ 147 ح 18، وسائل الشيعة: 25/ 428، كتاب

إحياء الموات ب 12 ح 3.

(3) الرسائل للإمام الخميني: 1/ 24.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 341

..........

______________________________

غير خفيّ.

و إن قلنا بالأوّل فمفاده حينئذٍ مجرّد حكم تكليفيّ؛ و هو النهي عن الإضرار بالغير، و لا دلالة فيها على الحكم الوضعي الذي هو المقصود في المقام، إلّا أن يقال: بأنّ المتفاهم عند العرف من النهي التكليفي المتعلّق بالإضرار لزوم التدارك أيضاً على تقدير تحقّق الإضرار المحرّم، لكن يرد على الاستدلال بها للمقام على تقدير دلالتها على الحكم الوضعي أيضاً أن تحقّق الإضرار هنا محلّ نظر، بل منع؛ لأنّ استيفاء منفعة الدار بعنوان أنّها مملوكة له و له حق الاستيفاء لا يوجب تحقّق موضوع الإضرار، و لو انكشف الخلاف و أنّه لم يكن مستحقاً لاستيفائها؛ لأنّ الظاهر أنّ صدقه متوقّف على أن لا يكون التصرّف مستنداً إلى اعتقاد الاستحقاق، إلّا أن يقال: إنّ مجرّد الاستيفاء و إن كان بنفسه لا يوجب تحقّق موضوع الإضرار إلّا أنّه بضميمة عدم التدارك بعد انكشاف الخلاف يوجب تحقّقه فتدبّر، هذا كلّه على تقدير كون القاعدة ناهية.

و أمّا على تقدير كونها نافية، فتارةً يقال: بأنّ المراد منها أنّ الشارع لم يشرع حكماً ضرريّاً أصلًا، و أُخرى يقال: بأنّ المراد منها أنّ الأحكام المجعولة الشاملة بعمومها أو إطلاقها لصورة الضرر أيضاً مقصورة على غير مورد الضرر، كما هو مبنى الحكومة التي اختارها كثير من المحقّقين «1» في مفاد هذه القاعدة.

فإن أُريد الأوّل فالظاهر تماميّة دلالتها على ثبوت الضمان في المقام؛ لأنّ الحكم بعدم الضمان ضرريٌّ، و مفاد القاعدة على هذا التقدير الإخبار عن عدم مشروعية

______________________________

(1) فرائد الأُصول: 2/ 462، الحاشية على كفاية الأُصول: 2/ 338، مصباح الأُصول: 2/ 540.

تفصيل

الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 342

..........

______________________________

الحكم الضرري، و الواقع لا يخلو عن أحد أمرين: الضمان و عدمه، فإذا كان العدم غير مشروع فاللّازم ثبوت الحكم بالضمان، و الظاهر عدم كون المراد بالقاعدة هذا المعنى، و إلّا لزم أن تكون أدلّة الخمس و الزكاة و بعض النفقات و التغريمات مخصّصة لقاعدة الضرر، كما أفاده المحقّق الأصفهاني «1» مع أنّها آبية عن التخصيص، كما هو ظاهر.

و إن أُريد الثاني كما هو المعروف بين المحقّقين من المتأخّرين فموردها ما إذا كان للحكم موردان: ضرري و غير ضرري، و يكون مقتضى نفي الضرر الاقتصار على غير مورد الضرر، و ليس في المقام عموم أو إطلاق يقتضي عدم الضمان، حتّى تكون القاعدة مقتضية للتخصيص بغير المقام لثبوت الضرر فيه، إلّا أن يقال: إنّ المجعول بحسب الواقع و نفس الأمر إمّا الحكم بالضمان، و إمّا الحكم بعدمه لعدم خلوّ الواقع عنهما، فإن كان المجعول هو الحكم بالضمان فقاعدة نفي الضرر لا تنافيه إلّا أن يترتّب الضرر على الضمان في بعض الأحيان، و إن كان المجعول هو الحكم بالعدم فالظاهر أنّ الحكم بالعدم لم يجعل لخصوص المقام، بل للأعمّ منه و ممّا إذا لم يقبض العين حتّى يستوفي المنفعة، و كذا نظائره ممّا لا سبيل فيه إلى الحكم بالضمان، و عليه فمقتضى حكومة قاعدة نفي الضرر على دليل الحكم بعدم الضمان الشامل بإطلاقه للمقام و غيره تخصيص ذلك الدليل و الحكم بأنّه مقصور على غير المقام، الذي يترتّب على عدم ثبوت الضمان فيه ضرر جدّاً، إلّا أن يقال: بأنّه يحتمل أن يكون هنا دليل مفاده عدم الضمان في خصوص المقام، و عليه فيصير ذلك الدليل كأدلّة الخمس و

الزكاة و أشباههما ممّا لا وجه لتقدّم قاعدة نفي الضرر عليه و لكنّه في

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 100.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 343

[إجارة المشاع

] مسألة 24: تجوز إجارة المشاع، سواء كان للمؤجر الجزء المشاع من عين فآجره، أو كان مالكاً للكلّ و آجر جزءاً مشاعاً منه كنصفه أو ثلثه، لكن في الصورة الاولى لا يجوز للمؤجر تسليم العين للمستأجر إلّا بإذن شريكه. و كذا يجوز أن يستأجر اثنان مثلًا داراً على نحو الاشتراك و يسكناها معاً بالتراضي، أو يقتسماها بحسب المساكن بالتعديل و القرعة، كتقسيم الشريكين الدار المشتركة، أو يقتسما منفعتها بالمهاياة؛ بأن يسكنها أحدهما ستّة أشهر مثلًا ثمّ الآخر، كما إذا استأجرا معاً دابّة للركوب على التناوب، فإنّ تقسيم منفعتها الركوبيّة لا يكون إلّا بالمهاياة؛ بأن يركبها أحدهما يوماً و الآخر يوماً مثلًا، أو يركبها أحدهما فرسخاً و الآخر فرسخاً (1).

______________________________

كمال البعد. و بالجملة فالظاهر أنّه بناءً على حكومة القاعدة على الأدلّة الأوّلية يكون مقتضاها في المقام ثبوت الضمان على ما عرفت.

هذه هي الأُمور السبعة التي استند إليها للضمان في أصل فرض المسألة، و قد عرفت تماميّة بعضها، فلا مناص عن الحكم به فيما هو القدر المتيقّن الذي بنينا على البحث عنه أوّلًا، و من التأمّل فيما ذكرنا يظهر حكم سائر الفروض فتأمّل جيّداً.

(1) لا إشكال و لا خلاف بين الإماميّة في جواز إجارة المشاع كإجارة المقسوم، سواء آجره من شريكه أو من الأجنبي، و به قال من العامّة مالك و الشافعي و أبو يوسف و محمّد، و حكي عن أبي حنيفة و أحمد في أحد قوليهما و هو المشهور عنه أنّه لا يجوز للشريك أن

يؤجر حصته إلّا من شريكه؛ نظراً إلى أنّ العقد وقع على ما

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 344

..........

______________________________

لا يمكن استيفاء المنفعة منه؛ لأنّ نصف المنفعة مشاعة لا يمكن استيفاؤها «1».

و الدليل على الصحّة التي اختارها علماؤنا أجمع كما صرّح به في التذكرة «2» مضافاً إلى الإجماع العمومات الدالّة عليها، و خصوص ما ورد منها في باب الإجارة، و الإشاعة و الشركة لا تصلحان للمنع؛ لأنّ استيفاء المنفعة ممكن مع إذن الشريك، و مع عدمه يرفع الأمر إلى الحاكم، كما هو كذلك بالنسبة إلى المؤجر قبل الإجارة، فما جعله القائل بعدم الجواز دليلًا عليه، إن أُريد به عدم إمكان استيفاء المنفعة مع فرض الإشاعة حتّى يرجع ذلك إلى المانع العقلي فوضوح خلافه يغني عن البحث معه، و إن أُريد عدم إمكان استيفائها بدون إذن الشريك فهو لا يصلح علّة للمنع؛ لأنّ المانع الشرعي القابل للزوال إمّا بالإذن و إمّا بالإفراز، و القسمة لا تمنع عن صحّة الإجارة.

نعم، ربما يمكن أن يتوهّم أنّ عدم صحّة إجارة المشاع إنّما هو لأجل أنّ المعتبر في صحّة الإجارة تعلّقها بعين موجودة في الخارج حتّى يكون أثرها تملّك منفعتها أو العمل الصادر منها.

و بعبارة اخرى: نتيجة الإجارة و إن كانت هي ملكيّة المنفعة أو العمل على عهدة الأجير، إلّا أنّ متعلّقها هي العين الموجودة في الخارج، و لذا يقال: آجره الدار مثلًا و لا يقال: آجره منافعها، و الكسر المشاع أي الثلث و النصف و نحوهما لا يكون موجوداً في الخارج؛ لأنّ المتحقّق فيه إنّما هي العين المتّصفة بالوحدة، و إلّا أي و إن كان الكسر المشاع موجوداً في الخارج يلزم تحقّق الأُمور غير المتناهية فيه،

______________________________

(1)

بداية المجتهد: 2/ 226 227، المغني لابن قدامة: 6/ 137، مجمع الأنهر: 3/ 535 536، المجموع للنووي: 15/ 318 319، تذكرة الفقهاء: 2/ 332.

(2) تذكرة الفقهاء: 2/ 332.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 345

..........

______________________________

كما لا يخفى.

و الجواب عن هذا التوهّم مضافاً إلى أنّ مقتضاه عدم صحّة البيع، و كذا غيره من العقود الناقلة أيضاً، و إلى أنّ لازمه عدم صحّة إجارة المشاع حتّى من الشريك إنّا و إن حقّقناه في محلّه أنّ الكسر المشاع إنّما هو عبارة عن الأمر الاعتباري، الذي يعتبره العقلاء بالنسبة إلى العين و ليس له ما بحذاء في الخارج، إلّا أنّا ذكرنا هناك أنّ اتّصاف العين به إنّما هو في الخارج، ضرورة أنّ العين متّصفة في الخارج بأنّ لها نصفين. غاية الأمر أنّ وعاء الاعتبار إنّما هو الذهن، كما هو الشأن في سائر الأُمور الاعتبارية العقلائية، كالملكية و الزوجية و نحوهما، فإنّ العين متّصفة في الخارج بأنّها مملوكة، و المرأة متّصفة فيه بأنّها زوجة، مع أنّها ليس في الخارج إلّا العين و المرأة، و لا يكون شي ء زائد على ذاتهما فيه، فلا منافاة بين أن يكون ظرف الاتّصاف هو الخارج، و وعاء الاعتبار هو الذهن. هذا، و الذي يسهّل الأمر في المقام شيوع إجارة المشاع بين العقلاء، الذين هم الأصل في باب المعاملات كما عرفت سابقاً «1».

نعم، قد يشكل في بعض صور إجارة المشاع و هو ما إذا آجر أحد الشريكين حصّته من الغير مع عدم إذن الشريك، و عدم انتقال سهمه من المنافع إليه بأنّ تصرّف المستأجر في العين يحتاج إلى إذن الشريك لا محالة، و السرّ فيه أنّ تصرّفه فيها مستلزم للتصرّف في ملك الشريك،

ضرورة أنّ كلّ جزء متصوّر فهو مشترك بينهما، و من المعلوم أنّ الإذن الحاصل من الشريك لا يرجع إلى التمليك، بل لا يتجاوز عن حدّ جواز الانتفاع من دون حصول ملك، و عليه فلا يمكن تسليم

______________________________

(1) في ص 11.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 346

..........

______________________________

العين على نحو يكون المقدار الذي يتصرّف فيه المستأجر مملوكاً له من حيث المنفعة، فلا يمكن التسليم على طبق ما وقع عليه التمليك بمقتضى عقد الإجارة.

و منه يظهر أنّه مع عدم الإذن لا محيص عن الضمان أيضاً، مضافاً إلى الحرمة، و إن كان ربما يستفاد من المتن و مثله ممّا اقتصر فيه على مجرّد النهي أو العصيان لو وقع التسليم بدون إذن الشريك عدم الضمان، إلّا أن يقال بعدم كونه في مقام البيان من هذه الجهة، و الغرض بيان عدم التنافي بين النهي أو العصيان الحاصل بالتصرّف في مال الغير بغير إذنه، و بين صحّة التسليم و ترتّب آثاره عليه، كما لا يخفى على المتأمِّل.

و كيف كان، فالجواب عن أصل الإشكال منع عدم إمكان التسليم على طبق ما وقع عليه التمليك، ضرورة أنّ المستأجر لا يستحقّ إلّا المنفعة على سبيل الإشاعة، و المؤجر قادر على تسليم العين إليه لاستيفاء ما يستحقّه، إمّا بإذن الشريك، و إمّا بدون إذنه. غاية الأمر ثبوت الحرمة و الضمان، و لكنّهما لا يمنعان عن صحّة الإجارة و وقوع التسليم مطابقاً لمقتضاها.

و قد انقدح ممّا ذكرنا أنّ جواز إجارة المشاع فيما إذا كان المؤجر مالكاً للكلّ ممّا لا ينبغي المناقشة فيه أصلًا؛ لعدم الافتقار إلى إذن الغير.

كما أنّه لا إشكال في جواز استئجار اثنين داراً على نحو الإشاعة، إمّا بأن يستأجراها بإجارة

واحدة، أو يستأجر كلّ واحد منهما نصفها المشاع ثمّ يقتسمان مساكنها بالتراضي، أو بالقرعة على نحو اقتسام المؤجر مع شريكه، و لا مجال للإشكال بأنّ القدر المتيقّن من تأثير القسمة إنّما هو لو كانت موجبة لإفراز العين و تقسيمها من حيث الملكيّة، و أمّا تأثيرها في اقتسام المنفعة فلا دليل عليه، وجه بطلان الإشكال مضافاً إلى ما عرفت من أنّ تقسيم المستأجرين إنّما هو كتقسيم

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 347

..........

______________________________

المؤجر مع شريكه، إلّا أن يقال بجريان الإشكال فيه أيضاً أنّ القسمة عقد مستقلّ يشمله عموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ «1» و لا تحتاج في كلّ مورد إلى دليل خاصّ.

و يجوز الاقتسام بالمهاياة أيضاً بأن يقتسما المنفعة من حيث الزمان، كما في استئجار شخصين دابّة للركوب على التناوب على ما أوضحه في المتن.

ثمّ إنّه يجوز إجارة اثنين نفسهما على عمل معيّن على وجه الشركة، كحمل شي ء معيّن لا يمكن إلّا بالمتعدّد أو مع إمكان الواحد أيضاً، و ليس هذا من قبيل الشركة في الأبدان؛ لأنّ موردها ما إذا اشترك اثنان فيما يحصل من عمل كلّ واحد منهما مع استقلالهما فيه، كما إذا اشترك كاتبان فيما يحصل من عملهما مع استقلال كلّ منهما بعمله و بالاستئجار عليه.

تتمّة: حكم في العروة بثبوت الخيار في موضعين:

أحدهما: ما لو كان المستأجر جاهلًا بكون مورد الإجارة مشتركاً، كما إذا آجره داره فتبيّن أنّ نصفها للغير و لم يجز ذلك الغير، فإنّ له خيار الشركة بل و خيار التبعّض.

________________________________________

لنكرانى، محمد فاضل موحدى، تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، در يك جلد، مركز فقهى ائمه اطهار عليهم السلام، قم - ايران، اول، 1424 ه ق

تفصيل الشريعة

في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة؛ ص: 347

ثانيهما: ما إذا آجره نصف الدار مشاعاً، و كان المستأجر معتقداً أنّ تمام الدار له فيكون شريكاً معه في منفعتها، فتبيّن أنّ النصف الآخر مال الغير فالشركة مع ذلك الغير. قال فيها: ففي ثبوت الخيار له حينئذٍ وجهان، لا يبعد ذلك إذا كان في الشركة مع ذلك الغير منقصة له «2».

و يرد عليه ما أورد عليه بعض المحقّقين من المحشين: من عدم الدليل على ثبوت

______________________________

(1) سورة المائدة 5: 1.

(2) العروة الوثقى: 5/ 59 مسألة 17.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 348

..........

______________________________

الخيار في الصورة الأخيرة، و إن كانت الشركة مع الغير منقصة له؛ لأنّ مجرّد ذلك ليس من أسباب الخيار ما لم تكن المعاملة مبنية عليه، ضرورة أنّ الخيار في المقام لا بدّ إمّا أن يكون مسبّباً عن تخلّف الشرط أو الوصف و المفروض العدم، و إمّا أن يكون لأجل التبعّض و الشركة و المفروض ثبوتهما من أوّل الأمر، فلا وجه لثبوت الخيار «1».

______________________________

(1) راجع العروة الوثقى: 5/ 59، التعليقة 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 349

[لو آجر المستأجر العين المستأجرة بأكثر ممّا استأجر

] مسألة 25: لو استأجر عيناً و لم يشترط عليه استيفاء منفعتها بالمباشرة يجوز أن يؤجرها بأقلّ ممّا استأجر و بالمساوي و بالأكثر. هذا في غير البيت و الدار و الدكّان و الأجير، و أمّا فيها فلا تجوز إجارتها بأكثر منه إلّا إذا أحدث فيها حدثاً من تعمير أو تبييض أو نحو ذلك، و لا يبعد جوازها أيضاً إن كانت الأُجرة من غير جنس الأُجرة السابقة. و الأحوط إلحاق الخان و الرحى و السفينة بها، و إن كان عدمه لا يخلو من قوّة.

و لو استأجر داراً مثلًا بعشرة دراهم فسكن في نصفها و آجر الباقي بعشرة دراهم من دون إحداث حدث جاز، و ليس من الإجارة بأكثر ممّا استأجر. و كذا لو سكنها في نصف المدّة و آجرها في باقيها بعشرة. نعم، لو آجرها في باقي المدّة أو آجر نصفها بأكثر من عشرة لا يجوز (1).

______________________________

(1) لا إشكال في جواز أن يؤجر العين بأقلّ ممّا استأجر أو بالمساوي مع عدم اشتراط استيفاء المنفعة عليه بالمباشرة، إنّما الإشكال و الخلاف في جوازه بالأكثر، و قد اختلفت فيه الآراء و تشتّت فيه الأقوال، حتّى أنّه وقع من الفقيه الواحد مذهبان في الموضعين، و وقع الخلل و الاختلاف في نقل المذاهب و الأقوال كما في المفتاح «1»، و لكنّ الظاهر ثبوت الشهرة «2» بين القدماء على المنع، بل قد ادّعى الإجماع السيّدان رحمهما اللّٰه في الانتصار «3» و الغنية «4»، و كذا الشيخ في الخلاف «5»،

______________________________

(1) مفتاح الكرامة: 7/ 83.

(2) المقنع: 392، النهاية: 445، المقنعة: 640.

(3) الانتصار: 475.

(4) غنية النزوع: 287.

(5) الخلاف: 3/ 494 مسألة 11.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 350

..........

______________________________

و لكن مع وجود الروايات الكثيرة في المسألة و ظهور كونها المستند لهم لا مجال للاتّكال على الإجماع فضلًا عن الشهرة، فلا بدّ من التكلّم أوّلًا فيما هو مقتضى القاعدة، ثمّ فيما تقتضيه الروايات الواردة في المقام، و أنّها هل تقتضي الجواز و الكراهة، أو الحرمة الوضعيّة أو التكليفيّة، أو كلتيهما مطلقاً أو في بعض الموارد؟ فنقول:

أمّا القاعدة فلا ريب في أنّ مقتضاها الجواز؛ لعدم وجود ما يقتضي المنع، و التعليل باستلزام الزيادة للربا واضح المنع بعد ظهور أنّه يكون هنا معاملتان لا ارتباط لإحداهما

بالأُخرى، و إن كان المستأجر في الإجارة الثانية هو المؤجر في الإجارة الأُولى كما في البيع.

و أمّا الروايات، فاعلم أنّ العناوين الواردة فيها المحكومة بالجواز أو الكراهة أو الحرمة ستّة أو سبعة، بناءً على اختلاف معنى الدار و البيت كما هو الظاهر من اللغة. و لا بدّ من البحث في كلّ واحد من هذه العناوين مستقلا، فنقول:

منها: الأرض، و قد وردت فيها طوائف من الأخبار:

الأُولى: ما يدلّ بظاهرها على جواز إجارة الأرض المستأجرة بأكثر ممّا استؤجرت مطلقاً، من دون فرق بين ما إذا أحدث فيها شيئاً، و ما إذا لم يحدث، مثل رواية أبي الربيع الشامي، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: سألته عن الرجل يتقبّل الأرض من الدهاقين ثمّ يؤاجرها بأكثر ممّا تقبّلها به و يقوم فيها بحظ السلطان؟ فقال: لا بأس به، إنّ الأرض ليست مثل الأجير و لا مثل البيت، إنّ فضل الأجير و البيت حرام. و رواه الصدوق مع زيادة: و لو أنّ رجلًا استأجر داراً بعشرة دراهم فسكن ثلثيها و آجر ثلثها بعشرة دراهم لم يكن به بأس، و لكن لا يؤاجرها بأكثر

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 351

..........

______________________________

ممّا استأجرها «1». و قد احتمل أن تكون هذه الزيادة فتوى الصدوق مذكورة بعد الرواية، كما هو دأبه في كتاب الفقيه، و عليه فهي مأخوذة من رواية الحلبي الآتية لعدم الاختلاف بينهما أصلًا، كما لا يخفى.

و كيف كان، يحتمل في الرواية أن يكون المراد من التقبّل فيها هو التقبّل بنحو المزارعة لا الإجارة، و لا يكون ترك الاستفصال دليلًا على الإطلاق بعد احتمال تعارف استعمال لغة التقبّل في المزارعة، خصوصاً بعد كون المتعارف ظاهراً في الأراضي

التي يتقبّلها الدهاقين من السلاطين هي المعاملة بنحو المزارعة، و هذا ممّا يوجب الظنّ الغالب بكون المراد من المؤاجرة الواقعة بأكثر ممّا تقبّل الأرض به هي المزارعة أيضاً، لاستعمال مثل هذه الكلمة فيها في بعض الروايات الآتية، خصوصاً مع ملاحظة كونها بصيغة المفاعلة، كما لا يخفى.

و دعوى أنّ قوله عليه السلام في ذيل الرواية: «إنّ الأرض ليست مثل الأجير ..» ظاهر في كون المراد نفي المماثلة بين الأرض المستأجرة و الأجير و البيت، لا بينها إذا تقبّلها بنحو المزارعة و بينهما.

مدفوعة بمنع هذا الظهور لو لم نقل بكونه ظاهراً في خلافه، نظراً إلى ظهور العلّة في عدم كونها تعبّداً محضاً، و لو كانت المماثلة المنفية هي المماثلة بين الأرض المستأجرة و بينهما لكان اللّازم أن تكون العلّة كأصل الحكم أمراً تعبّديّاً صرفاً، و هذا بخلاف ما لو كان المراد من نفي المماثلة هو نفيها بين المزارعة التي موضوعها الأرض و بين إجارة الأجير و البيت. و به ينقدح الخلل فيما استظهره المحقّق

______________________________

(1) الكافي: 5/ 271 ح 1، المقنع: 392، الفقيه: 3/ 157 ح 688، التهذيب: 7/ 203 ح 894، الاستبصار: 3/ 129 ح 464، وسائل الشيعة: 19/ 125، كتاب الإجارة ب 20 ح 2 و 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 352

..........

______________________________

الإصفهاني قدس سره من ذيل الرواية، حيث قال: إنّ ظاهره أنّ الأرض ليست كالبيت في الإجارة بالأكثر، لا أنّ المزارعة ليست كالإجارة ليجوز فيها المزارعة بالأكثر «1».

و رواية أبي المغراء، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في الرجل يؤاجر الأرض ثمّ يؤاجرها بأكثر ممّا استأجرها، قال: لا بأس، إنّ هذا ليس كالحانوت و لا الأجير، إنّ فضل الحانوت و

الأجير حرام «2». و يحتمل قويّاً أيضاً أن يكون المراد من المؤاجرة في هذه الرواية هي المزارعة؛ نظراً إلى صيغة المفاعلة و إلى التعليل بالتقريب المذكور في الرواية السابقة، و استعمال الاستئجار لا ينافي ذلك.

و رواية إبراهيم بن ميمون أنّ إبراهيم بن المثنّى سأل أبا عبد اللّٰه عليه السلام و هو يسمع عن الأرض يستأجرها الرجل ثمّ يؤاجرها بأكثر من ذلك؟ قال: ليس به بأس، إنّ الأرض ليست بمنزلة الأجير و البيت، إنّ فضل البيت حرام، و فضل الأجير حرام «3».

الثانية: ما يدلّ بظاهرها على عدم جواز إجارة الأرض المستأجرة بأكثر ممّا استأجرها به مطلقاً، مثل ما رواه الكليني، عن عدّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد و أحمد بن محمّد، عن عبد الكريم، عن الحلبي قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: أتقبّل الأرض بالثلث أو الربع فأقبلها بالنصف، قال: لا بأس به، قلت: فأتقبّلها بألف درهم و أُقبّلها بألفين، قال: لا يجوز، قلت: لِمَ؟ قال: لأنّ هذا مضمون و ذلك غير مضمون «4».

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 62.

(2) الكافي: 5/ 272 ح 3، وسائل الشيعة: 19/ 125، كتاب الإجارة ب 20 ح 4.

(3) الكافي: 5/ 272 ح 5، وسائل الشيعة: 19/ 126، كتاب الإجارة ب 20 ح 5.

(4) الكافي: 5/ 272 ح 6، وسائل الشيعة: 19/ 126، كتاب الإجارة ب 21 ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 353

..........

______________________________

و الظاهر كما حكي عن سيّدنا العلّامة الأُستاذ البروجردي قدس سره أنّ أحمد بن محمّد لا يمكن له النقل عن عبد الكريم من دون واسطة، و أنّه هو عليّ بن الحكم كما في سند الرواية على ما رواه الشيخ قدس

سره «1».

و كيف كان، فلا إشكال في أنّ المراد بالتقبّل بالثلث أو الربع هي المزارعة، و في أنّ التقبل بالألف أو بالألفين لا يكون مزارعة اصطلاحاً، و حينئذٍ نقول: ظاهر الرواية مع قطع النظر عن العلّة المنصوصة فيها التفصيل في الأرض بين المزارعة و الإجارة بجواز الفضل في الأُولى دون الثانية، و أمّا مع ملاحظة العلّة الظاهرة في أنّ الدرهم و الدينار مضمونان ثابتان في الذمة، و يجب على المتقبّل أداؤهما مطلقاً، سواء حصل من الأرض فائدة أم لا، و هذا بخلاف الثلث و الربع و نحوهما، فإنّهما تابعان لحصولها، إذ بدونها لا يعقل الثلث و الربع و أمثالهما، فلا بدّ من النظر في معنى الرواية فنقول:

ظاهر التعليل بعلّة عدم كون تلك العلّة أمراً تعبدياً خارجاً عن المتفاهم العرفي، خصوصاً مع كونه مسبوقاً بالسؤال، و مع قناعة السائل بالجواب المشتمل عليه، و حينئذٍ يشكل الأمر، نظراً إلى أنّ المضمونية كيف يمكن أن تقع علّة لمنع الفضل في الإجارة، فإنّ مجرّد كون الأُجرة فيها ثابتة في الذمة، مضمونة على المستأجر هل يقتضي المنع عن الفضل في الإجارة الثانية، و أيّ ارتباط بين المضمونية و بين منع الفضل؟ و عليه فلا بدّ من حمل الرواية على معنى آخر و إن كان مخالفاً للظاهر، نظراً إلى العلّة الواقعة فيها بأن يقال: إنّ المراد من التقبّل بالألف و التقبيل بالألفين ليس هي الإجارة، بل المراد منهما هي المزارعة أيضاً، و الحكم بعدم الجواز إنّما هو

______________________________

(1) أي في الاستبصار: 3/ 130 ح 466.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 354

..........

______________________________

في كلتا المعاملتين التقبل و التقبيل لا في خصوص المعاملة الثانية.

و حينئذٍ فمرجع الجواب مع ملاحظة العلّة

الواقعة فيه إلى أنّه حيث يعتبر في المزارعة أن يكون سهم صاحب الأرض بنحو الإشاعة فيما يحصل منها ثلثاً، أو ربعاً أو نحوهما، فمع جعله في ذمّة المتقبل و كونه مضموناً على عهدته كما في الدرهم و الدينار لا تكاد تتحقّق المزارعة، فالتقبّل بالألف و التقبيل بالألفين كلاهما غير جائز لفقدانهما لما اشترط في المزارعة من عدم كون نصيب صاحب الأرض أمراً مضموناً ثابتاً في الذمّة، و بذلك ظهر أنّ الرواية أجنبيّة عن باب الإجارة الذي هو محلّ الكلام في المقام.

و رواية إسحاق بن عمّار، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: إذا تقبّلت أرضاً بذهب أو فضّة فلا تقبلها بأكثر ممّا تقبّلتها به، و إن تقبّلتها بالنصف و الثلث فلك أن تقبلها بأكثر ممّا تقبلتها به؛ لأنّ الذهب و الفضة مضمونان «1». و هي و إن كانت ظاهرة في أنّ التقبّل و التقبيل بالذهب و الفضّة إنّما يكون بعنوان الإجارة دون المزارعة، و ذلك لظهورها في صحّة التقبل الذي هي المعاملة الأوّليّة، و صحّته متوقّفة على أن تكون بعنوان الإجارة كما مرّ، إلّا أنّ تعليل النهي عن التقبيل بالأكثر بالعلّة المذكورة في الذيل قرينة على عدم كون المراد من المعاملة الثانية هي الإجارة، بل المراد منها المزارعة، و عليه فالمقصود أنّه إذا تقبّلت أرضاً بذهب أو فضّة بعنوان الإجارة فلا تقبلها بالأكثر بعنوان المزارعة؛ لبطلان المزارعة بهذا النحو على ما عرفت من كونها فاقدة للشرط، فهذه الرواية أيضاً تكون أجنبيّة عن المقام.

______________________________

(1) الكافي: 5/ 273 ح 7، التهذيب: 7/ 204 ح 898، الاستبصار: 3/ 130 ح 467، وسائل الشيعة: 19/ 127، كتاب الإجارة ب 21 ح 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة،

ص: 355

..........

______________________________

ثمّ لا يخفى أنّ الظاهر اتّحاد هذه الرواية مع ما رواه الصدوق بإسناده عن إسحاق ابن عمّار، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: إذا تقبلت أرضاً بذهب أو فضّة فلا تقبلها بأكثر ممّا قبلتها به؛ لأنّ الذهب و الفضّة مصمتان (مضمنان خ ل) أي لا يزيدان «1».

الثالثة: ما يدلّ بظاهرها على التفصيل في إجارة الأرض بين ما إذا أحدث شيئاً و ما إذا لم يحدث، مثل رواية إسماعيل بن الفضل الهاشمي، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: سألته عن الرجل استأجر من السلطان من أرض الخراج بدراهم مسمّاة أو بطعام مسمّى، ثمّ آجرها و شرط لمن يزرعها أن يقاسمه النصف أو أقلّ من ذلك أو أكثر، و له في الأرض بعد ذلك فضل، أ يصلح له ذلك؟ قال: نعم إذا حفر لهم نهراً، أو عمل لهم شيئاً يعينهم بذلك فله ذلك.

قال: و سألته عن الرجل استأجر أرضاً من أرض الخراج بدراهم مسمّاة أو بطعام معلوم، فيؤاجرها قطعة قطعة أو جريباً جريباً بشي ء معلوم، فيكون له فضل فيما استأجر من السلطان و لا ينفق شيئاً، أو يؤاجر تلك الأرض قطعاً على أن يعطيهم البذر و النفقة، فيكون له في ذلك فضل على إجارته، و له تربة الأرض أو ليست له؟ فقال له: إذا استأجرت أرضاً فأنفقت فيها شيئاً أو رممت فيها فلا بأس بما ذكرت. و رواه الصدوق مرسلًا، و اقتصر على المسألة الثانية و زاد: و لا بأس أن يستكري الرجل أرضاً بمائة دينار فيكري بعضها بخمسة و تسعين ديناراً و يعمر بقيّتها «2».

______________________________

(1) الفقيه: 3/ 149 ح 654، وسائل الشيعة: 19/ 128، كتاب الإجارة ب 21 ح

6.

(2) الكافي: 5/ 272 ح 2، الفقيه: 3/ 157 ح 689، المقنع: 391، وسائل الشيعة: 19/ 127، كتاب الإجارة ب 21 ح 3 و 4.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 356

..........

______________________________

و لا إشكال في أنّ المراد بالمعاملة الثانية في السؤال الأوّل هي المزارعة و إن عبّر عنها بالإجارة، و أمّا السؤال الثاني فظاهر في أنّ المعاملتين إنّما هما بعنوان الإجارة دون المزارعة، و كذلك السؤال الثالث، و اشتراط إعطاء البذر و النفقة لا ينافي الإجارة كما هو غير خفيّ، و عليه فالجواب ظاهر في التفصيل في إجارة الأرض بين ما إذا أنفق أو رمّم فلا بأس، و بين غيره ففيه بأس، كما أنّ زيادة الصدوق واردة في الإجارة، و نظيرها ما رواه علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال: و سألته عن رجل استأجر أرضاً أو سفينة بدرهمين فآجر بعضها بدرهم و نصف و سكن هو فيما بقي أ يصلح ذلك؟ قال: لا بأس «1».

هذه هي الروايات المختلفة الواردة في إجارة الأرض بأكثر ممّا استُؤجرت به، و قد جمع بينها بوجوه:

أحدها: جعل الرواية المفصّلة شاهدة للجمع بين الطائفة الدالّة على الجواز مطلقاً، و الطائفة الدالّة على المنع كذلك؛ بحمل الاولى على ما إذا أحدث و أنفق و الثانية على ما إذا لم ينفق.

و يرد عليه: أنّ إجارة البيت و الحانوت و أمثالهما مع الأحداث أيضاً جائزة، فلا وجه حينئذٍ لنفي المماثلة بين الأرض و بين مثلهما في الروايات المجوِّزة، إذ مقتضى هذا الوجه من الجمع جواز الإجارة في الجميع مع الإحداث.

ثانيها: حمل الروايات المانعة على الكراهة بقرينة الروايات المجوِّزة الصريحة في نفي الحرمة، و الحكم بالكراهة فيما

إذا لم يحدث و بعدم البأس مع الإحداث، نظراً إلى الرواية الدالّة على التفصيل.

______________________________

(1) مسائل علي بن جعفر: 124 ح 86، وسائل الشيعة: 19/ 131، كتاب الإجارة ب 22 ح 8.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 357

..........

______________________________

و يرد عليه: أنّ هذا الجمع إنّما يبتني على أن تكون الطوائف الثلاث واردة في الإجارة، و قد عرفت الإشكال فيه.

ثالثها: حمل الروايات المجوّزة على المزارعة و المانعة على الإجارة.

و يرد عليه مضافاً إلى ما أوردناه على الوجه الثاني-: إنّه لا شاهد لهذا الجمع بعد ورود كلتا الطائفتين، كالرواية المفصّلة في الإجارة على ما هو المفروض.

و التحقيق أن يقال: إنّه على فرض ورود الطوائف الثلاث في الإجارة لا محيص عن الجمع بالوجه الثاني، و على تقدير ورود ما عدا الطائفة الثانية المانعة فيها لا تعارض بين الطائفة المجوّزة و الرواية المفصّلة، بالنظر إلى منطوقهما لكونهما موجبتين، و أمّا بالنظر إلى مفهوم الرواية المفصّلة فالقاعدة تقتضي حمل المطلق على المقيّد، و الحكم بثبوت البأس فيما إذا لم ينفق و لم يرمّم، و من الواضح أنّ الحكم بثبوت البأس لا دلالة له على أزيد من الكراهة.

و منه يظهر أنّ مقتضى القاعدة الكراهة أيضاً فيما إذا قلنا بورود الطائفتين المطلقتين في المزارعة كما نفينا البعد عنه، و أمّا إذا قلنا بورود ما عدا الطائفة الاولى في الإجارة فيقع التعارض بين الطائفة المانعة و الرواية المفصّلة، بالنظر إلى المنطوق لكونها دالّة على عدم الجواز مطلقاً، و هي تدلّ على نفي البأس مع الإنفاق و مثله، فيقيّد إطلاقها بها و يحكم بالجواز معه، و أمّا مع عدم الإنفاق فمنطوق المطلقة النهي عنه و مفهوم المفصّلة ثبوت البأس، و من الواضح

أنّه لا منافاة بينهما إلّا أن يقال: بأنّ النواهي ليس لها ظهور في الحرمة، بل غايتها كونها حجّة يجب الخروج عن عهدتها ما لم تقم حجّة على الخلاف، و المفهوم هنا بما أنّه لا دلالة له على أزيد من الكراهة قابل لأن يكون حجّة على الخلاف، فلا يبقى حينئذ للحكم بالحرمة مجال، و لكن هذا الكلام لا يخلو من النظر بل المنع.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 358

..........

______________________________

و قد ظهر من جميع ما ذكرنا أنّه بناءً على ما اخترناه من ورود الطائفتين الأوليين في غير الإجارة تكون الرواية المفصّلة الواردة في الإجارة على طبق القاعدة. غاية الأمر أنّ مفهومها يدلّ على الكراهة كما عرفت، فيصير الحكم الجواز في الأرض المستأجرة مع الإنفاق و شبهه، و الكراهة مع عدمه. نعم، فيما إذا آجر بعض الأرض المستأجرة بأكثر ممّا يقع بإزائه من الأُجرة في الإجارة الاولى على فرض التقسيط يكون مقتضى إطلاق زيادة الصدوق و رواية قرب الإسناد الجواز و عدم البأس، و لو احتمل كون الزيادة من الصدوق يكفي في الحكم بالجواز رواية قرب الإسناد، خصوصاً مع كونها مطابقة للقاعدة.

نعم، روى هذه الزيادة مستقلّة الشيخ قدس سره في الصحيح عن محمد بن مسلم، عن أحدهما عليهما السلام قال: سألته عن الرجل يستكري الأرض بمائة دينار فيكري نصفها بخمسة و تسعين ديناراً و يعمر هو بقيتها؟ قال: لا بأس «1». و عليه فتدلّ الرواية بالصراحة على الجواز في الفرض المزبور لا بالإطلاق كما في الروايتين. هذا تمام الكلام فيما يتعلّق بالأرض.

و أمّا الدار و البيت: بناءً على اتّحادهما كما هو كذلك عند العرف، و إن كان مخالفاً لما يظهر من اللغة فقد ورد

فيهما أيضاً روايات:

منها: رواية أبي الربيع الشامي المتقدّمة الدالّة على أنّ فضل الأجير و البيت حرام، و قد عرفت أنّ الصدوق قدس سره رواها مع الزيادة، و قد احتمل في الزيادة أن تكون فتوى الصدوق لا جزءاً من الرواية، و لكن لا يخفى أنّ الكليني رواها مستقلّة

______________________________

(1) التهذيب: 7/ 205 ح 902، الاستبصار: 3/ 131، ح 469، وسائل الشيعة: 19/ 129، كتاب الإجارة ب 22 ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 359

..........

______________________________

بسند ملحق بالصحيح عن الحلبي، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: لو أنّ رجلًا استأجر داراً بعشرة دراهم فسكن ثلثيها و آجر ثلثها بعشرة دراهم لم يكن به بأس، و لا يؤاجرها بأكثر ممّا استأجرها به إلّا أن يحدث فيها شيئاً «1».

و منها: رواية ابن ميمون المتقدّمة أيضاً الدالّة على أنّ فضل البيت حرام.

و منها: ما رواه الكليني عن الحلبي، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في الرجل يستأجر الدار ثمّ يؤاجرها بأكثر ممّا استأجرها به، قال: لا يصلح ذلك إلّا أن يحدث فيها شيئاً «2».

و منها: رواية إسحاق بن عمّار، عن جعفر، عن أبيه عليهما السلام، أنّ أباه كان يقول: لا بأس أن يستأجر الرجل الدار أو الأرض أو السفينة ثمّ يؤاجرها بأكثر ممّا استأجرها به إذا أصلح فيها شيئاً «3».

و منها: ما رواه في قرب الإسناد عن عبد اللّٰه بن الحسن، عن جدّه علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السلام قال: سألته عن رجل استأجر بيتاً بعشرة دراهم، فأتاه الخيّاط أو غير ذلك فقال: أعمل فيه و الأجر بيني و بينك و ما ربحت فلي و لك، فربح أكثر من أجر البيت

أ يحلّ ذلك؟ قال: نعم، لا بأس «4».

هذه هي الروايات الواردة في الدار و البيت، و قد ظهر لك اختلافها من حيث المفاد؛ لأنّها بين ما ظاهره كون الفضل حراماً، و بين ما ظاهره النهي عن المؤاجرة بالأكثر، و بين ما يدلّ على أنّ المؤاجرة بالأكثر لا يصلح، و من الواضح اختلاف هذه التعابير، فاللّازم حينئذٍ الجمع بينها، فإن قلنا باختلاف معنى الدار و البيت

______________________________

(1) الكافي: 5/ 272 ح 4، وسائل الشيعة: 19/ 129، كتاب الإجارة ب 22 ح 3.

(2) الكافي: 5/ 273 ح 8، وسائل الشيعة: 19/ 130، كتاب الإجارة ب 22 ح 4.

(3) التهذيب: 7/ 223 ح 979، وسائل الشيعة: 19/ 129، كتاب الإجارة ب 22 ح 2.

(4) قرب الإسناد: 265 ح 1054، مسائل عليّ بن جعفر: 125 ح 88، وسائل الشيعة: 19/ 131، كتاب الإجارة ب 22 ح 7.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 360

..........

______________________________

فاللّازم ملاحظة دليل كلّ واحد منهما مستقلا، فنقول:

إنّ ما ورد من هذه الروايات في خصوص البيت ممّا يدلّ على أنّ فضله حرام لا يكون له معارض أصلًا، غاية الأمر أنّه يقع الكلام في معنى حرمة الفضل و أنّ متعلّق الحرمة هل هو الفضل الذي تشتمل عليه المعاملة الثانية دون نفس المعاملة، أو أنّ متعلّقها هي المعاملة المشتملة على الفضل؟ ظاهر العبارة هو الأوّل، و لكن لا يبعد دعوى كون المتفاهم منها عند العرف خصوصاً بقرينة المورد و نفي البأس عن إجارة الأرض بأكثر ممّا تقبلها به هو الثاني، و عليه فالظاهر أنّ المراد بالحرمة هي الحرمة التكليفية لا الوضعية، و سيأتي البحث عن هذه الجهة في آخر المسألة إن شاء اللّٰه تعالى.

و لا

يذهب عليك أنّه بناءً على اختلاف الدار و البيت و لحاظ دليل كلّ منهما مستقلا يكون مقتضى إطلاق دليل حرمة فضل البيت عدم الفرق بين ما إذا أحدث فيه شيئاً، و بين ما إذا لم يحدث لعدم ما يدلّ على الفرق في باب البيت، و حينئذٍ يظهر الخلل فيما أوردنا على الوجه الأوّل من الوجوه الثلاثة المتقدّمة، للجمع بين الروايات المختلفة الواردة في الأرض؛ و ذلك لابتناء الإيراد على ثبوت الفرق بين الصورتين في البيت و الأجير و الحانوت أيضاً، مع أنّه لا دليل على ثبوته في هذه العناوين، و قيام الدليل على الفرق في الدار لا ينافي عدم ثبوته فيها. فظهر من جميع ما ذكرنا أنّ ما ورد في البيت لا معارض له أصلًا.

و أمّا ما ورد في الدار فإحدى روايتي الحلبي المتقدّمتين تدلّ على النهي عن الإيجار بالأكثر مع عدم الإحداث، و الأُخرى على عدم صلاحيّته كذلك. و من المعلوم أنّ قوله عليه السلام: «لا يصلح» لا ينافي مع النهي الظاهر في الحرمة؛ لأنّ مقتضاه ثبوت المفسدة في ذلك، من دون دلالة على أنّ المفسدة هل تبلغ حدّ الحرمة

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 361

..........

______________________________

أو لا تتجاوز عن حد الكراهة؟ و النهي إنّما يبيّن حدّ تلك المفسدة و أنّها مفسدة ملزمة يجب الاجتناب عنها، و منه يظهر أنّ مفهوم رواية إسحاق بن عمّار الدالّة على نفي البأس إذا أصلح فيها شيئاً لا ينافي دليل الحرمة؛ لأنّ ثبوت البأس ليس ظاهراً في الكراهة حتّى يكون مقتضياً لعدم الحرمة، بل هو غير مقتض لشي ء من الكراهة و الحرمة، و لا ينافي ثبوت واحد منهما. و بذلك يظهر أنّ مقتضى الجمع

بين الروايات الواردة في الدار هو الحكم بالحرمة مع عدم الإحداث، و بالجواز من دون كراهة معه.

و دعوى أنّه كيف يمكن الفتوى بالحرمة مستنداً إلى رواية واحدة مع بعدها عن الأذهان و كون غيرها مغروساً فيها، و بعبارة اخرى: كيف يمكن رفع اليد عن السيرة العقلائية بمجرّد رواية واحدة، خصوصاً مع اشتمالها على النهي الذي يكون استعماله في الكراهة كثيراً جدّاً، مدفوعة بعدم جواز رفع اليد عن الرواية التامّة من حيث السند و الدلالة بمجرّد كون مفادها بعيداً عن أذهان العقلاء، خصوصاً مع كون السؤال فيها و في مثلها دليلًا على أنّ أذهان السائلين كانت غير بعيدة عن الحكم بالحرمة، و بالجملة لا محيص بناءً على ما ذكرنا من الحكم بالحرمة. هذا كلّه بناءً على اختلاف الدار و البيت.

و أمّا بناءً على اتّحادهما و كونهما بمعنى المسكن كما يظهر من بعض كتب اللغة «1»، و يستفاد من المحقّق في الشرائع «2»، حيث أورد لفظ المسكن مع عدم وروده في شي ء من الروايات؛ نظراً إلى أنّه معنى الدار و البيت الواردين فيها، فيصير الحكم

______________________________

(1) لسان العرب: 1/ 275.

(2) شرائع الإسلام: 2/ 181.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 362

..........

______________________________

بالحرمة أوضح. غاية الأمر أنّه لا بدّ حينئذٍ من تقييد ما ورد في البيت ممّا يدلّ على أنّ فضله حرام، الذي عرفت أنّ المتفاهم عند العرف منه كون المعاملة المشتملة على الفضل محرّمة بما إذا لم يحدث فيه شيئاً، نظراً إلى نفي البأس في رواية إسحاق، و الاستثناء من قوله: «لا يصلح» و من النهي في روايتي الحلبي.

ثمّ إنّه بناءً على الاتّحاد لا مجال إلّا للحكم بالحرمة التكليفية. و دعوى احتمال ثبوت الحرمة الوضعية

أيضاً لظهور رواية الدار فيها، مدفوعة بوضوح عدم ثبوت الحرمتين في المقام كما في الربا، كما أنّ دعوى احتمال ثبوت خصوص الحرمة الوضعية للرواية الواردة في الدار، مدفوعة بأقوائية ظهور كلمة «الحرام» في الحرمة التكليفيّة من ظهور النهي في الإرشاد إلى الفساد كما لا يخفى، و أمّا بناءً على الاختلاف فيمكن أن يقال: بأنّ النهي الوارد في رواية الدار إرشاد إلى فساد المعاملة و عدم ترتّب الأثر عليها، فيقع الاختلاف بين الدار و البيت من هذه الجهة أيضاً بمقتضى ظاهر دليلهما، فتدبّر.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ رواية قرب الإسناد المتقدّمة الواردة في البيت أجنبيّة عن المقام؛ لعدم دلالتها على وقوع معاملة ثانوية بين مستأجر البيت و الخيّاط أو غيره، بل ظاهره تشريك الخيّاط مع نفسه في الإجارة الأوّلية. غاية الأمر حصول إضافة على أجر البيت الذي كان بينهما لأجل الربح، و هذا غير ما هو المفروض في المقام.

نعم، لو فرض كون المراد وقوع معاملة ثانويّة بينهما بنحو الإجارة لكانت الرواية مرتبطة بما نحن فيه، و عليه فيحتمل أن يكون المراد من قوله: «و ما ربحت فلي و لك» أن تكون الأُجرة التي بينهما مدفوعة من الربح الحاصل، و يحتمل كما هو ظاهر أن يكون المراد منه البناء على تقسيط الربح، مضافاً إلى البناء على كون

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 363

..........

______________________________

الأجر بينهما، ففي الحقيقة تكون الإجارة الثانية واقعة على طبق الإجارة الأُولى على فرض التقسيط. غاية الأمر أنّه اشترط فيها كون الربح الذي يحصل للخيّاط منقسماً بينهما، فعلى الاحتمال الأوّل لا دلالة للرواية إلّا على جواز كون اجرة البعض زائدة على ما وقع بإزائه من الأُجرة في الإجارة الأُولى على فرض

التقسيط، و مقتضى إطلاقه عدم الفرق بين كون الزائد أكثر من أجر المجموع، و بين كونه مساوياً أو أقلّ. و لا يخفى أنّه بناءً على هذا الاحتمال يقع الإشكال في صحّة الإجارة الثانية للجهالة التي تنشأ من الجهل بمقدار الربح حين الإجارة.

و على الاحتمال الثاني تدلّ الرواية على جواز كون اجرة البعض بضميمة الاشتراط زائدة على اجرة المجموع، نظراً إلى قوله: «فربح أكثر من أجر البيت»، و حينئذٍ لا بدّ إمّا من الالتزام بكون الزيادة إذا حصلت من طريق الاشتراط فهي غير مضرّة، فلا منافاة بين هذه الرواية و بين ما ورد من أنّ فضل البيت حرام؛ لظهوره في الفضل مع قطع النظر عن الاشتراط، و إمّا من الالتزام بكون ما يدلّ على أنّ فضل البيت حرام وارداً فيما إذا آجر البيت الذي استأجره بتمامه، و أمّا هذه الرواية فموردها ما إذا آجر بعض البيت، و لا منافاة بين كون الفضل في المجموع حراماً، و بين عدم كونه في البعض كذلك و إن كان زائداً على أجر المجموع. و الظاهر أنّ شيئاً من الالتزامين خصوصاً الثاني ممّا لا يقبله الذوق السليم و الطبع المستقيم، و الذي يسهل الخطب ما عرفت من كون الرواية أجنبيّة عن المقام.

و أمّا الحانوت: الذي عبّر عنه المحقّق في الشرائع بالخان «1» نظراً إلى أنّه بمعناه

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 2/ 181.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 364

..........

______________________________

فقد وردت فيه رواية واحدة؛ و هي رواية أبي المغراء المتقدّمة «1» الدالّة على نفي المماثلة بين الأرض، و بين الحانوت و الأجير و أنّ فضلهما حرام، و عليه فلا ينبغي الإشكال في حرمة الفضل فيه؛ لعدم ثبوت المعارض للرواية الدالّة

على الحرمة.

و أمّا الرحى: فقد وردت فيها روايتان:

إحداهما: ما رواه الصدوق بإسناده عن سليمان بن خالد، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: إنّي لأكره أن أستأجر الرحى وحدها ثمّ أُؤاجرها بأكثر ممّا استأجرتها إلّا أن أحدث فيها حدثاً أو أغرم فيها غرماً «2».

ثانيتهما: رواية أبي بصير، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: إنّي لأكره أن استأجر رحى وحدها ثمّ أُؤاجرها بأكثر ممّا استأجرتها به إلّا أن يحدث فيها حدثاً أو يغرم فيها غرامة «3».

و لا يخفى أنّ الكراهة في لسان الأخبار و إن لم يكن لها ظهور في الكراهة المصطلحة المقابلة للحرمة، إلّا أنّه لا دلالة لها على خصوص الحرمة بلا ريب، بل القدر المتيقّن مطلق المرجوحيّة غير الدالّ على خصوص أحد الفردين، و لأجله لا تجوز الفتوى به. نعم، لا مانع من الارتكاب عملًا لعدم ثبوت الحرمة.

و أمّا السفينة: فقد وردت فيها روايتان أيضاً:

إحداهما: رواية إسحاق بن عمّار المتقدّمة، عن جعفر، عن أبيه عليهما السلام أنّ أباه كان يقول: لا بأس أن يستأجر الرجل الدار أو الأرض أو السفينة ثمّ يؤاجرها بأكثر ممّا

______________________________

(1) في ص 352.

(2) الفقيه: 3/ 149 ح 653، وسائل الشيعة: 19/ 124، كتاب الإجارة ب 20 ح 1.

(3) الكافي: 5/ 273 ح 9، وسائل الشيعة: 19/ 130، كتاب الإجارة ب 22 ح 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 365

..........

______________________________

استأجرها به إذا أصلح فيها شيئاً «1».

ثانيتهما: الزيادة التي رواها عليّ بن جعفر في محكي كتابه بعد روايته المتقدّمة المروية في قرب الإسناد «2» و هي قوله: و سألته عن رجل استأجر أرضاً أو سفينة بدرهمين فآجر بعضها بدرهم و نصف و سكن هو فيما بقي،

أ يصلح ذلك؟ قال: لا بأس «3».

و الرواية الاولى تدلّ بمفهومها على ثبوت البأس في الثلاثة إذا لم يصلح فيها شيئاً، و الظاهر أنّ ثبوت البأس بمجرّده لا ظهور له في الحرمة، خصوصاً مع عدم ثبوت الحرمة في الأرض كما عرفت، و ثبوتها في الدار لا ينافي ذلك؛ لأنّ اشتراكهما في مطلق المرجوحية يكفي في ذكر السفينة معطوفة عليهما سيّما مع كون المنطوق و هو نفي البأس إذا أصلح، ثابتاً في الجميع على نسق واحد، فتدبّر.

و الرواية الثانية و إن لم تكن متعرّضة لما هو مورد البحث في المقام إلّا أنّه يمكن أن يقال: بأنّ السؤال فيها يكشف عن أنّ المرتكز في ذهن السائل و هو علي بن جعفر عليه السلام هو عدم جواز الإجارة بالأكثر؛ لأنّه مع عدم هذا الارتكاز لا يبقى للسؤال المذكور مجال، و عليه فيرفع الإبهام عن الرواية الأُولى أيضاً، و يكشف عن أنّ المراد من البأس هو الحرمة، كما لا يخفى.

و ينبغي التنبيه على أُمور:

الأوّل: إنّك قد عرفت أنّ العناوين المأخوذة في الروايات المحكومة بأحد الحكمين بل الأحكام: الجواز و الكراهة و الحرمة لا تتجاوز عن سبعة، و قد تقدّم

______________________________

(1) تقدّمتا في ص 359.

(2) تقدّمتا في ص 359.

(3) تقدّمت في ص 356.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 366

..........

______________________________

البحث في كلّ واحد منها مستقلا. نعم، بقي البحث في الأجير الذي نتكلّم فيه عند تعرّض الماتن دام ظلّه له، فاعلم أنّه حكي عن غير واحد من الأصحاب، بل نسب إلى السيّدين «1» و الشيخين «2» و الصدوق «3» و بعض آخر «4» القول بالتعدّي و عدم اختصاص الحكم بالعناوين المأخوذة في الروايات، و القول بالتعدّي و إن

كان غير تامّ لوجوه عمدتها كون الحكم في الروايات على خلاف القاعدة المقتضية للجواز، و لا بدّ في مثله من الاقتصار على القدر المتيقن، و يدلّ عليه بعض الأُمور الآتية؛ مثل عدم الإمكان في رواية الأرض الدالّة على نفي المماثلة بينها و بين البيت و الأجير إلّا أنّه لا مانع من ملاحظة مقتضى الجمع بين الأخبار المختلفة المتقدّمة على فرض التعدّي و إلغاء الخصوصية فنقول:

قال المحقّق الإصفهاني قدس سره في هذا المقام بعد بيان مقتضى الروايات على ما سلكه من ملاحظة خصوص العناوين المأخوذة: و أمّا على ما سلكه غير واحد من استفادة الكليّة من الأخبار بجعل العناوين المتقدّمة من باب المثال، و أنّ الحكم للعين المستأجرة بما هي، و لذا عبّر غير واحد في عنوان المسألة بإجارة العين المستأجرة بأكثر ممّا استأجرها به، فالصحيح هو الحكم بالكراهة في الكلّ بتفاوت بين الأعيان المستأجرة شدّةً و ضعفاً، إذ بعد إلغاء الخصوصيات تكون نصوص الجواز و نصوص المنع من باب النصّ و الظاهر، و لا يمكن إبقاء الحرمة على حالها في خصوص البيت و الحانوت و الأجير، بتوهّم أنّ الدليل المتكفِّل للحرمة مخصّص

______________________________

(1) الانتصار: 475، غنية النزوع: 286 287.

(2) النهاية: 445، المبسوط: 3/ 226، المقنعة: 640.

(3) المقنع: 391 392.

(4) المراسم: 199، الوسيلة: 268، الكافي في الفقه: 346.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 367

..........

______________________________

للكليّة المستفادة من نصوص الجواز؛ و ذلك لأنّه مناف لإلغاء الخصوصيات الموجب لورود المنع و الجواز على العين المستأجرة بما هي عين، لا بما هي أرض أو بيت أو حانوت، إلّا أنّ إلغاء الخصوصيات دونه خرط القتاد «1».

أقول: يرد على ما أفاده من أنّ الصحيح بناءً على إلغاء الخصوصيّة

هو الحكم بالكراهة في الكلّ أنّ الحكم بالكراهة إنّما هو لأجل الجمع بين أخبار المنع و أخبار الجواز كما اعترف قدس سره به، مع أنّ أخبار الجواز بين ما يدلّ على الجواز مطلقاً، من دون فرق بين ما إذا أحدث و ما إذا لم يحدث، و بين ما يدلّ عليه في خصوص ما إذا أحدث و أصلح، أمّا الطائفة الاولى فهي الأخبار الواردة في الأرض فقط، و قد عرفت أنّ هذه الطائفة أجنبيّة عن المقام واردة في باب المزارعة، و على تقدير ورودها في باب الإجارة لا معنى لإلغاء الخصوصية عنها بالنسبة إلى الأرض، ضرورة أنّ ما يدلّ على نفي المماثلة بين الأرض و بين البيت و الحانوت و الأجير لا يعقل فيه دعوى التعدّي؛ لأنّ مرجعه إلى دلالته على الجواز في الجميع، و الحرمة كذلك.

أمّا الأوّل: فلأنّه مقتضى إلغاء الخصوصية عن الأرض التي حكم فيها بعدم البأس.

و أمّا الثاني: فلأنّه مقتضى التعدّي عن العناوين الثلاثة المحكومة بالحرمة، فاللّازم دلالة دليل واحد على الجواز في الجميع، و الحرمة كذلك. و من الواضح أنّه لا يتفوّه به أحد، فاللّازم أن يقال: إنّ القائل بالتعدّي و إلغاء الخصوصية إنّما يحكم بذلك في غير الأرض، و عليه فليس مقتضى الجمع هو الحمل على الكراهة؛ لأنّ الروايات حينئذٍ بين ما يدلّ على المنع مطلقاً، و بين ما يدلّ على نفي البأس فيما إذا أحدث شيئاً، و مقتضى قاعدة حمل المطلق على المقيّد هو القول بالحرمة مع عدم الإحداث.

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 63.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 368

..........

______________________________

ثمّ إنّه مع قطع النظر عمّا ذكرنا يرد عليه أيضاً أنّه على فرض الإطلاق في كلتا

الطائفتين: المانعة و المجوِّزة، نقول: إنّ الروايات المانعة ليس المنع فيها بطريق النهي فقط حتّى يقال: إنّ حمل النهي على الكراهة لأجل دليل الجواز جمع مقبول لدى العرف و العقلاء، بل بعضها قد استعمل فيها لفظ الحرمة، كالروايات الواردة في تلك العناوين الثلاثة، و هو إن كان أيضاً ظاهراً في الحرمة المصطلحة و ليس نصّاً فيها، إلّا أنّ العرف يرى التعارض بين ما يدلّ على حرمة شي ء، و بين ما يدلّ على نفي البأس عنه، و العمدة في باب المتعارضين و المتبع فيه هو نظر العرف، فلا مجال للحمل على الكراهة، بل لا بدّ من إعمال قواعد التعارض و أحكام المتعارضين.

ثمّ إنّه ربما يورد عليه أيضاً بأنّ ما أفاده من أنّه على تقدير إلغاء الخصوصية لا وجه لإبقاء الحرمة في بعض العناوين لمنافاته لإلغائها غير تامّ؛ لأنّه يمكن الجمع بين الأمرين؛ نظراً إلى أنّ كثرة نصوص الجواز تمنع عن الحكم باختصاصه بالعناوين المأخوذة فيها، خصوصاً مع كونه مقتضى القاعدة على ما عرفت في أوّل البحث، و حينئذٍ فلا مانع من استفادة عموم الجواز من أدلّته، و أمّا دليل الحرمة فيمكن أن يقال باختصاصه بخصوص العناوين المأخوذة فيه؛ لاشتراكها في قدر جامع لا يتجاوزها، و هذا لا يكون منافياً لإلغاء الخصوصية كما لا يخفى. و الذي يسهل الخطب أنّ ذلك كلّه مبنيّ على دعوى إلغاء الخصوصية، و هي كما اعترف به قدس سره دونها خرط القتاد.

و قد ظهر ممّا ذكرنا أنّه بناءً على اختصاص الحكم بالعناوين المأخوذة في الروايات يكون الحكم في غير تلك العناوين كالثوب و الدابّة و غيرهما على وفق القاعدة المقتضية للجواز، كما هو ظاهر.

الأمر الثاني: قد استثني في العبارات من التحريم أو

الكراهة أمران

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 369

..........

______________________________

أحدهما: ما إذا أحدث شيئاً، و قد وقع التصريح باستثنائه و بعدم البأس معه في النصوص الواردة في الدار و السفينة و الرحى، و أمّا الروايات الواردة في الأرض فقد عرفت أنّ جُلّها أجنبيّ عن المقام، و بعض ما ورد منها في باب الإجارة قد صرّح فيها بعدم البأس فيما إذا أصلح فيها شيئاً كما تقدّم، فلم يبق إلّا الروايات الواردة في البيت و الحانوت، و هذه الروايات الدالّة على حرمة فضل هذين العنوانين كالأجير خالية عن استثناء صورة الإحداث، مع أنّ الظاهر من العبارات استثناء هذه الصورة في جميع العناوين.

و ربما يقال في وجهه: تارةً بأنّ هذه الروايات و إن لم يقع فيها التعرّض للاستثناء، إلّا أنّه لا إطلاق لها حتّى يكون مقتضاها الحرمة مطلقاً؛ لأنّها مسوقة لبيان جواز إجارة الأرض و أنّها ليست مماثلة لهذه العناوين في الحرمة، فلا إطلاق لها بالنسبة إلى الحرمة و شمولها لصورة الإحداث.

و أُخرى بأنّ هذه العناوين الثلاثة عبارة عن الأجير الذي لا موقع للاستثناء فيه، و البيت الذي هو متّحد مع الدار الذي نصّ على الاستثناء فيه في دليله، و الحانوت الذي لم يرد فيه نصّ، و المظنون قويّاً كونه كرديفه: الدار في رفع الحرمة بإحداث الحدث.

و ثالثة بأنّ مقتضى التعدّي عن العناوين المأخوذة في الروايات و إلغاء الخصوصية عنها إسراء حكم المستثنى أيضاً إلى جميع الموارد، و إن أبيت عن ذلك فيمكن أن يقال بإلغاء الخصوصية من الاستثناء فيه، و الحكم بعدم اختصاصه بخصوص ما وقع فيه التصريح به، بل يعم مثل البيت و الحانوت أيضاً.

و أنت خبير بعدم تماميّة شي ء من هذه الوجوه:

أمّا

الوجه الأوّل: فلأن الظاهر من تلك الروايات إفادة كون الموضوع للحرمة

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 370

..........

______________________________

هو مجرّد الفضل في العناوين الثلاثة، و ليس الغرض مجرّد إفادة نفي المماثلة بين الأرض و بينها، و إلّا لكان اللّازم الاقتصار على الحكم بنفي البأس في الأرض و أنّها ليست مثلها، فيصير قوله عليه السلام: «إنّ فضل البيت حرام» «1»، بعد ذلك بمنزلة التكرار الذي هو خلاف الظاهر، فالظاهر كونه مسوقاً لبيان الحكم و أنّ تمام الموضوع هو مجرّد الفضل، فلا مجال لإنكار الإطلاق.

و أمّا الوجه الثاني: فعدم كون الأجير موقعاً للاستثناء ممنوع؛ لأنّه يمكن فيه أيضاً تصوّر الإحداث، بأن يجهزه للعمل مثلًا زائداً على تجهيزاته و نحو ذلك، و البيت لم يعلم اتّحاده مع الدار كما عرفت.

و أمّا الوجه الثالث: فدعوى إلغاء الخصوصية مطلقاً من المستثنى منه و المستثنى معاً قد عرفت أنّ دون إثباتها خرط القتاد، و دعوى إلغاء الخصوصية من خصوص المستثنى و إن كان يمكن توجيهها؛ بأنّ الظاهر أنّ استثناء صورة الإحداث إنّما هو للخروج بذلك عن الربا التي هي الحكمة في أصل الحكم، إلّا أنّ رفع اليد عن الإطلاقات بمجرّد هذه الدعوى مع عدم ثبوتها بالبيّنة أو البرهان في غاية الإشكال.

فظهر من جميع ما ذكرنا أنّه لا وجه للاستثناء في العناوين الثلاثة المحكومة بالحرمة لعدم الدليل عليه، اللّهم إلّا أن يقال: إنّ الموضوع للحرمة في هذه الروايات هو عنوان الفضل، و تحقّق هذا العنوان في صورة الإحداث غير معلوم، و هذا بخلاف سائر الروايات الدالّة على النهي عن الإيجار بأكثر ممّا استأجر العين به، فإنّ عنوان الأكثرية متحقّق في كلتا الصورتين كما هو ظاهر، و عليه فلا موقع

في المقام للاستثناء، بل يصير على تقديره كالاستثناء المنقطع.

______________________________

(1) تقدّم في ص 352.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 371

..........

______________________________

ثمّ إنّه قد وقع في الروايتين المتقدّمتين الواردتين في الرحى استثناء صورة الغرامة أيضاً، و ليس له في كلام الأصحاب ذكر، و الظاهر أنّ المراد بها ما غرّمه بإزاء عمل في الرحى في مقابل الإحداث الظاهر في عمله فيه بنفسه، فتدبّر.

ثمّ إنّ إحداث الحدث في العين المستأجرة هل يشمل مثل الكنس و التنظيف و نظائرهما أم لا؟ وجهان، و الظاهر هو الوجه الثاني.

ثانيهما: ما إذا كانت الأُجرة مغايرة لجنس الأُجرة في الإجارة الأُولى، و قد حكي عن الإيضاح أنّه قال: و قال الشيخان «1» و المرتضى «2» و سلّار «3» و الصدوق في المقنع «4» و أبو الصلاح و ابن البراج في المهذّب «5» بالمنع مع اتّحاد الجنس «6»، و هو أيضاً ظاهر المتأخّرين «7» بل صريحهم، و لكن الروايات المتقدّمة ليس في شي ء منها الإشعار بهذا الاستثناء، و غاية ما قيل أو يمكن أن يقال في توجيهه: إنّ المتبادر من لفظ «الأكثر» لزوم التماثل و اتّحاد الجنس؛ لأنّه لا يقال في المختلفين: إنّ هذا أكثر من الآخر، و لكنّه أُجيب عنه بالمنع طرداً و عكساً؛ إذ يصحّ أن يقال: هذه الحنطة أكثر من هذا الزبيب مع اختلافهما، و لا يصحّ أن يقال: هذا الحمار أكثر من هذا الحمار.

و يمكن التوجيه بوجه آخر يستفاد من كلام المحقّق الرشتي قدس سره، حيث قال: إنّ الأكثرية من الأُمور الإضافية المبهمة المحتاجة إلى ذكر التميّز في الاستعمالات، و إلّا

______________________________

(1) النهاية: 439، المقنعة: 636، لكنّه قائل بالكراهة دون التحريم.

(2) الانتصار: 475.

(3) المراسم: 198، لكنّه قال بالكراهة.

(4)

انظر المقنع: 391 392.

(5) المهذّب: 1/ 474 و 486.

(6) إيضاح الفوائد: 2/ 250.

(7) كصاحب جامع المقاصد: 7/ 119، و مسالك الأفهام: 5/ 180، و جواهر الكلام: 27/ 222.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 372

..........

______________________________

كان مجملًا خارجاً عن حدّ الإفادة لا أن تكون حرمة الكثرة بقرينة المقام معلومة، فيصحّ استعمالها بدون ذكر التميّز، و حيث لم يذكر الراوي تميّزاً فلا بدّ أن يُحمل كلامه على صورة تكون حرمة الكثرة فيها معلومة، و ليست إلّا بعض أقسام متّحد الجنس «1»، و حاصله الأخذ بالقدر المتيقّن بعد الإجمال و عدم وضوح المراد منها.

و لكنّه يرد عليه: أنّ الظاهر كون الأكثر في المعاملات ملحوظاً بالنظر إلى القيمة، فتعمّ الروايات للُاجرتين المختلفتين إذا كانت الثانية أكثر من الاولى من حيث الماليّة.

و ربما يتوهّم في توجيه الاستثناء أنّ الوجه فيه صدق الربا في المتجانسين دون المختلفين.

و يرد عليه مضافاً إلى أنّه لم يعلم كون المراد بالجنس في هذا المقام في كلام المشهور هو الجنس في باب الربا، بحيث كانت الحنطة و الشعير مثلًا من جنس واحد، بل الظاهر أنّهما في هذا المقام متغايران، و إلى أنّ الربا إنّما تجري في خصوص مثل المكيل و الموزون، و ظاهرهم هنا المغايرة مطلقاً كما لا يخفى-: أنّ تحقّق الربا في المقام و لو على القول بصدقه على مطلق الزيادة ممنوع جدّاً بعد تعدّد المعاملة و عدم الارتباط بينهما، فالإنصاف أنّه لا يمكن توجيه الاستثناء الواقع في كلام المشهور بوجه خال عن المناقشة.

و التحقيق أنّ المراد بالأكثرية في الروايات هو الأكثرية في المالية؛ و هي غير منوطة بالتماثل، لا فيما كانت الأُجرة متمحّضة في المالية كالنقود، فإنّ اتّصاف عشرة دنانير بكونها

أكثر من عشرة دراهم واضح، و لا في غير هذه الصورة كغير

______________________________

(1) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 98.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 373

..........

______________________________

النقود، فإنّ مقام الثمنية و الأُجرة كما أفاده المحقّق الإصفهاني قدس سره «1» مقام النقدين في التمحّض في المالية؛ لأنّه لم يلاحظ في مقام عوضية شي ء إلّا انحفاظ مالية المعوّض به، و الرغبات النوعية متوجّهة نحو المعوّض من حيث كونه حنطة أو شعيراً، أو منفعة الدار الكذائية و العمل الكذائي. نعم، لو كان الغرض في بعض الموارد متعلّقاً بالعوض بعنوانه لا من حيث المالية كما في الأماكن التي تتعارف فيها المعاملة بين الأجناس بعضها ببعض، لا بينها و بين النقود لا يبعد أن يقال: بأنّ الأكثرية حينئذٍ تلاحظ في كلّ جنس بحسبه، ففي الأُمور التي يلاحظ مقدارها تعتبر من حيث المقدار، و في المعدودات من حيث العدد و هكذا.

هذا، و لكنّ الظاهر ندرة هذا الأمر، و الحكم في الروايات إنّما هو بلحاظ النوع الذي يكون العوض عندهم ملحوظاً من حيث المالية فقط، فإذا زادت قيمة منّ من الحنطة الواقعة اجرة في الإجارة الثانية على قيمة منّين منها الواقعة اجرة في الإجارة الأُولى تصدق الأكثرية، و إن كانت أقلّ من حيث المقدار. هذا كلّه فيما يتعلّق بكلمة «الأكثر» الواقعة في كثير من الروايات.

و أمّا كلمة «الفضل» الواقعة في روايات الأجير و البيت و الحانوت فالظاهر أنّ المراد بها هو الفضل في المالية أيضاً، و أمّا ما أفاده المحقّق الأصفهاني «2» تبعاً للمحقّق الرشتي «3» من الفرق بين عنوان الأكثرية و بين عنوان الفضل، و أنّه يمكن استفادة لزوم التماثل من الأوّل دون الثاني ففيه: أنّه لم يعلم وجه للفرق

بينهما من هذه الجهة أصلًا؛ لأنّه كما تكون الأكثرية من الأُمور الإضافية المبهمة المحتاجة إلى التميّز،

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 64.

(2) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 64 65.

(3) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 98.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 374

..........

______________________________

كذلك عنوان الفضل يحتاج إلى مميّز، و أنّ الزيادة و الفضيلة هل هي في المالية، أو في الوزن، أو في العدد، أو في غيرها ممّا يصلح أن يكون تميّزاً لها، فأيّ فرق بينهما من هذه الجهة؟

نعم، يمكن الفرق بينهما من جهة أُخرى؛ و هي أنّ ظاهر الروايات المشتملة على عنوان الأكثرية كون المفضل عليه هي الأُجرة في الإجارة الأُولى، و المفضل الأُجرة في الإجارة الثانية، و أنّه لا تجوز أكثرية الثاني من الاولى، و أمّا الروايات المشتملة على عنوان الفضل قد أُضيف فيها هذا العنوان لا إلى الأُجرة، بل إلى البيت و الحانوت و الأجير، و الظاهر تحقّق هذا العنوان فيما لو لم تكن الأُجرة الثانية زائدة على الأُجرة الاولى، بل كانت الزيادة و الفضيلة لأجل إضافة شرط في الإجارة الثانية مفقود في الأُولى، و هذا بخلاف عنوان الأكثرية بلحاظ الخصوصية المذكورة، فتأمّل جيّداً.

و قد انقدح من جميع ما ذكرنا أنّه لم ينهض حجّة على التفصيل الذي ذهب إليه المشهور؛ و هو الفرق بين اتّحاد الجنس و تغايره، إلّا أن يناقش فيما استظهرنا من عنوان الأكثر فيرجع إلى القواعد في صورة تغاير الجنسين، و لكنّه يرد على المشهور أنّهم ماذا يلتزمون في المثال المذكور؛ و هو ما لو زادت قيمة مَنّ من الحنطة على قيمة منّين منها، فإن قالوا فيها بعدم تحقّق عنوان الأكثرية فهو خلاف الظاهر جدّاً، و إن قالوا بالتحقّق

فلازمه الالتزام بكون المعيار هي الأكثرية في المالية، كما لا يخفى.

الأمر الثالث: في إجارة بعض العين المستأجرة، و كذا في إجارتها في بعض المدّة مع السكونة في البعض من العين أو المدّة، فنقول: فيه صور ثلاث:

الاولى: ما إذا آجر البعض غير المسكون بأزيد من الأُجرة في الإجارة الأُولى،

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 375

..........

______________________________

أو آجر العين في بعض المدّة كذلك، ربما يقال: بأنّه لا ينبغي الإشكال في حرمته أو كراهته؛ لفحوى ما دلّ على حرمة إيجار الكلّ بالأكثر أو كراهته.

و يرد عليه: أنّه إن كان المراد بالفحوى هي الأولوية القطعية ففيه: منعها في مثل هذه الأحكام التعبّدية، و إن كان المراد الأولوية العرفية فلا دليل على حجّية مثلها، اللّهمَّ إلّا أن يكون المراد أنّ المتفاهم عند العرف من الأخبار الدالّة على حرمة إيجار الكلّ بالأكثر أو كراهته جريان الحكم في البعض، و أنّه ليس للكلّ بما هو كلّ خصوصيّة في ذلك، خصوصاً لو كان الوجه هو التشابه بباب الربا المحرم، كما لا يخفى.

و يمكن الاستدلال عليه مضافاً إلى ما ذكر بقوله عليه السلام في رواية الحلبي المتقدّمة: لو أنّ رجلًا استأجر داراً بعشرة دراهم فسكن ثلثيها، و آجر ثلثها بعشرة دراهم لم يكن به بأس، و لا يؤاجرها بأكثر ممّا استأجرها به إلّا أن يحدث فيها شيئاً «1» بناءً على أن يكون الضمير في قوله عليه السلام: «لا يؤاجرها» راجعاً إلى الدار باعتبار الثلث لا إلى الدار نفسها، و لو نوقش في ذلك باعتبار ظهور كون الضمير راجعاً إلى الدار بلحاظ التأنيث، و لا يقاوم هذا الظهور الوضعي الظهور الناشئ من السياق، خصوصاً مع كون الضميرين قبل هذا الضمير راجعين إلى

الدار باعتبار كلّها كما هو واضح، فيمكن التمسّك بمفهوم الصدر نظراً إلى أنّ الحكم بنفي البأس قد رتّب على ما إذا آجر البعض بالمساوي، فيدلّ بالمفهوم على ثبوته في الزيادة.

هذا، مضافاً إلى أنّ أدلّة حرمة الفضل الواردة في البيت و الحانوت و الأجير تشمل هذه الصورة.

الثانية: ما إذا آجره بأكثر ممّا وقع من الأُجرة بإزائه، و لا ينبغي الإشكال هنا في

______________________________

(1) تقدّمت في ص 359.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 376

..........

______________________________

الجواز؛ لأنّه مضافاً إلى عدم شمول الأدلّة المانعة لهذه الصورة يدلّ على الجواز بعض الروايات صريحاً، كرواية محمّد بن مسلم، عن أحدهما عليهما السلام المتقدّمة، قال: سألته عن الرجل يستكري الأرض بمائة دينار، فيكري نصفها بخمسة و تسعين ديناراً و يعمّر هو بقيّتها؟ قال: لا بأس «1». و هكذا ذيل رواية علي بن جعفر عليه السلام المتقدّمة أيضاً، حيث قال: و سألته عن رجل استأجر أرضاً أو سفينة بدرهمين فآجر بعضها بدرهم و نصف، و سكن هو فيما بقي أ يصلح ذلك؟ قال: لا بأس «2». إلّا أنّ دلالة هذه بالإطلاق و ترك الاستفصال.

و بالجملة: فالإشكال في هذه الصورة ممّا ليس له مجال.

و دعوى أنّ قوله عليه السلام في رواية الحلبي المتقدّمة في الصورة الأُولى: «و لا يؤاجرها بأكثر ممّا استأجرها به» يدلّ على المنع باعتبار كون الضميرين راجعين إلى الدار باعتبار الثلث، مدفوعة بلزوم كون الضمير الثاني راجعاً إلى مجموع الدار، و إلّا تتحقّق المنافاة بينه و بين الصدر الدالّ على جواز إجارة الثلث بعشرة دراهم، كما لا يخفى.

الثالثة: ما إذا آجره بالمساوي، و قد وقع فيه الاختلاف بين الأصحاب، و لا بدّ من ملاحظة الدليل، فنقول: أمّا دليل

الجواز فهي رواية الحلبي المتقدّمة في الصورة الأُولى الدالّة بالصراحة على نفي البأس فيما إذا آجر ثلث الدار المستأجرة بعشرة دراهم، التي هي تمام الأُجرة في الإجارة الأُولى، و كذا ذيل رواية أبي الربيع الشامي المتقدّمة، بناءً على نقل الصدوق الواردة في مورد رواية الحلبي.

هذا، مضافاً إلى اقتضاء القاعدة له بعد عدم شمول الأدلّة المانعة، لعدم تحقّق عنوان

______________________________

(1) تقدّمت في ص 358.

(2) تقدّمت في ص 356 و 365.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 377

..........

______________________________

الأكثرية كما هو واضح و لا عنوان الفضل؛ لأنّ المراد به كما قيل هو فضل الأُجرة لا الفضل على الأُجرة. هذا، مضافاً إلى أنّه لو نوقش في ذلك يكون الفضل هو الانتفاع ببعض العين المستأجرة، و هذا لا ارتباط له بالإجارة التي هي محلّ الكلام.

و أمّا القول بعدم الجواز، فتارة استند له بكونه رباً، و أُخرى بمضمرة سماعة الواردة في المرعى قال: سألته عن رجل اشترى مرعى يرعى فيه بخمسين درهماً أو أقلّ أو أكثر، فأراد أن يدخل معه من يرعى فيه (معه خ ل) و يأخذ منهم الثمن؟ قال: فليدخل معه من شاء ببعض ما أعطى، و إن أدخل معه بتسعة و أربعين و كانت غنمه بدرهم فلا بأس، و إن هو رعى فيه قبل أن يدخله بشهر أو شهرين أو أكثر من ذلك بعد أن يبيّن لهم فلا بأس، و ليس له أن يبيعه بخمسين درهماً و يرعى معهم، و لا بأكثر من خمسين و لا يرعى معهم إلّا أن يكون قد عمل في المرعى عملًا، حفر بئراً أو شقَّ نهراً أو تعنّى فيه برضا أصحاب المرعى، فلا بأس ببيعه بأكثر ممّا اشتراه؛ لأنّه قد

عمل فيه عملًا فبذلك يصلح له «1». بناءً على أن يكون المراد بالبيع و الشراء هنا الإجارة كما فهمه الكليني قدس سره، حيث أورد الرواية في باب إجارة الأرض و الدار بالأكثر، و يؤيّده تقييد العمل بما إذا صدر عن رضا أصحاب المرعى.

و كيف كان، فالرواية تدلّ بالصراحة على أنّه ليس له الإيجار بالمساوي و هو يرعى معهم.

و يرد على الدليل الأوّل ما تقدّم منّا مراراً من عدم تحقّق الربا الاصطلاحي في المقام كما هو ظاهر، و أمّا الدليل الثاني فربما يقال فيه بالحمل على الكراهة؛ لأنّه مقتضى تقديم النصّ أو الأظهر على الظاهر، خصوصاً بملاحظة أنّ مورد الجواز هو

______________________________

(1) الكافي: 5/ 273 ح 9، وسائل الشيعة: 19/ 130، كتاب الإجارة ب 22 ح 6.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 378

..........

______________________________

الدار التي تختصّ بحرمة الإجارة بالأكثر، و لا معارض فيها بالخصوص، و رواية المنع موردها إجارة الأرض التي حكمها الكراهة، و كراهة إجارة البعض بالمساوي في الأرض لا تقتضي حرمة إجارة البعض من الدار بالمساوي و لا كراهتها.

هذا، و الظاهر أنّه لا مجال لهذا الحمل لورود هذه الرواية في المرعى، و قيام الدليل على جواز إجارة الدار بالمساوي لا يستلزم الجواز في المرعى، بل هو عنوان مستقلّ لا بدّ من لحاظه مستقلا. و ما أفاده من أنّ رواية المنع موردها إجارة الأرض التي حكمها الكراهة، فيه: أنّ الأرض مغايرة للمرعى موضوعاً، فلا وجه لجريان حكم الأرض في المرعى، و لذا كان ينبغي البحث عن هذا العنوان أيضاً في ضمن البحث عن العناوين الستّة أو السبعة المتقدّمة، و لعلّ الوجه في عدم التعرّض له في الكلمات عدم كون الرواية معمولًا بها

عندهم، إمّا لظهورها في البيع و الشراء دون الإجارة، و لا قائل بعدم الجواز في البيع، و إمّا لأجل أنّها على تقدير كون موردها الإجارة تدلّ على التفصيل بين ما إذا استفاد من المرعى شهراً أو شهرين ثمّ آجره بالمساوي بعد أن بيّن لهم ذلك، و بين ما إذا آجره كذلك و هو يرعى معهم بعد الإجارة، فحكم بنفي البأس في الأوّل، و بأنّه ليس له ذلك في الثاني، و لم يعلم وجود قائل بهذا التفصيل.

ثمّ إنّ المفروض في المتن و في كلام الأصحاب ما إذا آجر بعض العين المستأجرة مع الانتفاع بالباقي، أو تمامها في بعض المدّة مع الانتفاع بها في غيره، فاعلم أنّ هنا فروضاً كثيرة لم يقع التعرّض لها في كلام الأصحاب، مثل ما إذا آجر بعض العين المستأجرة من شخص، و البعض الآخر من شخص آخر، و كانت اجرة المجموع زائدة على الأُجرة التي استأجر العين بها، و ما إذا استأجر العين اثنان فآجراها بالأكثر، أو آجر كلّ واحد منهما نصيبه، و كانت اجرة المجموع زائدة على

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 379

..........

______________________________

ما استأجراها بها، و غير ذلك من الفروض المتصوّرة، و ينبغي البحث عن الفرضين الأوّلين لكونهما مهمين، فنقول:

أمّا الفرض الأوّل: فالظاهر أنّه غير جائز؛ لأنّه يصدق أنّه آجر الدار مثلًا بأكثر ممّا استأجرها به، و دعوى أنّ الواقع في الخارج إجارتان، و لا يكون شي ء منهما متّصفاً بهذا الوصف؛ و هي كونها إجارة بالأكثر على ما هو المفروض، و إجارة البعض بأكثر ممّا يقع بإزائه من الأُجرة على فرض التقسيط قد مرّ أنّها جائزة و لا مانع منها، فلا دليل على عدم الجواز في

المقام، مدفوعة مضافاً إلى أنّ المستفاد من النصوص أنّ غرض الشارع تعلّق بأن لا تؤجر العين بالأكثر مع عدم إحداث شي ء فيه، و لا فرق في ذلك بين إجارة واحدة و إجارتين بأنّ كلّ واحدة من الإجارتين و إن لم تكن متّصفة بالوصف المذكور إذا لوحظت مستقلّة و مع قطع النظر عن الأُخرى إلّا أنّ الإجارة الثانية مع لحاظ كونها مسبوقة بالإجارة الاولى تتّصف بذلك لا محالة؛ لأنّه يتحقّق بسببها عنوان الإجارة بالأكثر فلا يجوز.

و من هنا يعلم أنّه لو وقعت الإجارتان متقارنتين تكون كلتاهما موضوعاً للحكم بعدم الجواز، كما هو ظاهر.

و أمّا الفرض الثاني: فالظاهر فيه أيضاً عدم الجواز لشمول النصوص له، و دعوى منع الشمول نظراً إلى أنّ كلّاً منهما في نفسه لم يؤجر العين بالأكثر حتّى يصحّ توجيه الخطاب إليه بقوله: و لا تؤاجرها بأكثر ممّا استأجرتها به، و المجموع ليس له وجود مستقل حتّى يكون هو المخاطب، مدفوعة بأنّه لا مانع من توجّه الخطاب إليهما بما هما شريكان، و توضيحه أنّ المنهي عنه هي إجارة العين بالأكثر، فكلّ من له ارتباط و إضافة بهذه الإجارة فالنهي يتوجّه إليه و يكون هو المخاطب، و لا منافاة بين كون الإجارة واحدة و المخاطب للنهي متعدّداً، بل الحكم بعدم الجواز

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 380

..........

______________________________

في هذا الفرض أولى منه في الفرض الأوّل، نظراً إلى أنّ الإجارة هنا واحدة و هي متصفة بالأكثرية دون الفرض المتقدّم، و ممّا ذكرنا من حكم الفرضين يعلم حكم باقي الفروض، فتأمّل فيها و في حكمها.

الأمر الرابع: لا إشكال في أنّه لو كان الحكم في أصل المسألة هي الكراهة لكان المراد بها هي الكراهة

التكليفيّة التي مرجعها إلى رجحان الترك، و أمّا لو كان الحكم هي الحرمة يقع الكلام في أنّ المراد بها هل هي الحرمة التكليفيّة أو الوضعيّة، و المحكي عن تقريرات سيّدنا العلّامة الأُستاذ قدس سره أنّه قال ما ملخّصه: يحتمل في المسألة وجوه ثلاثة:

أحدها: الحرمة التكليفيّة.

ثا نيها: الحرمة الوضعيّة بالنسبة إلى المجموع.

ثالثها: الحرمة الوضعيّة بالنسبة إلى الزيادة و الفضل فقط، و الظاهر هو الاحتمال الثاني؛ لظهور التعبير بكلمة «لا يجوز» في عبارات القوم في أنّ المراد به عدم الجواز وضعاً، كما في سائر الموارد التي يعبّرون بهذه الكلمة لإفادة بيان الاشتراط، أو بيان المانع خصوصاً في باب المعاملات. هذا، مضافاً إلى أنّ مرجع الحرمة التكليفية إلى صحّة الإجارة الموجبة لانتقال الأُجرة إلى المؤجر. غاية الأمر أنّه لا يجوز له التصرّف فيها بوجه أكلًا و غيره لفرض الحرمة، و هذا و إن لم يكن ممتنعاً بحسب مقام الثبوت إلّا أنّه بعيد جدّاً، بل ربما يعدّ الحكم بالصحّة الموجبة للانتقال، و بالحرمة الموجبة لعدم جواز التصرّف بوجه من المتناقضين عند العقلاء، و عليه فلا مجال للحرمة التكليفية.

و أمّا الاحتمال الثالث فالظاهر أنّه أيضاً لا مجال له؛ لأنّ مرجعه إلى تصحيح المعاملة بالنسبة إلى ما يساوي الأُجرة مع أنّه غير مقصود للمؤجر، و الحكم

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 381

..........

______________________________

بالإبطال بالإضافة إلى الزائد مع أنّه مقصود، و من البعيد أن يحكم الشارع بحصول ما ليس بمقصود للمتعاقدين قهراً عليهما، كما لا يخفى، و عليه فيتعيّن الاحتمال الثاني الذي مرجعه إلى فساد المعاملة من رأس.

و يرد على ما أفاده في دفع احتمال الحرمة التكليفية: أنّ الموضوع للحرمة ليس هي الأُجرة حتّى لا يجتمع الحكم بالانتقال

مع حرمة التصرّف، بل الموضوع لها هي نفس المعاملة و هي الإجارة بالأكثر، فلا منافاة بين الحرمة و بين الحكم بالانتقال؛ لأنّ المحرّم هو إيجاد المعاملة الكذائية، فإذا أوجدها تصحّ و تؤثِّر في الانتقال و يترتّب عليه جواز التصرّف في الأُجرة بما شاء.

و يرد على ما أفاده في دفع الاحتمال الثالث: أنّ الشارع لم يجبر المؤجر على إيجاد هذه المعاملة. غاية الأمر أنّه حكم بأنّه على تقدير إيجادها لا تؤثّر إلّا في انتقال ما يساوي الأُجرة السابقة، و هذا ليس ببعيد و له نظائر، مثل ما إذا باع ما لا يملك مع ما يملك، فإنّ الحكم فيه صحّة المعاملة بالنسبة إلى ما يملك فقط، كما قرّر في محلّه.

و التحقيق في هذا المقام أن يقال: إنّ لسان الروايات الواردة في هذه المسألة مختلف، فبعضها يدلّ على النهي عن الإيجار بالأكثر، أو على أنّه ليس له ذلك، كما في رواية المرعى المتقدّمة، و بعضها يدلّ على حرمة الفضل.

أمّا ما يدلّ على النهي عن الإيجار، فظاهره أنّ النهي فيه إرشاد إلى فساد المعاملة، و مسوق لبيان اشتراط صحّة الإجارة الثانية بعدم كون أُجرتها أكثر من اجرة الإجارة السابقة، كما في نظائره من النواهي المتعلّقة بشي ء من عناوين المعاملات المشتملة على خصوصية زائدة، بل النواهي المتعلّقة بالعبادات كذلك، كالنهي عن الصلاة في وبر ما لا يؤكل لحمه و نظائره «1».

______________________________

(1) وسائل الشيعة: 4/ 345 347، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 382

..........

______________________________

نعم، الذي يبعّد ذلك في خصوص المقام ما ورد في الرحى من التعبير بكراهة الإيجار بالأكثر؛ لأنّها ظاهرة في الحكم التكليفي كما عرفت، اللّهم إلّا أن يقال بعدم

ثبوت الملازمة بين العناوين من هذه الجهة، خصوصاً في مثل المقام الذي يكون الحكم فيه تعبّداً محضاً، و عليه يمكن أن يكون الحكم في الرحى الكراهة تكليفاً و في غيرها البطلان بناءً على الحرمة، فتدبّر.

و أمّا ما يدلّ على حرمة الفضل، فإن كان المراد منه هي المعاملة المشتملة على الفضل كما نفينا البُعد عنه فيما سبق، فالظاهر حينئذٍ أنّ المراد به هي الحرمة التكليفيّة لظهور مادّة الحرام في ذلك، و إطلاقه على الحرمة الوضعية إنّما هو بنحو المسامحة و التجوّز.

و عليه: فلا بدّ من الالتزام بالتفصيل بين العناوين التي ورد فيها هذا التعبير كالبيت و الحانوت و الأجير و غيرها ممّا لم يرد فيها ذلك كسائر العناوين، بالحكم بالحرمة التكليفيّة فيها و بالحرمة الوضعيّة في غيرها، و هو و إن لم يكن بعيداً بالنظر إلى الروايات إلّا أنّه بعيد بالإضافة إلى الفتاوى، كما لا يخفى.

و إن كان المراد منه هو نفس الفضل و الزيادة فالظاهر أنّ الحكم بالحرمة إنّما هو لأجل عدم انتقال الفضل إليه؛ لأنّه لا يجتمع الحكم بالانتقال مع الحكم بحرمة التصرّف الظاهر في حرمة الجميع، إلّا أن يقال: إنّ التعبير بالفضل ظاهر في صحّة المعاملة و مفروغيّة التأثير في الانتقال، و هو كما ترى.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 383

[لو تقبّل عملًا و استأجر آخر لهذا العمل] لو تقبّل عملًا و استأجر آخر لهذا العمل

مسألة 26: لو تقبّل عملًا من غير اشتراط المباشرة و لا مع الانصراف إليها يجوز أن يستأجر غيره لذلك العمل بتلك الأُجرة و بالأكثر. و أمّا بالأقلّ فلا يجوز إلّا إذا أحدث حدثاً أو أتى ببعض العمل و لو قليلًا، كما إذا تقبّل خياطة ثوب بدرهم ففصّله أو خاط منه شيئاً و لو قليلًا، فلا بأس باستئجار غيره

على خياطته بالأقلّ و لو بعُشر درهم أو ثمنه، لكن في جواز دفع متعلّق العمل و كذا العين المستأجرة إليه بدون الإذن إشكال، و إن لا يخلو من وجه (1).

______________________________

(1) أقول: الكلام في الأجير يقع في مقامين:

الأوّل: إجارة المستأجر الأجير من الآخر بالأكثر.

الثاني: تقبيل الأجير عملًا تقبّله بأقلّ ممّا تقبّله.

أمّا الأوّل: فقد وردت فيه ثلاث روايات تدلّ على أنّ فضل الأجير حرام، و قد تقدّم نقلها في المسألة السابقة «1»، و الظاهر أنّ إضافة الفضل إلى الأجير من إضافة المصدر إلى المفعول، لوروده في سياق البيت و الحانوت. و ربما يقال كما حكي عن سيّدنا العلّامة الأُستاذ قدس سره-: إنّ هذه الروايات مطلقة شاملة لكلا المقامين، و لازمه كون المصدر مضافاً إلى المفعول و الفاعل معاً، و هو لو لم يكن مستحيلًا لافتقاره إلى لحاظين مستقلّين لكان خروجه عن طريق المحاورة العقلائية ممّا لا ينبغي الريب فيه.

و بالجملة: فالظاهر ورود هذه الروايات في المقام الأوّل، و إن كان يمكن توجيه الإطلاق فيها بأنّ المراد من فضل الأجير هو الفضل الناشئ من قِبل الأجير، إمّا

______________________________

(1) في ص 350 و 352.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 384

..........

______________________________

بأن يؤجره بالأكثر، أو يستأجره بالأقلّ، و هذا لا يحتاج إلى لحاظين؛ لاشتراك المقامين في عنوان فضل الأجير، فتدبّر.

و كيف كان، فعلى تقدير ورودها في المقام الأوّل لا بدّ من الالتزام بثبوت الحرمة مطلقاً، لعدم ثبوت المعارض لها في هذا المقام، لا بنحو الإطلاق و لا بنحو التفصيل، كما أنّه لا بدّ من التزام بكون الحرمة الثابتة في المقام هي الحرمة التكليفية؛ لما عرفت من ظهور مادّة الحرام في ذلك، و أنّ استعمالها في الحرمة الوضعية

تجوّز و تسامح.

أمّا المقام الثاني: فقد وردت فيه روايات ظاهرة في الحرمة مع عدم الإحداث:

منها: صحيحة محمّد بن مسلم، عن أحدهما عليهما السلام أنّه سئل عن الرجل يتقبّل بالعمل فلا يعمل فيه و يدفعه إلى آخر فيربح فيه؟ قال: لا، إلّا أن يكون قد عمل فيه شيئاً «1». و لا خفاء في ظهور الرواية في نفسها في الحرمة، و أنّ كلمة «لا» للنهي عن مورد السؤال، فاحتمال كونها لنفي الصلاح خلاف الظاهر، إلّا أن تقوم قرينة عليه، فالرواية تدلّ بالمنطوق على الحرمة مع عدم العمل، و عدمها معه.

و منها: رواية محمّد بن مسلم، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن الرجل يتقبّل العمل فلا يعمل فيه و يدفعه إلى آخر يربح فيه؟ قال: لا «2».

و حكي عن الحلّي في السرائر «3» و العلّامة في التذكرة «4» أنّهما نقلا هذه الرواية مع إثبات لفظ البأس بعد كلمة لا، و لكن حيث إنّهما نقلاها عن التهذيب على

______________________________

(1) الكافي: 5/ 273 ح 1، وسائل الشيعة: 19/ 132، كتاب الإجارة ب 23 ح 1.

(2) التهذيب: 7/ 210 ح 923، وسائل الشيعة: 19/ 133، كتاب الإجارة ب 23 ح 4.

(3) السرائر: 2/ 466.

(4) تذكرة الفقهاء: 2/ 291.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 385

..........

______________________________

ما حكي «1»، و هو خال عن هذه الزيادة فلا عبرة بنقلهما، و كون المثبت مقدّماً على النافي لا يجري في هذا المقام؛ لأنّ الاعتبار في الرواية إنّما هو بالكتاب المعدّ لنقل الروايات دون الكتب الموضوعة لغيره، مع أنّك عرفت أنّهما نقلاها عن التهذيب و هو خال عنها. هذا، مضافاً الى أنّ الغالب على الظنّ اتّحاد هذه الرواية مع

الرواية السابقة و أنّ السائل فيها الذي ذكر مجهولًا إنّما هو أبو حمزة المذكور في الرواية الثانية، و عليه فلا معنى لثبوت لفظ البأس؛ لعدم صحّة استثناء صورة العمل من نفي البأس، كما هو واضح.

و منها: رواية أبي محمّد الخيّاط، عن مُجَمِّع قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: أتقبّل الثياب أخيطها ثمّ أُعطيها الغلمان بالثلثين، فقال: أ ليس تعمل فيها؟ فقلت: أقطعها و أشتري لها الخيوط، قال: لا بأس «2». فإنّه يدلّ بمفهومه على ثبوت البأس مع عدم العمل، و هو و إن لم يكن بمجرّده ظاهراً في الحرمة إلّا أنّ ما تقدّم من الروايات يصلح قرينة لإرادة الحرمة من البأس.

و مثلها رواية محمّد بن مسلم، عن أحدهما عليهما السلام قال: سألته عن الرجل الخيّاط يتقبّل العمل فيقطعه و يعطيه من يخيطه و يستفضل؟ قال: لا بأس، قد عمل فيه «3». فإنّ قوله عليه السلام: «قد عمل فيه» بمنزلة التعليل للحكم بنفي البأس، فيدلّ على ثبوته مع عدم العمل، و بقرينة دليل الحرمة يحمل عليها. و في قبال هذه الروايات روايتان:

إحداهما: رواية عليّ الصائغ قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: أتقبّل العمل ثمّ أُقبّله

______________________________

(1) الحاكي هو صاحب مفتاح الكرامة: 7/ 129، و بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 278.

(2) التهذيب: 7/ 211 ح 926، وسائل الشيعة: 19/ 133، كتاب الإجارة ب 23 ح 6.

(3) التهذيب: 7/ 210 ح 924، وسائل الشيعة: 19/ 133، كتاب الإجارة ب 23 ح 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 386

..........

______________________________

من غلمان يعملون معي بالثلثين، فقال: لا يصلح ذلك إلّا أن تعالج معهم فيه، قال: قلت: فإنّي أُذيبه لهم، فقال: ذلك عمل فلا بأس «1».

بناءً على ظهور لا يصلح في الكراهة.

و ثانيتهما: رواية الحكم الخيّاط قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: إنّي أتقبّل الثوب بدراهم و أُسلّمه بأكثر (أقلّ خ ل) من ذلك لا أزيد على أن أشقّه، قال: لا بأس به، ثمّ قال: لا بأس فيما تقبّلته من عمل قد استفضلت فيه «2»، أو ثمّ استفضلت فيه بناءً على نقل الشيخ، و الظاهر أنّ الكليّة المذكورة في الذيل مطلقة مسوقة لإفادة نفي البأس، سواء عمل فيه أم لم يعمل.

أقول: أمّا الرواية الأُولى، فهي لا تنافي الروايات المتقدّمة الظاهرة في الحرمة بعد إرجاع بعضها ببعض؛ لمنع دعوى كون «لا يصلح» ظاهراً في الكراهة، بل لو لم نقل بظهوره في الحرمة نظراً إلى أنّ نفي الصلاح ظاهر في ثبوت المفسدة و هو ظاهر في الحرمة فلا أقلّ من عدم ظهوره في شي ء منهما، بل صلاحيته لكليهما، و عليه فتصلح الروايات المتقدّمة الظاهرة في الحرمة للقرينيّة على أنّ المراد منه هي الحرمة، كما هو ظاهر.

و أمّا الرواية الثانية، فقد قال المحقّق الإصفهاني قدس سره في مقام إفادة عدم المنافاة بينها و بين الروايات المتقدّمة: تارةً أنّه يحتمل أن تكون الكليّة المذكورة في الذيل مسوقة لإفادة التعميم في مثل الفرض المذكور في كلام السائل، الذي هو القدر المتيقّن في مقام التخاطب. و أُخرى أنّه على فرض الإطلاق و الشمول لما إذا

______________________________

(1) التهذيب: 7/ 211 ح 927، وسائل الشيعة: 19/ 134، كتاب الإجارة ب 23 ح 7.

(2) الكافي: 5/ 274 ح 2، التهذيب: 7/ 210 ح 925، وسائل الشيعة: 19/ 132، كتاب الإجارة ب 23 ح 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 387

..........

______________________________

لم يعمل، يكون مقتضى القاعدة في

مقام الجمع بينها و بين الروايات المتقدّمة حمل المطلق على المقيّد، فلا تصل النوبة إلى حمل الظاهر على النصّ، بملاحظة أنّ أدلّة المنع ظاهرة في المنع، و قوله عليه السلام: «لا بأس» نصّ في الجواز «1»، و أنت خبير بعدم تماميّة شي ء من الأمرين:

أمّا الأمر الأوّل: فلأن هذا الاحتمال مستبعد جدّاً، فإنّه لا يكاد يتوهّم الاختصاص بمورد السؤال حتّى يحتاج إلى دفعه بذكر الكليّة، سيّما مع عدم ابتلاء السائل غالباً بغير الثوب الذي هو مورد سؤاله، فهذا الاحتمال بعيد في الغاية. و دعوى أنّ القدر المتيقّن في مقام التخاطب صورة العمل، فلا وجه لدعوى الإطلاق بعد عدم ثبوت مقدّماته، مدفوعة بأنّ القدر المتيقن القادح في انعقاد الإطلاق هو ما كان موجباً لانصراف الإطلاق إليه، بحيث لا يكاد يفهم من الإطلاق إلّا ذلك المقدار، و أمّا في غير هذه الصورة فوجود القدر المتيقّن لا يضرّ بالإطلاق، بل ربما يؤيّد انعقاده. أ لا ترى أنّه لو قال المولى: أكرم الرجل العالم عقيب سؤال العبد عن وجوب إكرام الرجل العالم العادل، لكان عدوله عن التقييد بالعدالة و إيجاب إكرام الرجل العالم دليلًا على عدم مدخليّة العدالة، و أنّ ما توهّمه العبد من المدخلية لا يكون له وجه عند المولى، فتقييد السؤال به مع عدم ذكره في الجواب يؤيّد عدم المدخلية، و الظاهر أنّ المقام من هذا القبيل.

و أمّا الأمر الثاني: فلأنّه على فرض الإطلاق كما هو الظاهر لا مجال هنا لحمل المطلق على المقيّد، توضيحه: إنّ وجوب حمل المطلق على المقيّد و الحكم بتقدّم دليل القيد على دليل المطلق لا يكون حكماً مدلولًا عليه بآية أو رواية، بل الوجه

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 279.

تفصيل الشريعة في

شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 388

..........

______________________________

في الحمل أنّ ظهور المطلق حيث كان مستفاداً من فعل المتكلّم العالم المختار الحكيم، نظراً إلى أنّه إذا كان في مقام البيان و لم يأت بما هو الزائد على المطلق مع كونه مختاراً في ذلك، لكان هذا دليلًا على عدم مدخلية شي ء آخر في موضوع حكمه، و إلّا كان عليه أن يأتي به، و أمّا ظهور دليل القيد في المدخلية فهو ظهور لفظي مستفاد من مثل أخذ القيد في موضوع الحكم، و هذا الظهور عند العقلاء مقدّم على ظهور المطلق، لكن هذا فيما لو لم يكن المطلق مسوقاً لإفادة نفي ذلك القيد بأن كان إجمال الحكم معلوماً مع قطع النظر عنه و سيق الإطلاق لإفادة عدم دخالة القيد الذي تحتمل دخالته كما في المقام، فإنّ ذكر الكليّة في الذيل مع الحكم بنفي البأس قبلها بالنسبة إلى مورد السؤال إنّما هو لإفادة عدم دخالة قيد العمل المأخوذ في السؤال، و أنّ الحكم مطلق و إلّا يلزم التكرار مع إيهام الخلاف من جهة عدم التعرّض لبعض خصوصيّات مورد السؤال، كما لا يخفى.

و معه كيف يمكن رفع اليد عن هذا الإطلاق بالحمل على المقيّد، بل لا بدّ من إبقائه على حاله و جعله قرينة على أنّ المراد بالنهي الوارد في الروايات المتقدّمة ليس هو الحرمة بل الكراهة؛ لأنّ ظهور النهي في الحرمة معلّق على عدم الحجّة على خلافها، و مثل هذا الإطلاق الآبي عن التقييد من أقوى الحجج على خلافها، و يؤيّد ذلك التعبير بقوله عليه السلام: «لا يصلح» في رواية عليّ الصائغ بناءً على عدم ظهوره في شي ء من الكراهة و الحرمة بخصوصهما، و مفهوم قوله عليه السلام: «لا بأس»

في رواية أبي محمّد الخيّاط، عن مُجَمِّع المتقدّمة، و رواية محمّد بن مسلم الأخيرة، حيث إنّه لا ظهور فيها أيضاً في الحرمة.

و قد ظهر من جميع ما ذكرنا أنّه مع قطع النظر عن رواية الحكم لكان مفاد الروايات و مقتضى الجمع بينها هي الحرمة، و أمّا مع ملاحظتها فلا محيص من

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 389

..........

______________________________

الحمل على الكراهة، و لعلّ ما ذكرنا هو الوجه في تفكيك الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره على ما حكاه تلميذه المحقّق الرشتي قدس سره «1» بين المقام و بين الدار و الحانوت، حيث اختار هناك الحرمة و هنا الكراهة، و ليس الوجه فيه هو دعوى ظهور نفي الصلاحية في الكراهة، و خبر الحلّي و العلّامة المتقدّم «2» حتّى يرد عليه اعتراض التلميذ بأنّ التفكيك مع بُعده في نفسه يكون فاسد المستند، فتدبّر.

ثمّ إنّ الروايات الواردة في الأجير بالنسبة إلى المقام الأوّل الدالّة على حرمة فضله خالية عن استثناء صورة الإحداث رأساً كما عرفت، و أمّا النصوص الواردة في الأجير بالنسبة إلى المقام الثاني فهي مشتملة على استثناء صورة العمل، فترتفع الحرمة أو الكراهة بالعمل، و هل يكتفى في تحقّق العمل في الثوب الذي تسلّمه للخياطة بمثل اشتراء الخيط و الإبرة كما اختاره صاحب العروة «3» أم لا؟ الظاهر هو الوجه الثاني؛ لأنّ ما يدلّ على أنّ اشتراء الخيوط عمل قد ضمّ إليه القطع و الفصل، و من الواضح أنّ العمدة في تحقّق العمل هو القطع لا اشتراء الخيوط، فهو بمجرّده لا دليل على الاكتفاء به. نعم، قد صرّح في رواية عليّ الصائغ بأنّ إذابة الذهب و الفضّة عمل.

و أمّا اختلاف جنس الأُجرة، فقال صاحب

الجواهر قدس سره: إنّه لم يذكر أحد هنا أي الأجير بالمعنى الثاني الجواز باختلاف الجنس. نعم، عن التذكرة «4» أنّه حكى

______________________________

(1) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 327.

(2) في ص 384.

(3) العروة الوثقى: 5/ 79 مسألة 2.

(4) تذكرة الفقهاء: 2/ 291.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 390

..........

______________________________

عن الشيخ قدس سره عدم الجواز مع اتّحاد الجنس إلّا أن يعمل فيه شيئاً، و لم نتحققه «1».

أقول: الوجه في عدم ذكر الجواز مع الاختلاف هنا أنّ الروايات الواردة في هذه المسألة الدالّة على النهي تحريماً أو تنزيهاً يكون موضوعها عنوان الربح، و من المعلوم أنّ تحقّقه لا يتوقّف على اتّحاد الجنس كما في أرباح التجارات المتعلّقة للخمس. نعم، في إحدى روايتي محمّد بن مسلم المتقدمتين وقع عنوان الاستفضال مورداً للسؤال، و عليه فيمكن أن يتوهّم أنّ الجواب بنفي البأس بضميمة قوله عليه السلام: «قد عمل فيه» ما يدلّ بمفهومه على أنّ البأس الثابت مع عدم العمل مورده الاستفضال الظاهر في اتّحاد الجنس، لعدم الفرق بينه و بين عنوان الأكثرية كما عرفت، و لعلّ هذا هو الوجه فيما حكي عن الشيخ قدس سره، و لكن تجاوز هذا عن حدّ التوهّم ممنوع.

ثمّ إنّ المنساق من النصوص و الفتاوى الواردة في الأجير بالمعنى الثاني أنّ محلّ البحث هو العمل في العين، كخياطة الثوب و صياغة الخاتم و نحوهما، أمّا لو تقبّل العمل الصرف غير المتعلّق بالعين كالصوم و الصلاة بناءً على صحّة الاستئجار لمثلهما، فهل يجري فيه ذلك الحكم تحريماً أو تنزيهاً، أو يكون حكمه على وفق القاعدة المقتضية للجواز كما عرفت في صدر المسألة السابقة؟ وجهان، قال في الجواهر بعد اختيار الوجه الثاني: اللّهم إلّا أن يقال:

إنّ ذكر بعض لوازم العمل في العين لا يقتضي تقييد ذلك به، و حينئذٍ يعتبر في جواز تقبيله بالأقلّ عمل شي ء منه «2».

______________________________

(1) جواهر الكلام: 27/ 319.

(2) جواهر الكلام: 27/ 319.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 391

..........

______________________________

أقول: إن كان المراد أنّ ذكر بعض تلك اللوازم لا يقتضي تقييد ما ورد مطلقاً ففيه: أنّه ليس في روايات المسألة ما يدلّ بإطلاقه على ذلك كما يظهر بملاحظتها، و إن كان المراد أنّه لا يرى العرف للمورد خصوصية ففيه: منع ذلك في مثل المقام من الأحكام التعبّدية المخالفة للقاعدة، فالأقوى هو الوجه الثاني، و إن استشكل فيه صاحب العروة «1» أيضاً.

ثمّ إنّ التقبيل في العمل في العين و إن كان حكمه ما ذكرنا، إلّا أنّ جواز تسليم العين إلى الأجير الثاني و كذا العين المستأجرة في المسألة السابقة محلّ إشكال، و إن كان يمكن أن يقال: بأنّ عدم اشتراط المباشرة و لا ثبوت انصراف بالإضافة إليها مرجعه إلى جواز التسليم لثبوت الإذن في ضمن الإجارة الأُولى، كما لا يخفى.

[قال المؤلّف دام ظلّه في كتاب الإجارة الثاني]:

و قد جرت عادتهم هنا على التعرّض لحال إجارة المستأجر العين المستأجرة من مستأجر آخر مؤجراً كان أو غيره، و نحن أيضاً نتعرّض لها و نقول: في هذه المسألة جهات من الكلام:

الجهة الاولى: في أنّه هل يجوز للمستأجر أن يؤجر العين من المؤجر أو غيره أو لا يجوز؟ و قد نفى الخلاف في الجواز صاحب الجواهر، بل قال: إنّ الإجماع بقسميه عليه «2»، و نفى الإشكال في الجواز المحقّق الأصفهاني رحمه الله «3»، و أُضيف في الجواهر إلى هذا عموم الوفاء

______________________________

(1) العروة الوثقى: 5/ 80 مسألة 2.

(2) جواهر

الكلام: 27/ 257.

(3) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 108.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 392

..........

______________________________

بالعقود، و عمومات الإجارة، و قاعدة التسلّط، و النصوص المستفيضة بل المتواترة الواردة في الأرض و الدابّة و السفينة و غيرها، الدالّة على عدم جواز إجارتها بأكثر ممّا استأجرها به.

أقول: أمّا عموم الوفاء بالعقود فالتمسّك به مبنيّ على كون مفاده صحّة كلّ عقد أو مع اللزوم أيضاً، و أمّا لو كان مفاده اللزوم فيما ثبتت صحّته من دليل آخر فلا مجال للتمسّك به في مثل المقام، و أمّا عمومات الإجارة فلم نقف على عموم واحد في باب الإجارة فضلًا عن العمومات، و أمّا قاعدة التسلّط فالظاهر أنّه ليس مفادها بيان ثبوت التسلّط للناس في أموالهم بالنسبة إلى جميع التصرّفات، حتّى يصحّ التمسّك بها في الموارد المشكوكة كالمقام و نظائره؛ لأنّ اللّازم على هذا أن تكون أدلّة التصرّفات الممنوعة شرعاً مخصّصة لدليل القاعدة كما لا يخفى، بل الظاهر أنّ مفادها مجرّد عدم جواز مزاحمة الغير مع المالك، مضافاً إلى أنّ اعتبار دليلها غير معلوم.

و أمّا النصوص، فاستفادة صحّة الإجارة الثانية منها بنحو المفروغيّة ممّا لا ينبغي الارتياب فيها، إلّا أنّ غاية مفادها الصحّة بنحو الإجمال، فلو احتمل مدخليّة شي ء في الصحّة كإذن المالك مثلًا لا مجال لنفي احتمال دخالته بهذه النصوص، كما هو غير خفيّ، و حينئذٍ فاللّازم الرجوع إلى أصالة الفساد مع عدم وجود ذلك الشي ء، إلّا أن يتمسّك لنفي اعتباره بأدلّة البراءة كما ذكرناه سابقاً؛ نظراً إلى تقدّمها على الاستصحاب هنا، لجريانها في الشكّ السببي، و كون الشكّ الذي هو مجرى الاستصحاب مسبّبيّاً.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 393

..........

______________________________

ثمّ إنّه حكي الخلاف

في هذه الجهة عن الشافعي «1»، حيث منع عن الجواز فيما إذا كان المستأجر الثاني هو المؤجر الأوّل، نظراً إلى أنّ المؤجر يملك المنفعة بالتبعية، فلا مجال لتملّكه لها بسبب آخر، و فساد هذا الدليل غنيّ عن البيان. نعم، فيما إذا كانت العين المستأجرة دابّة قد قيّد الجواز في بعض الكلمات بما إذا كانت الإجارة الثانية مماثلة للإجارة الاولى من حيث المنفعة أو أضعف منها، فلا تجوز إجارة الدابّة المستأجرة بالأثقل، و الأمر فيه سهل.

الجهة الثانية: في أنّه هل يجوز تسليم العين المستأجرة إلى المستأجر الثاني من دون مراجعة المالك و الاستئذان منه، فلا يضمن المستأجر الأوّل لو هلك من دون تعدٍّ و تفريط، أو لا يجوز التسليم من دون إذنه فيضمن بمجرّد التسليم بدونه، أو يفصّل بين ما إذا كان المستأجر الثاني أميناً و بين ما إذا لم يكن كذلك؟ وجوه بل أقوال. نسب الأوّل إلى الأشهر و الأكثر «2»، و الثاني إلى النهاية «3» و السرائر «4» و جامع المقاصد «5» و القواعد «6»، و اختاره صاحب الجواهر قدس سره «7»، و لكن قيل: إنّ ما نسب إلى النهاية و السرائر لا أصل له؛ لأنّ كلامهما في تسليم الأجير العين التي يعمل فيها إلى الأجير الثاني لا في تسليم المستأجر العين

______________________________

(1) تذكرة الفقهاء: 2/ 290، الخلاف: 3/ 494 مسألة 11، المغني لابن قدامة: 6/ 54، الشرح الكبير: 6/ 40.

(2) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 123، كتاب الإجارة للآشتياني: 243.

(3) النهاية: 446.

(4) السرائر: 2/ 465 467.

(5) جامع المقاصد: 7/ 124 125.

(6) قواعد الأحكام: 2/ 287.

(7) جواهر الكلام: 27/ 257 258.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 394

..........

______________________________

المستأجرة «1». و كيف كان،

فقد نسب الثالث إلى ابن الجنيد «2».

و ليعلم أنّ محلّ البحث هنا إنّما هو بعد الفراغ عن عدم ضمان المستأجر الأوّل للعين مع عدم التعدّي و التفريط مع قطع النظر عن الإجارة الثانية، كما أنّ محلّ النزاع فيما لو كان تلفه في يد المستأجر الثاني من دون تعدّ منه أو تفريط، و حينئذٍ فيقع الكلام في أنّ مجرّد التسليم إلى المستأجر الثاني من دون إذن المالك هل يكون جائزاً، فلا ضمان لعدم موجبه، أو لا يكون جائزاً فيضمن بسببه، لصيرورته مع عدم الجواز متعدّياً، أو في المسألة تفصيل؟ كما عرفت عن ابن الجنيد.

إذا عرفت ذلك فنقول: إنّه قد استدلّ للقول الأوّل بوجوه:

منها: أنّ التسليم من مقتضيات عقد الإجارة و ضروريّاته، لتوقّف استيفاء المنفعة عليه، فإذا جاز للمستأجر أن يؤجر جاز له تسليم العين، و بتقريب آخر إذن المالك في الإجارة الثانية مستلزم للإذن في التسليم؛ لأنّ الإذن في الشي ء إذن في لوازمه، و الفرق بين التقريبين أنّ منشأ الحكم بعدم الضمان في التقريب الأوّل حكم الشارع بجواز الإجارة الثانية، الملازم عرفاً للحكم بعدم الضمان مع التسليم؛ لأنّه من لوازمها، و في التقريب الثاني يكون المنشأ هو إذن المالك في التسليم المستفاد من إذنه في الإجارة الثانية؛ لأنّ التسليم من مقتضيات الإجارة و لواحقها.

و أُجيب عن هذا الوجه بوجوه عمدتها وجهان: واحد منهما ناظر إلى التقريبين، و الآخر إلى التقريب الأوّل.

أمّا الأوّل: فهو ما أفاده صاحب الجواهر «3» و تبعه بعض

______________________________

(1) راجع كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 124.

(2) حكى عنه في مختلف الشيعة: 6/ 115 مسألة 12.

(3) جواهر الكلام: 27/ 258.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 395

..........

______________________________

المحقّقين «1» من أنّ استيفاء المنفعة

لا يتوقّف على استقلال المستوفي في اليد الذي يتوقّف على التسليم؛ لإمكان الاستيفاء مع عدم ثبوت استيلاء له على العين، بل كان المستولي هو المستأجر الأوّل، ففي الحقيقة ما هو من مقتضيات عقد الإجارة هو استيفاء المستأجر المنفعة دون استيلائه على العين، و حينئذٍ فلا يكون التسليم من لوازم الإجارة حتّى يستكشف جوازه من جوازها، أو الإذن فيه من الإذن فيها.

و أمّا الثاني: فهو ما أفاده المحقّق الأصفهاني رحمه الله من أنّ جواز التسليم بل وجوبه المساوق للاستيلاء لا ينافي الضمان، فإنّ المنافي للضمان هو الائتمان و وجوب التسليم غير وجوب التأمين، فيجب التسليم بما له من الحكم «2».

و قد اعترض على الجواب الأوّل المحقّق الرشتي رحمه الله أوّلًا: بالنقض بالإجارة الأُولى؛ لأنّ مقتضى الجواب عدم استحقاق المستأجر الأوّل التسليم أيضاً، و لم يقل به أحد. و ثانياً: بأنّ المقدّمة تتبع لذيها في الإطلاق و التقييد، فإذا ملك المنفعة من دون شرط المباشرة لزم سقوطها في الاستيفاء، و إذا جاز الاستيفاء من دون مباشرة جاز له تسليم العين إلى المباشر «3».

و الجواب عن الاعتراض بالنقض واضح، ضرورة أنّ القائل بعدم استحقاق المستأجر التسليم نظراً إلى إمكان الاستيفاء بدونه لا يفرّق بين الإجارتين؛ إذ لا خصوصيّة للإجارة الثانية من هذه الجهة أصلًا.

و أمّا عن الاعتراض الثاني أنّ جواز الاستيفاء من دون مباشرة الذي

______________________________

(1) العروة الوثقى: 5/ 75، كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 124.

(2) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 108.

(3) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 124.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 396

..........

______________________________

هو مقتضى ملك المنفعة من دون شرط المباشرة لا يلازم جواز استيلاء المباشر على العين الذي يتحقّق بالتسليم، فعدم اشتراط المباشرة إنّما يؤثّر

في جواز الاستيفاء و لو لغير المستأجر مع إذنه و رضاه، و لا أثر له في جواز التسليم كما هو ظاهر. نعم لو قام الدليل على جواز التسليم أو وجوبه المساوق للاستيلاء لكان المتفاهم عند العرف منه سقوط الضمان، و إن لم يكن بينهما ملازمة في مقام الثبوت، كما لا يخفى.

و بهذا يمكن الاعتراض على الوجه الثاني الذي أجاب به المحقّق الأصفهاني رحمه الله، نظراً إلى أنّ عدم المنافاة إنّما هو في مقام الثبوت، و أمّا بحسب مقام الإثبات فالعرف يرى المنافاة بينهما، كما لا يخفى.

نعم، يتوجّه على التقريب الثاني إيراده الآخر و حاصله: أنّ الإجارة الثانية لا تكون منوطة بإذن المالك حتّى يكون إذنه في الإجارة إذناً في لازمها؛ لأنّ جواز الاستيفاء حقيقة أو اعتباراً بالإجارة من الغير إنّما هو بمقتضى سلطنة الناس على أموالهم، و هو لا يقتضي السلطنة على مال الغير. نعم، للمالك تضييق دائرة الاستيفاء بالاشتراط أو تقييد ملك المنفعة باستيفائه بنفسه، و بدونهما يكون جواز الاستيفاء و لو اعتباراً بمقتضى قاعدة السلطنة.

و قد انقدح من جميع ما ذكرنا أنّه لم ينهض هذا الوجه لإثبات عدم الضمان مع التسليم المساوق للاستيلاء، كما عرفت.

و منها: أنّه لو لم يجز تسليم العين إلى المستأجر الثاني لم تصحّ الإجارة؛ لأنّ القدرة على التسليم من شرائط الصحّة، و الجواب عنه يظهر ممّا تقدّم؛ لأنّ شرط صحّة الإجارة ليس هي القدرة على التسليم المساوق للاستيلاء و السلطة على مال الغير، بل الشرط هي القدرة على

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 397

..........

______________________________

تمكين المستأجر من الانتفاع، و هو لا يكون متوقّفاً على التسليم كما مرّ.

و منها: صحيحة عليّ بن جعفر، عن أخيه أبي

الحسن عليه السلام قال: سألته عن رجل استأجر دابّة فأعطاها غيره فنفقت ما عليه؟ قال: إن كان شرط أن لا يركبها غيره فهو ضامن لها، و إن لم يسمّ فليس عليه شي ء «1». و أُجيب عنه كما في محكي المسالك «2» و الجواهر «3» بأنّ الضمان فيه إنّما هو من جهة ركوب الغير، فنفيه في الشرطية الثانية إنّما هو بهذه الملاحظة، و هو لا ينافي ثبوت الضمان من جهة التسليم الذي هو مفروض البحث في المقام.

و الإنصاف عدم تماميّة هذا الجواب؛ لأنّ التسليم المتحقّق بالإعطاء مفروض في مورد السؤال، و عليه فكلتا الشرطيّتين واردتان في مورد التسليم. هذا، مضافاً إلى أنّ ظاهر الشرطية الثانية بملاحظة قوله عليه السلام: «فليس عليه شي ء» عدم ثبوت الضمان عليه أصلًا، ففي الحقيقة يكون مفاد الرواية أنّ التسليم غير مؤثّر في ثبوت الضمان، بل الضمان على تقديره إنّما ينشأ من اشتراط عدم ركوب الغير، و هي كافية في الحكم بعدم الضمان على خلاف القاعدة المقتضية لثبوته، كما عرفت.

و يؤيّده الروايات «4» الواردة في إجارة الأرض و نحوها بمساوي الأُجرة أو أقلّ، نظراً إلى أنّه لم يتعرّض في شي ء منها لعدم جواز التسليم، مع أنّه المتعارف الغالب الوقوع. و دعوى أنّه ليس في شي ء منها ما يقضي بالتسليم على وجه ترتفع يد الأوّل عنه، ممنوعة جدّاً. هذا تمام الكلام في

______________________________

(1) الكافي: 5/ 291 ح 7، وسائل الشيعة: 19/ 118، كتاب الإجارة ب 16 ح 1.

(2) مسالك الأفهام: 5/ 186 و 222، و الحاكي هو المحقّق الرشتي في كتاب الإجارة: 124.

(3) جواهر الكلام: 27/ 259.

(4) وسائل الشيعة: 19/ 126، كتاب الإجارة ب 21.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص:

398

..........

______________________________

أدلّة القول الأوّل.

و أمّا القول الثاني: فظهر وجهه ممّا تقدّم، و محصّله: أنّ التسليم المساوق للاستيلاء و التسلّط لا يكون مأذوناً فيه من المالك الأوّل، و لا متوقّفاً عليه استيفاء المنفعة، و لا لازماً للإجارة، و لا القدرة عليه شرطاً في صحّتها فهو تصرّف في مال الغير لم يقم دليل على جوازه، فمقتضى قاعدة اليد ثبوت الضمان، بناءً على عمومها و شمولها لجميع موارد إثبات اليد على مال الغير و التصرّف فيه من دون إذن مع ثبوت الاستيلاء.

و الجواب عنه أنّ مقتضى القاعدة كما عرفت و إن كان هو الضمان إلّا أنّه يجب الخروج عنها بقيام النصّ على خلافها في مورد، و قد ظهر أنّ رواية عليّ بن جعفر المتقدّمة تدلّ على نفي الضمان في المقام، فلا محيص عن الأخذ بها و الفتوى على طبقها.

و أمّا القول الثالث: فمستنده رواية محمّد بن الحسن الصفّار قال: كتبت إلى الفقيه عليه السلام في رجل دفع ثوباً إلى القصّار ليقصره، فدفعه القصّار إلى قصّار غيره ليقصره فضاع الثوب، هل يجب على القصّار أن يردّه إذا دفعه إلى غيره و إن كان القصّار مأموناً، فوقّع عليه السلام: هو ضامن له إلّا أن يكون ثقة مأموناً إن شاء اللّٰه. و روى الصدوق بإسناده عن محمَّد بن عليّ بن محبوب قال: كتب رجل إلى الفقيه عليه السلام و ذكر مثله «1»، و الاستدلال بها مبنيّ على أن يكون المراد بالقصّار المأمون هو القصّار الثاني، إمّا لظهور الرواية في ذلك و إمّا لاقتضاء مناسبة الحكم و الموضوع له كما قيل.

و لا يخفى منع كلا الأمرين، أمّا الظهور فواضح أنّه لو لم يكن ظاهراً في كون المراد بالقصّار المأمون هو الأوّل لا

يكون ظاهراً في غيره، و أمّا

______________________________

(1) التهذيب: 7/ 222 ح 974، الفقيه: 3/ 163 ح 720، وسائل الشيعة: 19/ 146، كتاب الإجارة ب 29 ح 18.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 399

..........

______________________________

مناسبة الحكم و الموضوع فاختصاصها بذلك ممنوع، بل المناسبة محفوظة على التقدير الآخر أيضاً، نظراً إلى أنّه لو كان القصّار الأوّل ثقة مأموناً يراعي في مقام الدفع إلى آخر من كان مثله من حيث الوثاقة و الأمانة. نعم، هنا إشكال ربما يمكن أن يتوهّم؛ و هو أنّ هذه الرواية مخصّصة لدليل عدم الضمان على أيّ تقدير، سواء كان المراد بالقصّار المأمون هو الثاني أو الأوّل؛ لأنّها تفصّل بين الموردين و تدلّ على وجود الضمان في مورد دون آخر، فاللّازم حينئذٍ الالتزام بالتفصيل، فلا يبقى مجال للحكم بعدم الضمان مطلقاً، كما لا يخفى.

و يمكن دفعه بأنّه على تقدير كون المراد بالقصّار المأمون هو الثاني تكون الرواية مفصّلة بلا ريب، و لكنّك عرفت أنّ هذا التقدير مخالف لظاهرها، و على التقدير الآخر يكون المراد من الحكم بعدم الضمان فيما إذا كان ثقة مأموناً هو الحكم به مع فرض عدم التعدّي؛ لما عرفت من أنّ الثقة المأمون يراعي في مقام الدفع إلى آخر من كان مثله من حيث الوثاقة و الأمانة، فالدفع إلى غيره يساوق التعدّي و هو يوجب الحكم بالضمان.

و بالجملة: فإطلاق الحكم بعدم الضمان ليس بحيث يشمل صورة التعدّي أيضاً، فلا منافاة بينه و بين مدلول هذه الرواية، فتدبّر.

و قد انقدح من جميع ما ذكرنا في هذه الجهة أنّ القول بعدم الضمان و إن لم يكن موافقاً لمقتضى القاعدة إلّا أنّه لا محيص عنه لأجل النصّ عليه.

الجهة الثالثة: في أنّه

قد قيّد في كلمات القائلين بصحّة الإجارة من الغير و عدم ضمان المستأجر بالتسليم إليه كلا الحكمين بما إذا لم يشترط المؤجر عليه استيفاء المنفعة بنفسه، و فسّر ذلك في كلمات

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 400

..........

______________________________

المتأخّرين «1» بما إذا لم يشترط عليه ذلك بنفسه لنفسه، نظراً إلى أنّ اشتراط مجرّد الاستيفاء بنفسه لا ينافي الإجارة الثانية إذا اشترط فيها أن يكون المستوفي هو المستأجر الأوّل و يعود النفع إلى الثاني.

و بالجملة: فالمؤجر تارةً يضيّق دائرة المملوك بالتقييد؛ مثل أن يملّكه ركوب الدابّة القائم بنفس المستأجر، و أُخرى يشترط عليه أن لا يؤجر من الغير بحيث يكون غرضه عدم ثبوت هذا الحقّ له، و إن كان المملوك و هي المنفعة غير مضيّق أصلًا. و ثالثة يشترط عليه استيفاء المنفعة بنفسه لنفسه، و نتيجته أيضاً عدم جواز الإجارة من الغير.

أمّا الفرض الأوّل: فيمكن أن يقال بعدم جوازه؛ لأنّ ما هو المملوك للمؤجر و إن كان طبيعي الركوب، إلّا أنّه بالإضافة إلى مستأجر خاصّ لا يكون مملوكاً للمؤجر حتّى يملّكه، فإنّ ركوب زيد بما أنّه ركوبه لا يكون مملوكاً لمالك الدابّة حتّى يملّكه، بل مملوكه هو الركوب بما هو ركوب. هذا، مضافاً إلى ما هو العمدة في هذا المقام من أنّ الإجارة متقوّمة عندهم بملك المنفعة، و إن وقع الاختلاف بينهم في حقيقة الإجارة، و أنّها هل هي تمليك المنفعة أو أمرٍ آخر يترتّب عليه ملكها، إلّا أنّ تقوّم الإجارة بنقل المنفعة و انتقالها من المؤجر إلى المستأجر كأنّه متسالم عليه بينهم، كما أنّ الفرق بين الإجارة و العارية بكون الاولى مؤثّرة في حصول ملك المنفعة، و الثانية مؤثّرة في تحقّق ملك

الانتفاع فقط كأنّه أيضاً لا خلاف فيه بينهم، و حينئذٍ نقول: في مفروض المقام مع تضييق دائرة المملوك بالتقييد بركوبه بنفسه مثلًا لا يبقى مجال لاعتبار ملك المنفعة أصلًا، لعدم

______________________________

(1) كصاحب مسالك الأفهام: 5/ 187، و رياض المسائل: 6/ 26، و جواهر الكلام: 27/ 260، و العروة الوثقى: 5/ 76.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 401

..........

______________________________

الفرق على هذا التقدير بين الدابّة المستأجرة و الدابّة المستعارة، فكما أنّه لا يجوز في الثاني أن يركبها غيره بإجارة أو غيرها كذلك لا يجوز في الأوّل، فإذا لم يكن بينهما فرق من حيث الآثار و الأحكام يصير اعتبار ملك المنفعة في الأوّل لغواً؛ لأنّه يبقى سؤال الفرق من حيث اعتبار ذلك في الأوّل دون الثاني.

و دعوى أنّه يكفي في اعتبار ملك المنفعة في خصوص الأوّل جواز الإجارة من المؤجر الأوّل فيه دون الثاني؛ لأنّه لا تجوز إجارة العين المستعارة مطلقاً، مدفوعة بأنّه في هذا الفرض لا تجوز الإجارة من المؤجر الأوّل أيضاً؛ لأنّ الركوب القائم بنفس المستأجر لا يكاد يمكن أن يصدر إلّا من شخص المستأجر، فلا معنى لنقله إلى المؤجر كما هو واضح، فلا فرق بينهما من هذه الجهة أيضاً.

و بالجملة: الأُمور الاعتبارية إنّما يكون اعتبارها بلحاظ ما يترتّب عليها من الأحكام و الآثار، ضرورة أنّه لا معنى لاعتبار الملك مثلًا مع عدم ترتّب شي ء من آثاره عليه، كجواز التصرّف فيه، و جواز النقل إلى الغير، و غيرهما ممّا يترتّب على الملك، بل اللّازم ترتّب الآثار الظاهرة و الأحكام المقصودة المنظورة، فلا يكفي في الاعتبار مجرّد ترتّب بعض الآثار الخفيّة غير المقصودة؛ مثل جواز منع الغير من التصرّف في اعتبار الملك، فإنّ هذا

الأثر بمجرّده لا يكفي في هذا الاعتبار كما هو ظاهر، و حينئذٍ نقول في المقام: إنّ اعتبار ملك المنفعة في مقابل ملك الانتفاع لا بدّ و أن يكون بلحاظ الأثر الظاهر المترتّب على ملك المنفعة دون ملك الانتفاع، و بدونه لا مجال لاعتباره، و إذا ضيّق المؤجر دائرة المملوك بالتقييد المتقدّم يوجب ذلك عدم بقاء الفرق بينه و بين ملك الانتفاع حينئذٍ، كما عرفت.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 402

..........

______________________________

و قد انقدح ممّا ذكرنا أنّ الحكم في هذا الفرض هو عدم جواز التقييد بمثل ذلك، فلا تصل النوبة إلى البحث في الإجارة الثانية؛ لأنّه إنّما هو بعد الفراغ عن صحّة التقييد المفروضة في كلامهم، و قد عرفت عدمها.

و ممّا ذكرنا ظهر عدم جواز الاشتراط بشي ء من الأمرين كما في الفرضين الأخيرين؛ لأنّ مرجع اشتراط عدم الإجارة من الغير إلى التفكيك بين ملك المنفعة و آثاره؛ لعدم كون المراد شرط عدم الإجارة بعنوانها، بل المراد شرط عدم نقل المنفعة إلى الغير و لو بعنوان آخر، و مع عدم ترتّب مثل هذا الأثر لا يبقى وجه لاعتبار ملك المنفعة.

نعم، لو كان الغرض متعلّقاً بعدم نقل المنفعة إلى مستأجر آخر غير المؤجر يصحّ حينئذٍ اعتبار الملك؛ لأنّ نقلها إلى المؤجر جائز حينئذٍ، و منه يظهر الفرق من هذه الجهة بين هذا الفرض و بين الفرض المتقدّم، لما عرفت من أنّ النقل إلى المؤجر في ذلك الفرض أيضاً غير جائز لعدم قابليّة المورد للنقل، و هذا بخلاف ما هنا، فإنّه لا مانع فيه من ذلك. و هكذا الكلام في الفرض الثالث، فإنّ الجمع بين ملك المستأجر للمنفعة و بين اشتراط استيفائه المنفعة بنفسه لنفسه لا

يمكن؛ لمنافاة هذا الاشتراط لما يتقوّم به الإجارة من نقل المنفعة و اعتبار ملكها الذي يتوقّف على بقاء أثره الظاهر.

و الحقّ في المقام أن يقال: إنّ ما ذكرنا من الإشكال في أصل الاشتراط و التقييد إنّما يبتني على أن تكون الإجارة متقوّمة بحصول ملك المنفعة بها و تأثيرها فيه، كما هو المعروف عندهم، مع أنّه يمكن منع ذلك كما أشرنا إليه فيما سبق «1»، لعدم الدليل على لزوم كون الإجارة مؤثّرة في

______________________________

(1) في ص 8 10 و 55.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 403

..........

______________________________

تحقّق ملك المنفعة، بل يمكن أن يقال: إنّ ما ينتقل إلى المستأجر من المؤجر إنّما هو حقّ الانتفاع الثابت للمؤجر باعتبار كونه مالكاً للعين، و ليس هنا ملكيّة بلحاظ المنفعة حتّى بالنسبة إلى المؤجر، و لعلّ الاعتبار العقلائي كان مساعداً لهذا المعنى، فإنّ الظاهر عدم كون مالك العين لدى العرف و العقلاء مالكاً لأمرين: العين، و المنفعة، و إن لوحظت حيثيّة الأصالة و التبعيّة، فإنّه مع هذه الملاحظة أيضاً لا يعدّ المملوك أمرين، بل لا يكون هنا إلّا العين و الإضافة الملكيّة بالنسبة إلى المالك. غاية الأمر أنّ من شؤون ملكيّة العين حقّ الانتفاع بها و الاستفادة منها، و كما أنّ للمالك أن يستوفي الحقّ بنفسه و بالمباشرة كذلك يجوز له النقل إلى الغير بالإجارة و نحوها، فحينئذٍ يصحّ أن يقال: بأنّ الإجارة لا تؤثّر في أزيد من انتقال حقّ من طرف إلى آخر.

غاية الأمر أنّه تارةً تؤثّر في انتقال حقّ الاستيفاء من العين، بمعنى أنّه كما كان للمالك الاستيفاء بالمباشرة كذلك يثبت هذا المعنى للمستأجر، فلا حقّ له إلّا الاستيفاء بنفسه، و أُخرى تؤثّر في انتقال

حقّ الاستيفاء بالعين الذي هو أعمّ من الاستيفاء بنفسه و من الإيجار للغير؛ و الأوّل يعبّر عنه بالاستيفاء من العين و الثاني بالاستيفاء بالعين، و يترتّب على الأوّل عدم جواز الإجارة من الغير، لعدم قابليّة الحقّ المنتقل إلى المستأجر للنقل إلى الغير. و على الثاني الجواز لثبوت القابلية، و الفارق بين الصورتين إنّما هو الاشتراط أو التقييد و عدمهما، و على هذا يحمل ما ورد في صحيحة عليّ بن جعفر المتقدّمة ممّا يدلّ على جواز اشتراط المؤجر أن لا يركب الدابّة المستأجرة غير المستأجر، و إلّا فبناءً على ما هو المعروف من كون المترتّب على الإجارة ملكيّة المنفعة ربّما يشكل صحّة هذا الاشتراط؛ لما عرفت من عدم اجتماع الصحّة مع اعتبار ملك المنفعة.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 404

..........

______________________________

و قد انقدح من جميع ما ذكرنا أنّ صحّة أصل الاشتراط بناءً على ما هو المشهور في باب الإجارة ممنوعة. نعم، يمكن التصحيح بناءً على ما احتملناه من عدم كون الإجارة مؤثّرة إلّا في انتقال حقّ من المؤجر إلى المستأجر، و عليه فلا تصل النوبة إلى البحث في صحّة الإجارة الثانية؛ لأنّها فيما إذا كانت الإجارة الأُولى مترتّباً عليها حقّ الاستيفاء من العين لا مجال لتوهّم الصحّة فيها، و فيما إذا كانت مؤثّرة في انتقال حقّ الاستيفاء بالعين لا مجال لتوهّم البطلان فيها، و أمّا بناءً على ما هو المعروف فقد وقع الإشكال في صحّة الإجارة الثانية مع اشتراط عدمها أو استيفاء المنفعة بنفسه لنفسه، بناءً على صحّة الاشتراط و الإغماض عمّا فيها، و منشأ الإشكال أنّ مثل هذا الاشتراط هل يؤثّر في بطلان التصرّف المخالف، أو أنّه لا يترتّب عليه إلّا مجرّد

خيار التخلّف عن الشرط على تقديره، و ما قيل في تقريب الأوّل و بطلان الإجارة الثانية أُمور:

أحدها: ما في الجواهر من أنّه لا يجوز حينئذٍ عملًا بقاعدة «المؤمنون» «1» التي يتعذّر الجمع بينها و بين الإجارة المفروضة، فيتعيّن بطلانها لسبق الخطاب بالأُولى «2».

قال المحقّق الأصفهاني رحمه الله في تقريبه: إنّ الأمر بالوفاء بالشرط و الأمر بعقد الإجارة الثانية متمانعان لا يمكن فعليّتهما معاً، لكنّه يقدّم الأوّل على الثاني لتقدّمه عليه وجوداً؛ لوجود سببه بلا مانع في حال ترقّب التأثير منه، بخلاف الثاني لوجود السبب المسبوق بالمانع. و أجاب عنه: بأنّ نفوذ عقد الإجارة تابع لوجود جميع ما يعتبر في العقد، و في المتعاقدين و في

______________________________

(1) وسائل الشيعة: 21/ 276، كتاب النكاح، أبواب المهور ب 20 ذ ح 4.

(2) جواهر الكلام: 27/ 260.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 405

..........

______________________________

مورد العقد، و اشتراط ترك الإجارة لا يوجب خللًا في شي ء منها، فالإجارة لا تبقي المحلّ للوفاء بالشرط لانقلاب ترك الإجارة إلى نقيضها بخلاف الشرط، فإنّه لا يوجب الخلل في السبب التامّ لنفوذ الإجارة، فلا أمر بالوفاء بالشرط مع وجود الإجارة حتّى يمنع عن الأمر بالوفاء بعقد الإجارة «1».

ثانيها: ما حكي عن بعض الأعلام من أنّ نفوذ كلّ معاملة منوط بملك التصرّف، و مع وجوب الوفاء بالشرط تحرم الإجارة، فيكون المستأجر مسلوب القدرة شرعاً، فلا يملك هذا التصرّف المعاملي «2».

و أجاب عنه المحقّق الأصفهاني رحمه الله بما حاصله: أنّه إن أُريد من نفي القدرة و السلطنة على التصرّف المعاملي عدم الرخصة تكليفاً فهي ليست من شروط نفوذ المعاملة، بل كما حقّق في محلّه يكون التحريم دليلًا على نفوذ المعاملة و مؤكّداً له، و

إلّا لم تكن مقدورة. و إن أُريد من نفي القدرة عدم السلطنة الوضعية فمن المعلوم أنّها تابعة لاستجماع السبب لما له دخل في تأثيره، و المفروض اشتمال كلّ من العقد و العاقد و المنفعة على الشرائط المعتبرة فيها، فعدم ملك التصرّف بمعنى عدم الجواز تكليفاً مفروض إلّا أنّه لا ينافي النفوذ، و بمعنى عدم الجواز وضعاً غير مفروض، بل هو أوّل الكلام، فتدبّر جيّداً «3».

أقول: و لقد أجاد فيما أفاد إلّا أنّ تسليمه تعلّق الحرمة الشرعية التكليفيّة بالتصرّف المعاملي محلّ منع، ضرورة أنّه ليس هنا إلّا وجوب

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 113.

(2) حكى عنه المحقّق الأصفهاني في بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 113.

(3) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 114.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 406

..........

______________________________

الوفاء بالشرط على ما يقتضيه قوله صلى الله عليه و آله: «المؤمنون عند شروطهم» «1»، و لم يدلّ دليل على حرمة التصرّف المعاملي الذي هو مناقض للوفاء، إلّا أن يقال باقتضاء الأمر بالشي ء المنهيّ عن ضدّه، و قد حقّق في محلّه عدم الاقتضاء بوجه. غاية الأمر أنّ العقل بعد ما يرى أنّ التصرّف المعاملي مناف للوفاء بالشرط يحكم بلزوم تركه لأجل تحقّق الواجب الشرعي، لكنّه ليس إلّا مجرّد لزوم عقليّ غير مناف لملك التصرّف.

و قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ الملازمة بين وجوب الوفاء بالشرط و بين كون المستأجر مسلوب القدرة شرعاً ممنوعة، من دون فرق بين أن يكون المراد بعدم القدرة عدم الجواز تكليفاً أو عدم النفوذ وضعاً، فتدبّر جيّداً.

ثالثها: ما حكي عن الشيخ الأعظم العلّامة الأنصاري قدس سره في شرط عدم الفسخ في خيار المجلس من الاستدلال لعدم تأثير الفسخ المشروط عدمه بعموم «المؤمنون»،

نظراً إلى أنّ مقتضاه وجوب الوفاء بالشرط حتّى بعد قوله: فسخت، و لازمه في المقام التمسّك بإطلاق وجوب الوفاء بالشرط حتّى بعد إنشاء الإجارة الثانية، حيث إنّه يكشف عن عدم نفوذ الإجارة، و إلّا لم يكن محلّ للوفاء بالشرط «2».

و أجاب عنه المحقّق الأصفهاني رحمه الله بما حقّق في محلّه من لزوم انحفاظ المطلق في مراتب إطلاقه، و بعد إنشاء الإجارة الثانية حيث يحتمل تأثيره يشكّ في بقاء المحلّ للوفاء، فيكون من التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية، مضافاً إلى أنّ متعلّق الشرط إن كان ترك إنشاء

______________________________

(1) التهذيب: 7/ 371 ح 1503، الاستبصار: 3/ 232 ح 835، عوالي اللآلي: 3/ 217 ح 77، وسائل الشيعة: 21/ 276، كتاب النكاح، أبواب المهور ب 20 ح 4، مستدرك الوسائل: 13/ 301، كتاب التجارة، أبواب الخيار ب 5 ح 7.

(2) كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري: 5/ 56 57.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 407

..........

______________________________

الإجارة فقط، فبمجرّد إنشائه يسقط الشرط عن اقتضاء الوفاء لعدم المحلّ له قهراً، فكيف يعقل إطلاقه لما بعد المخالفة القهرية، و إن كان ترك الإنشاء الناقل فمقتضى لزوم تعلّق الالتزام بالمقدور إمكان تحقّق الإجارة الحقيقية منه، فكيف يعقل إطلاق الوجوب لما بعد الإنشاء الناقل، الذي لا يبقى معه محلّ للوفاء، فتدبّره فإنّه حقيق به «1».

أقول: ما أفاده من لزوم انحفاظ المطلق في مراتب إطلاقه و إن كان مسلّماً إلّا أنّه لا يلزم أن يكون الانحفاظ محرزاً بالوجدان، بل يكفي الاستناد فيه إلى أصل يقتضي ذلك، و في المقام يمكن التمسّك في بقاء الانحفاظ إلى أصالة بقاء المحلّ للوفاء، فإنّه مع الشكّ في تأثير الإجارة الثانية يكون بقاء المحلّ للوفاء مشكوكاً، فما المانع

حينئذٍ من إجراء الاستصحاب و الحكم ببقاء الوجوب لأجل بقاء المحلّ، و ليس من التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية بوجه، كما هو ظاهر.

و أمّا ما أفاده ثانياً من أنّ متعلّق الشرط إن كان إلخ، فيمكن الإيراد عليه بأنّ عدم بقاء المحلّ للوفاء على كلا التقديرين ممنوع؛ لأنّه فيما إذا كان متعلّق الشرط مجرّد ترك الإنشاء حقّ لا ريب فيه، و أمّا إذا كان متعلّقه ترك الإنشاء الناقل فاللّازم التفصيل بين ما إذا كان المتعلّق عدم حدوث الإنشاء الناقل، و بين ما إذا كان عدم تحقّق الإنشاء الناقل و لو بقاءً، بحيث كان الغرض متعلّقاً بإبطال الإجارة على تقدير تحقّقها مع الإمكان، و عدم كون الغير مالكاً للمنفعة و لو بقاءً، ففي الأوّل الأمر كما أفاده قدس سره، و أمّا في الثاني فالمحلّ للوفاء على تقدير صحّة الإجارة أيضاً باق، فيجب عليه بمقتضى دليل وجوب الوفاء بالشرط أن يحصّل مقدّمات الفسخ و لو

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 114.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 408

..........

______________________________

بصرف مئونة، كما لا يخفى.

نعم، لا يضرّ ذلك بما هو المهمّ للمجيب من عدم اقتضاء الدليل لإثبات فساد الإجارة، بل مقتضى لزوم تعلّق الشرط و الالتزام بالمقدور إمكان تحقّق الإجارة الصحيحة من المشروط عليه، فلا معنى لكشف حكمه عن فسادها، فتدبّر جيّداً.

رابعها: ما ربما يقال من أنّ الإجارة الثانية تصرّف مناف للحقّ الثابت للمؤجر على المستأجر من أجل الاشتراط و التصرّف المنافي للحقّ باطل، و قد حقّق هذا الوجه المحقّق الأصفهاني رحمه الله بكلام طويل يشتمل على فوائد مهمّة، و لكن ملخّص ما يرتبط منه بخصوص المقام أنّ البحث في هذا الدليل يتوقّف على بيان أمرين هما

صغرى الدليل و كبراه. أمّا الصغرى فطريق استكشاف الحقّ إمّا اقتضاء نفس الاشتراط و إمّا اقتضاء دليل الشرط، و إمّا اقتضاء آثار الشرط.

أمّا اقتضاء نفس الشرط، فبأن يقال: إنّ الالتزام الشرطي بالخياطة لا فرق بينه و بين الالتزام الإجاري بها، فكما أنّ الثاني يؤثّر في الاختصاص الملكي فكذا الأوّل، و يندفع بالفرق؛ لأنّ حقيقة الإجارة تمليك العمل بعوض، و هنا لا يكون المشروط حصول الملكيّة؛ لأنّ الكلام في شرط العمل، و اللّام لام الصلة للالتزام لا لام الاختصاص.

و أمّا اقتضاء دليل الشرط فواضح خلافه؛ و أنّه لا يقتضي حدوث حقّ اعتباري بالشرط.

و أمّا اقتضاء آثار الشرط فالمسلّم في المقام من آثار الحقّ التي هي جواز النقل و الانتقال بالإرث و جواز الاسقاط ترتّب الأخير على الشرط، و كفى به دليلًا و شاهداً على كونه حقّا، فقد تبيّن من ذلك صحّة الصغرى.

و أمّا الكبرى، فقد ذكر فيها أنّ الحقّ كليّة تارةً يتعلّق بالعين كحقّ

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 409

..........

______________________________

الشفعة و نحوه، و أُخرى يتعلّق بفعل أو ترك كما في المقام، ثمّ ذكر أنّ الأوّل على قسمين: أحدهما: ما يسري مع العين بسريانها في أنحاء التقلّبات كحقّ الشفعة، و الثاني: ما لا يسري بذلك كحقّ الرهانة. و ذكر أنّ الثاني أيضاً على قسمين: أحدهما: ما يكون نسبة التصرّف المعاملي إلى مورد الحقّ نسبة الشي ء إلى نقيضه كما في المقام. و ثانيهما: ما يكون نسبته إليه نسبة الضدّ إلى ضدّه، كالبيع بالنسبة إلى العتق المشروط على المشتري.

ثمّ أفاد في القسم الأوّل من هذين القسمين الذي هو المقام و شبهه ما ملخّصه: أنّ الحقّ فيه لا يعقل أن يكون مانعاً عن نفوذ التصرّف

المعاملي؛ لأنّ متعلّق الشرط إن كان ترك إنشاء الإجارة فقط فلا محالة تتحقّق المخالفة للشرط بمجرّد الإنشاء فيسقط الحقّ، فلا مانع من تأثير الإنشاء. و إن كان ترك الإنشاء الناقل فمن المسلّم في محلّه أنّ القدرة على متعلّق الشرط شرط في صحّته، فلا بدّ من أن يكون ترك الإجارة بالحمل الشائع مقدوراً عليه، و إذا كان الترك كذلك كان الفعل مقدوراً عليه لاستواء نسبة القدرة إليهما، بل حقّقنا في محلّه أنّ الفعل مقدور عليه بالأصالة و الترك بالتبع، و عليه فيستحيل أن يكون استحقاق الترك مانعاً عن نفوذ الإجارة، و إلّا لزم من وجوده عدمه و هو محال فافهم و استقم «1»، انتهى ملخّص ما يرتبط من كلامه بخصوص المقام.

أقول: لقد أجاد فيما أفاد، و لا وجه لما قد أورد عليه من أنّ مرجع اشتراط عدم الإجارة من الغير إلى حدوث ملك المنفعة خالياً عن وصف الإطلاق بل مقيّداً، فلا معنى لحدوث حقّ للمؤجر على المستأجر مع كون

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 115 117.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 410

..........

______________________________

ملكيّة المنفعة مطلقة.

و بعبارة اخرى، إن كان الاشتراط راجعاً إلى أمر زائد على ما هو مقتضى الإجارة عند الإطلاق و هي الملكيّة المطلقة غاية الأمر كون ذلك الأمر مانعاً عن جواز ترتيب آثار الملكيّة المطلقة لكان ادّعاء تأثيره في ثبوت الحقّ حقّا لا محيص عنه. و إن كان الاشتراط موجباً للقصور في المقتضي و مانعاً عن تأثيره في حدوث الملكيّة المطلقة لما كان وجه لدعوى ثبوت الحقّ، ثمّ النزاع في أنّ التصرّف المنافي له باطل أم لا، ضرورة أنّ المملوك للمستأجر حينئذٍ هي المنفعة المقيّدة التي لا يعقل نقلها إلى

الغير، و الظاهر هو هذا الوجه الثاني.

هذا، و فساد هذا الإيراد واضح لا يحتاج إلى البيان؛ لأنّه ناشئ من عدم الفرق بين الاشتراط و التقييد، ضرورة أنّ الاشتراط لا يكاد يؤثّر في قصور المقتضي؛ لأنّه التزام في ضمن التزام آخر، من دون أن يكون موجباً بتضييق دائرة ذلك الالتزام أو توسيعها، كما أنّ الاعتبار العرفي العقلائي أيضاً يساعد على ذلك، فإنّه أيّ فرق في حصول الملكيّة المطلقة للمستأجر بين صورتي الشرط و عدمه، و هذا بخلاف ما إذا كان هنا تقييد مثل ما إذا ملّكه ركوب الدابّة بنفسه، فإنّه في هذه الصورة لا معنى لدعوى ثبوت الحقّ أصلًا، كما أنّه لا إشكال في بطلان الإجارة الثانية. نعم، في صحّة أصل هذا التقييد كلام عرفته فيما سبق «1».

هذا، و يمكن أن يقال بالفرق بين ما إذا كان الشرط أمراً وجوديّاً تعلّق الغرض بتحقّقه في الخارج، و بين ما إذا كان أمراً عدميّاً يكون المقصود المنع عن إيجاده بسبب الاشتراط، ففي الأوّل لا مناص عن الالتزام بتحقّق

______________________________

(1) في ص 399 و ما بعدها.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 411

..........

______________________________

الحقّ للمشروط له على المشروط عليه، و أمّا الثاني فيمكن أن يقال: بأنّ مرجعه إلى سلب الحقّ الثابت للمشروط عليه لولا الاشتراط، فاشتراط عدم الإجارة من الغير مرجعه إلى سلب هذا الحقّ من المستأجر، لا إلى إثبات حقّ للمؤجر على المستأجر و الدليل على ذلك الاعتبار العرفي، فإنّ من آجر داره مشترطاً على المستأجر أن لا يؤجرها من الآخر لا يكون عند العرف ثابتاً له حقّ، كمن آجر داره مشترطاً على المستأجر الخياطة، بل بينهما فرق من جهة ثبوت الحقّ للمؤجر في الثاني و

سلب حقّ عن المستأجر في الأوّل، و مع كون الحقّ مسلوباً لا مجال للنزاع في بطلان الإجارة الثانية؛ لأنّه على هذا التقدير مسلّم لا ارتياب فيه.

نعم، اللّازم ممّا ذكر أن يكون أثر الحقّ و هو جواز الإسقاط مختصّاً بالصورة الأُولى، و أمّا الصورة الثانية فلا دليل على كون الإسقاط مؤثّراً في حدوث الحقّ المسلوب عن المستأجر، فإنّه إذا ارتفع الحقّ بسبب الاشتراط في العقد لا دليل على عوده بالإسقاط، بل لا معنى للإسقاط أصلًا؛ لأنّه لم يكن هنا حقّ للمؤجر حتّى يسقط بالإسقاط، مع أنّ الظاهر عدم الفرق عندهم في جواز الإسقاط بين الصورتين، فهذا يكشف عن كون الشرط موجباً لثبوت الحقّ فيهما، فتدبّر جيّداً.

و خامسها: بعض الروايات التي استدلّ بها على البطلان أو يمكن الاستئناس بها عليه، مثل صحيحة عليّ بن جعفر عليه السلام المتقدّمة «1»، الواردة في الدابّة المستأجرة التي أعطاها المستأجر إلى الغير فنفقت، الدالّة على أنّه إن اشترط أن لا يركبها غيره فهو ضامن لها، و إن لم يسمّ فليس عليه

______________________________

(1) في ص 397.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 412

..........

______________________________

شي ء. و قد استدلّ بها في مفتاح الكرامة «1» على بطلان الإجارة الثانية، و لكن المحقّق الرشتي رحمه الله بعد نقل هذا من المفتاح ذكر أنّ هذا غريب بعد ما عرفت هناك من عدم المنافاة بين صحّة الإجارة الثانية و ضمان المستأجر الأوّل العين إذا سلّمها إلى الثاني من غير إذن «2».

و الحقّ أن يقال: إنّك عرفت سابقاً عند الكلام في مفاد الرواية أنّ موردها صورة تحقّق التسليم من المستأجر بسبب الإعطاء، فهو أي التسليم مفروض في كلتا الشرطيّتين الواردتين في الجواب، و عليه فالوجه في الحكم

بالضمان في الشرطيّة الاولى ليس التسليم المتحقّق بغير إذن المالك؛ لأنّه مفروض في كلتيهما، فلا بدّ أن يكون الضمان مسبّباً عن أمر آخر، و ليس ذلك إلّا اشتراط عدم ركوب الدابّة غيره، و حينئذٍ نقول: إنّ مرجع هذا الاشتراط إن كان إلى سلب حقّ من المستأجر و هو حقّ الدفع و الإعطاء من الغير إجارة كان أو غيرها، فالحكم بالضمان ينشأ عن فساد تصرّف المستأجر المساوق لصيرورته متعدّياً، و ذلك لعدم ثبوت حقّ هذا النحو من التصرّف له فلا وجه لوقوعه متّصفاً بالصحّة. و إن كان إلى إثبات حقّ للمؤجر على المستأجر فاللّازم أن يكون الحكم بالضمان في الرواية تعبّداً محضاً؛ لما عرفت من أنّ التصرّف المنافي لحقّ المؤجر لم يقم دليل على بطلانه، بل لا يعقل ذلك كما عرفت في كلام المحقّق الأصفهاني رحمه الله، و الظاهر من الرواية أنّ ثبوت الضمان في صورة الاشتراط ليس أمراً مخالفاً للقاعدة ثابتاً تعبّداً، بل أمر موافق للقاعدة، فالإنصاف أنّ الاستدلال بالرواية لفساد التصرّف الصادر من المستأجر

______________________________

(1) مفتاح الكرامة: 7/ 84.

(2) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 128.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 413

..........

______________________________

المشروط عدمه صحيح لا مرية فيه، فتدبّر جيّداً.

و ممّا يستأنس به على البطلان رواية سليمان بن خالد، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: سألته عن رجل كان له أب مملوك و كانت لأبيه امرأة مكاتبة قد أدّت بعض ما عليها؟ فقال لها ابن العبد: هل لك أن أُعينك في مكاتبتك حتّى تؤدّي ما عليك بشرط أن لا يكون لك الخيار على أبي إذا أنت ملكت نفسك؟ قالت: نعم، فأعطاها في مكاتبتها على أن لا يكون لها الخيار عليه بعد ذلك،

قال: لا يكون لها الخيار، المسلمون عند شروطهم «1». فإنّ تمسّكه عليه السلام لعدم ثبوت الخيار بدليل الشرط دليل على نهوضه بالوضع ثبوتاً و سلباً.

و أجاب عن هذا الاستئناس المحقّق الرشتي رحمه الله بأمرين:

أحدهما: كون ظاهر الرواية مخالفاً لطريقة الأصحاب لاقتضائه وجوب الوفاء بالشرط الابتدائي غير المذكور في العقد اللّازم، و الحمل على الشرط المذكور فيه ليس بأولى من الحمل على الاستحباب.

ثانيهما: أنّ شرط عدم الخيار في مورد الرواية مخالف للكتاب و السنّة فكيف يكون صحيحاً، فلا بدّ من التأويل إلى ضرب من الاستحباب «2».

أقول: يمكن أن يقال بالفرق بين المقام الذي هو شرط الفعل و بين مورد الرواية الذي هو شرط النتيجة؛ لأنّ وجوب الوفاء المتعلّق بالشرط لا يكاد يتصوّر له معنى في الثاني إلّا تحقّق تلك النتيجة، سواء كانت أمراً وجوديّاً أو عدميّاً، فوجوب الوفاء فيه ملازم لتحقّق الوضع. و هذا بخلاف

______________________________

(1) الكافي: 6/ 188 ح 13، وسائل الشيعة: 23/ 155، كتاب التدبير و المكاتبة و الاستيلاد، أبواب المكاتبة ب 11 ح 1.

(2) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 128.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 414

..........

______________________________

شرط الفعل الأعمّ من الإيجاد أو الترك المقابل للنتيجة، فإنّ وجوب الوفاء به المستفاد من قوله صلى الله عليه و آله: «المؤمنون عند شروطهم» «1» لا يلازم الوضع، بل غايته مجرّد التكليف و لزوم الإطاعة له بحكم العقل، فالرواية حينئذٍ أجنبية عن المقام، إلّا أن يرجع شرط عدم الإجارة إلى عدم ثبوت حقّها، و معه لا حاجة في إثبات فساد التصرّف المنافي للشرط إلى مثل هذه الرواية، كما هو غير خفيّ.

و قد انقدح من جميع ما ذكرنا أنّ الوجوه الخمسة التي استدلّ بها لبطلان الإجارة

الثانية لا يكاد ينهض شي ء منها ما عدا الأخير لإثبات ذلك، و أمّا الوجه الأخير فقد عرفت «2» أنّ مقتضى التأمّل في صحيحة عليّ بن جعفر عليه السلام أنّ منشأ الحكم بالضمان إنّما هو فساد التصرّف المخالف الموجب لصيرورة المتصرّف متعدّياً، و عليه فلا محيص عن الحكم بفساد الإجارة الثانية في المقام.

بقي في المقام أمران:

الأوّل: ربّما يقال بالفرق بين شرط عدم الإجارة من الغير و بين شرط الاستيفاء بنفسه من حيث الدليل على بطلان الإجارة الثانية، نظراً إلى أنّه يمكن الاستناد في البطلان في الصورة الثانية إلى وجه آخر غير ما مرّ من الوجوه الخمسة، و قد تعرّض لهذا القول المحقّق الأصفهاني رحمه الله، حيث قال ما ملخّصه: إنّ شرط الاستيفاء بنفسه إن رجع إلى شرط ترك تسليم المنفعة إلى الغير، أو ترك إسكان الغير كما في الرواية المتقدّمة «3»، حيث قال عليه السلام: «إن كان شرط أن لا يركبها غيره»، فإنّ المراد منه شرط ترك

______________________________

(1) تقدّم في ص 406.

(2) في ص 397.

(3) في ص 397.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 415

..........

______________________________

ما هو فعل نفسه و هو إركاب الغير، فربّما يتخيّل بطلان الإجارة من وجه آخر.

أمّا شرط ترك التسليم فوجه البطلان فيه عدم القدرة على التسليم المعتبرة في كلّ معاوضة، و المفروض حرمة التسليم للالتزام بتركه الواجب عليه، و الممتنع شرعاً كالممتنع عقلًا، و أمّا شرط ترك الإسكان فالوجه فيه تخيّل صيرورة المنفعة محرّمة بذلك، و إباحة المنفعة من شرائط صحّة الإجارة.

و قال في تقريب صيرورة المنفعة محرّمة مع أنّ المنفعة إمّا عبارة عن سكنى الغير الدار و هو لم يقع مورد الالتزام بتركه، بل المحرّم هو الإسكان و هو

ليس من المنافع، و إمّا عبارة عن شؤون الدار و حيثيّاتها؛ و هي المسكنيّة و المسكونية المضايفة للساكنية، و هي إن لوحظت في طرف الدار عدّ من منافعها، و إن لوحظت في طرف الساكن عدّ من إعراضه القائمة به، فلا وجه لدعوى التحريم ما ملخّصه: أنّه على التقدير الأوّل لا بدّ من الإدراج تحت عنوان الإعانة على الإثم؛ لأنّ عنوان الإسكان من المؤجر لا يتحقّق إلّا بسكنى الغير، و على التقدير الثاني إنّ تلك الحيثية الموجودة في الدار و إن كان اتّصافها بالإباحة و التحريم لا من حيث نفسها، بل باعتبار الإخراج من القوّة إلى الفعل و هو الذي يعبّر عنه بالاستيفاء، و يتحقّق بالدخول في الدار و الكون فيها، و المفروض عدم التزام الساكن المستوفي بشي ء إلّا أنّ تلك الحيثية بلحاظ مرتبة الفعلية لها قيامان: قيام بالدار قيام حلول، و قيام بالموجد بقيام صدوري، و لا فرق في اتّصاف تلك الحيثية بالحرمة بين أن يكون بلحاظ قيامها بالساكن، و بين أن يكون بلحاظ قيامها بقيام صدوري بالمتّصف بالإسكان لأجل توسّط إرادته و كونه مختاراً.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 416

..........

______________________________

ثمّ إنّه قدس سره دفع إشكال عدم القدرة على التسليم؛ بأنّ المدار في اعتبار القدرة على رفع الغرر، و مع الوثوق بحصول الحال في يده لا غرر، سواء كان المؤجر قادراً على التسليم واقعاً أم لا، فضلًا عمّا إذا لم يكن قادراً شرعاً، و المفروض هنا إمكان حصول المنفعة في يد المستأجر، فلا غرر و لا خطر، مع أنّ القدرة اللّازمة هنا هي قدرة المستأجر على التسلّم لا قدرة المؤجر على التسليم، و على فرض تعميم القدرة إلى الواقعية و الشرعية

فلا حرمة بالإضافة إلى المستأجر، فإنّ الملتزم بترك التسليم هو المؤجر دون المستأجر، و حرمة أحد المتضايفين لا تستلزم حرمة المضائف الآخر؛ لأنّها ليست من لوازم التضايف.

و دفع إشكال حرمة المنفعة؛ بأنّ الوجه في شرطية إباحة المنفعة أنّ المنفعة المحرّمة لا مالية لها و لا هي مملوكة لمالك العين، و مقتضى هذا الوجه عدم شرطية الإباحة هنا، إذ المفروض كون المنفعة مملوكة، و إنّما التزم بترك التصرّف فيها بإسكان الغير «1».

أقول: فيما أفاده قدس سره مواقع للنظر، و لا بأس بذكر بعضها:

منها: أنّ إرجاع الشرط في الرواية إلى شرط ترك إركاب الغير غير واضح، للفرق بين ما إذا كان الملتزم بتركه إركاب الغير، و بين ما إذا كان المشروط عدم ركوب الغير، فإنّه و إن كان اللّازم في الالتزام بترك شي ء أن يعدّ الشي ء فعلًا من أفعاله و منسوباً إلى الملتزم، إلّا أنّه مع ذلك لا مجال لإنكار الفرق بين ما إذا كان الالتزام متعلّقاً بترك الإركاب، و بين ما إذا تعلّق بترك ركوب الغير، فإنّ مقتضى الأوّل أن يكون الملتزم هو المقتضي لحدوث الركوب، و مرجع الثاني إلى لزوم الممانعة، و إن كان

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 119 121.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 417

..........

______________________________

المقتضي هو الغير الراكب. نعم، لو قرأت صيغة المضارع في الرواية مبنيّة للمفعول لتمّ ما ذكر، إلّا أنّ الظاهر كونه مخالفاً للظاهر فتأمّل.

و منها: أنّ تسليم حرمة التسليم كما في الأوّل و حرمة المنفعة كما في الثاني ممنوع، و إن كان الدليل لا يبتني على ثبوت الحرمة بعنوانها في الأوّل، و ذلك أي وجه عدم الابتناء أنّ قوام الدليل الأوّل إنّما هو بسلب القدرة

على التسليم، نظراً إلى أنّ الممتنع شرعاً كالممتنع عقلًا، و لا فرق في تحقّق هذا الأمر بين أن يكون في البين تكليف تحريمي موجب لسلب القدرة، و بين أن يكون سلب القدرة مسبّباً عن تكليف وجوبي، كما هو غير خفيّ.

و من هنا يظهر أنّ قوام الدليل الثاني إنّما هو بذلك؛ لأنّه على تقدير عدم كون المنفعة محرّمة لا يبقى موقع لهذا الدليل.

و كيف كان، فالوجه في منع دعوى التحريم أنّه ليس هنا إلّا الالتزام الشرطي و الدليل على وجوب الوفاء بمقتضى هذا الالتزام، و إذا كان ترك الشي ء واجباً لا يستلزم ذلك حرمة فعله بوجه كما حقّق في محلّه، و أشرنا إليه في هذا الكتاب مراراً، فتسليم الحرمة كما هو ظاهر هذا المحقّق رحمه الله لا وجه له.

و منها: أنّ مقتضى ما أفاده سابقاً «1» في شرط عدم الإجارة من الغير من أنّ لزوم تعلّق الالتزام الشرطي بالأمر المقدور فعلًا و تركاً يقضي بكون الإجارة من الغير مقدورة للملتزم بتركها أن يكون التسليم الذي التزم بتركه هنا مقدوراً له، و مع اتّصافه بذلك لا مجال لأن يكون الاشتراط مانعاً عن اتّصافه به، و إلّا يلزم من وجوده العدم و هو محال،

______________________________

(1) في ص 409.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 418

..........

______________________________

فلا وجه لأن يكون الالتزام بترك التسليم موجباً لسلب القدرة عليه مع كونها القوام في صحّة أصل الالتزام، إلّا أن يقال: بأنّ التسليم الذي التزم بتركه هو التسليم الخارجي، و هو قادر عليه فعلًا و تركاً، و القدرة المسلوبة بسبب الاشتراط هي القدرة الشرعية الناشئة من دليل وجوب الوفاء و الالتزام، فلا منافاة بين صحّة الالتزام و مسلوبيّة القدرة.

و منها: ما أفاده

من أنّ الملتزم بترك التسليم هو المستأجر الأوّل، و حرمة التسليم بالإضافة إليه لا تستلزم الحرمة بالإضافة إلى المستأجر الثاني، مخدوش بما أفاده في تقريب صيرورة المنفعة محرّمة من طريق الإعانة على الإثم، فإنّه إذا كانت حرمة السكنى موجبة لحرمة الإسكان لأجل تحقّق الإعانة، فحرمة التسليم أيضاً تقتضي حرمة التسلّم من أجل هذه الجهة لعدم الفرق، كما هو ظاهر.

ثمّ إنّ الجواب عن أصل التخيّل و الإشكال أمّا في شرط ترك التسليم فهو أنّه يبتني على دعوى كون الممتنع شرعاً كالممتنع عقلًا، مع أنّه دعوى بلا بيّنة و برهان، و لم يقم عليه دليل من عقل أو نقل، و أمّا في شرط ترك الإسكان فما عرفت من ابتنائه على صيرورة المنفعة محرّمة، و ليس في البين تكليف تحريمي أصلًا.

الأمر الثاني: قد وقع الإشكال في الصورة الاولى من الصور الثلاث المتقدّمة، و هي ما إذا ضيّق المؤجر دائرة التمليك بسبب التقييد، كما إذا ملّكه ركوب نفسه بناءً على صحّة هذا النحو من التقييد، كما عرفت «1» الكلام فيها في أنّه إذا آجر من غيره مثلًا و استوفى المستأجر الثاني المنفعة، هل يكون الثاني ضامناً أم لا؟ و منشأ الإشكال أنّ المنفعة التي

______________________________

(1) في ص 399 400.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 419

..........

______________________________

استوفاها المستأجر الثاني لا تكون مملوكة لا للمؤجر و لا للمستأجر الأوّل، أمّا الثاني فواضح؛ لأنّ ما ملكه المستأجر الأوّل إنّما هو ركوبه نفسه، فركوب الغير لا يكون مملوكاً له بوجه، و أمّا الأوّل فلأنّ المنافع متضادّة، فلا يعقل أن تكون مملوكة للمؤجر بتمامها، و لذا ذكروا في باب الغصب أنّه لو غصب عبداً له صنائع متعدّدة لم يضمن الغاصب للمالك

من المنافع الفائتة تحت يده، سوى إحدى تلك الصنائع إذا كانت متساوية، أو أغلاها إذا كان بعضها كذلك، و مع عدم كون المنفعة المستوفاة مملوكة لأحد لا وجه للحكم بضمان المستأجر الثاني. نعم، ربّما يحكم بضمانه من أجل تفويته للمنفعة التي ملكها المستأجر الأوّل، و لكن الكلام في الضمان المسبّب عن الاستيفاء لا عن التفويت، لعدم الفرق في الثاني بين الاستيفاء و عدمه، كما لا يخفى.

أقول: هذه شبهة عقليّة عويصة لا بدّ من التخلّص عنها، و قد دفعها المحقّق الإصفهاني قدس سره بما حاصله يرجع إلى عدم تحقّق التضادّ بين المنافع، و كون المالك للعين مالكاً لجميعها نظراً إلى أنّ المنافع حيثيّات موجودة بوجود العين بالقوّة و التضادّ إنّما هو في مرتبة فعليّة ما بالقوّة، و أمّا في مرتبة الموجوديّة بالقوّة فلا؛ لأنّ التضادّ و التماثل من عوارض الموجودات الحقيقية الخارجية لا الموجودات بوجود العين، و التعيّنات خارجة عن مقام ذات المنفعة الموجودة بالقوّة؛ لأنّ التعيّن الخارجي بعين الفعلية و التعيّن الاعتباري فرع اعتبار المعتبر، و اللامتعيّن من حيث كونه موجوداً بالقوّة لا يخرج عن اللّامتعيّنية إلّا بالتعيّن الفعلي الخارجي لا الاعتباري. غاية الأمر أنّه بفرض إضافته إلى زيد يخرج عن اللّامتعيّنية بهذا المقدار و تبقى سائر الجهات على حالها.

و عليه فانتقال جهة خاصّة إلى المستأجر موجب لبقاء سائر الجهات

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 420

..........

______________________________

على ملك مالكها و سقوطها عنه، إمّا بسبب النقل و هو خلف، و إمّا بلحاظ التضادّ و قد عرفت عدمه، و إمّا بلحاظ التعيّن فهو ليس من قبيل الكلّي حتّى إذا تعيّن في فرد لم يبق على كلّيته، و إمّا بلحاظ وحدته فهو ليس واحداً

فعليّاً، بل له شيوع و سعة، و إمّا بلحاظ كون الملكيّة بمعنى السلطنة و لا سلطنة للمالك على تمليك المنفعتين معاً، فهو ممنوع لعدم كون الملكيّة بمعنى السلطنة. غاية الأمر عدم القدرة على التسليم، كما أنّ المستأجر مالك لركوب نفسه، و لا يمكنه تمليكه لعدم إمكان حصوله للغير «1»، انتهى ملخّصاً. [انتهى كلامه دام ظلّه من كتاب الإجارة الثاني].

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 124 125.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 421

[الأجير الخاصّ

] مسألة 27: الأجير إذا آجر نفسه على وجه يكون جميع منافعه للمستأجر في مدّة معيّنة لا يجوز له في تلك المدّة العمل لنفسه أو لغيره، لا تبرّعاً و لا بالجعالة أو الإجارة. نعم، لا بأس ببعض الأعمال التي انصرفت عنها الإجارة و لم تشملها و لم تكن منافية لما شملته. كما أنّه لو كان مورد الإجارة أو منصرفها الاشتغال بالنهار فلا مانع من الاشتغال ببعض الأعمال في الليل له أو لغيره، إلّا إذا أدّى إلى ما ينافي الاشتغال بالنهار و لو قليلًا. فإذا عمل في تلك المدّة عملًا ممّا ليس خارجاً عن مورد الإجارة، فإن كان العمل لنفسه تخيّر المستأجر بين فسخ الإجارة و استرجاع تمام الأُجرة إذا لم يعمل له شيئاً، أو بعضها إذا عمل شيئاً، و بين أن يُبقيها و يطالبه اجرة مثل العمل الذي عمله لنفسه، و كذا لو عمل للغير تبرّعاً، و لو عمل للغير بعنوان الجعالة أو الإجارة فله مضافاً إلى ذلك إمضاء الجعالة أو الإجارة و أخذ الأُجرة المسمّاة (1).

______________________________

(1) الأجير المفروض في هذه المسألة من أقسام الأجير الخاصّ و قبل الخوض في تعريفه و بيان أقسامه و أحكامه، ينبغي التنبيه على

أُمور:

منها: أنّه ربما يمكن أن يناقش في أصل الإجارة على الأعمال و يورد الشبهة عليه بتقريب أنّه لا بدّ في تحقّق الإجارة و ثبوت حقيقتها و ماهيّتها من أن يكون في البين أُمور ثلاثة: المؤجر، و المستأجر، و العين المستأجرة. و قد مرّ سابقاً «1» في تعريف الإجارة أنّها بمعناها الاسمي عبارة عن إضافة خاصّة يعتبرها العقلاء في العين المستأجرة بالنسبة إلى المستأجر ..، و عليه فالعين المستأجرة من أركان الإجارة

______________________________

(1) في ص 10.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 422

..........

______________________________

و بها قوامها، و هذا المعنى متحقّق في إجارة الأعيان بلا إشكال، و إن اختلفت الأعيان باختلاف الموارد من جهة كونه جماداً أو نباتاً أو حيواناً غير ناطق، أو ناطقاً إذا كان عبداً، و أمّا في الإجارة على الأعمال فليس إلّا الأمران الأوّلان: المؤجر و المستأجر، و ليس هنا عين مستأجرة، و عليه فلا بدّ من أن يقال بخروجها عن حقيقة الإجارة؛ لما عرفت من تقوّمها بالعين المستأجرة، و مجرّد إطلاق لفظ الإجارة عليها لا يوجب كونها من مصاديق تلك الحقيقة، فإنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة.

و يمكن دفع هذه الشبهة بأنّ العين المستأجرة متحقّقة في الإجارة على الأعمال أيضاً. غاية الأمر اتّحادها مع المؤجر الذي يعبّر عنه هنا بالأجير، و لم يقم دليل على لزوم التعدّد و ثبوت المغايرة بينهما خارجاً، بل يكفي التغاير الاعتباري، فاعتبار كونه إنساناً متّصفاً بالقدرة و الاختيار و يمكن إيقاع العقد معه و وقوعه طرف المعاملة يتّصف بكونه أجيراً، و باعتبار كون العمل الذي هو الغرض من الإجارة قائماً به بالقيام الصدوري، و أنّه عمله يتّصف بأنّه هي العين المستأجرة، و يدلّ على ثبوتها في هذا

القسم من الإجارة أيضاً أنّه يقال في صيغتها: «آجرتك نفسي» كما يقال في صيغة الإجارة السابقة: «آجرتك داري» مثلًا، فجعل النفس هنا مكان الدار هناك دليل على أنّ العين المستأجرة هنا هي النفس.

إن قلت: إذا كانت العين المستأجرة في الإجارة على الأعمال هي نفس الأجير كالدار في إجارة الأعيان، فاللّازم عدم جواز التسبيب للأجير، بل عليه العمل بالمباشرة؛ لأنّه كما أنّ المملوك هنا هي منفعة الدار التي تعلّقت الإجارة بها لا منفعة دار اخرى، كذلك المملوك هنا هو العمل القائم بالعين المستأجرة التي هي نفس الأجير، فالعمل الصادر من الغير يغاير المنفعة التي هي الغرض من الإجارة، مع أنّ

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 423

..........

______________________________

ظاهر الأصحاب عدم لزوم المباشرة في هذا النحو من الإجارة إلّا مع التصريح بها من طريق الاشتراط و نحوه.

قلت: كما أنّه يمكن أن تكون العين المستأجرة في إجارة الأعيان أمراً كليّاً موصوفاً بأوصاف مقصودة، كالدار الكذائية كذلك يمكن أن تكون النفس المأخوذة هنا عيناً ملحوظة بعنوان أعم من كون الفعل صادراً عنها، و من كونها السبب في صدوره من الغير.

و بعبارة اخرى: كانت النفس ملحوظة باعتبار كونها العلّة في تحقّق الفعل في الخارج أعمّ من أن يكون قائماً به بالقيام الصدوري أو بالغير، اللّهم إلّا أن يقال: إنّ لحاظها كذلك و إن كان ممّا لا ينبغي الارتياب فيه إلّا أنّه خلاف ظاهر قوله: «آجرتك نفسي» مع أنّ ظاهر الأصحاب أنّ لزوم المباشرة يفتقر إلى مؤنة زائدة، فتدبّر جيّداً.

و منها: انّه لا إشكال في أنّه كما أنّ العبد يكون مملوكاً بالذات كذلك منافعه مملوكة لمالكه بالتبع، و باعتبار ملكيّتها يصحّ للمالك إجارته من الغير بجميع المنافع أو

ببعضها، و أمّا الحرّ الذي هو العمدة في محلّ الكلام في المقام، فحيث لا يكون بعينه مملوك كذلك لا تكون منافعها مملوكة و لو بالتبع، و لأجل ذلك ربما يقع الإشكال في إجارة الحرّ نفسه؛ من جهة عدم اتّصافه بكونه مالكاً لمنافعه، فكيف يملّكها الغير بالإجارة.

و قد وقع دفع هذه الشبهة في كلام المحقّق الإصفهاني قدس سره المتقدّم «1» في اعتبار مملوكية المنفعة، و ملخّصه: إنّ معنى كون الإجارة معاوضة ليس لزوم قيام كلّ من

______________________________

(1) في ص 62.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 424

..........

________________________________________

لنكرانى، محمد فاضل موحدى، تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، در يك جلد، مركز فقهى ائمه اطهار عليهم السلام، قم - ايران، اول، 1424 ه ق

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة؛ ص: 424

______________________________

العوضين مقام الآخر فيما له من إضافة الملكيّة حتّى يلزم كون كلّ منهما مملوكاً قبلًا، بل معناها صيرورة كلّ من العوضين ملكاً للآخر بإزاء صيرورته ملكاً له، و عليه فالحرّ لمكان سلطنته على نفسه له أن يتعهّد بعمل في ذمّته و يملّكه الغير، و إن كان غير مملوك له قبل التعهّد «1»، و قد عرفت سابقاً «2» عدم اعتبار الملكيّة في المنفعة، بل اللّازم هو أن تكون مرتبطة بالمؤجر بحيث تكون خارجة عن حدّ التساوي و عدم وجود المرجّح، كما في المباحات الأصلية التي ليس لها ارتباط بالمؤجر أصلًا.

و منها: أنّه ذكر المحقّق الإصفهاني قدس سره في هذا المقام مقدّمة وصفها بأنّها مهمّة، و لا بأس بإيرادها على نحو التلخيص، و هي: إنّ المنفعة على ما تقدّم هي حيثيّة العين و شأنها القائمة بها بالقوّة، و نحو وجودها وجود المقبول

بوجود القابل، و حيث إنّها بالقوّة و لها قبول تعيّنات كثيرة، فهي لا متعيّنة في نفسها، فملك جميع تلك الموجودات بالقوّة و إن لم يكن له مانع، لما مرّ من أنّ التماثل و التضادّ من عوارض الوجودات الخارجيّة، إلّا أنّ تعلّق الملك باللامتعيّن لا لمحذور التماثل و التضادّ بل لخروج تلك التعيّنات عن حدود الموجودات بالقوّة.

نعم، في كلّ منفعة جهة وحدة لوحدة القوّة مع قبولها للتعدّد، إلّا أنّ مجموعها لا يندرج تحت قوّة اخرى بحيث تكون قوّة القوى، فلا بدّ في فرض ملك جميع المنافع عند من يرى التضادّ فيها من فرض جامع انتزاعي من تلك الموجودات بوجود القوى، و يكفي في خارجيّته خارجية مناشئ انتزاعه.

و أمّا نحن ففي سعة من ذلك، لعدم التماثل و التضادّ عندنا كما عرفت، هذا على ما

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 106 107.

(2) في ص 60 63.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 425

..........

______________________________

نراه في حقيقة المنافع، و أمّا عند من يرى المنافع عبارة عن الخياطة الفعلية التي تكون قبل وجودها معدومة، و لذا قيل بعدم قبولها للملكية، فلا بدّ من أن تجعل المنافع مقدرة الوجود عرفاً، و أنّها المملوكة، و حيث يرون التضادّ بين تلك الأفراد فلذا يقولون بأنّ المملوك هو القدر المشترك بينها، و حينئذٍ نقول: إنّ الكلّي بما هو حيث إنّه غير قابل للملك إلّا باعتباره في الذمة أو بملاحظته في الخارج فلا بدّ من فرض وجود ذلك القدر المشترك في الخارج، و من البيّن أنّ الكلّي لا يكون خارجياً إلّا بخارجية فرده، و إذا تكثّرت الأفراد تكثّرت وجودات الكلّي، و كما أنّ الأفراد متضادّة غير قابلة للملك، فكذا الوجودات من الكلّي

المتّحد مع فرده، و لا يعقل ملكيّة أحد وجوداته بنحو الترديد؛ لأنّ المردّد لا ثبوت له، و لا بنحو التعيين فإنّه خلف في المقام، فلا محيص عن فرض الكلّي في المعيّن، إذ كما يتصوّر هذا المعنى في الأفراد المحقّقة الوجود، كالصاع المضاف إلى مجموع الصيعان، كذلك يتصوّر بالإضافة إلى الأفراد المقدّرة الوجود، فيكون قابلًا للانطباق على كلّ واحد منها، و سيتّضح الفرق بين مسلكنا و هذا المسلك بعد إرجاعه إلى الكلّي في المعيّن تصحيحاً له «1».

أقول: إنّ المنافع التي لا يكاد يمكن اجتماعها في الخارج لثبوت التعاند و التنافي بينها، تارةً يشكل في اتّصافها بالمملوكية لنفس المالك، و أُخرى في إمكان تمليكها من الغير بسبب الإجارة و نحوها، و إن كان أصل الملكيّة محفوظاً للمالك.

أمّا الأوّل: فتقريب الشبهة أنّ اعتبار الملكيّة عند العقلاء إنّما هو بلحاظ الآثار المترتّبة عليها، إذ بدون ترتّب تلك الآثار يصير الاعتبار لغواً عندهم، و في المنافع المتنافرة غير المتعانقة في الوجود، حيث لا يمكن للمالك الانتفاع بها و استيفاؤها

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 129 130.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 426

..........

______________________________

لفرض التعاند، فلا يعقل اتّصاف كلّ واحدة منها بالملكيّة، و يصير اعتبارها بالإضافة إليها لغواً، لا يترتّب عليه أثر.

و الجواب: إنّه يكفي في ترتّب الأثر المصحّح لاعتبار الملكيّة عند العقلاء إمكان الاستيفاء و السلطنة على الانتفاع بكلّ واحدة منها، و مجرّد عدم إمكان الاجتماع في الخارج لا يوجب الخلوّ عن الأثر، فإنّ استحالة الاجتماع لا أثر لها إلّا في قطع يد المالك عن الانتفاع في تلك الحالة فقط، و هذا لا يكون دخيلًا في اعتبار الملكيّة، بل المصحّح له مجرّد إمكان الاستيفاء و الانتفاع

و لو مشروطاً بحال الانفراد و عدم ثبوت المعاند.

و أمّا الثاني: فتقريبه على ما حكي عن سيّدنا العلّامة الأُستاذ قدس سره في مسألة إجارة العين بجميع منافعها، أنّ المؤجر لا يكون قادراً على التسليم لفرض عدم إمكان الاجتماع، و إن كان هذا الفرض لا يقدح في اعتبار أصل الملكيّة؛ لأنّه لا يعتبر فيها القدرة و السلطنة، أ لا ترى أنّ وقوع المال في البحر و خروجه عن حيطة سلطنة المالك لا يوجب خروجه عن الاتّصاف بالملكية، إلّا أنّه يقدح في التمليك من الغير لاعتبار القدرة على التسليم فيه، و المفروض في المقام عدمها لعدم قابليّة المحلّ.

و أُورد على هذا التقريب بأنّ التسليم الذي تكون القدرة عليه شرطاً في التمليك هو تسليم العين التي تعلّق بها الإجارة لغرض المنافع، و هو مقدور عليه في المقام؛ لأنّ منشأ تخيّل سلب القدرة عدم إمكان اجتماع المنافع في الوجود، و هذا لا ارتباط له بتسليم العين المستأجرة، الذي تكون القدرة عليه شرطاً في صحّة الإجارة، و عليه فما هو الشرط يكون مقدوراً عليه، و ما هو خارج عن القدرة ليس بشرط.

أقول: هذا الإيراد بالنسبة إلى ما هو المفروض في كلام سيّدنا الأستاذ قدس سره من

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 427

..........

______________________________

إجارة العين بجميع المنافع متوجّه؛ لأنّ التسليم المعتبر هناك هو تسليم العين، و أمّا في المقام و هي الإجارة على الأعمال فربما يشكل توجّهه؛ لأنّ التسليم فيها هو تسليم العمل لا تسليم الأجير نفسه و إن لم يعمل، و لذا ذكرنا سابقاً «1» أنّ استحقاق الأُجرة في الإجارة على الأعمال يتوقّف على الفراغ عن العمل، و حينئذٍ فلا بدّ من أن يقال في مقام

دفع الشبهة: بأنّه لا يعتبر في صحّة التمليك من الغير أزيد ممّا يعتبر في أصل الملكيّة، فكما أنّ مجرّد إمكان الانتفاع يكفي في اعتبار الملكيّة و تصحيحها، كذلك يكفي في صحّة التمليك و النقل إلى الغير، لعدم الدليل على اعتبار أزيد منه.

و قد ظهر من الأُمور التي قدّمناها أنّ الشبهة في أصل الإجارة على الأعمال مطلقاً، و كذا في خصوص إجارة الحرّ نفسه، و كذا في تمليك المنافع غير القابلة للاجتماع كلّها، مندفعة لا مجال لشي ء منها.

إذا عرفت ذلك يقع الكلام في الأجير الخاصّ الذي ربما يعبّر عنه بالمنفرد أو بالمقيّد، و في مقابله العامّ، أو المشترك، أو المطلق. و قد عرّف في كلامهم بأنّه الذي يستأجر مدّة معيّنة. نعم، حكي عن التذكرة «2» و جامع المقاصد «3» زيادة: ليعمل بنفسه، و لكن ذكر في المفتاح أنّه لا بدّ من إرادة ذلك في عبارة الجميع لما ستعرف، على أنّه يعلم من قولهم في المشترك هو الذي يستأجر لعمل مجرّد عن المباشرة «4».

و كيف كان، فالظاهر بملاحظة ما ذكروه في تعريف الأجير المشترك، و بملاحظة ما رتّبوه على الأجير الخاصّ من الأحكام التي من جملتها عدم جواز العمل لغير

______________________________

(1) في ص 256 257.

(2) تذكرة الفقهاء: 2/ 301.

(3) جامع المقاصد: 7/ 157.

(4) مفتاح الكرامة: 7/ 172.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 428

..........

______________________________

المستأجر في المدّة المعيّنة أنّه يعتبر في الأجير الخاصّ أمران:

أحدهما: كونه أجيراً في جميع المدّة المعيّنة على وجه الاستغراق، و هذا مع تعيين تلك المدّة أوّلًا و آخراً لا خفاء فيه، و أمّا مع تعيين الأوّل فقط بحيث لا يتوانى فيه بعده فقد صرّح الشهيد الثاني قدس سره في محكي الروضة

«1» بأنّه في حكم تعيين المدّة و من مصاديق الأجير الخاصّ، و أمّا مع تعيين الآخر فقط، كأن استأجره لخياطة ثوب معيّن في مدّة شهر من حين الإجارة، فالظاهر عدم كونه من أفراد الأجير الخاصّ، و إن تضيّق الوقت في أواخر الشهر بحيث لم يتّسع لأزيد من خياطة ذلك الثوب.

ثانيهما: صدور العمل منه بالمباشرة بنحو التقييد في الإجارة دون الاشتراط كما صرّح به في الجواهر «2»؛ لأنّ تخلّف الشرط لا يوجب إلّا الخيار، و لا يجدي في ترتّب الأحكام المذكورة للأجير الخاصّ. و مع انتفاء واحد من هذين الأمرين ينتفي هذا العنوان و يدخل في العنوان الآخر، و إن كان البحث في مفاد نفس العنوانين ليس بمهمّ؛ لأن استكشاف مفادهما إنّما هو من طريق الأحكام المرتّبة عليهما، فكلّ من لا يجوز له العمل لغير المستأجر في مدّة الإجارة يسمّى أجيراً خاصّاً، و كلّ من يجوز له ذلك يسمّى أجيراً مشتركاً، و ليس لنا طريق للاستكشاف غير هذا. نعم، وردت رواية في تفسير المشترك سيجي ء نقلها في محلّها «3».

ثمّ إنّه لا فرق في الأجير الخاصّ بين أن يكون مستأجراً بجميع منافعه أو ببعضها المعيّن؛ لأنّ الملاك في اتّصافه بهذا العنوان هما الأمران المتقدّمان. نعم، هنا قسم

______________________________

(1) الروضة البهية: 4/ 343 344.

(2) جواهر الكلام: 27/ 263.

(3) في ص 465.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 429

..........

______________________________

ثالث؛ و هي صورة تعهّده لعمل في الذمّة مباشرة في مدّة خاصّة، و الفرق بينه و بينهما لا يكاد يخفى.

إذا ظهر لك ذلك نقول: إنّهم ذكروا في حكم الأجير الخاصّ أنّه لا يجوز له العمل لغير المستأجر في المدّة المعيّنة في الإجارة إلّا بإذنه، و قد حكي نفي

الخلاف في ذلك عن بعض «1»، و الإجماع عن آخر «2». و لا بدّ أوّلًا من ملاحظة أنّ الجواز المنفي في عباراتهم هل هو الجواز التكليفي، من دون أن يكون غرضهم إفادة الحكم الوضعي الثابت للعمل لغير المستأجر، أو أنّ الجواز المنفي هو الجواز الوضعي الذي مرجعه إلى ثبوت التأثير له؟

وجهان: من أنّ الظاهر هنا هو الحكم التكليفي بملاحظة كون الموضوع هو مجرّد العمل لغير المستأجر أعمّ ممّا إذا كان العمل له بعنوان الإجارة و الجعالة و أشباههما، أو بعنوان التبرّع و المجّانية، أو كان العمل لنفسه، كما إذا خاط ثوب نفسه مثلًا مع كونه مستأجراً للخياطة مدّة معيّنة، و من الواضح أنّ العمل لغير المستأجر بإطلاقه الشامل لجميع هذه الموارد لا يكاد يمكن أن يقع موضوعاً للحكم الوضعي، فاللّازم حينئذٍ أن يقال بكون الجواز المنفي هو الجواز التكليفي.

نعم، يمكن الإيراد عليه بأنّ عدم الجواز كذلك لم يدلّ عليه دليل، بل مقتضى الدليل وجوب الوفاء بعقد الإجارة لكونه من أفراد العقود التي يجب الوفاء بها على ما هو مدلول الآية الشريفة.

و لكن يمكن دفع هذا الإيراد بأنّه ليس مرادهم من ذلك إفادة ثبوت حكم

______________________________

(1) مجمع الفائدة و البرهان: 10/ 14، رياض المسائل: 6/ 43 44.

(2) الانتصار: 466، غنية النزوع: 288 289.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 430

..........

______________________________

تكليفي تحريمي زائداً على وجوب الوفاء بالعقد، بل الغرض أنّ موافقة التكليف الوجوبي لا تتحقّق إلّا بالعمل للمستأجر و ترك العمل لغيره، فالعمل له إنّما يتصف بعدم الجواز لكونه تركاً للواجب لا أنّه حرام في نفسه.

و من أنّ الظاهر من التعبير بعدم الجواز خصوصاً في مثل المقام من أبواب المعاملات هو عدم الجواز الوضعي،

و يؤيّده استثناء صورة الإذن الظاهر في أنّ عدم الجواز إنّما هو لتعلّق حقّ المستأجر، و كون العمل لغيره تصرّفاً في حقّه، فيناسب اعتبار كون نفوذه منوطاً بإذنه، فتدبّر.

نعم، اللّازم على هذا الوجه إقامة الدليل على عدم الجواز بمعنى النفوذ، إلّا أن يكون التسالم عليه المستكشف من إلقائهم لذلك إلقاء المسلّمات كافياً في مقام الاستدلال، بحيث لم يكن يحتج إلى شي ء آخر.

و الظاهر من الوجهين هو الوجه الأوّل لما عرفت في وجهه، و استثناء صورة الإذن لا ينافيه كما هو غير خفيّ.

و يدلّ عليه استثناؤها في الرواية «1» المعروفة عن عدم جواز التصرّف في مال الغير. نعم، استثناء صورة الإجازة يؤيّد الحكم الوضعي؛ لعدم كون الإجازة اللّاحقة مؤثِّرة في رفع الحكم التكليفي، بل هي مرتبطة بالوضع كما هو ظاهر.

ثمّ إنّه يقع الكلام بعد ذلك فيما لو آجر الأجير الخاصّ نفسه لغير المستأجر في تلك المدّة المعيّنة، و ليعلم أوّلًا أنّ الإجارة الثانية المتحقّقة في الإجارة على الأعمال تارةً ينشأ صدورها من المستأجر؛ بأن يؤجر المستأجر أجيره من الغير،

______________________________

(1) كمال الدين: 520 ح 49، الاحتجاج: 2/ 299، وسائل الشيعة: 9/ 540، كتاب الخمس، أبواب الأنفال ب 3 ح 7.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 431

..........

______________________________

و أُخرى ينشأ من الأجير؛ بأن يؤجر الأجير نفسه من غير المستأجر.

أمّا الصورة الأُولى: فالحكم فيها حكم الإجارة في الأعيان، و أنّه لو استأجر داراً مثلًا، هل يجوز له إجارتها من الغير أم لا، و قد مرّ تفصيلًا «1».

و أمّا الصورة الثانية: فهي المقصودة بالبحث هنا بالنسبة إلى الأجير الخاصّ، فنقول: الأجير الخاصّ تارة يكون مستأجراً بجميع منافعه، و أُخرى ببعضها المعيّن منها، و على التقدير الثاني تارةً

يؤجر نفسه لما هو ضدّ ما عقد عليه أوّلًا، و أُخرى لما هو مثله، و ينبغي أن يعلم أنّ التشقيق باعتبار التضادّ و التماثل مع عدم ثبوتهما بمعناهما الحقيقي في المقام؛ لأنّ التماثل و التضادّ إنّما يكون معروضهما الموجودات الحقيقية مع شرائط خاصّة كما قرّر في فنّه، و مع اشتراكهما في عدم اجتماع ما عقد عليه ثانياً مع ما عقد عليه أوّلًا و لا يكاد يمكن الجمع بينهما خارجاً إنّما هو باعتبار اختلافهما في بعض الوجوه و الأدلّة التي أُقيمت على عدم الجواز، كما سيظهر إن شاء اللّٰه تعالى.

و كيف كان، ففي صورة التضادّ قد استدلّ على بطلان الإجارة الثانية تارةً من طريق اقتضاء الأمر بالشي ء للنهي عن ضدّه بضميمة اشتراط إباحة المنفعة في صحّة الإجارة، و أُخرى من جهة منافاة التضادّ للملكية، و ثالثة من جهة عدم القدرة على التسليم بعد سبق التمليك لضدّه.

و الجواب عن الأوّل واضح لما حقّق في الأُصول من عدم الاقتضاء بوجه، و لكنّه ذكر المحقّق الإصفهاني قدس سره بعد منعه الاقتضاء لابتنائه على المقدّمية و هو لا يقول بها-: إنّا و لو قلنا بمقدمية ترك الضدّ لوجود الضدّ، لكنّا لا نقول بمقدّمية فعل

______________________________

(1) في ص 349 مسألة 25.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 432

..........

______________________________

الضدّ لترك الضدّ؛ لأنّ المقدّمية بنحو الشرطية لا محالة، و الشرط إمّا مصحّح لفاعلية الفاعل أو متمِّم لقابلية القابل، و العدم لا شي ء، فلا يحتاج إلى فاعل أو قابل حتّى يتصوّر فيه المصحّحية للفاعلية أو المتمّمية للقابلية. و ذكر في الجواب عن الثاني: أنّه على فرض المقدّمية لا حرمة مولوية لترك الواجب، و الحرمة المانعة عن قابلية المنفعة للملكية هي الحرمة

المولوية؛ لعدم الدليل على المنع في غيرها «1».

أقول: لم يظهر لنا الفرق بين القول بمقدّمية وجود الضدّ لترك الضد، و بين القول بمقدمية الترك للوجود، إذ كما أنّ الترك عدم ليس بشي ء حتّى يحتاج إلى فاعل أو قابل، كذلك هو ليس بشي ء حتّى يكون مصحّحاً أو متمِّماً؛ لأنّ هذين الوصفين وجوديان لا يعقل عروضهما للعدم، و قد تقرّر في محلّه أنّ العدم مطلقاً لا حظَّ له من الوجود و إن كان مضافاً.

ثمّ إنّ التعبير بالحرمة المولوية في الجواب الثاني سهو من القلم لا محالة؛ لأنّ التكليف المولوي في مقابل الإرشادي، و الغرض النفسية مقابل المقدّمية و الغيرية كما هو واضح.

و أمّا الجواب عن الثاني: فقد ظهر ممّا مرّ من عدم منافاة التضادّ للملكية و لا للتمليك.

و أما الوجه الثالث: فقد حكم بصحّته المحقّق الإصفهاني قدس سره «2»، مع أنّه يمكن الجواب عنه أيضاً بأنّ القدرة على التسليم إن كان المراد بها هي القدرة العرفية التكوينية فمن المعلوم تحقّقها في المقام، و عدم اقتضاء الإجارة الأُولى لسلب مثل

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 130 131.

(2) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 131.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 433

..........

______________________________

هذه القدرة، و إن كان المراد بها هي القدرة الشرعية فعدم تحقّقها في المقام أوّل الكلام، فتدبّر.

نعم، يمكن أن يقال: إنّه مع تمليك الأجير؛ المستأجر منفعته الخاصّة في مدّة معيّنة لا يعتبر له إضافة الملكيّة في تلك المدّة بالنسبة إلى سائر المنافع المضادّة غير المتعانقة معها في الوجود، فإنّ المنفعة حيث تكون أمراً تدريجياً يفتقر إلى مرور الزمان و مضيّه، فإذا ملكها الأجير من المستأجر فكأنّه ملك ذلك الزمان منه، و عليه فلا يكون مالكاً

لمنفعة أُخرى في تلك المدّة حتّى يملكها من الآخر، و من الواضح أنّه لا منافاة بين هذا الذي احتملناه، و بين ما ذكرنا من عدم منافاة التضادّ لأصل الملكيّة و لا للتمليك، فإنّ مورد ذلك ما إذا لم يتحقّق التمليك بالنسبة إلى منفعة خاصّة، فإنّه حينئذٍ نقول بكون الأجير مالكاً للمتضادّين، و بإمكان تمليكهما من المستأجر حتّى يستوفي ما يتعلّق غرضه به من الخياطة أو الكتابة، و مورد هذا الكلام ما إذا تحقّق التمليك بالإضافة إلى منفعة خاصّة، فإنّه حينئذٍ يمكن أن يقال: إنّ سبق التمليك لأحد الضدّين في مدّة خاصّة ينافي اعتبار بقاء الملكيّة للأجير بالنسبة إلى منفعة أُخرى مضادّة، و إن كان قبل التمليك متّصفاً بأنّه مالك لكليهما، و كان يصحّ منه التمليك بالنسبة إليهما معاً، و لكنّه بعد تحقّق التمليك لأحدهما يصير اعتبار الملكيّة للآخر مسلوباً، فلا يقبل التمليك. هذا كلّه بالإضافة إلى المنافع المتضادّة.

و أمّا في صورة التماثل مثل ما إذا كان أجيراً للخياطة في مدّة معيّنة فآجر نفسه للخياطة أيضاً في تلك المدّة فقد ذكر المحقّق الإصفهاني قدس سره أنّه يتصوّر على وجهين «1»، و لكنّه ينبغي قبل ذكر الوجهين اللذين أفادهما بيان أنّ فرض التماثل في

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 132.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 434

..........

______________________________

المثال مع صحّة الإجارتين في نفسهما كما هو المفروض، إمّا بأن يقال: إنّه يكفي في صحّة الإجارة للخياطة مجرّد تعيين كون المنفعة هي الخياطة، من دون تعرّض لموردها و الخصوصيّات التي يشتمل هو عليها من الرقة و الغلظة و نحوهما ممّا يختلف باختلافها الأغراض بحسب الغالب. و إمّا بأن يقال: لا بدّ من فرض الكلام فيما إذا

اتّحد المورد بالإضافة إلى كلتا الإجارتين؛ نظراً إلى اعتبار التعرّض للمحلّ و خصوصيّاته كما هو ظاهر الأصحاب، و إلّا فمع عدم اتّحاد المورد و المحلّ و اعتبار التعرّض لخصوصيّاته لا يكاد يتحقّق فرض التماثل، ضرورة أنّه لو آجره المستأجر الأوّل لخياطة ثوب معيّن، فآجر نفسه من آخر لخياطة ثوب معيّن آخر لم يتحقّق هنا هذا الفرض؛ لعدم الفرق بينه و بين ما إذا آجر نفسه من آخر للكتابة مثلًا، بداهة أنّ الخياطتين في هذه الصورة من المتضادّين باعتبار اختلاف المحلّ و عدم إمكان الاجتماع، فلا بدّ إمّا من القول بعدم اعتبار التعرّض للمحلّ و كفاية الاستئجار لمجرّد الخياطة، أو القول بأنّ المفروض صورة اتّحاد المورد؛ كما إذا كان المورد غير متعلّق بالمستأجر الأوّل بخصوصه، بل كان متعلّقاً بالعموم أو بطائفة مثلًا.

و كيف كان، فأوّل الوجهين المتصوّرين في هذا الفرض على ما أفاده المحقّق المزبور ما إذا ملك المنفعة المملوكة للمستأجر الأوّل، و ثانيهما ما إذا ملك الخياطة من دون تقييد بمملوكيتها للمستأجر الأوّل، و ذكر في الوجه الأوّل أنّه لا شبهة في كونها فضولية تتوقّف صحّتها على الإجازة، و في الوجه الثاني أنّه على ما قلنا من أنّ المنفعة هي تلك الحيثيّة الواحدة اللااقتضائيّ متعيّنة تصير تلك الحيثيّة ملكاً للأوّل، و ليست هنا حيثيّة أُخرى حتّى تملك ثانياً، فتكون الإجارة فضولية قهراً لعينيّة مورد الثانية مع مورد الاولى، و أمّا على المسلك الآخر الراجع إلى الكلّي في المعيّن فهو أي الكلّي في

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 435

..........

______________________________

المعيّن قابل للتعدّد. غاية الأمر أنّه بعد تمليك الكلّي الخارجي لا يملك كليّاً آخر، لا أنّه لا كلّي آخر، و إذا لم ترد

الإجارة الثانية على مورد الاولى؛ لعدم القصد على الفرض و عدم العينيّة القهرية لتعدّد الكلّي الخارجي، فلا تقبل الإجازة من المستأجر الأوّل إلّا أن تكون متضمِّنة للإقالة، فيندرج المورد تحت عنوان من آجر ثمّ ملك كمن باع ثمّ ملك، انتهى. هذا كلّه في الأجير الخاصّ الذي استؤجر ببعض منافعه.

و أمّا من استؤجر بجميع المنافع فلا خفاء في أنّه لا يجوز له إجارة نفسه من الغير في تلك المدّة، لعدم كونه مالكاً لشي ء من منافعه بعد تمليكها بأجمعها إلى المستأجر الأوّل، و عليه فالإجارة الثانية الواقعة من الأجير فضولية قطعاً تتوقّف على إذن المستأجر أو إجازته، هذا كلّه بحسب القواعد.

و هنا رواية واحدة واردة في الأجير الخاصّ، رواها الكليني، عن أبي علي الأشعري، عن محمّد بن عبد الجبّار، عن صفوان، عن إسحاق بن عمّار قال: سألت أبا إبراهيم عليه السلام عن الرجل يستأجر الرجل بأجر معلوم فيبعثه في ضيعته، فيعطيه رجل آخر دراهم و يقول: اشتر بهذا كذا و كذا، و ما ربحت بيني و بينك، فقال: إذا أذن له الذي استأجره فليس به بأس «1».

و الكلام في هذه الرواية تارة يقع في سندها، و أُخرى في مفادها و مدلولها:

أمّا الأوّل: فقد وصفت الرواية في المفتاح «2» و بعض آخر من الكتب الفقهية «3» بالصحّة، و هو يدلّ على كون رواتها بأجمعهم عدولًا إماميّين، مع أنّه وقع الإشكال

______________________________

(1) الكافي: 5/ 287 ح 1، وسائل الشيعة: 19/ 112، كتاب الإجارة ب 9 ح 1.

(2) مفتاح الكرامة: 7/ 173.

(3) مجمع الفائدة و البرهان: 10/ 13.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 436

..........

______________________________

في إسحاق بن عمّار من جهة أنّه ليس المسمّى بهذا الاسم في الرواة

إلّا شخص واحد، و لكنّه لم يعلم أنّه ابن عمّار الساباطي الفطحي، أو ابن عمّار بن حيّان الصيرفي الكوفي، و يؤيّد الأوّل وصف الشيخ في الفهرست على ما حكي عنه له بالفطحية «1»، و ما ذكره العلّامة في محكي الخلاصة من أنّ الأولى عندي التوقّف فيما يتفرّد به «2»، و يؤيّد الثاني عنوانه في جمع من الكتب الرجالية بإسحاق بن عمّار الكوفي أو هو مع الصيرفي «3»، و كذا ما ذكر في ترجمة إسماعيل بن عمّار الصيرفي الكوفي من أنّه أخو إسحاق «4»، و في ترجمة محمّد بن إسحاق من عنوانه هكذا: محمّد بن إسحاق بن عمّار الصيرفي الكوفي «5».

هذا، مضافاً إلى وجود رواية «6» تدلّ على كونه قائلًا بإمامة الكاظم عليه السلام. و كيف كان، فلا شبهة في وثاقته و اعتبار روايته، و توقّف العلّامة فيما يتفرّد به لا يمنعنا عن الأخذ بروايته بعد عدم ثبوت ما يقدح في وثاقته، كما لا يخفى.

و أمّا الثاني: فلا خفاء في أنّ موردها هو الأجير الخاصّ لا العامّ، و ذلك من جهة عدم ذكر المنفعة في السؤال، و الاقتصار على مجرّد استئجار الرجل بأجر معلوم. هذا، مضافاً إلى أنّ الحكم بعدم البأس في الجواب في خصوص صورة الإذن من المستأجر ظاهر في الأجير الخاصّ، لعدم الوجه لذلك في الأجير العامّ،

______________________________

(1) الفهرست: 54 رقم 52.

(2) خلاصة الأقوال: 317 رقم 1244.

(3) رجال النجاشي: 71 رقم 169، رجال الطوسي: 162 رقم 1831، منهج المقال: 52.

(4) منهج المقال: 58، و راجع خلاصة الأقوال: 317 رقم 1243 و رجال الطوسي: 161 رقم 1821.

(5) رجال الطوسي: 365 رقم 5410، منهج المقال: 282.

(6) منهج المقال: 53.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص:

437

..........

______________________________

و إلى أنّ نفس السؤال ربما يصير قرينة على ذلك؛ لأنّ جواز إجارة الأجير العامّ لغير المستأجر الأوّل أو المضاربة معه لا يكاد يخفى على أحد، خصوصاً على مثل إسحاق بن عمّار.

و بالجملة: فاختصاص الرواية بالأجير الخاصّ ممّا لا ينبغي الارتياب فيه. نعم، الظاهر كون المراد به هو المستأجر بجميع المنافع، لما عرفت من عدم ذكر منفعة خاصّة في السؤال، و البعث إلى الضيعة مذكور بنحو التفريع لا الغرض و الغاية المذكورة في الإجارة، أو المقصودة منها و إن لم تكن مذكورة، و إن كان الغرض غير المذكور لا يجب الوفاء به في باب العقود، كما قرّر في محلّه.

و كيف كان، فالظاهر أنّ المراد بالأجير هو الأجير الخاصّ المستأجر بجميع المنافع، و حينئذٍ فالجواب يدلّ على نفي البأس في خصوص صورة إذن المستأجر، و مفهومه ثبوت البأس مع عدم الإذن، و عليه: فإن كان المراد بالبأس هو الحكم التكليفي الإلزامي الذي يترتّب على مخالفته استحقاق العقوبة، فغاية مفاد الرواية مجرّد عدم جواز المضاربة و ترتّب استحقاق العقوبة عليها، من دون تعرّض فيها للحكم الوضعي الراجع إلى بطلانها، بل ربما يكون النهي دليلًا على الصحّة، لاعتبار القدرة في متعلّقه كما قرّر في محلّه، و إن كان المراد به ما هو مساوق للحكم الوضعي أعني البطلان، فالرواية تدلّ على البطلان مع عدم إذن المستأجر. نعم، ربما يقال: بأنّه على فرض الدلالة على مجرّد الحكم التكليفي يمكن استفادة البطلان من الرواية بضميمة الرواية النبويّة المعروفة: إنّ اللّٰه إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه «1».

______________________________

(1) عوالي اللئالي: 2/ 110 ح 301، مستدرك الوسائل: 13/ 73، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب 6 ح 8.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير

الوسيلة - الإجارة، ص: 438

..........

______________________________

و لكنّ فساد هذا القول في غاية الوضوح؛ لأنّ مورد النبوي ما إذا كان التحريم متعلّقاً بنفس الشي ء الذي يقع مورداً للمعاملة لا بالمعاملة نفسها، كما في المقام على ما هو المفروض.

ثمّ إنّه على تقدير دلالة الرواية على الحكم الوضعي أي البطلان كما هو الظاهر لا خفاء في أنّه ليس المراد به هو اعتبار الإذن السابق من المستأجر، بحيث كان مرجع الرواية إلى أنّ عدم الإذن السابق يبطل المضاربة مطلقاً، سواء لحقته الإجازة أم لا، بل المراد به ظاهراً هو كون المضاربة مع الغير تصرّفاً فيما هو ملك للمستأجر الأوّل؛ و هو مشروط برضاه، سواء كان مقارناً، أم لاحقاً مكشوفاً عنه بالإجازة، و عليه فلا تكون الرواية مصادمة لأدلّة صحّة الفضولي في العقود إلّا ما خرج. و الظاهر أنّ المراد من الرواية هو الحكم الوضعي، و عليه فلا تكون مخالفة للقواعد بوجه.

و ينبغي التنبيه على أمرين:

الأوّل: لا ينبغي الإشكال في أنّه يجوز للأجير الخاصّ الذي استؤجر ببعض منافعه الخاصّة كالخياطة مثلًا الإتيان في مدّة الإجارة بما لا ينافي العمل المستأجر عليه، كالتعليم و التعلّم و إجراء عقد أو إيقاع و أشباهها في ضمن الخياطة التي استؤجر عليها في مدّة معيّنة، فما حكي عن المسالك من احتمال المنع «1»، و عن الروضة من أنّ فيه وجهين: من التصرّف في حقّ الغير، و من شهادة الحال «2» فهو في غير محلّه، إن كان كلامه جارياً في هذا القسم من الأجير الخاصّ أيضاً، كما هو ظاهر.

______________________________

(1) مسالك الأفهام: 5/ 189 190.

(2) الروضة البهية: 4/ 344.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 439

..........

______________________________

كما أنّه يجوز لهذا القسم من الأجير الخاصّ العمل

في غير مدّة الإجارة، كما لو فرض خروج الليل عنها، فيجوز للبنّاء العمل في الليل لغير المستأجر من نفسه أو غيره، و لكن قد قيّدوا ذلك في كلامهم «1» بما إذا لم يؤدّ إلى ضعف في النهار، و مفهومه أنّه مع أدائه إلى الضعف فيه لا يجوز له ذلك، مع أنّه إن كان المراد بعدم الجواز هو الحكم الوضعي الراجع إلى البطلان فيما لو وقع عليه عقد معاوضة من إجارة أو جعالة كما لو آجر نفسه من آخر في الليل فلا وجه للحكم به بعد خروج الليل عن مدّة الإجارة الأُولى كما هو المفروض، فيستحق الأُجرة أو الجعل، و مجرّد اقتضاء العمل في الليل للضعف في النهار و الفتور في العمل المستأجر عليه فيه لا يقتضي بطلان المعاوضة التي ظرفها الليل.

و إن كان المراد بعدم الجواز هو الحكم التكليفي التحريمي، فدعوى ثبوته مبنيّة على كون القدرة على العمل المستأجر عليه، المأخوذة في الحكم بوجوب الوفاء بمقتضى عقد الإجارة مأخوذة قيداً للمادة، بحيث يجب تحصيلها مع فقدها و يحرم التعجيز مع وجودها، ضرورة أنّه لو كانت قيداً للهيئة و كان الوجوب مشروطاً بوجودها فلا يجب إبقاؤها و لا إحداثها مع فقدها، و الظاهر هو الأوّل، و التحقيق في محلّه، هذا كلّه في الأجير الخاصّ الذي استؤجر ببعض منافعه.

و أمّا من كانت جميع منافعه مملوكة للمستأجر، فتارةً يقع الكلام فيه من حيث اندراج مثل إجراء العقد أو الإيقاع في تلك المنافع المملوكة، و أُخرى في أنّه مع الاندراج و ثبوت الحرمة هل العقد أو الإيقاع الواقع من الأجير صحيح أم لا؟

أمّا الأوّل: فربما يقال بالاندراج؛ لأنّ الأجير الخاصّ بهذا الوجه كالعبد

______________________________

(1) مسالك الأفهام: 5/ 189، رياض

المسائل: 6/ 44، جواهر الكلام: 27/ 264.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 440

..........

______________________________

المملوك جميع منافعه لمولاه، و لكن الظاهر جريان العادة على خروج مثل ذلك، كأفعاله العاديّة الخارجة قطعاً؛ كالتنفّس و شرب الماء و نحوهما، و قياس ذلك على العبد ممنوع؛ لأنّه على تقدير تسليم ثبوت الحكم في المقيس عليه نقول بالفرق بين العبد و بين الأجير الخاصّ؛ لأنّ العبد مملوك للمولى عيناً و منفعة، و موصوف في الكتاب العزيز بأنّه لٰا يَقْدِرُ عَلىٰ شَيْ ءٍ* «1». و مرجعه إلى أنّ قدرته مضمحلة في جنب قدرة المولى، بل ليس له القدرة أصلًا حتّى تكون مضمحلة، و هذا بخلاف الأجير الخاصّ، فإنّ غاية الأمر فيه أنّه ملّك منافعه من الغير، و الظاهر بمقتضى قضاء العادة خروج هذا النحو من المنافع عن دائرة التمليك، فتدبّر.

و أمّا الثاني: فالظاهر كما صرّح به المحقّق الرشتي قدس سره «2» أنّه لا وجه للحكم بالفساد؛ لأنّ الحرمة الثابتة من ناحية التصرّف في مال الغير لا تقتضي فساد ذلك التصرّف إذا كان من العقود. نعم، يمكن أن يقال بفساد المعاوضة الواقعة على إجراء العقد، كما لو آجر نفسه لإجراء عقد البيع، فإنّه حيث يكون الإجراء محرّماً لأجل كونه تصرّفاً في مال الغير يمكن أن يقال ببطلان المعاوضة الواقعة عليه، فلا يستحقّ الأُجرة الواقعة بإزائه؛ لأنّ اللّٰه إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه «3»، لكنّ هذا لا يقدح في صحّة العقد الذي أجراها للغير؛ لعدم مانع عن صحّته و عدم اقتضاء الحرمة له، كما عرفت.

الأمر الثاني: الأجير الخاصّ الذي يخالف التكليف بوجوب الوفاء بعقد الإجارة على أقسام؛ لأنّه تارةً تتحقّق مخالفته بترك العمل رأساً؛ بأن لا يعمل

______________________________

(1) سورة النحل 16:

75.

(2) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 213.

(3) تقدّم في ص 437.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 441

..........

______________________________

لا للمستأجر و لا لغيره من نفسه أو غيره، و أُخرى تتحقّق في ضمن العمل لغير المستأجر، و في هذا القسم تارةً يعمل لنفسه و أُخرى لغيره، و في هذا القسم تارةً يعمل للغير تبرّعاً من دون أن يكون في البين عقد معاوضة معه من إجارة أو جعالة، و أُخرى يعمل له وفاء بمقتضى عقد المعاوضة الذي أوقعها معه، فهنا صور:

الصورة الأُولى: ما إذا لم يعمل في مدّة الإجارة رأساً لا للمستأجر و لا لغيره، و يظهر من جماعة أنّ المستأجر مخيّر في هذه الصورة بين الفسخ و استرجاع الأُجرة المسمّاة، و بين إبقاء العقد و مطالبة اجرة المثل؛ أي مثل المنفعة الفائتة تحت يد الأجير، حيث حكي عن المسالك «1» و حواشي الشهيد «2» و الرياض «3» التصريح بالخيار فيما إذا عمل للمستأجر الأوّل بعض العمل كما عن التذكرة «4» فيما لو سكن المالك الدار التي آجرها في أثناء المدّة، فإنّه إذا كان الخيار ثابتاً فيما إذا عمل بعض العمل ففي المقام أيضاً يكون ثابتاً لعدم الفرق، لو لم نقل بكون المقام أولى من جهة عدم تحقّق التسليم بالإضافة إلى العمل أصلًا.

ثمّ إنّه لو لم يسلّم نفسه حتّى يعمل يكون ثبوت الخيار حينئذٍ للمستأجر أولى منه فيما إذا سلّم و لم يعمل، و ذلك لعدم تحقّق التسليم بوجه، و الخيار على هذا التقدير خيار تعذّر التسليم، و يظهر من المفتاح «5» التفصيل بين صورة تسليم نفسه و عدمه بالحكم بعدم الخيار في الصورة الأُولى؛ نظراً إلى حصول التسليم المعتبر في

______________________________

(1) مسالك الأفهام: 5/ 189

191.

(2) حكى عنه في مفتاح الكرامة: 7/ 174 و جواهر الكلام: 27/ 267.

(3) رياض المسائل: 6/ 45.

(4) تذكرة الفقهاء: 2/ 326.

(5) مفتاح الكرامة: 7/ 174.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 442

..........

______________________________

تحقّق المعاوضة فيها، و ذلك كما لو غصب المؤجر العين المستأجرة بعد التسليم، فإنّه لا خيار للمستأجر حينئذٍ على ما صرّحوا به «1»، و إن كان فيه خلاف في الجملة.

و كيف كان، لا بدّ أوّلًا من التكلّم حول الاحتمال الذي ربما يحتمل في المقام، لتقدّمه على البحث في ثبوت الخيار و عدمه، و هو احتمال انفساخ العقد بنفسه، خصوصاً فيما لم يسلّم نفسه للعمل أصلًا، فنقول: منشأ هذا الاحتمال جريان ما ورد في حكم المبيع قبل القبض في المقام، و هو النبويّ المشهور: كلّ مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه «2». و رواية عقبة بن خالد، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في رجل اشترى متاعاً من رجل و أوجبه، غير أنّه ترك المتاع عنده و لم يقبضه، و قال: آتيك غداً إن شاء اللّٰه، فسرق المتاع، من مال من يكون؟ قال: من مال صاحب المتاع الذي هو في بيته حتّى يقبض المتاع و يخرجه من بيته، فإذا أخرجه من بيته فالمبتاع ضامن لحقّه حتّى يرد ماله إليه «3». و الاستدلال بهما لدعوى الانفساخ في المقام يتوقّف على أُمور:

1 دلالتهما على الانفساخ في موردهما؛ و هو البيع كما هو المشهور «4»، لا كما يقال «5» تبعاً للمسالك «6»: من أنّ ظاهر كون المبيع التالف قبل القبض من مال البائع، يوهم خلاف ما هو المشهور؛ لأنّ ظاهره كون تلفه من ماله بمعنى كون دركه عليه، فيوهم ضمانه بالمثل أو القيمة،

و ذكر الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره في أحكام القبض

______________________________

(1) جامع المقاصد: 7/ 148، مسالك الأفهام: 5/ 219، كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 220.

(2) عوالي اللئالي: 3/ 212 ح 59، مستدرك الوسائل: 13/ 303، كتاب التجارة، أبواب الخيار ب 9 ح 1.

(3) الكافي: 5/ 171 ح 12، وسائل الشيعة: 18/ 23، كتاب التجارة، أبواب الخيار ب 10 ح 1.

(4) رياض المسائل: 5/ 127، مفتاح الكرامة: 4/ 596، كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري: 6/ 270 271.

(5) قاله في مفتاح الكرامة: 4/ 596.

(6) مسالك الأفهام: 3/ 216.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 443

..........

______________________________

بعد استظهار الانفساخ من النبوي بناءً على جعل «من» للتبعيض: إنّ دلالة الرواية يعني رواية عقبة بن خالد على الانفساخ قبل التلف لعلّها أظهر من النبوي «1»، و التحقيق في محلّه.

2 عدم اختصاص التلف الموجب للانفساخ بالتلف القهري غير الاختياري، و شموله للإتلاف كشموله للتلف العرفي، على ما تدلّ عليه رواية عقبة بن خالد الواردة في السرقة، نظراً إلى أنّ مقابلة التلف للإتلاف مفهوماً لا تنافي مساوقتهما وجوداً و صدقاً، و عليه فالحكم يعم صورة الإتلاف، سواء كان من أجنبيّ أو من البائع نفسه.

3 و هو العمدة عدم اختصاص الحكم المذكور في الروايتين بخصوص موردهما و هو البيع، بل يجري في غيره من المعاوضات سيّما الإجارة و أشباهها، كما ربما يظهر من بعض مواضع التذكرة «2»؛ كالعبارة التي حكاها الشيخ الأعظم قدس سره عنها مستظهراً منها أنّ ذلك من المسلّمات بين الخاصّة و العامّة، و إن نفى الشيخ قدس سره وجدان التصريح بذلك من أحد نفياً أو إثباتاً بنحو العموم. نعم، ذكر أنّهم ذكروا في الإجارة «3» و الصداق «4» و عوض

الخلع «5» ضمانها لو تلف قبل القبض، و لكن العموم مسكوت عنه في كلماتهم «6».

______________________________

(1) كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري: 6/ 272.

(2) تذكرة الفقهاء: 10/ 130.

(3) المبسوط: 3/ 222 223، شرائع الإسلام: 2/ 183، مفتاح الكرامة: 7/ 91.

(4) المبسوط: 4/ 276، شرائع الإسلام: 2/ 325، مسالك الأفهام: 8/ 187، جواهر الكلام: 31/ 39.

(5) المبسوط: 4/ 355، شرائع الإسلام: 3/ 51، مسالك الأفهام: 9/ 398، جواهر الكلام: 33/ 31.

(6) كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري: 6/ 280.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 444

..........

______________________________

و بالجملة: فالاستدلال بالنبوي و بالرواية للمقام يتوقّف على هذه الأُمور الثلاثة، و من المعلوم إمكان المناقشة في جميعها خصوصاً الأخير منها؛ نظراً إلى أنّ دعوى إلغاء الخصوصية عن المورد الذي ورد فيه حكم مخالف للقواعد ثابت لمحض التعبّد كما في الروايتين من دون فرق بين أن يكون مفادهما الانفساخ أو الضمان بالمثل أو القيمة؛ لأنّ كلّاً منهما مخالف للقاعدة كما هو واضح تحتاج إلى مؤنة كثيرة و بيّنة قويّة، و مجرّد إرسال العلّامة له إرسال المسلّمات لا يكفي في صدقها بعد كون الكلمات ساكتة عن هذه الجهة، كما مرّ.

ثمّ إنّه يقع الكلام بعد ذلك تارةً في وجه احتمال تعيّن الرجوع بأُجرة المثل للمنفعة الفائتة على المستأجر تحت يد الأجير، و أُخرى في وجه احتمال كون المستأجر مخيّراً بين الرجوع بالأُجرة المسمّاة لأجل فسخ العقد أو انفساخه، و بين الرجوع بأُجرة المثل الذي هو لازم بقاء العقد، فنقول:

أمّا الوجه الأوّل: فهو قصور الدليل الوارد في تلف المبيع قبل القبض عن الدلالة على الانفساخ في المقام، مضافاً إلى أنّ مقتضى أصالة بقاء العقد على حاله خلافه، و عليه فلا بدّ من الاستدلال بدليل الإتلاف

الدالّ على الضمان بالمثل أو القيمة، و قد عرفت فيما سبق «1» أنّ قاعدة الإتلاف و إن لم تكن منصوصاً عليها بالعبارة المعروفة على الظاهر، إلّا أنّها تستفاد من التتبع في الروايات الواردة في الموارد المختلفة و من التعليل في بعضها، و لكن قد عرفت «2» أيضاً أنّه و إن كانت المنافع من الأموال، إلّا أنّ شمول الإتلاف للمنفعة الفائتة غير مسلّم، و من هذه الجهة يمكن المناقشة في الاستدلال بهذه القاعدة للمقام.

______________________________

(1) في ص 337.

(2) في ص 337.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 445

..........

______________________________

و أمّا الوجه الثاني: فأحد طرفي التخيير إمّا أن يقال: بأنّه هو مفاد دليل الانفساخ، و إمّا أن يقال: بأنّه هو مفاد ما يدلّ على الخيار بين الفسخ و الإمضاء، و الطرف الآخر على التقديرين مدلول دليل الضمان بالمثل أو القيمة، فنقول:

أمّا الوجه على التقدير الأوّل فهو جريان دليل كون التلف قبل القبض من مال البائع، بناء على دلالته على الانفساخ و جريان قاعدة الإتلاف، نظراً إلى أنّ مقتضاهما متنافيان لدلالة الأوّل على الانفساخ و الثاني على عدمه؛ لأنّ موضوعه إتلاف مال الغير، و كونه مالًا له يتوقّف على بقاء العقد و عدم انفساخه، و حيث إنّه لا يمكن إعمال الدليلين لفرض التنافي، و لا موجب لإهمالهما و لا معين في البين، فاللّازم الحكم بثبوت التخيير بين مطالبة المسمّى و البدل الواقعي من المثل أو القيمة.

و يرد عليه مضافاً إلى عدم وجود القائل به، و إلى عدم معقولية هذا النحو من التخيير؛ لأنّ طرفي التخيير أو أطرافه لا بدّ و أن يكون كلّ واحد منهما أو منها فعلًا اختيارياً للشخص الذي حكم بثبوت التخيير له، و لا

معنى لأن يكون أحد طرفيه الانفساخ الذي هو على تقدير ثبوته حكم شرعيّ خارج عن اختيار المكلّف، إلّا أن يرجع هذا التخيير إلى تخيير المكلّف في الأخذ بأحد الدليلين المتنافيين الواردين في المقام.

و بعبارة اخرى هو مخيّر بين الأخذ بقاعدة الإتلاف، و بين إجراء دليل التلف قبل القبض، و يرد عليه حينئذٍ أنّ الظاهر ثبوت هذا التخيير للمجتهد، لا أنّه يفتي بكون الحكم في الواقعة هو التخيير، و البحث في هذه الجهة موكول إلى محلّه. و مضافاً إلى ما عرفت من عدم جريان شي ء من الدليلين في المقام؛ لابتناء شمول

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 446

..........

______________________________

الأوّل و دلالته على الانفساخ هنا على الأُمور الثلاثة التي عرفت المناقشة في بعضها، بل في جميعها، و ابتناء شمول الثاني على صدق الإتلاف بالنسبة إلى المنافع الفائتة و هو غير معلوم: أنّه على تقدير الشمول لا وجه لتوهّم المنافاة بينهما؛ لأنّ موضوع قاعدة الإتلاف هو الإتلاف المتعلّق بمال الغير، و تحقّق هذا الموضوع فرع عدم جريان دليل التلف، إذ مع جريانه ينفسخ العقد، و ليس المال حينئذٍ مالًا للغير، فجريان قاعدة الإتلاف موقوف على عدم جريان قاعدة التلف، و جريانها لا يتوقّف على شي ء؛ لأنّ موضوعها تلف المبيع، فهي لا مانع من جريانها، و معه لا مجال لقاعدة الإتلاف لعدم انحفاظ موضوعها.

اللّهم إلّا أن يقال: إنّ جريان قاعدة التلف أيضاً فرع اتّصاف المال بعنوان المبيعية الذي هو ملازم لكون المال متعلّقاً بالغير، و عليه فكلا الدليلين واردان في موضوع مال الغير.

و لكن يدفع ذلك أنّ فرض دلالة قاعدة التلف على الانفساخ ينافي مع كون موضوعها هو تلف المال المتصف بعنوان المبيعية حين التلف؛ لعدم

اجتماع هذا الاتّصاف المأخوذ في الموضوع مع الانفساخ الذي هو الحكم. نعم، لا ضير فيه بناء على كون مفاد قاعدة التلف هو الضمان بالمثل أو القيمة، كما حكي عن المسالك «1»، و على هذا التقدير أيضاً لا منافاة بين القاعدتين، لدلالة كلّ منهما على الضمان بالبدل الواقعي في مورد مال الغير، فافهم و اغتنم.

و أمّا الوجه على التقدير الثاني؛ و هو التخيير بين إعمال سبب رجوع المسمّى و إعمال سبب ضمان البدل الواقعي، فهو ما حكاه المحقّق الإصفهاني قدس سره عن الشيخ

______________________________

(1) مسالك الأفهام: 3/ 216، و الحاكي هو الشيخ الأنصاري قدس سره في كتاب المكاسب: 6/ 271.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 447

..........

______________________________

الأعظم الأنصاري قدس سره «1» من أنّ تعذّر التسليم يوجب الخيار، فإذا فسخ العقد رجع إليه المسمّى، و إلّا كان الإتلاف وارداً على ماله، فله تضمين المتلف بالبدل.

و لكنّه أورد عليه بأنّ التعذّر الموجب للخيار ما لا يكون ملحقاً بالتلف من حيث امتناعه عادةً، و إلّا فهو موجب للانفساخ دون الخيار، و لأجل ذلك اختار كون الحكم في المقام هو تعيّن الرجوع بأُجرة المثل، لقاعدة الإتلاف و عدم كون هذا التعذّر موجباً للخيار لما ذكر، و لا للانفساخ لاختصاص دليله بالتلف و عدم شموله للإتلاف «2».

أقول: أمّا جريان قاعدة الإتلاف في مثل المقام فقد عرفت النظر فيه، و أمّا المناقشة في أصل ثبوت الخيار بين الفسخ و الإمضاء مجّاناً فلا وجه لها، لعدم توقّف ثبوته على صدق تعذّر التسليم هنا حتّى يناقش فيه بما ذكر، و ذلك لأنّ الغرض إثبات أصل الخيار لا الخيار الناشئ عن تعذّر التسليم، و قد قرّر في محلّه عدم انحصار الخيار بالعناوين

المذكورة له في كتاب البيع، لعدم دليل على الانحصار.

و حينئذٍ فنقول: إنّ الوجه في ثبوت الخيار هو التخلّف عمّا وقع العقد عليه، فإنّه موجب للخيار عند العقلاء، و يستفاد ثبوته عند الشارع من الموارد التي ثبت الخيار فيها عنده، فإنّه إذا كان تخلّف الشرط موجباً للخيار فكيف لا يكون التخلّف عن أصل ما وقع العقد عليه موجباً له، و كذلك إذا كان الغبن موجباً للخيار بحيث لا يكاد يسقطه جبران الضرر من قِبَل الغابن، فكيف لا يكون التخلّف في المقام موجباً له، و هكذا سائر الموارد، فإنّه يستفاد من التأمّل في مثل هذه الموارد ثبوت الخيار في المقام، و إن لم يكن الرجوع إلى أُجرة المثل موجباً لتضرّره و لا كان

______________________________

(1) راجع كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري: 6/ 276.

(2) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 138.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 448

..........

______________________________

معسوراً، و العمدة حكم العقلاء بالثبوت و عدم دليل على الانحصار بالعناوين المعروفة، و ممّا ذكرنا يظهر النظر فيما أفاده سيّدنا العلّامة الأُستاذ قدس سره في حاشية العروة؛ من أنّ أخذ العوض نحو استيفاء لمنفعة الأجير، فمع تمكّن المستأجر منه بلا عسر و لا ضرر لا يبعد عدم جواز الفسخ «1».

و قد ظهر من جميع ما ذكرنا أنّ الأقوى في المقام هو التخيير بين الفسخ و الرجوع بالمسمّى و الإمضاء مجاناً. نعم، لو لم يناقش في جريان قاعدة الإتلاف إمّا بنفسها أو بتنقيح المناط كما لا يبعد الثاني، لكان الطرف الآخر للتخيير هو الرجوع إلى أُجرة المثل لا نفس الرجوع، بل الإمضاء الذي حكمه جواز الرجوع كما هو غير خفي.

ثمّ إنّه لا فرق في الحكم الذي ذكرنا في هذه الصورة بين

ما إذا لم يسلّم الأجير نفسه حتّى يعمل، و بين ما إذا سلّم و لم يعمل، و إن كان يمكن الفرق بينهما بناءً على القول بالانفساخ، و بتحقّق القبض بمجرّد التسليم و إن لم يأخذ في العمل بعد، و منه يظهر الخلل فيما تقدّم «2» نقله عن المفتاح من التفصيل بين الصورتين في الخيار، فإنّ المناسب هو التفصيل بينهما في الانفساخ؛ لأنّه يدور مدار القبض لا في الخيار، إلّا أن يكون المراد هو خيار تعذّر التسليم كما هو الظاهر، كما أنّه يمكن الفرق بينهما من جهة إمكان دعوى صدق الغرور فيما إذا سلّم نفسه و لم يعمل، و كان المستأجر معتقداً بأنّه يعمل نظراً إلى تسليمه نفسه، ثمّ انكشف الخلاف بعد المدّة دون غيره، و لكن لا فرق من حيث الحكم الذي ذكرنا بين الصورتين أصلًا.

كما أنّه لا فرق بين ما إذا أعلم قبل دخول مدّة الإجارة بأنّه لا يعمل فيها، و بين ما إذا لم يُعلِم بذلك، فإنّ الملاك في ثبوت الخيار للمستأجر ليس جهله بوفاء

______________________________

(1) العروة الوثقى: 5/ 84، التعليقة 2.

(2) في ص 441.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 449

..........

______________________________

الأجير بمقتضى عقد الإجارة حتّى لا يبقى له موقع مع الإعلام، بل الملاك هو تخلّف الأجير و عدم وفائه، و هذا لا فرق فيه بين صورة الإعلام و عدمه. نعم، يقع الكلام في خصوص صورة الإعلام في أنّه هل يجوز للمستأجر الفسخ و إن لم تدخل مدّة الإجارة، أو أنّه لا يجوز له ذلك إلّا بعد دخولها و عدم شروعه في العمل؟ نظراً إلى أنّ ملاك الخيار هو التخلّف، و هو يتوقّف على دخول المدّة و عدم العمل، و

مجرّد الإعلام لا يكفي في ذلك، فإنّه يمكن أن يحصل له البداء، بل الظاهر عدم الكفاية و لو مع العلم بعدم حصول البداء له و بقاء عزمه على التخلّف، فإنّ الموجب لثبوت الخيار نفس التخلّف الخارجي لا العلم بتحقّقه في ظرفه، كما هو ظاهر.

ثمّ إنّه لو لم يفسخ المستأجر في هذه الصورة لكان مقتضى حكمهم بأنّ الأُجرة تملك بنفس العقد أنّ الأجير مالك للأُجرة المسمّاة ملكاً مستقرّاً غير متوقّف على شي ء. غاية الأمر أنّه لا يستحقّ المطالبة؛ لأنّه يتفرّع على الأخذ في العمل، بل على الفراغ منه كما مرّ الكلام فيه مفصّلًا «1»، و حينئذٍ يقع الإشكال هنا في أنّه مع مضيّ المدّة المعتبرة في الإجارة و خلوّها عن العمل لا يتحقّق هنا شي ء أصلًا حتّى يستحقّ بسببه للمطالبة؛ لأنّ العمل في خارج المدّة غير المستأجر عليه، و المدّة المنقضية لا يمكن عودها ثانياً فبم يحصل له الاستحقاق، و عليه فاعتبار ملكيّته للأُجرة مع عدم استحقاق المطالبة لها بوجه يصير كأنّه من اللغو، مع وضوح كون حكمهم بأنّ الأُجرة تملك بنفس العقد عاما شاملًا لأقسام الإجارة و أنواع الأجير فراجع، هذا كلّه فيما لو لم يعمل في المدّة أصلًا.

و أمّا لو عمل للمستأجر بعض المدّة و ترك العمل في البعض الآخر رأساً؛ كما لو عمل له نصف النهار و ترك النصف الآخر، فتارةً يكون البعض الذي عمل فيه أوّل

______________________________

(1) في ص 235 245.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 450

..........

______________________________

المدّة، و أُخرى وسطها و ثالثة آخرها، و على التقادير تارةً يعلم بذلك المستأجر و أُخرى لا يعلم به، فهذه هي الصور المتصوّرة و إن لم يكن بين كثير منها الاختلاف في

الحكم كما سيظهر.

فإن عمل له في البعض الأوّل كما في المثال على تقدير كون النصف هو الأوّل، فتارةً يقع الكلام في الاحتمالات المتصوّرة بالنسبة إلى الأجير من حيث حكمه، و أُخرى في الاحتمالات الجارية بالإضافة إلى المستأجر كذلك، و ثالثة فيما يجري في العقد.

أمّا الأوّل: فيحتمل فيه أن لا يستحقّ شيئاً نظراً إلى أنّه لم يأت بما هو مقتضى عقد الإجارة من العمل في جميع المدّة، فلا يستحقّ من الأُجرة المسمّاة، و لم يكن هذا المقدار مأموراً به من طرف المستأجر و واقعاً بإذنه، فلا يستحقّ اجرة المثل.

و يحتمل أن يستحقّ من الأُجرة المسمّاة ما تقع بإزاء هذا المقدار نصفاً أو ثلثاً أو أقلّ أو أكثر؛ لإتيانه ببعض العمل المستأجر عليه الواقع بإزائه مجموع الأُجرة المسمّاة فتقسّط على الأبعاض.

و يحتمل أن يستحقّ اجرة مثل عمله لكونه محترماً ناشئاً عن وقوع المعاوضة و لم يقصد به التبرّع و المجانيّة.

و يحتمل أن يستحقّ جميع الأُجرة المسمّاة لصيرورته مالكاً لها بنفس العقد، و قد استحق مطالبتها بنفس الشروع في العمل بناءً على أن يكون مجرّد الشروع كافياً في استحقاق الجميع، كما هو أحد الاحتمالات المتقدّمة في استحقاق الأجير «1».

و يحتمل أن يفصّل بين ما إذا كان المقدار الذي عمله ممّا يمكن أن يتعلّق به الغرض مستقلا بحسب النوع، كما إذا خاط ثوباً في نصف النهار، و بين ما إذا لم يكن

______________________________

(1) في ص 251 252.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 451

..........

______________________________

كذلك فيستحق في الأوّل قسطه من الأُجرة المسمّاة دون الثاني، فهذه هي الوجوه الخمسة المحتملة بالإضافة إلى الأجير من حيث هو.

و أمّا الثاني: فيحتمل فيه أن يكون له الفسخ في الجميع و الرجوع

بتمام الأُجرة المسمّاة لتحقّق التخلّف الموجب للخيار و لو كان في البعض.

و يحتمل أن يكون له الفسخ في البعض الباقي و الرجوع بقسطه من الأُجرة المسمّاة.

و يحتمل أن لا يكون له الفسخ أصلًا، فيرجع بأُجرة مثل ما فات من المنفعة في بعض المدّة أو بدون الرجوع إليها أيضاً؛ لعدم جريان قاعدة الإتلاف في مثل المقام كما مرّت الإشارة إليه «1».

و أمّا الثالث: فيحتمل فيه البطلان من رأس، و الانفساخ من حين ترك العمل، و اللزوم مع عدم الخيار بوجه، و ثبوت الخيار فيه، فهذه الاحتمالات الأربعة تجري في العقد من حيث هو، و يمكن بيان الوجه لكلّ واحد منها و إن كان أكثر الوجوه غير وجيهة بل فاسدة، كما سيظهر إن شاء اللّٰه تعالى.

و التحقيق في المقام أنّه لا مجال للحكم ببطلان العقد من رأس قهراً و من دون اختيار؛ لأنّه لم يفقد بسبب التخلّف شي ء من الأُمور المعتبرة في صحّة العقد، و ليس التخلّف كاشفاً عن فقد بعض ما يعتبر فيها، فالحكم بالبطلان الذي يترتّب عليه رجوع جميع الأُجرة المسمّاة إلى المستأجر قهراً ممّا لا وجه له.

ثمّ إنّه على هذا التقدير هل يستحقّ الأجير اجرة مثل ما عمل أم لا؟ فيه وجهان: من أنّ المقدار من العمل الذي أتى به يغاير ما استؤجر عليه؛ لأنّه عبارة عن العمل في تمام المدّة و لم يقع بأمر المستأجر أيضاً فلا يستحقّ شيئاً، و من أنّ

______________________________

(1) في ص 444 445.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 452

..........

______________________________

الإتيان به لم يكن ناشئاً عن قصد التبرّع و المجانية، بل أتى به وفاءً بالعقد المعاوضي. غاية الأمر وقوع التخلّف بالنسبة إلى البعض؛ و هو لا يوجب

خلوّ ما عمل عن العوض.

و يمكن استظهار الوجه الأوّل من صاحب العروة حيث إنّه استند فيما إذا عمل الأجير للغير تبرّعاً؛ لعدم جواز رجوع المستأجر على فرض عدم الفسخ إلى الغير المتبرّع له بالعوض، سواء كان جاهلًا أو عالماً بالحال بأنّ المؤجر هو الذي أتلف المنفعة عليه دون ذلك الغير، و إن كان ذلك الغير آمراً له بالعمل، إلّا إذا فرض على وجه يتحقّق معه صدق الغرور «1»، فإنّه يستفاد منه أنّ الملاك في جواز الرجوع إلى غير المتلف هو صدق الغرور المفروض عدمه في المقام؛ لأنّه لم يتحقّق هنا غرور من ناحية المستأجر أصلًا كما لا يخفى، فلا يرجع الأجير عليه بشي ء.

نعم، اعترض عليه بعض المحقّقين من محشّي العروة «2» بأنّ مجرّد الاستيفاء يكفي في جواز الرجوع، و إن لم يتحقّق معه غرور كما سيجي ء تحقيقه، هذا ما يتعلّق باحتمال البطلان الذي عرفت أنّه بلا وجه.

و أمّا احتمال الانفساخ من حين ترك العمل الذي يترتّب عليه استحقاق الأجير ما يقع بإزاء المقدار الذي عمل من الأُجرة المسمّاة لو لم يفسخ المستأجر أصل العقد لأجل التبعّض، فلا بدّ و أن يكون مستنداً إلى جريان دليل التلف قبل القبض هنا أيضاً، نظراً إلى عدم تحقّق القبض بالنسبة إلى ما لم يعمل، و قد عرفت «3» الإشكال في أصل دلالة القاعدة على الانفساخ في

______________________________

(1) العروة الوثقى: 5/ 83 مسألة 4.

(2) العروة الوثقى: 5/ 83، التعليقة 1.

(3) في ص 442 444.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 453

..........

______________________________

باب الإجارة، فضلًا عن مثل المقام الذي لا ينبغي الإشكال في تحقّق التسليم في الجملة.

و بالجملة: فهذا الاحتمال أيضاً خال عن الوجه الوجيه، مضافاً إلى أنّ تقسيط

الأُجرة المسمّاة ربما ينافي ما ذكروه من توقّف استحقاق الأجير للأُجرة على الفراغ عن العمل و تماميّته، فتدبّر.

و أمّا احتمال اللزوم و عدم ثبوت الخيار بوجه فهو ينافي ما ذكرناه من الحكم بثبوت الخيار في موارد التخلّف عن العقد؛ لعدم الفرق بين كون التخلّف بنحو الكليّة أو في الجملة، فلا محيص عن الحكم بثبوت الخيار للمستأجر، و لكن يقع الكلام حينئذٍ في أنّ الثابت له هل هو الخيار واحد أو أزيد، صرّح المحقّق الرشتي قدس سره بأنّ الثابت له خياران، أحدهما: خيار التلف و الإتلاف بالنسبة إلى ما بقي من المدّة، و الثاني: خيار التبعّض بالنسبة إلى الماضي، و ذكر أنّ ثبوت خيار التبعّض يتوقّف على اختيار الفسخ بمقتضى الخيار الأوّل؛ لأنّ التبعّض لا يتحقّق بدونه، و عليه فرجوع جميع الأُجرة المسمّاة إلى المستأجر يتوقّف على إعمال الخيارين معاً كما صرّح به نفسه «1».

و يرد عليه مضافاً إلى أنّه لم يعلم المراد من خيار التلف و الإتلاف، فإنّه إن كان المراد بالتلف هو التلف الوارد في دليل التلف قبل القبض، و بالإتلاف هو الإتلاف الواقع في قاعدته فمن الواضح عدم دلالة شي ء من القاعدتين على ثبوت الخيار، بل مفاد الاولى على ما هو المشهور «2» الانفساخ، و مفاد الثانية ثبوت العقد في المقام و الرجوع إلى أُجرة المثل، فليس من الخيار عين و لا أثر، و إن كان المراد بهما هو

______________________________

(1) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 215.

(2) رياض المسائل: 5/ 127، مفتاح الكرامة: 4/ 596، كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري: 6/ 270.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 454

..........

______________________________

تعذّر التسليم كما هو الظاهر، فالتعبير عنه بهما ليس بوجيه كما هو غير خفي، و

إلى أنّ الخيار الثابت في مثل المقام كما عرفت هو الخيار الناشئ عن التخلّف لا تعذّر التسليم، لما مرّ من المناقشة فيه، و إلى أنّ إعمال خيار التبعّض لا يتوقّف على إعمال الخيار الأوّل؛ لأنّ المراد بالتبعض الموجب للخيار ليس خصوص التبعّض في الملك، كما في بيع ما يملك و ما لا يملك حتّى يتوقّف تحقّق موضوعه على فسخ العقد بالنسبة إلى بعض أجزاء الزمان في المقام، بل يمكن أن يقال: بأنّه على هذا التقدير أيضاً ليس له خيار التبعّض؛ لأنّ التبعّض الناشئ من قبل المستأجر نفسه لا يوجب الخيار، بل المراد بالتبعّض هو الأعمّ من التبعّض في الملك أو في الانتفاع، و من الواضح تحقّق التبعّض في الانتفاع في المقام بنفس إهمال الأجير في بعض المدّة، من دون أن يتوقّف على فسخ المستأجر فيه أنّه ليس في المقام إلّا خيار واحد و هو خيار التبعّض؛ و ذلك لأنّ التخلّف الموجب للخيار لم يتحقّق في جميع المدّة؛ لأنّ المفروض عمل الأجير في البعض الأوّل من المدّة، فالتخلّف إنّما هو بالنسبة إلى البعض الآخر، غاية الأمر عدم انحصار الخيار بخصوص التخلّف في الجميع، بل الحقّ كما عرفت أنّ التخلّف في البعض أيضاً كذلك و عليه فلا موجب للخيار في المقام إلّا التخلّف في البعض، و من الواضح أنّه عبارة أُخرى عن تبعّض الصفقة المعروف إيجابه للخيار.

نعم، يترتّب على إعمال هذا الخيار فسخ العقد بالنسبة إلى الجميع الموجب لرجوع جميع الأُجرة المسمّاة إلى المستأجر، لا كما تشعر به عبارة المحقّق الرشتي قدس سره من كون أثر هذا الخيار عند الإعمال فسخ العقد بالنسبة إلى الماضي فقط، إلّا أن يقال: إنّ المفروض في كلامه فسخه بالنسبة إلى الباقي

أوّلًا فلا معنى له ثانياً، فتدبّر جيّداً.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 455

..........

______________________________

و قد ظهر أنّ الأقوى في هذا الفرض ثبوت خيار التبعّض في المجموع فقط، كما صحّحه المحقّق الإصفهاني قدس سره «1»، و لا فرق فيما ذكرنا من حكم هذا الفرض و هي صورة الإعمال بين أنواع الأجير الخاصّ؛ و هي من كانت جميع منافعه للمستأجر في مدّة معيّنة أو منفعته الخاصّة فيها، أو استؤجر لعمل كلّي في الذمّة مباشرة مدّة معيّنة؛ لعدم الفرق في الملاك بين هذه الأنواع الثلاثة، هذا كلّه فيما لو أهمل الأجير في البعض الأوّل من المدّة.

و ممّا ذكرنا فيه يظهر حكم سائر الفروض المتصوّرة في إهمال البعض، كما أنّه ظهر لك أنّ المختار فيما إذا أهمل في جميع المدّة هو ثبوت الخيار بين الفسخ و الإمضاء مجّاناً، و فيما إذا أهمل في البعض أيضاً الخيار، غاية الأمر أنّ الخيار هنا يسمّى خيار التبعّض، أي التخلّف في البعض كما مرّ.

الصورة الثانية: ما إذا عمل الأجير لنفسه في جميع المدّة أو في البعض، و ظاهرهم كما صرّح به في العروة و تبعه المحشّون ثبوت الخيار للمستأجر بين الفسخ و استرجاع الأُجرة المسمّاة كلّاً أو بعضاً، و بين الإمضاء و الرجوع إلى العوض «2»، من دون أن يكون هنا فرق في الأجير بين الأجير بالمعنى الأوّل الذي يكون جميع منافعه للمستأجر في مدّة معيّنة، و بين الأجير بالمعنى الثاني الذي تكون منفعته الخاصّة فيها له، و بين الأجير بالمعنى الثالث الذي هو عبارة عمّن استؤجر لعمل كلّي في الذمة مباشرة في مدّة معيّنة.

و الظاهر أنّه لا فرق بين هذه الصورة و الصورة المتقدّمة في شي ء ممّا ذكرنا فيها

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 139.

(2) العروة الوثقى: 5/ 82 مسألة 4.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 456

..........

______________________________

إلّا في بعض الجهات، و لا بدّ من التعرّض لها:

منها: أنّه يمكن أن يقال: بأنّ الأجير بأحد المعنيين الأوّلين إذا سلّم نفسه إلى المستأجر و مهّدها لإطاعة أوامره و إنجاح أغراضه و مقاصده، أو خصوص الغرض المذكور في عقد إجارته كالخياطة أو الكتابة، فتارةً يعيّن عليه المستأجر عملًا في الخارج، فيقول له مثلًا: خط هذا الثوب، و أُخرى لم يعيّن عليه. غاية الأمر أنّ الغرض من إجارته تهيئة لرجوع المستأجر إليه في المدّة المعيّنة، ففي الفرض الأوّل إذا تخلّف و اشتغل بالعمل لنفسه، كما لو خاط ثوب نفسه لا بأس بالحكم بثبوت الخيار لأجل التخلّف و عدم الوفاء بمقتضى عقد الإجارة، و أمّا في الفرض الثاني إذا عمل لنفسه في تلك المدّة مع تهيئة لرجوع المستأجر إليه، غاية الأمر أنّه لم يرجع إليه بعد، فلا يكون العمل لنفسه مخالفاً للوفاء بعقد الإجارة و لا يعدّ الأجير متخلِّفاً؛ لأنّ التخلّف فرع تعيين عمل عليه، أو عمل خاصّ مذكور في العقد، و بدونه لا يكاد يتحقّق هذا العنوان الموجب للخيار، كما لا يخفى.

نعم، في الأجير بالمعنى الثالث الذي مرجعه إلى الاستئجار لعمل في الذمّة- و لازمه تحويل ذلك العمل إلى المستأجر لا ريب في صدق التخلّف مع الاشتغال بعمل نفسه، كما أنّه في الصورة الأُولى أي صورة الإهمال يكون فرض الإهمال مساوقاً لتعيين العمل من المستأجر و عدم اشتغال الأجير به و تركه العمل رأساً، ففيها أيضاً يتحقّق التخلّف، و أمّا في المقام فمع عدم تقدير عمل له لا يتحقّق التخلّف، فلا وجه لثبوت الخيار

للمستأجر، اللّهم إلّا أن يقال: إنّه يكفي في صدق عدم الوفاء بالعقد مجرّد إيجاد العمل لغير المستأجر في المدّة المعيّنة، أو يقال: بأنّه لا يكاد يجتمع كون جميع المنافع للمستأجر مع وقوع العمل للأجير، و كذا في الأجير الخاصّ بالمعنى الثاني، فتدبّر جيّداً.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 457

..........

______________________________

و منها: أنّه ذكر بعض المعاصرين من محشّي العروة «1» أنّه يشكل ثبوت الخيار فيما إذا عمل الأجير لنفسه في بعض المدّة؛ لاستلزامه التبعيض في الخيار.

أقول: يمكن أن يقال: إنّ الفسخ إذا كان بالنسبة إلى المقدار الذي صرف في العمل لنفسه لا يكاد يتحقّق التبعيض في الخيار إلّا أن يقال بمنافاة ذلك، لما مرّ من أنّ الخيار الثابت في صورة التخلّف في البعض هو خيار التبعّض و هو ثابت في المجموع، و مع اختيار الفسخ لا بدّ من رجوع جميع الأُجرة المسمّاة لا البعض فقط، فهذا الإشكال موجّه، إلّا أنّ الظاهر عدم اختصاصه بهذه الصورة، بل جريانه في الصورة الأُولى أيضاً؛ و هي ما إذا أهمل الأجير في بعض المدّة.

و منها: ذكر صاحب العروة أنّه مع بقاء الإجارة و عدم الفسخ يطالب المستأجر عوض الفائت من المنفعة بعضاً أو كلّاً «2»، و قال بعض أجلّة العصر في حاشيتها: بل عوض المنفعة التي استوفاها المستأجر أو غيره، و هو اجرة مثل العمل الذي أوقعه لنفسه أو غيره، ثمّ قال: و لعلّ هذا هو مراد الماتن هنا و في الصورة الآتية «3».

و يرد عليه مضافاً إلى أنّ فرض استيفاء المستأجر خارج عن محلّ الكلام؛ لأنّ مورده ما إذا عمل الأجير لنفسه كما هو ظاهر، و إلى أنّ عبارة الماتن لا تساعد على ما ذكره أصلًا

أنّه لا دليل على كون الأُجرة التي يرجع المستأجر بها على الأجير هي أُجرة مثل العمل الذي أوقعه لنفسه، فإنّه لو عمل الأجير لنفسه عملًا له اجرة قليلة مع أنّه لو كان يعمل للمستأجر يعمل عملًا له أُجرة كثيرة هل يلزم على

______________________________

(1) العروة الوثقى: 5/ 82، التعليقة 4.

(2) العروة الوثقى: 5/ 82 83 مسألة 4.

(3) العروة الوثقى: 5/ 82 التعليقة 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 458

..........

______________________________

المستأجر الرجوع إلى الأُجرة القليلة؟

نعم، يمكن الإيراد على الماتن أيضاً بأنّ الرجوع إلى عوض الفائت من المنفعة إنّما يتحقّق فيما إذا قدّر له عملًا معيّناً، و هو لم يشتغل به بل عمل لنفسه، و أمّا مع عدم تقدير عمل له أصلًا فما المنفعة الفائتة حتّى يرجع بعوضها، إلّا أن يقال: إنّه يجوز له أخذ أُجرة المنفعة التي هي أكثر من جميع المنافع قيمة كما في العبد المغصوب؛ لأنّه يمكن للمستأجر استيفاء تلك المنفعة.

و يمكن أن يقال بناءً على عدم جريان قاعدة الإتلاف في مثل المقام لما مرّت «1» الإشارة إليه-: إنّه لا محيص إلّا عن الرجوع بأُجرة مثل العمل الذي أوقعه لنفسه؛ لأنّه العمل الموجود في الخارج المملوك للمستأجر بعد عدم فسخ الإجارة، فيرجع بأُجرته، لكن الإنصاف أنّ هذه المسألة مشكلة لوجود احتمالات كثيرة فيها عدا ما ذكر؛ لأنّه يحتمل أيضاً أن يكون المستأجر مخيّراً بين الرجوع بأُجرة مثل العمل، و بين أخذ عوض المنفعة الفائتة، و يحتمل أيضاً أن يكون له الجمع بينهما، نظراً إلى أنّ العمل الذي أوقعه مملوك له فعليه اجرة مثله، و أنّه أتلف المنفعة على المستأجر فعليه أيضاً عوضها، و يحتمل ضعيفاً أن لا يكون له شي ء من الأمرين

في صورة عدم تعيين عمل عليه؛ و ذلك لعدم صدق التفويت و الإتلاف بعد عدم التعيين، فلا يستحقّ عوض الفائت، و عدم كون العمل لنفسه موجباً للتخلّف و نقض الوفاء و منافياً للإجارة، فلا وجه لاستحقاق اجرة مثله، و يحتمل أيضاً بعض الاحتمالات الأُخر فتدبّر.

و يمكن أن يقال في الأجير الخاصّ بالمعنى الأوّل الذي تكون جميع منافعه

______________________________

(1) في ص 444 448.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 459

..........

______________________________

للمستأجر: إنّ المراد بكون جميعها له هل هو أن يكون الأجير مختاراً في تعيين العمل، و أنّ ما يعمله في مدّة الإجارة لنفسه أو لغيره لا بدّ من أداء عوضه إلى المستأجر، ففي الحقيقة يستأجره المستأجر لا لأن يعمل له بل لأن يعمل لأيّ شخص شاء من نفسه أو غيره و يؤدّي عوضه إليه، أو أنّ المراد بالأجير الخاصّ بالمعنى الأوّل أن يكون الأجير ممهِّداً لرجوع المستأجر إليه لاستيفاء منافعه، و أنّ الاختيار في تعيين العمل بيد المستأجر، و لا يجوز له التخلّف عمّا عيّن المستأجر من العمل، و لا يجوز له العمل للغير بل لا بدّ من أن يكون تحت اختيار المستأجر، نظير الخادم الذي يستخدمه الإنسان لإرجاع حوائجه إليه؟

فعلى التقدير الأوّل الذي هو خلاف ما يظهر من كلماتهم في المراد من الأجير الخاصّ بالمعنى الأوّل، بل يمكن أن يقال بعدم صحّة هذا النحو من الإجارة رأساً لاستلزام الغرر المنهي عنه، فتدبّر، لا محيص عن القول بأنّ ما يرجع به المستأجر على الأجير إنّما هو اجرة مثل العمل الذي أوقعه لنفسه أو لغيره، و لا يتصوّر هنا الرجوع إلى عوض الفائت من المنفعة كما هو ظاهر.

و على التقدير الثاني الذي هو الموافق لظاهر

الكلمات، فتارةً يعيّن له المستأجر عملًا خاصّاً و يتخلّف الأجير عنه و يعمل لنفسه كما هو المفروض، و أُخرى يعمل لنفسه مع عدم تعيين عمل عليه، ففي الأوّل يكون مقتضى القاعدة جواز رجوعه إلى الأجير بأُجرة مثل العمل الذي أوقعه لنفسه؛ لأنّه كان مملوكاً للمستأجر، و بعوض المنفعة المعيّنة الفائتة؛ لأنّه فوّتها و أتلفها على المستأجر، و لا دليل في البين على عدم جواز الرجوع بكلتا الأُجرتين، و إن كان الظاهر هو الرجوع إلى الأوّل فقط، و في الثاني يتعيّن عليه الرجوع بأُجرة مثل العمل فقط؛ لعدم تحقّق الإتلاف و التفويت أصلًا.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 460

..........

______________________________

و أمّا الأجير الخاصّ بالمعنى الثاني، فإن كان العمل الذي عمله لنفسه من نوع العمل المستأجر عليه، كما إذا كان العمل المستأجر عليه الخياطة و اشتغل بالخياطة لنفسه، فالرجوع إنّما هو بأُجرة المثل للعمل. و إن كان من غير ذلك النوع، كما إذا اشتغل بالكتابة لنفسه في الفرض المزبور فالظاهر الرجوع بأُجرة عوض ما فات من المنفعة، و لا مجال للرجوع إلى أُجرة الكتابة بعد عدم ارتباطها بالمستأجر أصلًا، كما لا يخفى.

الصورة الثالثة: ما إذا عمل الأجير للغير تبرّعاً في بعض المدّة أو جميعها و حكم هذه الصورة من الحيثيّة الراجعة إلى العقد و ثبوت التخيير للمستأجر بين الفسخ و الإمضاء و عدمه و كذا من الجهة الراجعة إلى المقدار الذي يرجع به المستأجر من اجرة مثل العمل، أو عوض الفائت أو التخيير أو غيرها من الاحتمالات المتقدّمة حكم الصورة الثانية، من دون فرق بينهما إلّا في بعض الجهات غير المهمة كما يظهر بالتأمّل، و الذي لا بدّ من البحث عنه هنا هو التكلّم

فيمن يرجع إليه المستأجر من الأجير أو الغير المتبرّع له، و الذي يظهر منهم أنّه هنا أقوال:

أحدها: ما حكي عن المسالك «1» من التخيير بين مطالبة من شاء منهما معلّلًا بتحقّق العدوان. و ردّ عليه «2» بأنّ هذا التعليل مع اختصاصه بصورة علم الغير و عدم شموله لصورة الجهل غير ظاهر؛ لأنّ العدوان فرع التصرّف في المنفعة المملوكة للغير، و هو أي المتبرّع له لا يكون متصرّفاً فيها كالتصرّف في العين التي تكون منفعتها للغير.

______________________________

(1) مسالك الأفهام: 5/ 191.

(2) راجع كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 217 و مستمسك العروة: 12/ 100.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 461

..........

______________________________

ثانيها: تعيّن الرجوع إلى الغير المتبرّع له؛ لأنّه المستوفي للمنفعة المملوكة للمستأجر، و الاستيفاء من أسباب الضمان.

و يرد عليه منع كون مجرّد الاستيفاء موجباً للضمان بل إذا كان مسبوقاً بالأمر، و التحقيق في محلّه.

ثالثها: التفصيل بين صورتي العلم و الجهل و عدم جواز الرجوع إلى الغير مع جهله؛ لأنّه لا يزيد على من عمل له العبد بدون إذن مولاه و من دون إذنه و استدعائه، و هذا هو الذي يظهر من صاحب الجواهر قدس سره «1».

رابعها: ما اختاره في العروة من عدم جواز الرجوع إلى الغير المتبرّع له بالعوض، سواء كان جاهلًا أو عالماً بالحال. قال: لأنّ المؤجر هو الذي أتلف المنفعة عليه دون ذلك الغير، و إن كان ذلك الغير آمراً له بالعمل، إلّا إذا فرض على وجه يتحقّق معه صدق الغرور، و إلّا فالمفروض أنّ المباشر للإتلاف هو المؤجر «2».

و اعترض عليه تارةً: بأنّه فيما إذا كان ذلك الغير آمراً له بالعمل لا يبعد الحكم بجواز رجوع المستأجر إليه، لا لأنّه أتلف على المستأجر

منافعه حتّى يجاب بأنّ المباشر هو الأجير، بل لأنّه استوفى عمل الأجير الذي هو ملك المستأجر بدون تبرّع من مالكه، فله أخذ العوض عنه، و تبرّع الأجير به لا يفيد بعد كونه ملكاً لغيره.

و أُخرى: بأنّ فرض صدق الغرور غير ظاهر، و إن أُجيب عن هذا الاعتراض بأنّه يمكن فرضه فيما إذا ادّعى الغير الوكالة من قبل المستأجر و الاستئذان عنه في

______________________________

(1) جواهر الكلام: 27/ 266.

(2) العروة الوثقى: 5/ 83 مسألة 4.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 462

..........

______________________________

استيفاء منفعة الأجير، و كان الأجير معتقداً بصدقه ثمّ انكشف الخلاف بعد الاستيفاء.

و ثالثة: بأنّ صدق الغرور على تقدير تسليمه إنّما يصحّح رجوع الأجير المغرور إلى الغارّ الذي هو الغير، و لا يصحّح رجوع المستأجر إليه الذي هو المدّعى، إلّا أن تحمل العبارة على كون المراد فرض صدق الغرور من قبل الغير بالنسبة إلى المستأجر، و هو مع كون فرضه غير ظاهر خلاف ظاهر العبارة جدّاً، كما هو ظاهر.

و الحقّ أن يقال: إنّه لا مجال للحكم بضمان الغير هنا إلّا من ناحية الاستيفاء فقط؛ لعدم وجود شي ء من أسباب الضمان غيره، و التحقيق في أنّ مجرّد الاستيفاء بنفسه يوجب الضمان أو يتوقّف على الأمر موكول إلى محلّه.

الصورة الرابعة: ما إذا عمل للغير بعنوان الإجارة أو الجعالة.

فإن كان أجيراً خاصّاً بالمعنى الأوّل؛ و هو أن يكون جميع منافعه للمستأجر في مدّة معينة بحيث كان الاختيار في تعيين العمل بيده، فالمذكور هنا و في العروة أنّ المستأجر حينئذٍ يتخيّر بين الأُمور الثلاثة: إجازة ما صدر من الأجير من الإجارة أو الجعالة؛ لأنّه المالك للعمل الواقع مورداً لهما، فالإجازة حقّ ثابت له، و عليه فتكون الأُجرة

المسمّاة في تلك الإجارة أو الجعالة له، و فسخ عقد نفسه و الرجوع إلى الأُجرة المسمّاة فيه، و إبقاؤه و مطالبة عوض المقدار الذي فات «1».

و ذكر سيّدنا العلّامة الأستاذ قدس سره في الحاشية أنّه مخيّر بينها و بين رابع؛ و هو إبقاء إجارة نفسه و ردّ الإجارة الثانية و الرجوع إلى مستأجرها بأُجرة العمل؛ لأنّه

______________________________

(1) العروة الوثقى: 5/ 84 مسألة 4.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 463

..........

______________________________

استوفى عمل الأجير الذي هو ملك المستأجر بدون تبرّع من مالكه «1».

و إن كان أجيراً خاصّاً بالمعنى الثاني؛ و هو كون منفعته الخاصّة للمستأجر في مدّة معيّنة فالمذكور في العروة أنّه فيما إذا لم يكن العمل للغير من نوع العمل المستأجر عليه؛ كأن تكون الإجارة واقعة على منفعة الخياطة فآجر نفسه للغير للكتابة مثلًا ليس للمستأجر إجازة ذلك؛ لأنّ المفروض أنّه مالك لمنفعة خاصّة، فليس له إجازة العقد الواقع على منفعة أُخرى، فيكون مخيّراً بين الأمرين الآخرين من تلك الأُمور الثلاثة «2».

و إن كان أجيراً خاصّاً على الوجه الثالث؛ بأن استأجره لعمل مباشرة في مدّة معيّنة لا تتّسع لغيره، فالمذكور في العروة أنّ حكمه حكم الوجه الثاني، مع الفرق في أنّه لا يتفاوت هنا في عدم صحّة الإجازة بين ما إذا كانت الإجارة أو الجعالة واقعة على نوع العمل المستأجر عليه أو على غيره، إذ ليست منفعة الخياطة مثلًا مملوكة للمستأجر حتّى يمكنه إجازة العقد الواقع عليها، بل يملك عمل الخياطة في ذمة المؤجر.

هذا ما أُفيد في هذه الصورة، و يظهر ما هو المختار ممّا قدّمناه من مباحث الأجير الخاصّ و أحكام الصور المتقدّمة و لا نطيل بالإعادة، فتدبّر.

______________________________

(1) العروة الوثقى: 5/ 84،

التعليقة 2 وص 83، التعليقة 1.

(2) العروة الوثقى: 5/ 84 85، مسألة 4.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 464

[الإجارة لعمل مخصوص بالمباشرة]

مسألة 28: لو آجر نفسه لعمل مخصوص بالمباشرة في وقت معيّن لا مانع من أن يعمل لنفسه أو غيره في ذلك الوقت ما لا ينافيه، كما إذا آجر نفسه يوماً للخياطة أو الكتابة ثمّ آجر نفسه في ذلك اليوم للصوم عن الغير إذا لم يؤدِّ إلى ضعفه في العمل، و ليس له أن يعمل في ذلك الوقت من نوع ذلك العمل و من غيره ممّا ينافيه لنفسه و لا لغيره، فلو فعل فإن كان من نوع ذلك العمل كما إذا آجر نفسه للخياطة في يوم فاشتغل فيه بالخياطة لنفسه أو لغيره تبرّعاً أو بالإجارة كان حكمه حكم الصورة السابقة؛ من تخيير المستأجر بين أمرين لو عمل لنفسه أو لغيره تبرّعاً، و بين أُمور ثلاثة لو عمل بالجعالة أو الإجارة، و إن كان من غير نوع ذلك العمل كما إذا آجر نفسه للخياطة فاشتغل بالكتابة فللمستأجر التخيير بين أمرين مطلقاً؛ من فسخ الإجارة و استرجاع الأُجرة، و من مطالبة عوض المنفعة الفائتة (1).

______________________________

(1) قد تقدّم البحث في هذه المسألة في المسألة المتقدّمة تفصيلًا، فراجع.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 465

[الأجير العامّ

] مسألة 29: لو آجر نفسه لعمل من غير اعتبار المباشرة و لو في وقت معيّن، أو من غير تعيين الوقت و لو مع اعتبار المباشرة، جاز له أن يؤجر نفسه للغير على نوع ذلك العمل أو ما يضادّه قبل الإتيان بالعمل المستأجر عليه (1).

______________________________

(1) أقول: هذا هو الأجير العامّ أو المشترك أو المطلق، و الكلام فيه تارةً في بيان المراد منه، و أُخرى في حكمه:

أمّا الأوّل: فقد عرفت في تعريف الأجير الخاصّ «1» أنّه ليس لنا طريق لاستكشاف المراد من هذين

العنوانين إلّا الأحكام المترتّبة عليهما؛ لأنّه كلمة مركّبة و لا سبيل إلى الرجوع إلى اللغة لاستفادة المراد منه، بل مورد الاستعمال هو الفقه، و يظهر من الفقهاء رضوان اللّٰه عليهم أنّه كان هذان العنوانان مورداً لاستعمالهم من سالف الزمان؛ يعني زمن السيّد «2» و الشيخ 0 «3» لتصدّيهم لبيان المراد منه من ذلك الزمان، بل وقع في بعض الروايات تفسيره كما في رواية عمرو ابن خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه عليهم السلام أنّه اتي بحمّال كانت عليه قارورة عظيمة فيها دهن فكسرها فضمّنها إيّاه، و كان يقول: كلّ عامل مشترك إذا أفسد فهو ضامن، فسألته ما المشترك؟ فقال: الذي يعمل لي و لك و لذا «4».

و قد وقع التعبير به من دون تفسيره في رواية مسمع بن عبد الملك، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: الأجير المشارك هو ضامن إلّا من سبع

______________________________

(1) في ص 427 428.

(2) الانتصار: 466.

(3) المبسوط: 3/ 242.

(4) التهذيب: 7/ 222 ح 976، وسائل الشيعة: 19/ 152، كتاب الإجارة ب 30 ح 13.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 466

..........

______________________________

أو من غرق أو حرق أو لصّ مكابر «1».

و لكن هذه الرواية ضعيفة بخلاف الرواية الأُولى.

و كيف كان، فالظاهر بملاحظة ما ذكرنا في تعريف الأجير الخاصّ أنّ الأجير العامّ ما كان فاقداً لبعض ما يعتبر فيه أو لجميعه، فإذا لم يكن جميع منافعه في المدّة المعيّنة أو بعضها فيها للمستأجر، بل أستؤجر على عمل في المدّة المعيّنة الزائدة عن العمل من دون قيد المباشرة أو معه، أو استؤجر عليه بقيد المباشرة من دون تعيين المدّة المضيّقة أولا بقيدها مع تعيينها، أو

كان قيد المباشرة على وجه الشرطية دون التقييد فهو الأجير العامّ، و إن لم يفرّق في العروة و حواشيها «2» في نحوي اعتبار قيد المباشرة، بل حكم فيها بأنّه معه و مع تعيين المدّة يدخل في الأجير الخاصّ كما هو ظاهر المتن هنا، و لكنّك عرفت في تعريف الأجير الخاصّ «3» أنّه يعتبر فيه أن يكون اعتبار المباشرة بنحو التقييد دون الاشتراط، كما وقع التصريح به في الجواهر «4»؛ لأنّ تخلّف الشرط يوجب الخيار، و لا يجدي في ترتّب الأحكام المذكورة للأجير الخاصّ.

و بالجملة: فالظاهر أنّ التفسير الواقع في الرواية المتقدّمة يغاير تفسير الفقهاء رضوان اللّٰه عليهم لأنّه ليس المراد بقوله عليه السلام: «يعمل لي و لك و لذا» أنّه يعمل خارجاً في آن واحد لأزيد من واحد، مثل الخياطة لشخصين في زمان واحد كيف و هو مستحيل، كما أنّه ليس المراد منه هو من يجوز له العمل في آن واحد لهذا و لغيره

______________________________

(1) الكافي: 5/ 244 ح 7، وسائل الشيعة: 19/ 149، كتاب الإجارة ب 30 ح 4.

(2) العروة الوثقى: 5/ 86 مسألة 5.

(3) في ص 428.

(4) جواهر الكلام: 27/ 263.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 467

..........

______________________________

كما لا يخفى، بل المراد به ظاهراً من كان شغله أن يصير أجيراً من دون فرق بين المستأجرين و أفرادهم؛ لأنّه عمله في قبال من لا يعمل إلّا لمستأجر خاص كالخادم و شبهه، و هذا المعنى لا ينطبق على تعريف القوم، إذ يمكن أن يكون الأجير العامّ بهذا المعنى أجيراً خاصاً على تفسير القوم. نعم، يرد على الرواية أنّ تخصيص الحكم بالضمان في صورة الإفساد بالأجير و العامل المشترك لم يعلم له وجه؛

لعدم الفرق ظاهراً بين قسمي الأجير في الحكم بالضمان مع التعدّي و التفريط و بعدمه مع عدمهما، و التحقيق في موارد ثبوت الضمان على الأجير موكول إلى محلّه.

و أمّا الثاني: فقد ذكروا «1» أنّه يجوز للأجير العامّ العمل لغير المستأجر من نفسه أو غيره إجارة أو تبرّعاً مع أنّ هذا بإطلاقه ممّا لا يتمّ، فإنّه فيما إذا كان الاستئجار لعمل مجرّد عن المدّة المضيّقة دون المباشرة، و لم يأتِ الأجير بالعمل المستأجر عليه حتّى ضاق الوقت لا يجوز له في هذه الصورة العمل لغير المستأجر مع كونه أجيراً عامّاً، إلّا أنّه لا يخفى أنّ مرجع عدم الجواز هنا إلى وجوب الوفاء بعقد الإجارة، و إلّا فليس هنا تكليف إلزامي تحريمي زائداً على التكليف الوجوبي المتعلّق بالوفاء على ما هو المحقّق في محلّه.

و كيف كان، فلا بدّ في هذا المقام من بيان صور المسألة حتّى يتّضح ما يترتّب عليها من الأحكام، و قبل الأخذ فيها نقول: إنّ ما ينبغي أن يكون محلّاً للكلام في الأجير العام هو ما إذا كان العمل لغير المستأجر منافياً للعمل المستأجر عليه، و هذا فيما إذا كان العمل للغير بعنوان الإجارة تارةً يتحقّق فيما إذا آجر نفسه له أجيراً خاصّاً، و قد يتحقّق فيما إذا آجر نفسه له أجيراً عامّاً.

______________________________

(1) الانتصار: 466، المبسوط: 3/ 242، مسالك الأفهام: 5/ 191، جواهر الكلام: 27/ 268، العروة الوثقى: 5/ 86 مسألة 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 468

..........

______________________________

أمّا الأوّل: فكما إذا ضاق وقت الإجارة الأُولى بحيث لم يسع إلّا للعمل المستأجر عليه فيها، فآجر نفسه للثاني بالإجارة الخاصّة في ذلك الوقت.

و أمّا الثاني: ففي هذه الصورة التي ضاق وقت الإجارة

الاولى مع قيد المباشرة إذا آجر نفسه بالإجارة الخالية عن قيد المباشرة مع التقييد بذلك الوقت المضيّق، و لكنّه لم يقدر على إيكال العمل إلى الغير استنابة، بل وجب عليه التصدّي له بالمباشرة و إن كان قيدها غير مأخوذ في الإجارة، فإنّه حينئذٍ يتحقّق التنافي بين العملين كما هو غير خفي.

إذا عرفت ما ذكرنا فنقول: إنّ من صور المسألة ما إذا آجر نفسه للغير بالإجارة الخاصّة المنافية، و قد استدلّ على بطلان الإجارة الثانية في مثله بوجوه:

منها: أنّ الأمر بإيجاد العمل المستأجر عليه أوّلًا يقتضي النهي عن ضدّه و هو يقتضي الفساد.

و الجواب عنه مضافاً إلى أنّه قد حقّق في محلّه أنّ الأمر بالشي ء لا يقتضي النهي عن ضدّه مطلقاً، و على تقديره فلا يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ بوجه إنّه على تقدير تسليم ذلك نقول: إنّ الضدّ الخاصّ هنا هو الوفاء بعقد الإجارة الثانية، و إيجاد العمل المستأجر عليه فيها لا نفس الإجارة الثانية، و إنشاء المعاملة الكذائية فإنّ إنشاءها لا ينافي الوفاء بعقد الإجارة الأُولى حتّى يتعلّق النهي به، إلّا أن يكون العمل المستأجر عليه في الإجارة الاولى من سنخ القراءة و الأقوال، بحيث يكون التلفّظ بعقد الإجارة الثانية منافياً لتحقّقه.

ثمّ إنّه على هذا التقدير لا يكون النهي المتعلّق به الناشئ من الأمر بالوفاء بعقد الإجارة الأُولى مقتضياً للفساد بوجه؛ لأنّ النهي المتعلّق بالمعاملة، الذي وقع البحث في اقتضائه للفساد و عدمه ما كان متعلّقاً بالعقد المعاملي بما أنّه معاملة لا بما

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 469

..........

______________________________

أنّه من سنخ الألفاظ و من مقولة القول كما هو ظاهر، فالتمسك لبطلان الإجارة الثانية بهذا الوجه غير صحيح جزماً.

و منها:

أنّه يجب الوفاء بعقد الإجارة الأُولى فوراً، و معه لا يعقل إمضاء عقد الإجارة الثانية بالأمر بالوفاء به فوراً؛ لعدم القدرة على الوفاء به كذلك.

و هذا الوجه و إن لم يستدلّ به في الصورة المفروضة، بل مورد الاستدلال به ما إذا آجر الأجير نفسه بالإجارة العامّة أيضاً. غاية الأمر أنّ دعوى بطلان الثانية متفرّعة على اقتضاء الإطلاق للتعجيل كما حكي عن الشهيد قدس سره «1»، أو على اقتضاء الأمر بالوفاء للفورية كما نسب إليه أيضاً، إلّا أنّه يمكن تقريبه في مفروض المقام بأن يقال: إنّ إيجاب الوفاء بعقد الإجارة الأُولى بعد فرض ضيق الوقت الموجب لصيرورة الوجوب فورياً لا يجتمع مع إيجاب الوفاء بعقد الإجارة الثانية، الذي هو فوري أيضاً؛ لفرض كونه أجيراً خاصّاً يكون جميع منافعه في المدّة المعيّنة أو بعضها للمستأجر الثاني، فمع ثبوت الأوّل لا يعقل إمضاء الثانية بالأمر بالوفاء نظراً إلى عدم القدرة، كما هو ظاهر.

و قد أجاب المحقّق الإصفهاني قدس سره عن أصل الوجه بما حاصله: إنّ الصحّة إذا كانت مسبّبة عن الأمر بالوفاء أمكن أن تكون استحالته كاشفة عن عدمها، و أمّا إذا لم تكن مسبّبة عنه، بل كانت الصحّة ثبوتاً تابعة لاستجماع شرائط الصحّة و إثباتاً لوجود دليل دالّ على نفوذ الإجارة كما هو كذلك فلا أثر حينئذٍ، لعدم شمول الأمر بالوفاء بالعقد للإجارة الثانية. نعم، عدم القدرة على الوفاء بالعقدين يمنع عن فعلية الأمر بهما تعييناً، و حينئذٍ إن كان مرجّح للأُولى أو الثانية كان هو

______________________________

(1) مسالك الأفهام: 5/ 192.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 470

..........

______________________________

المقدّم في الوفاء، و إلّا كان مخيّراً عقلًا في صرف القدرة في امتثال ما شاء من الأمرين،

و ربما يتخيّل أنّ سبق الخطاب في الإجارة الأُولى يجلب القدرة إلى نفسه، و يكون معجزاً عن الوفاء بالثانية إلّا أنّه ليس على إطلاقه، بل فيما إذا كان سبق لأحد الواجبين على الآخر كالقيام في الركعة الأُولى بالنسبة إليه في الثانية، فإنّ صرف القدرة في الأوّل لا مزاحم له في عرضه بخلاف المقام، فإنّ المفروض وحدة زمان العمل، و اقتضاء كلّ من الأمرين لإيجاد العمل في أوّل الأزمنة، و مجرّد سبق الخطاب لا أثر له، بل لو فرض فعلية أحد الخطابين لفعليّة موضوعه و عدم المزاحم له حال فعليّة الخطاب فصار موضوع الآخر فعلياً قبل امتثال الأوّل لكان الأمر كذلك، فإنّ فعليّة الخطاب مشروطة بالقدرة حدوثاً و بقاءً معاً، كما إذا غرق إنسان فأمر بإنقاذه و قبل الإنقاذ غرق شخص آخر، فإنّه لا شبهة في سقوط الأمر عن التعينيّة الفعلية مع عدم الأهمّية «1».

و يمكن الإيراد عليه بأنّ الصحّة و إن لم تكن مسبّبة عن الأمر بالوفاء، بل هو غير معقول؛ لأنّ الأمر بالوفاء إنّما هو فيما إذا كان العقد متّصفاً بالصحّة، فكيف تكون مسبّبة عنه، إلّا أنّ دعوى أنّه لا أثر لعدم شمول الأمر بالوفاء بالعقد للإجارة الثانية لا تجدي بعد كون الغرض إثبات اللزوم أيضاً زائداً على الصحّة لا مجرّدها، و إن لم تكن لازمة.

و يمكن الجواب عن أصل الوجه بأنّ الأمر بالوفاء بعقد الإجارة الثانية في مفروض المقام و هو ما إذا كانت الإجارة الثانية إجارة خاصّة يكون جميع المنافع في المدّة المعينة أو بعضها المماثل للعمل المستأجر عليه في الإجارة الأُولى

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 153 154.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 471

..........

______________________________

للمستأجر لا ينافي

بمجرّده للأمر بالوفاء بالإجارة الأُولى، فإنّ الوفاء بالثانية لا يستلزم إيجاد العمل للمستأجر بل مقتضاه تهيّؤه؛ لرجوعه إليه بما يريد من المنافع أو بالمنفعة المعيّنة المذكورة في العقد، و من الواضح أنّ مجرّد التهيّؤ لا ينافي الوفاء بعقد الإجارة الأُولى.

نعم، قد تتحقّق المنافاة كما إذا أراد منه المستأجر منفعة من الخياطة و الكتابة و نحوهما، و حينئذٍ يجب على الأجير امتثاله و إطاعته، فتتحقّق المنافاة بين الوجوبين لعدم القدرة على امتثالهما معاً، فلا بدّ حينئذٍ في الحكم بالتعيين من التماس مرجّح، و قد ذكر المرجّح للإجارة الاولى في كلام المحقّق المتقدّم مع جوابه، و سيأتي التحقيق فيه و للإجارة الثانية في مفروض المقام في كلام المحقّق الرشتي قدس سره «1» بما يرجع إلى أنّ الأجير فوّت العمل على المستأجر الأوّل بالإجارة الثانية، حيث ملّك جميع منافعه أو المنفعة الخاصّة المماثلة للثاني، فهو كما لو باع المديون ما يملكه من غير الدائن، فإنّ حقّ المشتري حينئذٍ مقدّم على حقّ الدائن المتعلّق بالعين، فلو عمل للأوّل و الحال هذه كان فضولياً محتاجاً إلى إجازة الثاني.

نعم، للأوّل الرجوع إلى الأجير بالمسمّى أو اجرة المثل، كما في سائر صور التفويت و الإتلاف انتهى. و من المعلوم أنّ حرمة التفويت على تقديرها لا تنافي صحّة المعاملة الواقعة، كما هو ظاهر.

و التحقيق في المقام أنّه لا منافاة بين الوجوبين و إن لم يكن سوى قدرة واحدة في البين، و ذلك لما حقّقناه في الأُصول في مبحث الترتّب تبعاً لسيّدنا العلّامة الأُستاذ الماتن دام ظلّه من الفرق بين الخطابات الكليّة العامّة، و بين الخطابات

______________________________

(1) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 222.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 472

..........

______________________________

الشخصية المتوجهة إلى

آحاد المكلّفين، و أنّه لا يعتبر في إمكان توجّه الاولى إلى الآحاد ملاحظة أحوال كلّ من المخاطبين من حيث القدرة و العجز و نحوهما من الحالات المختلفة. غاية الأمر أنّ غير القادر معذور في مخالفة التكليف لا أنّه غير مكلّف أصلًا، و الدليل على عدم كون التكليف مشروطاً بالقدرة، بل كون عدمها عذراً حكمهم بوجوب الاحتياط في صورة الشكّ في القدرة، مع أنّها لو كانت شرطاً لكان مقتضى القاعدة جريان أصالة البراءة للشكّ في شرط التكليف.

و بالجملة: الخطابات العامّة متوجّهة إلى جميع المكلّفين من دون فرق بين القادرين و العاجزين. غاية الأمر كون الطائفة الثانية معذورين في المخالفة لأجل حكم العقل بذلك، و حينئذٍ نقول: إنّ الأمر بالوفاء بعقد الإجارة الأُولى و كذا الأمر بالوفاء بالثانية كلاهما ثابتان فعليان، و إن لم يكن المكلّف قادراً على امتثالهما؛ لأنّ العجز لا ينافي الفعلية كما مرّ، فما زعمه المحقّق الإصفهاني قدس سره في كلامه المتقدّم من أنّ عدم القدرة على الوفاء بالعقدين يمنع عن فعلية الأمر بهما تعييناً، لا يتم بناءً على ما ذكرنا من أنّ القدرة الواحدة لا تنافي فعلية الخطابين إذا كانا بنحو الكليّة و العموم.

إلّا أن يقال في مثل المقام بعدم كون المكلّف معذوراً في المخالفة؛ لأنّه مع العلم بعدم القدرة على امتثال أزيد من تكليف واحد أوجد سبب التكليف الثاني؛ و هو العقد الموجب لثبوت التكليف بالوفاء به، فعدم القدرة مستند إلى سوء اختياره، ضرورة أنّه لو لم يقدم على المعاملة الثانية اختياراً لما كانت مخالفة التكليف متحقّقة بوجه، فهو مع العلم بذلك أوجد السبب للتكليف الثاني بسوء اختياره، فهو كما لو كان قادراً على أمتثال التكليفين ابتداءً، ففعل ما أوجب سلب القدرة

على امتثال واحد غير معيّن منهما، فإنّه لا يكون في هذه الصورة معذوراً في المخالفة، اللّهمَّ إلّا أن يقال بالفرق بين الصورتين فتدبّر. هذا ما يقتضيه التحقيق بالنسبة إلى الحكم

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 473

..........

______________________________

التكليفي و هو وجوب الوفاء بالعقدين.

و أمّا بالنسبة إلى الحكم الوضعي فالظاهر أنّه لا مانع من الحكم بصحّتهما معاً، سواء قلنا: بأنّ الصحّة مسبّبة عن الأمر بالوفاء كما عرفت أنّه غير معقول «1»، أم لم نقل بذلك، أمّا الحكم بصحّة الإجارة الثانية فلأنّه لا موجب لبطلانها إلّا الوجه الذي عرفت بطلانه، و أمّا صحّة الإجارة الأُولى فلأنّه و إن ملّك جميع منافعه أو بعضها المماثل للمستأجر الثاني إلّا أنّه لا يوجب خللًا في الإجارة الأُولى بعد كون متعلّقها العمل الثابت في ذمّة الأجير، و كون المملوك في الإجارة الثانية المنافع أو البعض لا نفس العمل، كما عرفت.

و دعوى أنّ الإجارة الثانية تسلب القدرة عن الوفاء بالإجارة الاولى، مدفوعة بإمكان الوفاء بها معها أيضاً، كيف و يمكن الاستئذان من المستأجر الثاني لأن يعمل للأوّل، أو المعاوضة معه بالنسبة إليه، أو الإقالة معه بالإضافة إلى عقده، و مع عدم إمكان شي ء من هذه الأُمور لا وجه أيضاً للحكم بالبطلان. غاية الأمر أنّ الأجير فوّت العمل على المستأجر الأوّل و التفويت لا يلازم البطلان، بل غاية الأمر جواز المعاملة من طرف المستأجر لا البطلان.

و منها: أنّ الإجارة الأُولى أحدثت حقّا للمستأجر الأوّل على الأجير، و مقتضاه عدم تأثير الأسباب في تعلّق حق آخر يوجب بطلان الأوّل، كما لو نذر أن يتصدّق بعين من أعيان ماله، فإنّه يمنع عن تأثير سائر الأسباب فيه كالبيع و نحوه.

و الجواب ما أفاده

المحقّق الرشتي قدس سره من أنّه لا امتناع في اجتماع الحقوق

______________________________

(1) في ص 470.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 474

..........

______________________________

لأشخاص في ذمّة شخص واحد، بل هو سائغ، سواء وقع في الأداء بينهما مزاحمة أم لا، و إنّما الممتنع اجتماعهما في عين مشخّص كما في مثال النذر المذكور، بل قد يجتمع في العين الخارجي أيضاً إذا كان تعلّقها عليه، لا من حيث عنوان مشترك قابل للصدق عليها و على غيرها كحال المفلس، فإنّه متعلّق لحقّ الديّان، لكن له اشتغال ذمّته أيضاً قبل الحجر، و ما ذاك إلّا لأنّ ماله إنّما تعلّق به حقوقهم من حيث عنوان المالية القابلة للصدق عليه و على غيره، و له أيضاً البيع، و لا ينافيه تعلّق حقوقهم به «1» انتهى. مضافاً إلى أنّ الحكم بالصحّة في مثال النذر، ممّا وقع التصريح به من جماعة «2»، و ليس بمسلّم عند الجميع كما يظهر بالمراجعة.

و قد أجاب عن هذا الوجه المحقّق الإصفهاني قدس سره بما حاصله: أنّه حيث لا تضادّ بين العملين لأنّه لا توقيت في البين فلا منافاة بين التمليكين، و ليس هنا حقّ آخر في البين «3».

و يمكن الإيراد عليه بالنسبة إلى مفروض المقام بأنّ الكلام فيما كانت هناك منافاة لا لأجل التوقيت، بل لأجل تضيّق وقت الإجارة الأُولى و كون الثانية إجارة خاصّة، فالتنافي متحقّق فلا محيص عن الجواب بالنحو الأوّل.

و منها: أنّ العمل لغير المستأجر الأوّل خصوصاً مع المطالبة حرام، فتكون الإجارة الثانية باطلة؛ لأنّ شرط صحّة الإجارة أن تكون المنفعة محلّلة.

و أجاب عنه المحقّق الرشتي قدس سره بما حاصله: أنّ هذا الوجه من ثمرات مسألة

______________________________

(1) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 223.

(2) كتاب المكاسب

للشيخ الأنصاري: 4/ 30 31، مقابس الأنوار: 190، مناهج المتّقين: 218.

(3) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 154.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 475

..........

______________________________

اقتضاء الأمر بالشي ء للنهي عن الضدّ الخاصّ و هو ممنوع، بل الاقتضاء إنّما هو بالنسبة إلى الضد العامّ، مع أنّ النهي الغيري لا يقتضي فساد المعاملة فافهم. نعم، لا مضايقة في حرمة السبب أي الإجارة الثانية لتفويتها حقّ المستأجر الأوّل، و أمّا حرمة العمل فلا «1».

و قد حقّقنا في الأُصول أنّ الاقتضاء ممنوع مطلقاً حتّى بالنسبة إلى الضدّ العامّ، و يمكن أن يقال في المقام: إنّ الأمر أيضاً غيريّ؛ لأنّ المنافاة إنّما هو بين العملين في الخارج، و متعلّق الأمر إنّما هو المفهوم الكلّي الذي يكون الموجود في الخارج مصداقاً له، و عليه فالعمل للمستأجر الأوّل في الخارج لا يكون مأموراً به إلّا لكونه محقّقاً لما هو المأمور به؛ و هو الوفاء بعقد الإجارة، فالأمر المتعلّق به غيريّ فضلًا عن النهي الذي هو مقتضاه على تقدير القول بالاقتضاء. هذا، و لا يخفى أنّ مقتضى هذا الكلام عدم تحقّق الصغرى لهذه المسألة الأُصولية أصلًا؛ لأنّ الأوامر كلّها متعلّقة بالطبائع و المفاهيم، و المضادّة بنحو العموم إنّما هي بين الأمرين الوجوديّين، فما هو ظرف تعلّق الأمر لا يكون محلّاً لثبوت التضادّ و بالعكس.

هذا، مضافاً إلى أنّ الفرق بين النهي الغيري و النفسي من حيث اقتضاء الفساد ممّا لم يعلم له وجه، مع أنّه لم يكن الكلام في اقتضاء النهي للفساد، بل في كون الحرمة منافية لتحقّق ما هو الشرط في الصحّة الإجارة من كون المنفعة مباحة، فالحقّ في الجواب على تقدير تسليم صحّة هذا الشرط في الإجارة منع الاقتضاء فتدبّر، مع

أنّ ما هو المضادّ للعمل للمستأجر الأوّل ليس إلّا العمل للمستأجر الثاني، و المنفعة المملوكة في الإجارة الثانية ليست هي العمل، بل منفعة الأجير أو

______________________________

(1) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 223.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 476

..........

______________________________

جميع منافعه، و هو لا يكون مضادّاً للأوّل؛ لإمكان عدم مراجعة المستأجر الثاني إليه للعمل أصلًا؛ لأنّ المفروض كونه أجيراً خاصّاً، فالتضادّ غير متحقّق كما لا يخفى.

و منها: أنّه غير متمكّن من العمل الثاني شرعاً، و القدرة على التسليم شرط لصحّة الإجارة مطلقاً.

و أجاب عنه المحقّق الرشتي قدس سره بأنّ هذا أيضاً مبنيّ على مسألة الضدّ و قد ظهر جوابه «1». و أورد عليه المحقّق الإصفهاني قدس سره بأنّه لا يبتني على تلك المسألة قال: لأنّه مع فساده من وجوه أشرنا إليها خلاف ما فرضه في الجواهر «2» من عدم ابتنائه على مسألة الضدّ، بل بناه على فوريّة الأمر بالوفاء، ثمّ قال في تقريبه ما حاصله: إنّ العمل بالإجارة الثانية بعد فرض فوريّة الوفاء بالإجارة الأُولى غير مقدور عليه فعلا شرعاً، و لا يقاس بما تقدّم من استواء نسبة القدرة إلى الوفاء بالعقدين المستلزم للتخيير، و ذلك لأنّ المفروض هناك صحّة الإجارتين، فلم يكن إلّا عدم القدرة على الوفاء بالعقدين، و أمّا هنا فالمفروض عدم الفراغ عن صحّة الإجارة الثانية و أنّ القدرة شرط صحّتها، فكيف تتساوى نسبة القدرة إليهما، بل الإجارة الأُولى حيث كانت حال وقوعها بلا مزاحم فهي واجدة للقدرة الجالبة لها دون الثانية، لا يقال: كما أنّ القدرة شرط في الأُولى حدوثاً فكذا بقاءً و الإجارة الثانية تزاحمها حينئذٍ، لأنّا نقول: زوال القدرة بقاءً متوقّف على صحّة الإجارة و وجوب الوفاء بها،

و المفروض توقّف الصحّة على وجود القدرة، فكيف تزول القدرة بقاءً

______________________________

(1) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 223.

(2) جواهر الكلام: 27/ 270.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 477

..........

______________________________

بما يتوقّف على ثبوت القدرة التي لا ثبوت لها إلّا مع فرض زوال القدرة بقاءً «1».

أقول: لم يعلم الفرق بين المقام و بين ما تقدّم، فإنّ الغرض في المقامين الحكم ببطلان الإجارة الثانية، إمّا من طريق الأمر بالوفاء بالعقد الثاني فوراً؛ لعدم اجتماعه مع الأمر بالوفاء بالعقد الأوّل كذلك كما هناك، و إمّا من طريق عدم القدرة على التسليم شرعاً كما هنا. و كما أُجيب عن الأوّل بأنّه لا مانع من اجتماع الأمرين. غاية الأمر ثبوت التخيير يمكن الجواب هنا بعدم المانع من ثبوت كون الأمرين على الفوريّة و الحكم بأنّ المكلّف مخيّر في الامتثال، ضرورة أنّ مجرّد وجوب الوفاء بالأوّل فوراً لا يسلب القدرة عن الثاني إلّا مع فرض وجوب الوفاء به أيضاً كذلك، و إلّا فلا منافاة بينهما، و حينئذٍ نقول: إنّ مجرّد وجوب الوفاء بالثاني فوراً أيضاً لا يمنع إلّا بعد كونه على نحو التعيين و كون الأوّل أيضاً كذلك، فلا مانع حينئذٍ من الجمع بنحو التخيير و إن كان كلاهما بنحو الفور، ضرورة أنّ الجمع بين التكليفين كذلك ليس كالجمع بين الوضعيّين بنحو التخيير، فإنّه لا يعقل الحكم بصحّة أحد العقدين على سبيل التخيير، و أمّا الحكم بوجوب الوفاء بأحدهما تخييراً فلا مانع منه أصلًا، و إن كان الوجوب فوريّاً فلا فرق بين المقامين.

ثمّ إنّ الجواب عن أصل الوجه بطلان المبنى، سواء كان هي مسألة الضدّ أو فورية الأمر بالوفاء، فإنّه مع كون الوقت موسّعاً لا دليل عي الفورية إلّا أن

يفرض ضيق الوقت، كما هو إحدى صور المسألة. هذا، مضافاً إلى أنّ ما هو الشرط في صحّة الإجارة هي القدرة الخارجية على ذات العمل الواقع متعلّقاً للعقد، و هي حاصلة في المقام، و الأمر بالوفاء و إن كان فوريّاً لا يوجب سلب هذه القدرة أصلًا.

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 154 155.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 478

..........

______________________________

و دعوى أنّ القدرة الشرعية على التسليم منتفية، مدفوعة بأنّ المراد من القدرة الشرعية المنتفية في المقام إن كان هو حكم الشارع بثبوت القدرة؛ بمعنى أنّ الشارع حكم في المقام بعدم ثبوت القدرة له في عالم التشريع، فيرد عليه أنّ مجرّد إيجاب الوفاء فوراً إذا لم يكن دليلًا على ثبوت القدرة لاشتراط التكليف بها لا يكون دليلًا على عدم ثبوتها، كما لا يخفى.

و إن كان المراد أنّ إيجاب الوفاء بالعقد فوراً، حيث إنّه يمنع عن صرف القدرة فيما عداه فكأنّه مسلوب القدرة في عالم التشريع، فيرد عليه أنّه لا دليل على اعتبار القدرة بهذا المعنى في صحّة الإجارة، إذ الدليل على اعتبار القدرة على التسليم هو حديث النهي عن الغرر «1»، و مع ثبوت القدرة التكوينية لا يلزم غرر أصلًا.

و قد ظهر من جميع ما ذكرنا أنّه لم ينهض شي ء من الوجوه الخمسة لإثبات بطلان الإجارة الثانية إذا كانت خاصّة بالمعنى الأوّل أو الثاني، فعدم نهوضها لإثبات البطلان فيما إذا كانت خاصّة بالمعنى الثالث أو الرابع إن كان، أو كانت عامّة كالإجارة الاولى بطريق أولى.

و يمكن أن يقال: إنّه كما لا دليل على بطلان الإجارة الثانية كذلك لا دليل على صحّتها، بناءً على عدم جواز التمسّك بعموم «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» «2» لإثبات صحّة العقد المشكوك،

لا من حيث النوع بل من حيث الصنف أو مطلقاً كما أشرنا إليها مراراً، و ذلك لعدم ثبوت إطلاق أو عموم في خصوص باب الإجارة حتّى يتمسك به في المورد المشكوك، و ليس المورد من الموارد التي كان الابتلاء بها كثيراً عند العقلاء

______________________________

(1) تقدّم في ص 22.

(2) سورة المائدة 5: 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 479

..........

______________________________

حتّى يكون عدم الردع كاشفاً عن الإمضاء، فتدبّر.

ثمّ إنّه ذكر المحقّق الإصفهاني قدس سره في حكم ما إذا صار الأجير المشترك أجيراً خاصّاً في الإجارة الثانية أنّه إذا كان مورد الإجارة الأُولى كليّاً ذمّيا، فلا مانع من صحّة الإجارة الثانية بنحو الأجير الخاصّ في تمام المدّة إلّا من حيث كونها مفوّتة بنفسها للعمل على طبق الاولى، حيث لا يعقل تطبيق الكلّي الذمّي على المنفعة المملوكة بالإجارة الثانية للغير، و غايته حرمة الإجارة الثانية، و حرمة المعاملة مولوياً لا توجب الفساد، بل لو عمل للأوّل كان الأجير ضامناً للثاني؛ لأنّه سلّم ماله إلى الغير، و الأوّل أيضاً ضامن للثاني لاستيفاء ماله، و أمّا إذا كان مورد الإجارة الأُولى بنحو الكلّي في المعيّن فالإجارة الثانية لتضمّنها تمليك مال الغير غير صحيحة، فإنّه نظير بيع تمام الصبرة بعد بيع صاع كلّي منها، و عليه فإذا عمل للثاني في تمام المدّة كان من تسليم مال الغير المعدود إتلافاً، و من تسلّم الثاني لمال الغير المعدود استيفاءً منه، فللأوّل الرجوع على من شاء من الأجير و المستأجر الثاني «1».

أقول: و يمكن أن يورد عليه بوجوه:

أحدها: أنّ الإجارة الثانية في الفرض الأوّل لا تكون مفوّتة بنفسها للعمل على طبق الأُولى، فإنّ مجرّد إيقاع العقد مع المستأجر الثاني بالنحو المفروض لا

يوجب اتّصافه بوصف التفويت، ضرورة أنّه يمكن الاستئذان منه للعمل على طبق الأُولى أو المعاوضة معه بالنسبة إلى هذا المقدار أو الإقالة و نظائرها، فالإجارة الثانية لا تكون بنفسها مفوّتة، و المفروض عدم ثبوت المنافاة بين الإجارتين؛ لأنّ مورد

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 157.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 480

..........

______________________________

الاولى الكلّي في الذمة، و مورد الثانية المنافع الخارجية كلّاً أو بعضاً، فلا مساس لإحداهما بالأُخرى. هذا، و لو سلّم كون الإجارة الثانية مفوّتة لكن المتعلّق للنهي التحريمي إنّما هو التفويت بعنوانه، و لا تسري الحرمة إلى الإجارة حتّى يقال: إنّ الحرمة المولوية المتعلّقة بالمعاملة لا توجب الفساد.

ثانيها: أنّ الحكم بضمان المستأجر الأوّل لأجل الاستيفاء مبنيّ على كون مجرّد الاستيفاء كافياً في الحكم بالضمان و هو غير معلوم، و التحقيق في محلّه.

ثالثها: أنّ الحكم ببطلان الإجارة الثانية في الفرض الثاني تنظيراً ببيع تمام الصبرة بعد بيع صاع كلّي منها لا يستقيم لا في المقيس و لا في المقيس عليه، فإنّ غاية الأمر كون بعض المبيع أو مورد الإجارة ملكاً للغير، فهو من قبيل بيع ما يملك و ما لا يملك و لا يكون محكوماً بالبطلان، بل صحيح بالإضافة إلى البعض المملوك و متوقّف على الإجازة بالنسبة إلى البعض الآخر، إلّا أن يوجّه كلامه بأنّ مراده بالصحّة المنفية هي الصحّة بالإضافة إلى المجموع بنحو لا تكون متوقّفة على الإجازة. و كيف كان، فالحكم في مثل ذلك هي الصحّة. غاية الأمر ثبوت الخيار لأجل تبعّض الصفقة.

ثمّ إنّه على تقدير الحكم بصحّة الإجارة الثانية في مفروض المسألة، فإن عمل الأجير للمستأجر الثاني، فالظاهر ضمانه للمستأجر الأوّل أُجرة المثل من جهة التفويت، فكأنّه أتلف

ماله بالعمل لغيره، و يحتمل ضمان اجرة المسمّى من حيث إنّ ترك العمل على طبق الإجارة الاولى في المدّة المعيّنة بمنزلة خلوّ الأُجرة عن العوض رأساً فتبطل الإجارة، و اللّازم حينئذٍ الرجوع إلى أُجرة المسمّى و إن عمل للمستأجر الأوّل، فالظاهر أنّه يضمن للثاني أُجرة المثل من جهة صرف المنفعة المملوكة له في الغير، و يمكن أن يقال بضمان الأوّل له أيضاً من جهة الاستيفاء، بناءً

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 481

..........

______________________________

على كون مجرّده كافياً في ثبوت الضمان، فيتخيّر الثاني حينئذٍ في الرجوع إلى الأجير أو إلى المستأجر الأوّل.

ثمّ إنّه تبيّن من جميع ما ذكرنا في الصورة المفروضة حكم باقي الصور المتصوّرة، و أنّه لا مجال للحكم ببطلان الإجارة الثانية في شي ء منها، و أمّا من جهة الحكم بالضمان ففي مثل ما إذا كانت الإجارتان عامّتين خاليتين عن قيد المباشرة أو المدّة المضيّقة، و لكن أهمل بحيث لم يكن في وسعه إلّا العمل لأحدهما بنفسه يكون ضامناً لمن لم يعمل له إن كانت المدّة المأخوذة في العقد ملحوظة بنحو القيدية، لصدق عنوان التفويت الموجب لثبوت اجرة المثل عليه، و لا مجال لأن يقال: إنّ مرجع إيجاب الوفاء عليه بنحو التخيير لفرض عدم القدرة على الوفاء بكلا العقدين إلى تجويز ترك العمل لأحدهما على سبيل التخيير، و الحكم بالضمان لا يجتمع مع حكم الشارع بجواز الترك الذي هو لازم كون الوجوب بنحو التخيير، و ذلك لأنّا نقول مضافاً إلى ما عرفت من عدم خروج التكليف عن التعيين بمجرّد العجز و عدم القدرة؛ لأنّه عذر في مخالفة التكليف الفعلي لا أنّ وجودها شرط في فعلية التكليف أنّه لو سلّم تبدّل وصف التعيين

بالتخيير في صورة العجز عن الوفاء بكلا العقدين كما هو المشهور نقول:

لا مجال لاستظهار نفي الضمان من الحكم بجواز الترك بعد وضوح كون السبب إهمال المكلّف، و عدم الإتيان بمتعلّق الإجارتين بسوء الاختيار كما هو أوضح، و من المعلوم أنّه لا ملازمة بين الجواز و عدم الضمان ثبوتاً، لوجود بعض الموارد التي سوّغ الشارع فيها الارتكاب مع ثبوت الضمان كأكل مال الغير عند الاضطرار، و بالجملة فدعوى عدم ثبوت الضمان في مثل المقام ممنوعة جدّاً. هذا مع أخذ الزمان بنحو القيدية.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 482

..........

______________________________

و أمّا إذا لوحظ بنحو الاشتراط فترك العمل فيه لا يوجب صدق عنوان التفويت المستلزم للضمان، بل غاية الأمر ثبوت خيار تخلّف الشرط للمستأجر، فإن فسخ يرجع إلى أُجرة المسمّى.

و يمكن أخذ الزمان لا بنحو يكون دخيلًا في المطلوب الواحد أو مطلوباً آخر، بل بنحو القضية الحينيّة حذراً من تحقّق عنوان الغرر المبطل، و إلّا فالزمان المعيّن لا يكون قيداً في المطلوب و لا مطلوباً آخر.

ثمّ إنّه يظهر منهم أنّه يجوز ترك ذكر الزمان في الإجارة رأساً. غاية الأمر استحقاق المستأجر العمل الكلّي على ذمة الأجير، و يصير كالدين يجب عليه الوفاء فوراً عند المطالبة و تمكّن المديون من الوفاء، فإن قلنا ببطلان هذا النحو من الإجارة للزوم الغرر، و إلّا فإن قلنا: بأنّ وجوب الوفاء فوراً عند المطالبة يوجب التوقيت فترك العمل بعدها موجب لتحقّق عنوان التفويت المستلزم للرجوع إلى أُجرة المثل، كما إذا أخذ الزمان بنحو التقييد و إن لم نقل بذلك، نظراً إلى أنّ المطالبة لا توجب إلّا ثبوت مجرّد حكم تكليفي متعلّق بالوفاء، و لا اقتضاء فيه للتوقيت أصلًا، فالظاهر حينئذٍ

عدم تحقّق عنوان التفويت، بل غاية الأمر ثبوت الخيار للأجير لو لم نقل باختصاصه بما إذا كان التسليم متعذّراً، بل يتحقّق مع الامتناع من التسليم أيضاً.

و أمّا التمسّك لإثبات الخيار بحديث نفي الضرر «1» فيما لو تضرّر المستأجر لأجل التأخير، فقد ذكرنا ما فيه من أنّ الحديث على تقدير ارتباطه بهذه المقامات يكون غاية مفاده نفي لزوم العقد لا إثبات الخيار المصطلح.

______________________________

(1) الكافي: 5/ 292 ح 2، الفقيه: 3/ 147 ح 18، وسائل الشيعة: 25/ 428، كتاب إحياء الموات ب 12 ح 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 483

[لو بدّل مورد الإجارة إلى آخر

] مسألة 30: لو استأجر دابّة للحمل إلى بلد في وقت معيّن فركبها في ذلك الوقت إليه عمداً أو اشتباهاً لزمته الأُجرة المسمّاة، حيث إنّه قد استقرّت عليه بتسليم الدابّة و إن لم يستوف المنفعة. و هل تلزمه اجرة مثل المنفعة التي استوفاها أيضاً فتكون عليه أُجرتان، أو لم يلزمه إلّا التفاوت بين أُجرة المنفعة التي استوفاها، و أُجرة المنفعة المستأجر عليها لو كان، فإذا استأجرها للحمل بخمسة فركبها، و كان اجرة الركوب عشرة لزمته العشرة، و لو لم يكن تفاوت بينهما لم تلزم عليه إلّا الأُجرة المسمّاة؟ وجهان، لا يخلو ثانيهما من رجحان، و الأحوط التصالح (1).

______________________________

(1) أمّا لزوم الأُجرة المسمّاة في الصورة المفروضة فلما في المتن، و قد تقدّم «1» من استقرارها بتسليم الدابّة و عدم توقّفه على استيفاء المنفعة بوجه، فعدم استيفاء منفعة الحمل لا يقدح في استقرار الأُجرة أصلًا.

و أمّا لزوم ما زاد فيمكن الاستشكال فيه على تقدير تضييق المؤجر دائرة التمليك بسبب التقييد نظراً إلى أنّ منفعة الركوب التي استوفاها المستأجر لا تكون مملوكة له و لا

للمؤجر، أمّا الأوّل فواضح، و أمّا الثاني فلأنّ المنافع متضادّة و لا يعقل أن تكون مملوكة للمؤجر بتمامها، و لذا ذكروا في باب الغصب «2» أنّه لو غصب عبداً له صنائع متعدّدة لم يضمن الغاصب للمالك من المنافع الفائتة تحت يده سوى إحدى تلك الصنائع إذا كانت متساوية، أو أغلاها إذا كان بعضها كذلك، و مع عدم كون المنفعة المستوفاة مملوكة لأحد لا وجه لضمانها.

______________________________

(1) في ص 251.

(2) قواعد الأحكام: 2/ 226، مسالك الأفهام: 12/ 217، جواهر الكلام: 37/ 167.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 484

..........

______________________________

أقول: هذه شبهة عقلية عويصة لا بدّ من التخلّص عنها، و قد دفعها المحقّق الإصفهاني قدس سره بما حاصله يرجع إلى عدم تحقّق التضادّ بين المنافع، و كون المالك للعين مالكاً لجميعها، نظراً إلى أنّ المنافع حيثيّات موجودة بوجود العين بالقوّة، و التضادّ إنّما هو في مرتبة فعلية ما بالقوّة، و أمّا في مرتبة الموجودية بالقوّة فلا؛ لأنّ التضادّ و التماثل من عوارض الموجودات الحقيقية الخارجية لا الموجودات بوجود العين، و التعيّنات خارجة عن مقام ذات المنفعة الموجودة بالقوّة، لأنّ التعيّن الخارجي بعين الفعلية، و التعيّن الاعتباري فرع اعتبار المعتبر، و اللامتعيّن من حيث كونه موجوداً بالقوّة لا يخرج عن اللامتعيّنية إلّا بالتعيّن الفعلي الخارجي لا الاعتباري. غاية الأمر أنّه بفرض إضافته إلى زيد مثلًا يخرج عن اللامتعينية بهذا المقدار و تبقى سائر الجهات على حالها، و عليه فانتقال جهة خاصّة إلى المستأجر موجب لبقاء سائر الجهات على ملك مالكها و سقوطها عنه، أمّا بسبب النقل و هو خلف، و أمّا بلحاظ التضادّ و قد عرفت عدمه، و أمّا بلحاظ التعيّن فهو ليس من قبيل الكلّي

حتّى إذا تعيّن في فرد لم يبق على كليّته، و أمّا بلحاظ وحدته فهو ليس واحداً فعليّاً، بل له شيوع و سعة، و أمّا بلحاظ كون الملكيّة بمعنى السلطنة و لا سلطنة للمالك على تمليك المنفعتين معاً فهو ممنوع، لعدم كون الملكيّة بمعنى السلطنة. غاية الأمر عدم القدرة على التسليم، كما أنّ المستأجر مالك لركوب نفسه و لا يمكنه تمليكه لعدم إمكان حصوله للغير «1».

و الظاهر أنّه لا حاجة في إثبات عدم التضادّ و كون المالك مالكاً لجميع المنافع إلى سلوك الطريق الذي سلكه قدس سره، بل يكفي في ذلك ملاحظة ما هو الثابت عند العرف

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 124 126.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 485

..........

______________________________

و العقلاء، فإنّ العقلاء يعتبرون الملكيّة بالنسبة إلى المنافع المتضادّة و لا يرون التضادّ بينها منافياً لاعتبارها، و لا مانع عندهم من تمليكها بأجمعها بحيث كان التملّك قائماً مقام المالك في استفادة ما شاء منها من العين، و تضييق دائرة ملك المنفعة بالتقييد يوجب اختصاص النقل و الانتقال الحاصلين بسبب الإجارة بجهة خاصّة، و كون سائر الجهات باقية على ملك المالك، و قد عرفت في كلامه أنّ الملكيّة ليست بمعنى السلطنة حتّى يستكشف من عدم الثانية عدم الاولى، كما صرّح به المحقّق الرشتي قدس سره «1»، بل يمكن الانفكاك بينهما كما في المستأجر الذي لا يملك إلّا ركوب نفسه، و على ما ذكرنا فلا وجه للاستشكال في ضمان المنفعة التي استوفاها المستأجر في الصورة المفروضة، إنّما الإشكال في أنّه هل يكون ضامناً له لجميع اجرة المثل مضافاً إلى الأُجرة المسمّاة، أو أنّه لا يكون ضامناً إلّا التفاوت بينهما و زيادة اجرة المثل

مضافاً إليها، و في الحقيقة يكون ضامناً لُاجرة المثل فقط في صورة الزيادة؟ فيه وجهان بل قولان في نظير المسألة؛ من أنّ مقتضى استقرار الأُجرة بالتسليم، و عدم توقّفه على الاستيفاء، و ثبوت ضمان المنفعة المستوفاة لعدم كونها ملكاً للمستأجر على ما هو المفروض ثبوت أُجرتين، كما لعلّه الظاهر من عبارة العروة في نظير المسألة «2»، و من أنّ حكم المقام الذي يكون أحد الضمانين هو الضمان المعاوضي الناشئ عن إذن المالك و إقدامه على المعاملة لا يزيد على حكم المغصوب الذي لا يكون فيه إلّا ضمان اليد، فكما أنّ المضمون فيه هي أغلى المنافع و أعلاها لا جميعها فكذلك في المقام، و لذا رجّح في المتن هذا الوجه و إن كان التصالح مقتضى الاحتياط، كما أفاده الماتن دام ظلّه.

______________________________

(1) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 129.

(2) العروة الوثقى: 5/ 71 72 مسألة 12 و 13، وص 87 مسألة 6، وص 93 مسألة 11.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 486

[لو آجر نفسه لعمل فعمل للمستأجر غير ذلك العمل بغير أمر منه]

مسألة 31: لو آجر نفسه لعمل فعمل للمستأجر غير ذلك العمل بغير أمر منه، كما إذا استؤجر للخياطة فكتب له لم يستحقّ شيئاً، سواء كان متعمّداً أم لا، و كذا لو آجر دابّته لحمل متاع زيد إلى مكان فحمل متاع عمرو لم يستحقّ الأُجرة على واحد منهما (1).

______________________________

(1) وجه عدم الاستحقاق واضح، فإنّ المفروض عدم إتيانه بالعمل المستأجر عليه فلا يستحقّ الأُجرة المسمّاة، و عدم كون المأتيّ به من العمل واقعاً بأمر المستأجر فلا يستحقّ اجرة المثل، و العمد و غيره سيّان في مثل المقام، و هكذا في الفرع الثاني.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 487

[استئجار المرأة للرضاع أو الإرضاع

] مسألة 32: يجوز استئجار المرأة للإرضاع بل للرضاع أيضاً؛ بأن يرتضع الطفل منها مدّة معيّنة و إن لم يكن منها فعل. و لا يعتبر في صحّة إجارتها لذلك إذن الزوج و رضاه، بل ليس له المنع عنها إن لم يكن مانعاً عن حقّ استمتاعه منها، و مع كونه مانعاً يعتبر إذنه أو إجازته في صحّتها. و كذا يجوز استئجار الشاة الحلوب للانتفاع بلبنها، و البئر للاستقاء منها، بل لا تبعد صحّة إجارة الأشجار للانتفاع بثمرها (1).

______________________________

(1) أقول: تحقيق الكلام في استئجار المرأة للرضاع أو الإرضاع و ما يشابهه من الفروض مع قطع النظر عن وجود الزوج و عدمه يتمّ برسم أُمور:

الأوّل: أنّ ذكر هذه المسألة في فروع اشتراط المعلومية كما صنعه صاحب الشرائع «1» و تبعه المحقّق الأصفهاني «2» و ارتضاه الشارحون للشرائع «3» ظاهراً حيث لم يعترضوا عليه يشعر بل يدلّ على أنّ منشأ الإشكال في مثلها هو كون المنفعة مجهولة، و عدم كون مقدار اللبن في مثل المرأة و الشاة معلوماً، مع

أنّ الظاهر أنّ عمدة الإشكال إنّما هي مخالفة الإجارة في مثل المقام لما هو حقيقة الإجارة؛ لأنّ مقتضاها ملكيّة المنفعة لا العين و في مثل المقام تكون الأعيان كاللبن و الثمرة و نحوهما مملوكة، فالإشكال يرجع إلى عدم انحفاظ الحقيقة لا إلى اشتراط المعلومية.

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 2/ 185.

(2) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 178.

(3) مسالك الأفهام: 5/ 208، جواهر الكلام: 27/ 293.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 488

..........

______________________________

الثاني: الظاهر أنّ الإشكال على تقدير ثبوته إنّما يبتني على ما هو مبنى المشهور في حقيقة الإجارة من أنّها عبارة عن تمليك المنفعة بعوض معلوم «1»، و أمّا من يرى أنّ الإجارة عبارة عن تمليك العين في مدّة مخصوصة في جهة خاصّة فالإشكال مندفع عنه؛ لأنّ أثر الإجارة و مقتضاها ملكيّة العين المستتبعة لملكية مثل هذه الأعيان التي تعدّ منافع لأعيانها، فهو في مخلّص عن هذا الإشكال. و دعوى اختلاف الأعيان في الموارد المذكورة، بأنّ ملكيّة العين المستتبعة لملكية المنافع على ما ذكر إنّما يتصوّر في مثل الشاة و الشجرة و البئر و نحوها، و أمّا في مثل المرأة الحرّة المستأجرة للرضاع فلا يعقل ملكيّة العين أصلًا، مدفوعة بأنّه بناءً على هذا المبنى لا دليل على عدم قابلية المرأة الحرّة لهذا النحو من الملكيّة، بل القدر المسلّم هو عدم القابلية للملكية مطلقاً لا في مدّة خاصّة و جهة مخصوصة.

و أمّا ما أفاده المحقّق الإصفهاني قدس سره من أنّه بناءً على هذا المبنى الفاسد إنّما يمكن القول به فيما كانت هناك عين مملوكة هي مورد عقد الإجارة، و أمّا الأعمال التي تتعقّبها عين كالإرضاع و الاستحمام و نحوهما فلا يعمّها ذلك «2».

ففيه: أنّه إن كان

المراد لزوم كون العين التي هي مورد عقد الإجارة مملوكة فيرد عليه ما عرفت من عدم اعتبار ذلك، و أنّه يصحّ استئجار الحرّة بناءً على هذا القول أيضاً. و إن كان المراد أنّه يلزم أن يكون هنا عين حتّى تقع مورداً لعقد الإجارة فيرد عليه وضوح وجود العين في الإرضاع و الاستحمام و نحوهما، فإنّ مورد العقد هي

______________________________

(1) مسالك الأفهام: 5/ 171، رياض المسائل: 6/ 11، مفتاح الكرامة: 7/ 71، جواهر الكلام: 27/ 204، بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 3.

(2) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 179.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 489

..........

______________________________

المرأة و الحمام و أمثالهما.

فالإنصاف أنّه بناءً على هذا المبنى لا يتوجّه هنا إشكال من حيث عدم انحفاظ حقيقة الإجارة، و كذا بناءً على ما حكي عن المحقّق الخراساني قدس سره «1» من أنّ حقيقة الإجارة جعل العين في الكراء و جعل نفسه بالأُجرة، و أنّ ملك المنفعة لازم غالبي لها، و إن أورد عليه تلميذه المحقّق الإصفهاني قدس سره بورود الإشكال عليه أيضاً، نظراً إلى أنّ الأُجرة و الكراء في باب الإجارة يقعان بإزاء العمل و المنفعة لا العين على عكس الثمن في باب البيع «2» إلّا أنّ الظاهر عدم ورود هذا الإيراد عليه، فإنّ مرجع جعل العين في الكراء و جعل النفس بالأُجرة ليس إلى وقوعهما في مقابل العمل و المنفعة، بل مجرّد اعتبار بين العين و الكراء، و النفس و الأُجرة فتدبّر.

ثمّ إنّ عدم جريان هذا الإشكال بناءً على ما اخترناه و حقّقناه على ما عرفت «3» من أنّ حقيقة الإجارة إنّما هي ثبوت حقّ الانتفاع للمستأجر، و ليس هنا ملك للمنفعة في موارد ثبوتها حتّى

بالإضافة إلى مالك العين كما مرّ واضح لا ينبغي الارتياب فيه.

الثالث: أنّه على تقدير ورود الإشكال و عدم إمكان التخلّص، هل الإجماع على الصحّة كما ادّعي «4» على ما حكي عن الخلاف «5» و التذكرة «6» و غيرهما «7» يجدي في

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 179.

(2) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 179.

(3) في ص 8 10.

(4) جواهر الكلام: 27/ 293.

(5) الخلاف: 3/ 498 مسألة 18.

(6) تذكرة الفقهاء: 2/ 295.

(7) السرائر: 2/ 471.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 490

..........

______________________________

إثبات الصحّة على طريق الإجارة تعبّداً أم لا؟ الظاهر أنّه إن كان المراد إثبات حقيقة الإجارة بنحو التعبّد فالظاهر عدم إمكانه؛ لأنّ التعبّد لا يقدر على إثبات ما ليس من الحقيقة حقيقة. و إن كان المراد إثبات أحكام الإجارة تعبّداً و إن خرجت عن حقيقتها فالظاهر أنّه لا مانع منه، كما لا يخفى.

الرابع: أنّك قد عرفت أنّ عمدة الإشكال إنّما ترجع إلى عدم انحفاظ حقيقة الإجارة، و إن كان ربما يشكل من حيث الجهالة و عدم معلومية المنفعة أيضاً إلّا أنّه غير مهمّ، إمّا لمنع الصغرى نظراً إلى إمكان تعلّق العلم بها من طريق العادة و غيره، و إمّا لمنع الكبرى نظراً إلى ما هو المعروف بينهم من أنّ الإجارة تتحمّل من الجهالة ما لا يتحمّله البيع «1»، فالعمدة هو ما ذكرنا.

و التحقيق في مقام الحلّ أن يقال: إنّ مبنى الإشكال هو كون المنفعة أمراً عرضيا اعتبارياً في مقابل العين، مع أنّها أمر عرفيّ ربما يكون كذلك، و قد يكون بعض الأعيان لكونه تابعاً لعين اخرى بحيث يعدّ منفعة لها، بل يمكن أن يقال: إنّ المسلّم في باب المنافع و الموضوع له

لفظ المنفعة عليه إنّما هو الأمر الذي له وجود في الخارج، و أمّا الأمر الاعتباري العرضي فإطلاق لفظ المنفعة عليه إنّما هو على سبيل العناية و في مقام التوسعة.

و بالجملة: فإن كان المراد بالمنفعة ذاك الأمر العرضي فقط فنحن نمنع اقتضاء عقد الإجارة لثبوت ملكيّته فقط. و إن كان المراد بها الأعمّ من بعض الأعيان التابعة فاقتضاء الإجارة لملكية المنفعة لا يوجب خروج مثل المقام عن حقيقتها أصلًا.

______________________________

(1) مسالك الأفهام: 5/ 217، مفتاح الكرامة: 7/ 148، جواهر الكلام: 27/ 308.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 491

..........

______________________________

و أمّا ما أفاده المحقّق الإصفهاني قدس سره في مقام منع دعوى كون بعض الأعيان منفعة عرفاً؛ من أنّه لو صحّت هذه الدعوى لصحّ تمليك المنفعة ابتداءً، كما يصحّ تمليك سكنى الدار. قال: و لا أظنّ أن يلتزم أحد بصحّة تمليك لبن المرأة أو الشاة إجارة، و لا تمليك ماء البئر و الحمام ابتداء بعنوان الإجارة «1»، فيمكن الجواب عنه: بأنّه لا مانع من الالتزام بذلك فيما إذا تعلّق الغرض بهذا العنوان، و الظاهر مساعدة العرف عليه أيضاً.

و كيف كان، فالعمدة في حلّ الإشكال ما ذكرنا، و عليه فالحكم في مثل المقام لا يكون مخالفاً للقاعدة، فلا حاجة إلى التمسّك للجواز بالإجماع أو بقوله تعالى فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ «2». أو بالمأثور من فعل النبيّ صلى الله عليه و آله حيث استرضع لولده إبراهيم «3»، أو فعل الأئمّة عليهم السلام حيث استرضعوا لأولادهم «4»، مضافاً إلى إمكان المناقشة في جميعها بل منع دلالة أكثرها، نظراً إلى أنّه لا دلالة لشي ء منها على جواز الاستئجار، و ثبوت الأُجرة أعمّ من ذلك كما هو غير خفيّ.

و هكذا

الاستدلال على جواز الاستئجار كما ربما عزي إلى الشهيد قدس سره «5» بمساس الحاجة و العسر و الحرج المنفيّين بالآية «6» و الأخبار «7»، فإنّ مسيس

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 179.

(2) سورة الطلاق 65: 6.

(3) تذكرة الفقهاء: 2/ 295، المغني لابن قدامه: 6/ 73.

(4) مسالك الأفهام: 5/ 210، جواهر الكلام: 27/ 293.

(5) حكى عنه في مفتاح الكرامة: 7/ 143.

(6) سورة الحجّ 22: 78.

(7) وسائل الشيعة: 15/ 369، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس ب 56.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 492

..........

______________________________

الحاجة لا يورث إلّا مجرّد شرعية المعاملة لا خصوص عقد الإجارة لعدم الحاجة إليه، و لا عسر و لا حرج في عدم تشريعه كما هو أظهر من أن يخفى.

إذا عرفت ما ذكرنا فاللّازم هو التكلّم في فروع المسألة، فنقول:

منها: أنّه لا إشكال في صحّة استئجار المرضعة إذا كانت مزوّجة و كان ذلك بإذن زوجها، و أمّا مع عدم الإذن فالمسألة خلافية، فالمحكي عن المبسوط «1» و الخلاف «2» و السرائر «3» و بعض آخر «4» عدم الجواز مطلقاً، و الأشبه عند الفاضلين «5» و الثانيين «6» هو الجواز كذلك، و المحكي عن قواعد العلّامة التفصيل بين منافاة العمل لحقّ الزوج فيفسد، و غيرها فلا «7»، و هو ظاهر المتن، و هنا تفصيل آخر اختاره المحقّق الرشتي قدس سره «8» و سيجي ء، كما أنّه حكي عن بعضهم «9» التردّد و عدم اختيار شي ء من الجواز و العدم.

و ليعلم قبل الخوض في تحقيق حال هذا الفرع أنّ ملاكه لا يختص بما إذا كان استئجار المرأة المزوّجة للإرضاع، بل يعمّ ما إذا كان لغيره، كما أنّه لا يختصّ بالاستئجار، بل يعمّ مثل المصالحة

أيضاً كما هو غير خفي.

______________________________

(1) المبسوط: 3/ 239.

(2) الخلاف: 3/ 498 مسألة 18.

(3) السرائر: 2/ 471.

(4) الجامع للشرائع: 296.

(5) شرائع الإسلام: 2/ 185، تذكرة الفقهاء: 2/ 299.

(6) جامع المقاصد: 7/ 137 138، مسالك الأفهام: 5/ 208.

(7) قواعد الأحكام: 2/ 288.

(8) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 260.

(9) تحرير الأحكام: 3/ 92 93، و الحاكي هو المحقّق الرشتي في كتاب الإجارة: 259.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 493

..........

______________________________

ثمّ إنّ البحث في الفرع إنّما هو بعد وضوح بطلان القول بأنّ اللبن مملوك للزوج، و كذا القول بأنّ الزوج مالك لجميع منافع المرأة، و حينئذٍ فيقع الكلام في ملائمة صحّة الاستئجار لحقّ الاستمتاع الثابت للزوج على الزوجة و عدمها، و الكلام في ذلك تارة على تقدير كون حقّ الاستمتاع ثابتاً في جميع الأوقات بنحو الاستغراق، و أُخرى على تقدير عدمه، كما ادّعى الضرورة على ذلك المحقّق الإصفهاني قدس سره «1»، و اختار بعد بطلان الاستغراق كون الاستمتاع الذي يملكه الزوج هو الاستمتاع في أوقاتها بنحو الكلّي في المعيّن، و كون ولاية التعيين بيد الزوج لا الاستمتاع في زمان معيّن، أو الاستمتاع في أحد الأزمنة لا معيّناً، أو الاستمتاع في وقت يشاء الزوج إمّا بنحو الواجب المعلّق أو المشروط.

و كيف كان، فعلى تقدير القول بالصحّة في الفرض الأوّل تكون الصحّة في الفرض الثاني ثابتة بطريق الأولويّة، و لا مجال للتكلّم فيه مستقلا، و هذا بخلاف القول بالبطلان فيه، فإنّه لا ملازمة بينه و بين البطلان في الثاني كما هو ظاهر.

إذا ظهر ذلك فاعلم أنّ الأقوى هو القول بالصحّة مطلقاً و لو مع منع الزوج؛ لأنّ منشأ تخيّل البطلان إمّا ثبوت المنافاة بين الاستحقاقين: استحقاق الاستمتاع و استحقاق

الإرضاع، و مع سبق الأوّل لا مجال لثبوت الثاني، نظير الأجير الخاصّ الذي ملّك منفعته الخياطية في تمام اليوم من المستأجر الأوّل، فإنّه لا يسعه تمليك الكتابة في ذلك اليوم من المستأجر الآخر، لعدم كونه مالكاً للكتابة بعد تمليك الخياطة، و إمّا عدم القدرة على التسليم، و شي ء منهما لا يصلح لذلك لكونهما ممنوعين.

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 182.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 494

..........

______________________________

أمّا الأوّل: فلأنّ المنافاة بين الاستحقاقين إن كان منشؤها عدم ملكيّة الزوجة لمنفعة الإرضاع بعد ثبوت حقّ الاستمتاع عليها في كلّ زمان لثبوت المضادّة و المنافرة بين الأمرين، فيرد عليه أنّه لا بدّ في باب الأُمور الاعتبارية التي زمام أمرها بيد المعتبرين من العقلاء من البحث فيما يرجع الى إمكان الاعتبار و عدمه، و لا مجال للبحث عن الأوصاف و العوارض التي موصوفها الأشياء الحقيقية و الموجودات الخارجية؛ من التضادّ و التنافر و غيره من الأوصاف و الأحكام، ففي مثل الملكيّة التي هي من الأُمور الاعتبارية لا بدّ من ملاحظة أنّ الاعتبار هل يساعد على ثبوت ملكيّة الشخص في زمان واحد للأمرين غير القابلين للاجتماع أم لا؟ و من الواضح المساعدة، فإنّ مجرّد عدم إمكان تحقّقهما في الخارج لا يوجب خللًا في باب الاعتبار، فإنّه كما تعتبر الملكيّة للشخص في المفروض من المثال بالإضافة إلى الخياطة كذلك تعتبر بالنسبة إلى الكتابة، و عليه فلا مانع من تمليكهما من مستأجرين. و إن كان منشؤها عدم إمكان إعمال الحقّين في زمان واحد فذلك لا مساس له بمقام العقد و صحّة الاستئجار و عدمها؛ لأنّ مفاد الإجارة إثبات أصل الاستحقاق، و لا نظر له إلى مقام الإعمال.

و أمّا الثاني:

فمضافاً إلى منع اعتبار القدرة على التسليم في باب صحّة العقود، بل الموارد مختلفة و المقامات متنوّعة و التحقيق في محلّه، نقول: إن كان المراد بعدم القدرة على التسليم هو عدم القدرة عقلًا فمنعه واضح، ضرورة ثبوت القدرة كذلك على الإرضاع و لو في وقت أراد الزوج الاستمتاع، كما أنّها تقدر على التمكين و لو مع استحقاق الإرضاع، و القدرة على الجمع بين الأمرين و إن كانت مفقودة إلّا أنّها غير معتبرة، ضرورة أنّ المعتبرة منها هي القدرة على العمل الذي استؤجرت له؛ و هو الإرضاع و المفروض ثبوتها. و إن كان المراد به هو عدم القدرة شرعاً فهو

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 495

..........

______________________________

يبتني على حرمة الضدّ و هي غير ثابتة.

و ممّا ذكرنا ظهر أنّ الأقوى هو القول بالجواز مطلقاً، سواء كان الإرضاع مضادّاً للاستمتاع و منافياً له بحيث يمتنع اجتماعهما في زمان واحد أم لم يكن كذلك، و على التقدير الأوّل لا فرق بين أن يكون مقدّراً بالعمل أو مقدّراً بالزمان، و أنّ الحكم بالبطلان في خصوص المقدّر بالزمان كما اختاره المحقّق الرشتي قدس سره «1» نظراً إلى عدم القدرة على التسليم ممنوع لما ذكرنا، و إن احتمل هو أيضاً الصحّة نظراً إلى عدم حرمة الضدّ.

و دعوى الشهرة أو عدم الخلاف على البطلان إمّا مطلقاً أو في خصوص صورة المنافاة لا تجدي بعد وضوح أنّ مستند المسألة هي القواعد الكليّة الجارية في أمثالها، و عدم احتمال ثبوت نصّ خاصّ يكون مفاده البطلان تعبّداً على خلاف القاعدة المقتضية للصحّة على ما اخترناه، فالأقوى هي الصحّة مطلقاً.

نعم، ربما يقال بالبطلان في خصوص ما إذا كان بناء الزوجة على إطاعة الزوج

و التمكين له مطلقاً، و كان الإرضاع منافياً للاستمتاع، و كان الغرض من استئجارها متعلّقاً بوقوع الإرضاع خارجاً و تحقّقه منها كذلك، فإنّه في هذه الصورة يمكن أن يقال بأنّ قصد الإيجار لا يتمشّى من الزوجة، و كذا قصد الاستئجار من المستأجر العالم بالحال، فالبطلان حينئذٍ يكون مستنداً إلى عدم ثبوت القصد المعتبر في العقود بلا إشكال.

و يمكن الجواب عنه بأنّ الإقدام على الاستئجار و الإيجار لا يكاد يجتمع مع هذا الحال، فبالإقدام عليهما كما هو المفروض في المقام يستكشف عدم ثبوت القطع

______________________________

(1) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 260.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 496

..........

______________________________

و اليقين بذلك، أو عدم كون الغرض متعلّقاً بوقوع الإرضاع خارجاً.

و بالجملة: فمع تحقّق الإجارة في الخارج لا مجال للحكم ببطلانها في شي ء من الفروض، فتدبّر جيّداً.

ثمّ إنّه على تقدير القول بصحّة الاستئجار كما هو المختار يكون الحكم بصحّة سائر العقود كالصلح و الجعالة بطريق أولى.

ثمّ إنّه على تقدير صحّة الإجارة لو وقع التنافي في الخارج في مقام إعمال الحقّين بأن طالبها الزوج بالاستمتاع في الزمان المعيّن للإجارة مع مطالبة المستأجر للإرضاع فالمنسوب إليهم وجوب تقديم حقّ الزوج «1»، بل المحكي عن البعض التصريح بذلك مرسلًا له إرسال المسلّمات «2»، و الظاهر من المحقّقين: الرشتي «3» و الإصفهاني 0 «4» دخول المسألة في تزاحم الحقّين، و أنّ مجرّد سبق حقّ الزوج زماناً لا يوجب التقديم، بل لا بدّ من الأهمّية و مع عدمها لا محيص عن التخيير.

و لكنّ الظاهر أنّ الأرجحيّة و التخيير إنّما هو في باب التكليفين المتزاحمين، فإنّه يتعيّن فيه لزوم اتّباع الأهمّ و موافقته لو كان في البين و مع عدمه يثبت التخيير. نعم،

في الصورة الأُولى وقع النزاع في أنّه مع عصيان الأمر بالأهمّ، هل يكون هنا أمر بالمهمّ مشروطاً بالعصيان بنحو الشرط المتأخّر، أو بالبناء على المعصية بنحو الشرط المتقدّم أو المقارن أم لا؟ و هذه هي مسألة الترتّب المشهورة في الأُصول،

______________________________

(1) جامع المقاصد: 7/ 138، مسالك الأفهام: 5/ 208، جواهر الكلام: 27/ 297.

(2) الحاكي هو المحقّق الرشتي في كتاب الإجارة: 261 و المحقّق الأصفهاني في بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 185.

(3) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 261.

(4) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 185.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 497

..........

______________________________

و أمّا باب تزاحم الحقّين أو الحقوق فالظاهر أنّه لا مجال فيه للترجيح و التخيير، بل اللّازم رعاية كلا الحقّين بحسب الإمكان؛ بمعنى الجمع بينهما على ما تقتضيه قاعدة العدل و الإنصاف نظير مسألة الدرهم المشهورة في باب الوديعة، بل هنا أولى؛ لأنّ الدرهم في ذلك الباب ملك لأحد الودعيّين بالخصوص واقعاً، و هنا يكون الحقّان ثابتين بلا إشكال على ما هو المفروض، و لم يعهد في مثل هذا الباب رعاية الترجيح، أ ترى ثبوت الترجيح في باب الدين للمتعدّد مع عدم وفاء التركة بالجميع.

اللّهم إلّا أن يقال بعدم كون المقام من باب تزاحم الحقّين، و إن اشتهر التعبير في باب الأجير بثبوت حقّ للمستأجر عليه، و كذا في باب النكاح بثبوت الحقّ للزوج على الزوجة، إلّا انّه ليس في البابين إلّا مجرّد التكليف، و ليس الحقّ المقابل له ثابتاً في البين، أمّا في باب الأجير فلأنّ القدر المسلّم بمقتضى وجوب الوفاء بعقد الإجارة إنّما هو لزوم الإتيان بالعمل المستأجر عليه، سواء كان عملًا خاصّاً كما في الأجير الخاصّ أو مطلق العمل كما في الأجير

العامّ، و ليس هنا ما يدلّ على كون المستأجر مالكاً لمنفعة الأجير كما في إجارة الأعيان المملوكة، فإنّه مع عدم كون الأجير الحرّ مالكاً لمنافع لنفسه و عدم اعتبار الملكيّة له كيف يصير الغير مالكاً لها.

هذا، مضافاً إلى أنّ الاعتبار العقلائي في الأجير الذي تخلّف عن الوفاء بالعقد إنّما يساعد على عدم ثبوت الضمان. غاية الأمر عصيانه للتكليف اللزومي فقط، و هذا دليل على عدم ثبوت حقّ و ملكيّة في البين. و أمّا في باب النكاح فلأنّ المقدار الثابت فيه أيضاً إنّما هو وجوب متابعة الزوجة للزوج إذا طالبها بالاستمتاع وجوباً تكليفياً، و ليس هنا ما يدلّ على ثبوت أزيد من ذلك، و حينئذٍ تندرج المسألة بعد عدم كون المقام من باب تزاحم الحقّين في باب تزاحم التكليفين، و الحكم فيه الترجيح ثمّ التخيير.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 498

..........

______________________________

هذا، و الظاهر أنّه لا يمكن الالتزام بمجرّد ثبوت التكليف في البابين من دون أن يكون هنا حقّ في البين، أمّا في الأجير فلأنّ دعوى ذلك فيه تلازم القول بخروجه عن حقيقة الإجارة؛ لأنّ مقتضاها ثبوت ملك أو حقّ للمستأجر، فمع عدم كلا الأمرين على ما هو المفروض لا بدّ من الالتزام بالخروج عن هذه الحقيقة، و من الواضح عدم مساعدة الشرع و لا العرف عليه. هذا، مضافاً إلى أنّ جواز إجارة الأجير من مستأجر آخر دليل على ثبوت حقّ أو ملك للمستأجر ينتقل بالإجارة الثانية إلى المستأجر الثاني.

و دعوى أنّ الأجير لم يكن مالكاً لمنافع نفسه فكيف تعتبر ملكيّة الغير لها، مدفوعة بأنّ المدّعى ليس خصوص الملكيّة، بل أعمّ منها و من الحقّ، و من الواضح ثبوت حقّ الانتفاع للأجير قبل

إجارة نفسه، فلا مانع من انتقال هذا الحقّ بالإجارة إلى المستأجر، مضافاً إلى أنّ اعتبار الملكيّة بسبب الإجارة لا يلازم ثبوتها قبلها كما لا يخفى، و عدم ثبوت الضمان في الأجير المتخلف مع أنّه ممنوع لا دلالة فيه على عدم ثبوت حقّ في البين، فتدبّر.

و أمّا في باب النكاح فلأنّ ترتّب النشوز على مخالفة الزوجة و عدم تمكينها دليل على عدم كون المخالفة مضافة إلى مجرّد التكليف، فالظاهر أنّ المقام من باب تزاحم الحقّين، و قد عرفت أنّ حكمه بمقتضى قاعدة العدل و الإنصاف هو التقسيط.

نعم، يمكن أن يقال بالرجوع إلى القرعة و ترجيح ما استخرج بها، و لكنّ الظاهر عدم جريان أدلّة القرعة هنا، أمّا على مسلك الأصحاب «1» من كون الرجوع إليها

______________________________

(1) فرائد الأُصول: 3/ 386، نهاية الأفكار: 4/ القسم الثاني: 107، أجود التقريرات: 4/ 261، الرسائل للإمام الخميني قدس سره: 1/ 346.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 499

..........

________________________________________

لنكرانى، محمد فاضل موحدى، تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، در يك جلد، مركز فقهى ائمه اطهار عليهم السلام، قم - ايران، اول، 1424 ه ق

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة؛ ص: 499

______________________________

إنّما هو في خصوص ما إذا عمل الأصحاب بعموماتها، نظراً إلى عدم إمكان العمل بظاهرها فواضح؛ لعدم عملهم بها في المقام، و أمّا على ما هو التحقيق عندنا تبعاً لسيّدنا العلّامة الأُستاذ الماتن دام ظلّه «1» في مصبّ أخبار القرعة «2» من كون موردها خصوص باب تزاحم الحقوق، الذي يكون الرجوع فيه إلى القرعة ثابتاً عند العقلاء أيضاً كما قرّر في محلّه «3»، فالظاهر عدم جريانها بناءً عليه أيضاً؛ لأنّ موردها الأمر المشكل

في الحقوق المتزاحمة، و في المقام لا إشكال بعد جريان قاعدة العدل و الإنصاف المقتضية للتقسيط. نعم، لا مانع من الرجوع إلى القرعة بعد التقسيط؛ لتعيين من تجب رعاية حقّه أوّلًا من الزوج أو المستأجر، فتدبّر.

ثمّ إنّ صاحب الجواهر قدس سره بعد حكمه بصحّة الإجارة في مفروض المسألة فيما إذا لم يمنع الرضاع حقّ الزوج، و لم يكن بين الأمرين منافاة لغيبته أو مرضه أو غير ذلك من موانع الاستمتاع، حكم بوجوب تقديم حقّ الزوج على حقّ المستأجر لو فرض اتفاق إرادة الاستمتاع في الزمان المزبور بسبب عود الزوج أو زوال المرض، و أنّه تنفسخ الإجارة في الزمان المزبور و يتسلّط المستأجر على فسخ الباقي «4»، و احتمال كون المراد فسخ المرأة الإجارة في ذلك الزمان كما حكي عن بعض نسخ الجواهر «5» بعيد في الغاية، بل مقطوع الخلاف.

______________________________

(1) الرسائل للإمام الخميني قدس سره: 1/ 346 348.

(2) وسائل الشيعة: 27/ 249 263، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم ب 12 و 13، مستدرك الوسائل: 17/ 373، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم ب 11.

(3) القواعد الفقهية للمؤلّف دام ظله: 1/ 429.

(4) جواهر الكلام: 27/ 297.

(5) الحاكي هو المحقّق الأصفهاني في بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 185.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 500

..........

______________________________

و قال المحقّق الإصفهاني قدس سره في باب ثبوت الخيار للمستأجر: و أمّا حديث فسخ المستأجر لتعذّر التسليم ففيه: أنّه يمتنع حصوله بعد فرض تقديم حقّ الزوج، و لا ضرر هنا بحيث ينجبر بالخيار؛ لأنّ الضرر إن كان فوات الغرض المعاملي فهو لا يحصل بالفسخ. و إن كان ضرر الصبر إلى أن يتيسّر كما في تعذّر المبيع الشخصي فهو على الفرض ممتنع

الحصول، لا أنّه ممكن التحصيل بالصبر بل بانقضاء المدّة يستحيل حصول المنفعة الموقّتة. و إن كان بلحاظ ذهاب الأُجرة هدراً فالمفروض أنّه ملك المنفعة في قبالها، و الآن على حاله على الفرض، و حيث إنّها فوّتت المنفعة على المستأجر بتقديم حق الزوج فهي ضامنة لمالية المنفعة للمستأجر، فإنّ جواز الإتلاف بل وجوبه لا ينافي الضمان، و لا ضرر عليها لفرض بقاء الأُجرة المسمّاة على ملكها، فمقتضى القواعد عدم الخيار لا للزوجة و لا للمستأجر «1».

أقول: أمّا ثبوت الخيار للزوجة فلا ينبغي احتماله؛ لأنّه لا وجه له أصلًا، و أمّا ثبوته للمستأجر فالمستفاد من كلام المحقّق المزبور أنّ الوجه في ثبوته منحصر بالضرر المتحقّق على فرض عدمه، و هو منفيّ في الشريعة مع أنّ الأمر ليس كذلك. أمّا أوّلًا: فلعدم انحصار الوجه فيه، بل مجرّد تخلّف المعقود عليه يكفي في ثبوت الخيار، و إن لم يكن هنا ضرر أصلًا، فضلًا عمّا إذا كان و لم ينجبر بالخيار كما في مفروض المقام، و الدليل عليه ثبوته في جميع موارد التخلّف عند الشرع و العرف، فيعلم منه أنّ الملاك فيه ليس هو الضرر حتّى يدور مداره. و أمّا ثانياً: فلأنّ الضرر على فرض ثبوته و انجباره بالخيار لا يوجب الخيار؛ لما مرّ غير مرّة من أنّ حديث

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 185 186.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 501

..........

______________________________

نفي الضرر «1» لا يدلّ على أزيد من نفي اللزوم فيما لو كان ضرريّاً على سبيل التكليف، و لا دلالة فيه على إثبات حق الخيار الذي يترتّب عليه أحكام الحقّ؛ من جواز الإسقاط و السقوط و الإرث و غيرها من سائر الأحكام. هذا تمام

الكلام في الفرع الأوّل.

و منها: ما لو آجرت نفسها للإرضاع قبل النكاح، و الإجارة قد تكون خاصّة و قد تكون مطلقة، و على التقديرين فالنكاح تارةً على نحو الدوام، و أُخرى على سبيل الانقطاع، و مجمل القول في هذه الصور أنّه يبحث فيها تارةً عن إمكان الحكم ببطلان الإجارة مع فرض تقدّمها على النكاح، و كون الشخص مالكاً للمنافع ملكيّة مرسلة أبدية غير متوقّفة على مجي ء زمان استيفائها، و أُخرى عن مقتضى القواعد و الأُصول بعد الفراغ عن إمكان الحكم ببطلان الإجارة السابقة.

أمّا الإمكان فلا ينبغي الارتياب في ثبوته و أنّه يمكن للشارع المقدّس الحكم بالبطلان؛ لاهتمامه بالأمر اللّاحق الطارئ مع فرض عدم إمكان اجتماع الأمرين و عدم القدرة على رعاية كلا الحقّين، و يمكن فرض ذلك في باب الاسترقاق، فإنّه لو كان الحرّ المسترق أجيراً لآخر مثلًا قبل استرقاقه فبمجرّد الاسترقاق تبطل الإجارة السابقة و يترتّب عليه جميع أحكام العبودية، و دعوى أنّ ذلك إنّما هو لتبدّل الموضوع و تغيّر العنوان، فإنّه كان في السابق حرّا مالكاً لنفسه و مسلّطاً عليها و في اللّاحق يكون عبداً مملوكاً لا يقدر على شي ء، مدفوعة بثبوت مثل ذلك في المقام أيضاً، فإنّها كانت قبل غير مزوّجة و في الحال مزوّجة، فهذه الجهة مشتركة، و كيف كان، فالإشكال في أصل الإمكان ممّا لا ينبغي توهمه.

______________________________

(1) وسائل الشيعة: 25/ 427، كتاب إحياء الموات ب 12.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 502

..........

______________________________

و أمّا القواعد و الأُصول فالظاهر أنّه لا دلالة لشي ء منها على أنّ عروض النكاح يقتضي بطلان الإجارة، خصوصاً إذا كانت الإجارة مطلقة، فإنّه بعد ما كان الأجير مالكاً للمنافع ملكيّة مرسلة دائمية، و في

حال وقوع الإجارة لم يكن للزوج سلطنة عليها لعدم تحقّق الزوجية بعد، فلا وجه لدعوى اقتضاء مجرّد صحّة النكاح اللاحق لبطلان السابق، بل تصير حال الزوجة حال الدار المستأجرة المسلوبة المنفعة المنتقلة إلى المشتري كذلك.

نعم، في مقام اجتماع الحقين و عدم إمكان رعايتهما معاً بأن طالبها الزوج و المستأجر بالاستمتاع و الإرضاع، و لم يمكن الجمع بينهما إن قلنا بأنّ السبق الزماني للإجارة يوجب ترجيحها، كما هو المنسوب إلى ظاهر الأصحاب «1» يجب عليها تقديم حقّ المستأجر. و إن قلنا: بأنّ مجرّد السبق كذلك لا أثر له في مقام الترجيح كما هو الظاهر تصل النوبة إلى التخيير، بناءً على كون المقام من باب تزاحم الحكمين، و إلى قاعدة العدل و الإنصاف المقتضية للتقسيط، بناءً على عدم كون مثل المقام من ذلك الباب كما نفينا البُعد عنه، فتدبّر.

______________________________

(1) تذكرة الفقهاء: 2/ 299، مسالك الأفهام: 5/ 208، مفتاح الكرامة: 7/ 152، جواهر الكلام: 27/ 297.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 503

[العمل تبرّعاً عن العامل أو المالك

] مسألة 33: لو استؤجر لعمل من بناء و خياطة ثوب معيّن أو غير ذلك لا بقيد المباشرة فعمله شخص آخر تبرّعاً عنه كان ذلك بمنزلة عمله فاستحقّ الأُجرة المسمّاة، و إن عمله تبرّعاً عن المالك لم يستحقّ المستأجر شيئاً، بل تبطل الإجارة لفوات محلّها، و لا يستحقّ العامل على المالك اجرة (1).

______________________________

(1) أمّا استحقاق الأُجرة المسمّاة فيما لو عمله المتبرّع بقصد التبرّع عن الأجير فلوضوح أنّ العمل المستأجر عليه لم يكن مقيّداً بقيد المباشرة على ما هو المفروض، كما أنّه لا إشكال في جواز التبرّع في مثل ذلك ممّا كان في الذمّة عيناً كان أو عملًا مملوكاً لغيره عليه، و يساعده

بناء العقلاء عليه، فقد تحقّق العمل المستأجر عليه من الأجير بلحاظ التبرّع الذي هو نوع من النيابة، فيستحق الأُجرة المسمّاة بلا إشكال.

و أمّا عدم استحقاق المستأجر شيئاً من الأُجرة المسمّاة و غيرها في الفرض الثاني، الذي صدر العمل من المتبرّع بقصد التبرع عن المالك فلبطلان الإجارة بفوات محلّها، نظير الإجارة على قلع السنّ إذا زال ألمه قبل القلع، و خياطة الثوب إذا سرق أو حرق قبلها، و مجرّد تحقّق العمل في الخارج لا يوجب الاستحقاق؛ لعدم انطباق ما في الذمّة عليه إلّا بالقصد، و لذا ذكروا في باب الدين أنّ المديون إذا أعطى الدائن ما يساوي الدين لا يكون وفاءً إلّا مع قصد الوفاء، كما أنّ عدم استحقاق العامل على المالك أُجرة إنّما هو لفرض التبرّع الذي مرجعه إلى النيابة مجّاناً و بلا قصد العوض، فلا وجه لاستحقاقه أصلًا.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 505

[أخذ الأُجرة على الواجب

] مسألة 34: لا يجوز للإنسان أن يؤجر نفسه للإتيان بما وجب عليه عيناً كالصلوات اليومية، و لا ما وجب عليه كفائيّاً على الأحوط إذا كان وجوبه كذلك بعنوانه الخاصّ، كتغسيل الأموات و تكفينهم و دفنهم. و أمّا ما وجب من جهة حفظ النظام و حاجة الأنام، كالصناعات المحتاج إليها و الطبابة و نحوها فلا بأس بالإجارة و أخذ الأُجرة عليها، كما أنّ إجارة النفس للنيابة عن الغير حيّاً و ميّتاً فيما وجب عليه و شرّعت فيه النيابة لا بأس به (1).

______________________________

(1) قد وقع الكلام في جواز أخذ الأُجرة على الواجب تعبّدياً كان أو توصّلياً، عينياً أو كفائياً، تخييريّاً كان أو تعيينيّاً، و نسب إلى المشهور القول بالعدم «1»، بل قد ادّعي الإجماع عليه كما في

محكي مجمع البرهان «2» و جامع المقاصد «3»، و لعلّه يجي ء التكلّم على هذه الجهة.

و كيف كان، فهل يجوز أخذ الأُجرة على الواجب مطلقاً، أو لا يجوز كذلك، أو يفصّل بين التعبّدي و التوصّلي، أو بين العيني و الكفائي، أو فيه بين القسمين الأوّلين، أو فيه بين ما إذا كان وجوبه بعنوانه الخاصّ، و ما إذا كان وجوبه من جهة حفظ النظام كما في المتن؟ وجوه و احتمالات.

و ليعلم أنّ موضوع المسألة ما إذا كان عقد الإجارة الواقعة على الواجب صحيحاً و واجداً لجميع الأُمور المعتبرة فيه عدا كون متعلّقه واجباً على الأجير

______________________________

(1) مسالك الأفهام: 3/ 130، الحدائق الناضرة: 18/ 211، مفاتيح الشرائع: 3/ 11، مفتاح الكرامة: 4/ 92، جواهر الكلام: 22/ 116، كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري: 2/ 125.

(2) مجمع الفائدة و البرهان: 8/ 89.

(3) راجع جامع المقاصد: 4/ 35 37.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 506

..........

______________________________

و لازماً عليه إتيانه شرعاً، فإنّه لذلك وقع الكلام في أنّ وجوبه على الأجير هل يوجب بمجرّده اختلال بعض الأُمور المعتبرة في الإجارة من حيث المتعلّق أو لا؟ و أمّا لو فرض بطلانها بسبب أمر آخر كما إذا لم يكن للمستأجر غرض عقلائي و نفع دنيويّ، أو أُخرويّ أو غيرهما فهو خارج عن مفروض البحث، فاستئجار الشخص لفعل صلاة الظهر عن نفسه باطل؛ من حيث إنّه لا يكون في ذلك غرض عقلائيّ للمستأجر لا لكون الفعل واجباً على الأجير.

نعم، لو فرض ثبوت غرض عقلائيّ في مثله كما أنّه أراد اعتياد ولده بالصلاة بحصول التمرين عليها و لو من ناحية دفع الأُجرة إليه و استئجاره عليها فهو يدخل في محلّ النزاع.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ

الكلام تارة يقع في ثبوت المنافاة بين الوجوب بما هو وجوب و بين أخذ الأُجرة و عدمه. و أُخرى في ثبوت المنافاة بين الوجوب التعبّدي بما هو تعبدي لأخذ الأُجرة و عدمه، و على هذا التقدير لا فرق بين الواجب و المستحبّ. و ثالثة في منافاة الوجوب التعبّدي النيابي لأخذ الأُجرة و عدمه، و على هذا التقدير أيضاً لا يكون فرق بينهما، فالكلام يقع في مقامات:

المقام الأوّل: في منافاة الوجوب بما هو وجوب لأخذ الأُجرة و عدمها، و قد استدلّ لها بوجوه:

منها: أنّه يعتبر في صحّة الإجارة أن يكون متعلّقها مملوكاً للأجير حتّى يصحّ نقله إلى المستأجر، سواء كان اعتبار المملوكية ثابتاً له قبل العقد، كمنافع الدار المملوكة لصاحبها قبل الإجارة و عمل العبد المملوك لمولاه كذلك، أو كان اعتبار المملوكية بعد العقد كعمل الحرّ، فإنّه و إن لم يعتبر مملوكاً لعامله قبل العقد إلّا أنّه بالعقد يعتبر مملوكاً للمستأجر، و تعلّق الوجوب به يوجب أن لا يكون مملوكاً

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 507

..........

______________________________

للفاعل حتّى يصحّ نقله إلى الغير؛ لأنّه يصير حينئذٍ مستحقّاً للّٰه تعالى و المملوك المستحقّ لا يستحقّ ثانياً، أ لا ترى أنّه إذا آجر نفسه لدفن الميّت لشخص لم يجز له أن يؤجر نفسه ثانياً من شخص آخر لذلك العمل، و ليس ذلك إلّا لأنّ الفعل صار مملوكاً للأوّل و مستحقّاً له، فلا معنى لتمليكه ثانياً.

أقول: هذا الوجه هو أقوى الوجوه التي استدلّ بها في جامع المقاصد و كشف الغطاء، و لو تمّ لكان مقتضاه القول بعدم الجواز مطلقاً. نعم، ظاهره الاختصاص بالواجب العيني، و يمكن تقريره في الواجب الكفائي بأن يقال: إنّ العمل قبل صدوره

من العامل و إن لم يكن مملوكاً له تعالى لأنّ المفروض عدم تعيّنه عليه إلّا أنّه بعد الصدور يتّصف بكونه مملوكاً له تعالى بمعنى أنّه صدر ما يكون بعد الصدور غير مملوكاً إلّا للّٰه، فلا يمكن أن تتعلّق به الإجارة المقتضية لكون العمل صادراً مملوكاً للمستأجر، كما لا يخفى.

و لكن أصل الوجه لا يخلو عن خدشة بل منع، فإنّ الوجوب الذي هو بمعنى مجرّد بعث الغير إلى إتيان العمل لا يوجب أن يكون ذلك العمل مملوكاً للباعث و مستحقّاً له بحيث ينافي مملوكية الغير؛ لأنّ مطلوبية الصدور و تحريك المأمور إلى الإصدار أمر، و مملوكية الفعل الصادر و استحقاقه أمر آخر لا يرتبط أحدهما بالآخر، و لو كان الوجوب مساوقاً للملكية لما صحّ أمر أحد الأبوين إلى شي ء بعد أمر الآخر به؛ لأنّه إذا قال الأب: أكرم زيداً مثلًا، فمقتضى وجوب إطاعته الثابت بالشرع و كونه مساوقاً للملكية على ما هو المفروض هي صيرورة العمل و هو إكرام زيد مملوكاً للأب و مستحقّاً له، و حينئذٍ فكيف يمكن أن يؤثّر أمر الأُمّ في الوجوب المساوق لها بعد عدم إمكان أن يصير المملوك المستحقّ مملوكاً ثانياً، فاللّازم هو القول بلغوية أمرها مع أنّ من الواضح خلافه، و ليس ذلك إلّا لعدم

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 508

..........

______________________________

كون الوجوب موجباً لمملوكية الواجب للموجب، كيف و قد حقّقنا في علم الأُصول أنّ متعلّق الأحكام إنّما هي نفس الطبائع و العناوين لا الأفراد و الوجودات؛ لأنّها قبل التحقّق ليست بفرد و بعده يحصل الغرض المطلوب منها فيسقط الأمر، و الطبيعة لا معنى لكونها مملوكة أصلًا.

و منها: ما ذكره كاشف الغطاء و تبعه المحقّق النائيني

قدس سره على ما في التقريرات «1»، و تقريره على ما فيها بنحو التلخيص أنّه يعتبر في الإجارة و ما يلحق بها من الجعالة أن يكون العمل الذي يأخذ الأجير أو العامل بإزائه الأُجرة و الجعل ملكاً له، بأن لا يكون مسلوب الاختيار بإيجاب أو تحريم شرعي عليه؛ لأنّه إذا كان واجباً عليه فلا يقدر على تركه، و إذا كان محرّماً عليه فلا يقدر على فعله، و يعتبر في صحّة المعاملة على العمل كون فعله و تركه تحت سلطنته و اختياره، و من هنا لا يجوز أخذ الأُجرة على الواجبات لعدم القدرة على تركها، و لا على المحرّمات لعدم القدرة على فعلها، فلا يجوز لشاهد الزور أخذ الأُجرة على شهادته؛ لخروج عمله عن تحت سلطنته بنهي الشارع، فلا يقدر على فعله، فأخذ الأُجرة أكل للمال بالباطل.

و أمّا الواجبات النظاميّة فيجوز أخذ الأُجرة عليها ما عدا القضاء؛ لأنّ الأجير فيها مالك لعمله و قادر عليه؛ لأنّ الواجب عليه هو بذل عمله بالمعنى المصدري لا نتيجة عمله التي هي معنى الاسم المصدري، و هما و إن لم يكونا أمرين متمايزين إلّا أنّهما شيئان اعتباراً، فللشارع التفكيك بين وجوب المصدر و ملكيّة اسم المصدر. و أمّا التكليف في باب القضاء، فقد تعلّق بنتيجة عمل القاضي و هو فصله

______________________________

(1) منية الطالب: 1/ 45 47.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 509

..........

______________________________

الخصومة، فلا يجوز له أخذ الأُجرة عليه بخلاف غيره من الطبيب و الخيّاط و الصبّاغ.

و كيف كان، لو وجب بذل العمل و حرم احتكاره فلا مانع من أخذ الأُجرة عليه، و لو وجب عليه نتيجة العمل فلا يجوز أخذ الأُجرة؛ لأنّ المعنى المصدري آليّ و

لا يقابل بالمال و اسم المصدر خارج عن ملكه.

و فيه وجوه من النظر:

الأوّل: أنّ المراد بالقدرة المعتبرة في صحّة الإجارة و الجعالة و نحوهما إن كان هي القدرة على فعل العمل و تركه حقيقة و تكويناً فلا شبهة في عدم منافاتها مع تعلّق التكليف الوجوبي أو التحريمي، كيف و وجودها شرط في تعلّق كلّ واحد منهما كما هو واضح، و إن كان المراد بها هي القدرة شرعاً بمعنى أن يكون العمل جائز الفعل و الترك عند الشارع لا أن يكون واجباً أو محرماً، فيرد عليه أنّ الاستدلال بهذا النحو مصادرة؛ لأنّ مرجع ذلك إلى أنّه يعتبر في صحّة الإجارة على العمل عدم كونه واجباً، و هذا عين المدّعى.

الثاني: أنّ بطلان الإجارة على فعل شي ء من المحرّمات ليس لعدم كونه قادراً عليه شرعاً، و القدرة بهذا المعنى معتبرة في صحّتها، بل لأنّه لا يعقل اجتماع الأمر بالوفاء بها مع النهي عن فعل شي ء منها، فمع ثبوت الثاني كما هو المفروض لا يبقى مجال للأوّل.

و ليعلم أنّ المراد بالقدرة على التسليم التي اعتبرها الفقهاء في صحّة المعاملة ليس هي القدرة المبحوث عنها في الكتب العقلية، التي مرجعها إلى صحّة الفعل و الترك، كيف و هم يحكمون بصحّة المعاملة فيما لم يتحقّق فيه هذا المعنى، أ لا ترى أنّهم يحكمون بالصحّة فيما لو كان المبيع عند المشتري الغاصب و لم يكن البائع قادراً

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 510

..........

______________________________

على أخذه منه بوجه حتّى يصحّ منه التسليم و عدمه، و كذلك يحكمون بالصحّة فيما لم يكن البائع قادراً على التسليم بهذا المعنى و لكن المشتري يقدر على الوصول إليه «1»، و السرّ أنّ هذا

العنوان لم يكن مأخوذاً في شي ء من النصوص حتّى يتّبع ما هو ظاهره، بل هو شي ء يحكم به العقل لإخراج المعاملات السفهية الواقعة على مثل السمك في الماء و الطير في الهواء، فمرجع اعتباره إلى لزوم اشتمال المعاملة على غرض عقلائي و هو موجود في المقام، فلا وجه للإشكال في جواز أخذ الأُجرة على الواجب من هذه الجهة.

ثمّ إنّه لو سلّم اعتباره في صحّة المعاملة بالمعنى الراجع إلى صحّة الفعل و الترك، و سلم أيضاً أنّ تعلّق الإيجاب أو التحريم الشرعي ينافيه، فدعوى ثبوته في الواجبات النظامية ما عدا القضاء، نظراً إلى أنّ الوجوب تعلّق بالمصدر و الأُجرة واقعة في مقابل اسم المصدر، ممنوعة لاعترافه قدس سره بأنّ التغاير بين الأمرين إنّما هو بحسب الاعتبار و إلّا فهما في الواقع شي ء واحد، و حينئذٍ فيقال عليه: إنّه كيف يمكن أن يكون الشي ء الواحد مقدوراً و غير مقدور معاً، فمع فرض تعلّق الوجوب به المنافي لكونه مقدوراً كيف يعقل أن يكون مقدوراً أيضاً، و إن شئت قلت: إنّه كيف تجتمع مقدورية اسم المصدر مع خروج نفس المصدر عن تحت الاختيار بعد تبعيّته له، بل عينيّته معه كما هو ظاهر.

الثالث: أنّ التفصيل بين القضاء و غيره من الواجبات النظامية بكون الواجب فيه هو اسم المصدر دونها ممنوع؛ لأنّ الواجب في باب القضاء أيضاً هو فصل الخصومة بالمعنى المصدري و هو الحكم و القضاء لا كون الخصومة مفصولة،

______________________________

(1) الروضة البهية: 3/ 250، مسالك الأفهام: 3/ 172، كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري: 4/ 190 191.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 511

..........

______________________________

و الدليل على ذلك مراجعة كتاب القضاء، فإنّ الأحكام المذكورة فيه إنّما تكون مترتّبة على نفس

القضاء.

و منها: أنّ الظاهر من تعلّق الوجوب بشي ء كون المطلوب إتيانه مجّاناً و بلا عوض، فأخذ الأُجرة عليه ينافي ذلك.

و يرد عليه منع ذلك؛ لأنّه مجرّد ادّعاء بلا بيّنة و برهان.

و منها: أنّ المعهود في باب الإجارة كون العمل الذي استؤجر عليه بيد المستأجر من حيث الإسقاط و الإبراء و التأجيل و التعجيل، و لو قيل بصحّة الإجارة في المقام يلزم نفي تلك الآثار الثابتة في كلّ إجارة، فيستكشف من ذلك بطلانها.

و يرد عليه منع انتفاء هذه الآثار في الإجارة على الواجب، فإنّه يمكن للمستأجر الإسقاط و يسقط حقّه بذلك، و لا ينافي ذلك ثبوت حقّ من اللّٰه تعالى. و تظهر الثمرة فيما لو لم يكن المكلّف مريداً لإطاعة أمر اللّٰه تعالى، فإنّه يستحقّ الأُجرة مع الإسقاط.

و منها: ما عن الشيخ الأعظم قدس سره في مكاسبه من أنّ عمل المسلم مال لكنّه غير محترم مع الوجوب؛ لكون العامل مقهوراً عليه من دون دخل إذنه و رضاه، فالإيجاب مسقط لاعتبار إذنه و رضاه المقوّمين لاحترام المال «1».

و أجاب عنه المحقّق الإصفهاني قدس سره: بأنّ لمال المسلم حيثيّتين من الاحترام: إحداهما: حيثيّة إضافته إلى المسلم، و هذه الحيثيّة تقتضي احترامها أن لا يتصرّف أحد فيه بغير إذنه و رضاه، و له السلطان على ماله و ليس لأحد مزاحمته في سلطانه، و هي الثابتة بقوله عليه السلام: لا يجوز لأحد أن يتصرّف في مال غيره بغير

______________________________

(1) كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري: 2/ 135.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 512

..........

______________________________

إذنه «1»، و بقوله عليه السلام: لا يحلّ مال امرئ إلّا عن طيب نفسه «2».

ثانيتهما: حيثيّة ماليّته، و مقتضى حرمتها أن لا يذهب هدراً و بلا

تدارك، فلا يجوز أن يعامل مع مال المسلم معاملة الخمر و الخنزير ممّا لا مالية له شرعاً و لا يتدارك بشي ء أصلًا، و من الواضح أنّ الإيجاب و اللابديّة و المقهوريّة و سقوط إذنه و رضاه كلّها موجبة لسقوط احترام العمل من الحيثيّة الأُولى دون الحيثية الثانية، و لذا جاز أكل مال الغير في المخمصة من دون إذنه مع بقاء المال على حاله من احترامه، و لذا يضمن قيمته بلا إشكال، مضافاً إلى أنّ هدر المال غير هدر الماليّة كما في مال الكافر الحربي، فإنّه ساقط الاحترام من الجهتين، فيجوز أخذه منه و تملّكه بغير عوض بدون إذنه، و مع ذلك فهو مال و مملوك للحربي، و لذا يجوز إيقاع المعاملة عليه و استئجاره على عمله، و ما يضرّ بالإجارة هدر المالية لا هدر المال «3».

و منها: غير ذلك من الوجوه الضعيفة غير التامّة، فالمتحصّل في هذا المقام أنّ الوجوب بما هو وجوب لا ينافي جواز أخذ الأُجرة، و لم يقم دليل على عدم جواز الاستئجار على الواجب بما هو كذلك.

المقام الثاني: في منافاة العباديّة للإجارة و عدمها، فنقول

______________________________

(1) كمال الدين و تمام النعمة: 520 ح 49، الاحتجاج: 2/ 297 300، وسائل الشيعة: 9/ 540، كتاب الخمس، أبواب الأنفال ب 3 ح 7.

(2) تحف العقول: 33، وسائل الشيعة: 5/ 120، كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلّي ب 3 ح 3، عوالي اللئالي: 2/ 113 ح 309 و ج 3/ 473 ح 1، مستدرك الوسائل: 3/ 331، كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلّي ب 3 ح 1.

(3) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 197 198.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 513

..........

______________________________

ربما يقال بالمنافاة نظراً

إلى أنّ أخذ الأُجرة على العبادات ينافي القربة المعتبرة فيها فلا يجوز؛ لأنّه مع الأخذ لا يقدر على الإتيان بمتعلّق الإجارة، و القدرة عليه معتبرة في صحّتها بلا إشكال.

و قد تفصّي عنه بوجهين:

الأوّل: ما حكي عن صاحب الجواهر قدس سره من أنّ تضاعف الوجوب بسبب الإجارة لا ينافي الإخلاص بل يؤكّده «1».

و قد أورد عليه بأنّه إن أُريد أنّ تضاعف الوجوب يؤكّد اشتراط الإخلاص فلا ريب في أنّ الأمر الإجاري توصليّ لا يشترط في حصول ما وجب به قصد القربة، و إن أُريد أنّه يؤكّد تحقّق الإخلاص من العامل فهو مخالف للواقع قطعاً؛ لأنّ ما لا يترتّب عليه أجر دنيويّ أخلص ممّا يترتّب عليه ذلك بحكم الوجدان «2».

هذا، و لكنّ السيّد الطباطبائي قدس سره تصدّى في حاشية مكاسب الشيخ الأعظم قدس سره لتوجيه كلام صاحب الجواهر و بيان عدم المنافاة بين قصد القربة و أخذ الأُجرة، و قد ذكر في تقريره وجهين: أحدهما: هي المسألة الداعي على الداعي التي سيجي ء. ثانيهما: ما ملخّصه: أنّه يمكن أن يقال بصحّة العمل من جهة امتثال الأمر الإجاري المتّحد مع الأمر الصلاتي، فإنّ حاصل قوله: فِ «بإجارتك»، صلّ وفاءً بالإجارة. و دعوى كونه توصّلياً، مدفوعة:

أوّلًا: بأنّ غايته أنّه لا يعتبر في سقوطه قصد القربة، و إلّا فإذا أتى بقصد الامتثال يكون عبادة قطعاً، و لذا قالوا: إنّ العبادة قسمان: عبادة بالمعنى الأخصّ، و عبادة بالمعنى الأعمّ. و دعوى أنّ المعتبر قصد الأمر الصلاتي لا الأمر الإجاري، مدفوعة

______________________________

(1) جواهر الكلام: 22/ 117.

(2) كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري: 2/ 127.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 514

..........

______________________________

بالمنع. غاية الأمر أنّه يعتبر فيه كون الداعي هو اللّٰه من أيّ

وجه كان.

و ثانياً: لا نسلّم كونه توصّلياً مطلقاً بل هو تابع لمتعلّقه، فإن كان توصّلياً فهو توصّلي، و إن كان تعبّدياً فتعبّدي؛ لأنّ مرجع قوله تعالى أَوْفُوا بِالْعُقُودِ إلى قوله: صلّوا و صوموا و خيطوا و افعلوا كذا و كذا، فالأمر الإجاري عين الأمر الصلاتي، أ لا ترى أنّه لو لم يكن له داع إلى امتثال الأمر الندبي بالنافلة و نذرها و كان داعيه امتثال الأمر النذري كان كافياً في الصحّة «1».

و الحاصل: أنّ امتثال الأمر المتعلّق بالعمل من جهة وجوب الوفاء بالإجارة كافٍ في الصحّة.

إن قلت: إنّ ذلك مستلزم للدور؛ لأنّ الوجوب من حيث الإجارة موقوف على صحّتها، و هي موقوفة على صحّة العمل الموقوفة على الوجوب؛ لتوقّف قصد القربة المعتبرة فيه عليه.

قلت: التحقيق في الجواب أن يقال: إنّ المعتبر في متعلّق الإجارة ليس أزيد من إمكان إيجاده في الخارج في زمان الفعل، و في المقام كذلك. غاية الأمر أنّ تعلّق الإجارة و الأمر الإجاري سبب في هذا الإمكان، و هذا ممّا لا مانع منه. و حينئذٍ نقول: إنّ الوجوب من حيث الإجارة موقوف على صحّتها، و هي موقوفة على القدرة على إيجاد العمل صحيحاً في زمان الفعل، و هي حاصلة بالفرض و إن لم تكن حاصلة مع قطع النظر عن تعلّق الإجارة، و الحاصل أنّه لا يلزم في صحّة الإجارة إلّا إمكان العمل و لو بسببها، و أمّا الإمكان مع قطع النظر عنها فلا دليل على اعتباره.

أقول: لا يخفى أنّ الأمر الإجاري لا يعقل أن يكون متحداً مع الأمر الصلاتي،

______________________________

(1) حاشية السيّد اليزدي على المكاسب: 23.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 515

..........

______________________________

كيف و عنوان الوفاء بالإجارة مغاير لعنوان الصلاة،

و النسبة بينهما العموم من وجه، و لا يعقل أن يسري الأمر من متعلّقه إلى شي ء آخر مغاير له، و مجرّد اتّحاد الوفاء مع الصلاة خارجاً لا يوجب اتّحاد الأمرين بعد وضوح أنّ متعلّق الأحكام و التكاليف هي نفس الطبائع و العناوين كما حقّقناه في الأُصول، و حينئذٍ فيكف يعقل أن يكون الأمر بالوفاء داعياً إلى الصلاة مع أنّ الأمر لا يدعو إلّا إلى متعلّقه، فتصحيح العبادية بإتيان الصلاة بداعي الأمر المتعلّق بالوفاء بالإجارة ممّا لا يتم أصلًا، و تنظير ذلك بمسألة النذر و إن كان في محلّه إلّا أنّ كفاية الإتيان بداعي امتثال الأمر النذري فيها محلّ نظر بل منع، بل الظاهر فيها أيضاً لزوم الإتيان بالنافلة بداعي الأمر الاستحبابي المتعلّق بها، إذ النذر لا يوجب انقلاب النافلة فريضة، فلو نذر الإتيان بصلاة الليل مثلًا يصير ذلك موجباً للزوم الإتيان بها بما أنّها صلاة الليل و تكون متعلّقة للأمر الاستحبابي، و لذا لو حصل منه خلف النذر يعاقب لا على ترك صلاة الليل لأنّها مستحبّة، بل على عدم الوفاء بالنذر الذي كان واجباً.

و بالجملة: لا وجه لكفاية الإتيان بقصد امتثال الأمر الإجاري بعد وضوح عدم اتّحاده مع الأمر الصلاتي لاختلاف متعلقيهما، و منه ظهر فساد ما ذكره من تبعيّة الأمر الإجاري من حيث التعبّدية و التوصّلية لمتعلقه، فإنّه لا يسري إليه حتّى يكتسب منه ذلك كما عرفت، مضافاً إلى أنّ معنى الوفاء بالإجارة هو الإتيان بالعمل بما أنّه مستحقّ للغير و مملوك له، فلا يجتمع مع الإتيان به بداعي القربة، فتأمّل.

و كيف كان، فالإشكال لا يندفع بما ذكره لابتنائه على اتّحاد الأمرين، و قد عرفت منعه.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص:

516

..........

______________________________

الثاني: ما اختاره جمع من المحقّقين «1» من كون الأُجرة داعية لا في عرض داعي القربة بل في طوله، و تقريره كما أفاده السيّد قدس سره «2» في حاشية المكاسب مع توضيح منّا أن يقال: إنّ ما يضرّ بالإخلاص إنّما هو الداعي الدنيوي الذي هو في عرض داعي الامتثال، كالرياء و سائر الدواعي النفسانيّة. و أمّا إذا كان في طوله كما في مثل المقام؛ بأن كان الداعي على نفس العمل هو امتثال الأمر المتعلّق به، و الداعي على إتيان العمل بداعي امتثال أمره غرض آخر دنيوي أو أُخروي لا يرجع إلى اللّٰه تعالى، فلا بأس به، لعدم الدليل على لزوم أن تكون سلسلة العلل كلّها راجعة إلى اللّٰه، كيف و لازمه الحكم ببطلان عبادة جلّ الناس، بل كلّهم عدا من عصمه اللّٰه تعالى منهم؛ لأنّ داعيهم إلى امتثال أوامر اللّٰه إنّما هو الخوف من العقاب أو الطمع في الثواب، و هما و إن كانا من الأُمور الأُخروية إلّا أنّهما يشتركان مع المقاصد الدنيويّة في أنّه لا يرجع شي ء منهما إلى اللّٰه تعالى.

و دعوى أنّ قياس الأُجرة على الغايات المترتّبة بجعل إلهيّ مع الفارق؛ لأنّ سلسلة العلل إذا انتهت إلى اللّٰه تعالى فلا تخرج المعلول عن كونه عباديّاً، و هذا بخلاف ما إذا انتهت إلى غيره، فإنّه ليس من وظيفته جعل غاية للفعل بقصد الأمر، و بالجملة: فرق بين أن يأتي بالصلاة لأمر اللّٰه سبحانه حتّى يوسّع في رزقه، و أن يأتي لأمر اللّٰه حتّى يأخذ الأُجرة، مدفوعة بمنع انتهاء سلسلة العلل في عبادات العامّة إلى اللّٰه تعالى؛ لأنّ الجنّة مطلوبة لهم بما أنّها جنّة مشتملة على النعم التي لا تعدّ و لا تحصى، لا

بما أنّها مخلوقة للّٰه تعالى و لها إضافة إليه، و النار مبغوضة لهم

______________________________

(1) هداية الطالب إلى أسرار المكاسب: 116، بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 218 222، مستند العروة الوثقى، كتاب الإجارة: 380.

(2) حاشية السيّد اليزدي على المكاسب: 23.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 517

..........

______________________________

بذاتها، فإتيان الصلاة لأمر اللّٰه لأجل التوسعة في الرزق لا ينتهي إلى اللّٰه أصلًا؛ لأنّ محبوب النفس هي نفس التوسعة من حيث هي مع قطع النظر عن كونها بيد اللّٰه تعالى.

و بالجملة: الجنة و النار محبوبة و مبغوضة بما أنّها جنّة و نار، كيف و لو كان المحبوب هي الجنّة بما أنّها من نِعم اللّٰه تعالى و لها إضافة إليه بحيث كان مرجعه إلى محبوبيّته تعالى، لكان اللّازم الإتيان بالواجبات و لو لم يترتّب على فعلها دخول الجنّة أو ترتّب دخول النار، و لا نرى من أنفسنا ذلك أصلًا.

و الحاصل أنّ الداعي على العبادة في أكثر الناس بل جميعهم إلّا القليل منهم هو نفس الطمع في الجنّة بما أنّ فيها جميع المشتهيات، أو الخوف من العقاب بما أنّ في النار خلافها، و حينئذٍ لا يبقى فرق بينهما و بين المقاصد الدنيوية أصلًا، فاللّازم هو الالتزام بكفاية توسّط الامتثال، و إن كان الباعث عليه هو الغرض الدنيوي أو الأُخروي الذي لا يرجع إلى اللّٰه تعالى، و إلّا انحصرت العبادة فيما كان من أمير المؤمنين عليه السلام و غيره ممّن لا يرون إلّا أهليّة المعبود للعبادة «1».

و دعوى أنّه مع أخذ الأُجرة لا يتوسّط الامتثال أيضاً، مدفوعة بالمنع، فإنّ المكلّف بعد علمه بأنّ ملكيّة العوض تتوقّف على الإتيان بالعمل الصحيح و هو يتوقّف على قصد الامتثال يقصده لا محالة،

كما أنّه إذا علم أنّ الجنّة موقوفة على ذلك يقصده كذلك.

و أمّا ما عن الشهيد الأوّل قدس سره في قواعده «2» من قطع الأصحاب ببطلان العبادة إذا أتى بها بداعي الثواب أو دفع العقاب فالظاهر أنّ مراده ما إذا كانت الغاية المذكورة

______________________________

(1) بحار الأنوار: 41/ 14 و ج 70/ 186.

(2) القواعد و الفوائد: 1/ 77.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 518

..........

______________________________

غاية لنفس العمل لا للعمل المأتيّ به بداعي الأمر، كيف و قد عرفت أنّ الغاية في عبادات غالب الناس هي ما ذكر، فالمراد ما ذكرنا. و الوجه في البطلان عدم ترتّب الثواب على ذات العمل و لا يدفع به العقاب.

فالتحقيق في الجواب عن منافاة العبودية لأخذ الأُجرة ما ذكرنا من الوجه الثاني.

و ربما يقال في بيان المنافاة أيضاً: إنّ دليل صحّة الإجارة هو عموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ «1» و يستحيل شموله للمقام؛ لأنّ الوفاء بالشي ء عبارة عن إتمامه و إنهائه، فالوفاء بعقد الإجارة هو الإتيان بالعمل المستأجر عليه أداء لحقّ المستأجر، و من الواضح أنّ هذا لا يجتمع مع الإتيان به أداءً لحقّ اللّٰه و امتثالًا لأمره، فلا يعقل اجتماعهما في محلّ واحد.

و فيه مضافاً إلى عدم انحصار دليل صحّة الإجارة بالآية المذكورة، بل يدلّ عليها آية التجارة عن تراض «2» أيضاً-: أنّ الوفاء بالعقد لا يتوقّف على عنوان خاصّ، بل يكفي فيه إيجاد متعلّق العقد فقط في الخارج بأيّ نحو اتّفق، بل لا يلزم أن يكون الأجير مباشراً للإيجاد، فإنّه يكفي في حصول الوفاء الموجب لاستحقاق الأُجرة حصوله من المتبرّع بقصد التبرع عن الأجير كما تقدّم، فالمراد من الوفاء هو حصول المتعلّق في الخارج مضافاً إلى الأجير، و لا يتوقّف

على عنوان خاصّ أصلًا.

المقام الثالث: في منافاة الوجوب التعبّدي النيابي لأخذ الأُجرة و عدمها، و التحقيق أنّ ما يمكن أن يقع مورداً للبحث في هذا المقام بعد الفراغ عن المقامين المتقدّمين هي صحّة النيابة عن الغير في الأعمال العباديّة و لو لم تكن اجرة في البين

______________________________

(1) سورة المائدة 5: 1.

(2) سورة النساء 4: 29.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 519

..........

______________________________

و عدمها؛ لأنّه مع فرض الصحّة و المشروعيّة لا يبقى مجال للنزاع في جواز أخذ الأُجرة بعد ما ثبت في المقام الأوّل أنّ الوجوب بما هو وجوب لا ينافي جواز أخذها، و في المقام الثاني أنّ العبادية بما هي كذلك لا تنافيها، ضرورة أنّ النيابة إن كانت توصّلية و فرض وجوبها لجهة فلا مانع من الاستئجار عليها، و إن كانت غير توصّلية بل تعبّدية فهي أيضاً كذلك، فمدار البحث في هذا المقام هو أصل صحّة النيابة و عدمها، و لا وجه للنزاع في أنّ الأُجرة فيها في مقابل أيّ شي ء، كما لا يخفى.

إذا عرفت ذلك نقول: النيابة في العبادات الواجبة و المستحبّة ممّا دلَّ عليها ضرورة الفقه نصّاً و فتوى، و قد عقد في الوسائل باباً لاستحباب التطوّع بجميع العبادات عن الميّت «1». و قد ورد الأمر الاستحبابي بالنيابة عن الحيّ في بعض الموارد «2»، و ربما يؤيّد ذلك ما ورد في شأن بعض الواجبات الإلهية من أنّه دين اللّٰه «3»، بضميمة أنّ الاعتبار في باب دين الخلق أنّه كما أنّ المديون له السلطنة على إفراغ ذمّته من الدين، و جعل الكلّي المتعلّق بعهدته مشخّصاً في فرد يدفعه إليه بعنوان أداء الدين، كذلك هذه السلطنة ثابتة لغير المديون فإنّ له أن

يفرغ ذمّته بأداء دينه تبرّعاً و جعلت له هذه السلطنة أيضاً، فيمكن له أن يجعل الكلّي المتعلّق بعهدة المديون مشخّصاً في فرد يدفعه بذلك العنوان، فيقال في العرف: إنّه قضى عن فلان دينه، و هكذا في باب دين الخالق، حيث لا فرق بينه و بين دين الخلق من هذه الجهة.

و بالجملة: لا إشكال في مشروعية النيابة في العبادة في الجملة في الشريعة، و هذا يكفي لنا في هذا المقام و إن لم نقدر على تصويرها بحيث تنطبق على القواعد إلّا

______________________________

(1) وسائل الشيعة: 8/ 276 282، كتاب الصلاة، أبواب قضاء الصلاة ب 12.

(2) وسائل الشيعة: 11/ 196، كتاب الحج، أبواب النيابة في الحج ب 25

(3) المسند لابن حنبل: 1/ 489 ح 2005، سنن الدارمي 2/ 18 خ 1769، بحار الأنوار: 88/ 308 و 316

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 520

..........

______________________________

أن يقال بالاستحالة، فإنّها توجب صرف الأدلّة الظاهرة في المشروعية عن ظاهرها، و لأجله لا بدّ من البحث في هذه الجهة، فنقول:

ربما يقال بالاستحالة نظراً إلى أنّ التقرّب اللّازم في العمل العبادي النيابي غير قابل للنيابة، فتقرّب النائب يوجب قرب نفسه لا قُرب المنوب عنه، فالقرب المعنوي كالقرب الحسّي، فإنّ تقرّب شخص من شخص مكاناً يوجب قربه منه لا قرب غيره و إن قصده ألف مرّة، كما أنّه ربما يقال بها نظراً إلى أنّ النائب لا أمر له بذات العمل فلا يمكنه التقرّب، و أوامر النيابة توصلية، و على فرض تقرّب النائب بأمر النيابة فهو تقرّب له بالإضافة إلى أمر نفسه لا بأمر المنوب عنه المتعلّق بالمنوب فيه.

و أُجيب عن الوجه الثاني بوجوه:

منها: ما حكي عن بعض الأعلام في كتاب القضاء «1»

من أنّ النيابة من الأُمور الاعتبارية العقلائية التي لها آثار عند العقلاء، فإذا كانت ممضاة شرعاً كان مقتضاها ترتّب تلك الآثار عليها و إلّا فلا معنى لإمضائها، و كما أنّ الضمان أمر اعتباريّ عقلائيّ، و فائدته صيرورة الضامن بمنزلة المضمون عنه، و صيرورة ما في ذمّة المضمون عنه ديناً على الضامن، كذلك إذا كان المنوب فيه من العبادات، فإنّ معنى ترتّب فائدة النيابة الاعتبارية عليها شرعاً توجّه تكليف المنوب عنه إلى النائب، إذ لا معنى للمنزلة إلّا ثبوت ما كان للمنوب عنه في حقّ النائب من الأحكام التكليفيّة و آثارها.

و أُورد عليه بأنّه إن أُريد توجّه تكليف المنوب عنه إلى النائب حقيقة فهو محال؛ لأنّ الإضافات و الاعتباريات تشخّصها بتشخّص أطرافها، و يستحيل خروجها

______________________________

(1) كتاب القضاء للآشتياني: 29 و الحاكي هو المحقّق الأصفهاني في بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 229.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 521

..........

______________________________

من حدّ إلى حدّ مع بقائها على شخصيّتها. و إن أُريد انتساب تكليف المنوب عنه بعد التنزيل إلى النائب بالعرض نظراً إلى أنّ ذات النائب نزلت منزلة ذات المنوب عنه فهو هو بالعناية، فكذا فعله فعله بالعناية و أمره أمره كذلك، ففيه: أنّ التكليف العرضي لا يجدي في الانبعاث الحقيقي و هو مضايف للبعث الحقيقي، و قصد الامتثال متفرّع عليه.

و إن أُريد أنّ مقتضى تنزيل الذات منزلة ذات اخرى شرعاً جعل تكليف مماثل جدّاً لتكليف المنوب عنه نظير تنزيل المؤدّي منزلة الواقع في باب الخبر فالتكليف المماثل و إن كان حقيقيّا في حدّ نفسه إلّا أنّه بعناية أنّه الواقع فهو تكليف حقيقيّ من حيث ذاته و واقعي من حيث العنوان عناية فكذا هنا، فتكليف النائب

حقيقي من حيث نفسه و تكليف المنوب عنه عيناً بالعناية، فهو معنى صحيح و لكنّه يحتاج إلى الدليل، و ليس مجرّد الإمضاء دالّاً على هذا المعنى إلّا على تقدير عدم إمكان قصد الامتثال إلّا بتوجيه تكليف حقيقي إلى النائب مع أنّه ممكن «1».

و منها: أنّ مباشرة الفاعل قد تكون دخيلة في الغرض المترتّب من الفعل للمولى، فلا يسقط الأمر بفعل الغير و لو كان توصّلياً. و قد لا تكون لها دخل في الغرض، فيمكن أن يكون مثل هذا الأمر محرّكاً للغير نحو هذا الفعل مراعاة لصديقه و استخلاصاً له عن العقاب و عن بعده عن ساحة المولى، فيصحّ تقرّب النائب بأمر المنوب عنه.

و أُورد عليه بأنّ الغرض إن كان مترتّباً على فعل كلّ منهما بما هما هما فمثله يجب كفاية لا عيناً، و إن كان مترتّباً على فعل المنوب عنه فقط. غاية الأمر أنّه أعمّ من المباشري و التسبيبي، بل أعمّ ممّا بالذات و ما بالعرض، فمثله يوجب توجّه تكليف

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 229 230.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 522

..........

______________________________

حقيقي إلى المنوب عنه، فيحرّكه نحو الفعل الأعمّ، و يستحيل أن يكون المحرِّك له محرِّكاً لغيره و لو كان الغرض أعمّ. غاية الأمر سقوط التكليف بسقوط غرضه الحاصل بفعل الغير إذا كان توصّلياً، و حيث إنّ المفروض هي التعبّدية فلا يسقط الغرض إلّا مع قصد الامتثال، و هو متوقّف على محرّكية الأمر «1».

و منها: أنّ فعل النائب تارة باستنابة من المنوب عنه، و أُخرى بمجرّد نيابة الغير من دون استنابة، فإن كان بالنحو الأوّل فالمنوب عنه كما يتقرّب بأمره بفعله المباشري كذلك يتقرّب بأمره بفعله التسبيبي، فلا حاجة

إلى تقرّب النائب حتّى يطالب بالأمر المقرّب له، فالتوسعة حينئذٍ في الآلة العاملة لا في الأمر المتعلّق بالعمل. و إن كان بالنحو الثاني فرضي المنوب عنه بالفعل المنوب فيه كاف في تقرّبه و لا حاجة إلى تقرّب النائب، و مبنى الشقّين معاً على عدم لزوم قصد التقرّب من النائب أصلًا، بل يأتي بذات العمل القابل للانتساب إلى المنوب عنه و التقرّب به شأنه.

و أُورد عليه بأنّ الشق الأوّل مبنيّ على إمكان تعلّق التكليف بالأعمّ ممّا هو تحت اختياره و ما هو تحت اختيار الغير كما في المقام، حيث إنّه يتوسّط بين الفعل التسبيبي و بين ما يتسبّب إليه إرادة الفاعل المختار و هو محلّ الكلام، و الشقّ الثاني يرجع إلى الجواب عن الوجه الأوّل من وجهي الإشكال، فتدبّر «2».

و منها: ما أفاده المحقّق الإصفهاني قدس سره في كتاب الإجارة ممّا حاصله: أنّ دفع الإشكال موقوف على تقديم أمرين:

الأوّل: أنّ غاية كلّ فعل هي فائدته القائمة به، و هي بوجودها الخارجي غاية و بوجودها العلمي علّة غائية، و الأمر ليس من فوائد الفعل بوجوده الخارجي،

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 230 231.

(2) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 231.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 523

..........

______________________________

كيف و هو متقدّم عليه و لا يعقل بقاؤه بعد وجود الفعل، فليس بوجوده العلمي علّة غائية حتّى يوصف بكونه داعياً و باعثاً.

الثاني: أنّ موافقة المأتيّ به للمأمور به من عناوين الفعل، و قصد الامتثال مرجعه إلى قصد إتيان المماثل للمأمور به من حيث إنّه كذلك، و قصد موافقة الأمر مرجعه إلى قصد ما يوافق المأمور به من حيث إنّه كذلك، و لا يخفى عليك أنّ موافقة المأتيّ به

تارةً بالإضافة إلى ذات المأمور به، و أُخرى بالإضافة إلى المأمور به بما هو مأمور به، و مرجع الأوّل إلى موافقة الفرد للطبيعي و هو أجنبيّ عن قصد القربة، و لا ينطبق عليه عنوان من العناوين الحسنة.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ النائب تارةً يأتي بالفعل الموافق لما أمر به المنوب عنه عن المنوب عنه، من دون قصد عنوانه بل يدعوه إليه داع آخر، فالفعل المنسوب إلى المنوب عنه غير عبادي، و أُخرى يأتي بالفعل بقصد كونه موافقاً لما أُمر به المنوب عنه لا عن المنوب عنه، فالفعل لا يقع عباديا لا عن المنوب عنه لعدم إتيانه عنه، و لا عن النائب لعدم المضايف فيه، إذ لا مأمور به له حتّى يقصد كون المأتي به موافقاً للمأمور به، و مجرّد كونه موافقاً لذات المأمور به لا يجدي في العبادية. و ثالثة يأتي بالفعل بقصد كونه موافقاً للمأمور به عن المنوب عنه، فهذا العنوان المقصود حيث إنّه عن المنوب عنه فمضايفه بالإضافة إليه فعليّ، و بعد فرض انتسابه إلى من كان مضايفه فعليّاً فيه يمكن إتيان الفعل المعنون بهذا العنوان في ذاته بقصد عنوانه من أيّ شخص كان، حيث لا يتفاوت تعنون الفعل بهذا العنوان بتفاوت الأشخاص، و إن كان صيرورته عباديا بقصده لا بدّ فيها من انتسابه إلى من كان مضايف العنوان فعلياً فيه «1».

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 232 233.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 524

..........

______________________________

و مرجع ما أفاده إلى أنّه لا يلزم في ثبوت وصف العبادية توجّه الأمر إلى الفاعل، و إتيانه المأمور به بداعي الأمر المتوجّه إليه، بل يكفي فيه كون العمل المأتيّ به موافقاً للمأمور به و

الإتيان به كذلك، مع إمكان صحّة الانتساب إلى مَنْ كان مأموراً بذاك الأمر، فإذا فرض قيام الدليل على صحّة النيابة و مرجعه إلى إمكان الانتساب إلى المنوب عنه فلا يبقى من جهة العبادية نقصان و خلل أصلًا، من دون فرق بين ما إذا كان هناك استنابة أم لا، فإنّ ثبوت الأمر و توجّهه إلى المنوب عنه و صحّة الانتساب إليه على ما هو مقتضى أدلّة مشروعية النيابة و الإتيان به بقصد الموافقة للمأمور به بما هو كذلك يكفي في وقوعه عبادة؛ لثبوت الأمر من ناحية و صحّة الانتساب من ناحية أُخرى، و الإتيان بها بهذا العنوان من ناحية ثالثة، و عليه فلا حاجة في حصول التقرّب المقوّم للعبادية توجّه الأمر إلى الفاعل أصلًا.

و هذا هو الجواب الصحيح عن الوجه الثاني، و به يظهر الجواب عن الوجه الأوّل، فإنّ مقتضى ما ذكرنا هو حصول القرب للمنوب عنه بسبب إتيان النائب المنوب فيه بقصد كونه موافقاً للمأمور به عن المنوب عنه، بداهة أنّه إذا كانت عباديّته لأجل الإتيان به بذلك القصد عن المنوب عنه فلازمه هو حصول القرب للمنوب عنه، و لا وجه لتقرّب النائب أصلًا، فالقصد يتحقّق من النائب و القرب يقع للمنوب عنه من دون محذور، و لا وجه للالتزام بعدم لزوم قصد التقرّب على النائب و أنّ رضا المنوب عنه بما نسب إليه كاف في مقربية العمل له، كما أنّه لا وجه للالتجاء إلى إنكار النيابة بالمعنى المعروف و إرجاع النيابة إلى ما يساوق إهداء الثواب.

مضافاً إلى ما أورد على الأوّل بعد توجيهه بأنّ غرضه ليس تعلّق التكليف

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 525

..........

______________________________

بالأعمّ من الفعل و من الرضا

بما يؤتى به عنه، بحيث يكون الرضا أحد فردي الواجب التخييري، و أيضاً ليس غرضه تعلّق التكليف بالأعم من الفعل المباشري و الفعل المرضيّ به؛ لاستحالة تعلّق التكليف بما ليس من إيجادات المكلّف، كما أنّه ليس المراد أنّ صدور الفعل مع الرضا به كاف في المقرّبية، بل الغرض أنّ الفعل المنسوب إليه بالنيابة المشروعة إذا رضي به المنوب عنه بما هو موافق لأمره و بما هو دين اللّٰه عليه قربيّ منه، بحيث لو صدر منه مباشرة من حيث كونه كذلك لكان مقرّباً له بلا شبهة.

و محصّل الإيراد أنّه لا يتم في النيابة عن الميّت، فإنّ المكلّف به هو العمل مع قصد الامتثال، فلا بدّ في سقوط التكليف من حصول هذا المقيّد في هذه النشأة، فكون العمل في هذه النشأة و قيده في نشأة الآخرة ليس امتثالًا للتكليف الذي لا موقع له إلّا في النشأة الدنيوية.

و إلى ما أورد على الثاني بأنّه مناف لظاهر النصوص و الفتاوى، فإنّ الحجّ الذي يستنيب فيه الحيّ العاجز لا يراد منه إلّا إسقاط التكليف المتوجّه إليه بالاستنابة لا مجرّد تحصيل ثوابه، مضافاً إلى أنّ تقرّب النائب و إيصال الثواب إنّما يتصوّر فيما كان مستحباً في حقّ النائب كالحجّ و الزيارة المندوبين، و أمّا القضاء عن الميّت وجوباً أو تبرّعاً فلا أمر للنائب إلّا الأمر الوجوبي أو الندبي بالنيابة لا بالمنوب فيه، و أوامر النيابة توصّلية «1».

فانقدح من جميع ما ذكرنا أنّ الجواب الصحيح عن الوجه الأوّل ما ذكر، فتدبّر.

بقي الكلام في الواجبات النظامية التي قام الإجماع بل الضرورة على جواز أخذ

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 234 235.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 526

..........

______________________________

الأُجرة فيها

«1»، فإن قلنا بعدم استلزام القول بالجواز في غيرها بشي ء من الإيرادات العقلية المتقدّمة كما هو الحقّ و قد عرفت فلا يكون الحكم بالجواز فيها مخالفاً لحكم العقل و للقاعدة. و أمّا إن قلنا بالاستلزام فلا بدّ من أن يكون خروج الواجبات النظامية و الحكم بالجواز فيها مستنداً إلى دليل، و في الحقيقة يرد على المشهور «2» القائلين بالمنع النقض بالواجبات النظامية و لا بدّ لهم من الجواب، و قد أُجيب عن ذلك بوجوه:

منها: خروجها بالإجماع و السيرة القائمين على الجواز في خصوصها.

و يرد عليه أنّه إنّما يجدي إذا كان المنع لدليل تعبّدي، فإنّه على هذا التقدير يخصّص عمومه بالإجماع و السيرة المذكورين، و أمّا إذا كان المنع لأمر عقليّ كما عرفت فلا موقع لتخصيصه بما عدا الواجبات النظامية كما هو ظاهر.

و منها: ما عن جامع المقاصد من تخصيص الجواز بصورة سبق قيام من به الكفاية بالعمل «3».

و يرد عليه أنّه مناف لإطلاق كلام الأصحاب، فإنّ ظاهرهم ثبوت الجواز بالإضافة إلى السابق أيضاً. و بعبارة اخرى مرجعه إلى تسليم الإشكال؛ لأنّه مع سبق قيام من به الكفاية يسقط الوجوب، و لا يكون أخذ الأُجرة حينئذٍ في مقابل الواجب.

و منها: ما نسب إلى صاحب الرياض قدس سره من اختصاص المنع بالواجبات الذاتية

______________________________

(1) مجمع الفائدة و البرهان: 8/ 89، رياض المسائل: 5/ 37 38، كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري: 2/ 137.

(2) مسالك الافهام: 3/ 130، الحدائق الناضرة: 18/ 211، مفاتيح الشرائع: 3/ 11.

(3) جامع المقاصد: 7/ 181.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 527

..........

______________________________

النفسية كدفن الميّت و تعليم الأحكام لا الواجبات المقدّمية كالصناعات التي هي مقدّمة لحفظ النظام الواجب «1».

و أُورد عليه بأنّ المنع

ليس لدليل لبّي حتّى يؤخذ فيه بالمتيقّن، و لا لفظيّ ليدّعى انصرافه عن الواجب الغيري، بل المانع أمر عقلي ينافي طبيعة الوجوب نفسياً كان أم غيرياً «2».

و يمكن الجواب عنه بأنّ القدر المسلّم من حفظ النظام الواجب هو حفظه بنحو لا يوجب الهرج و المرج، و الأُجرة لا تقع في مقابل ما تعلّق به التكليف، بل هي واقعة في مقابل المقدّمات، ضرورة أنّها تقع في مقابل الطبابة و الخياطة و نحوهما، و هذه الأُمور مقدّمة لتحقّق الواجب، و قد حقّق في محلّه أنّه لا يسري الوجوب من ذي المقدّمة إليها، فلا يستلزم القول بالجواز فيها شيئاً من الإيرادات العقلية المتقدّمة، و لكنّ مقتضاه التصرّف في كلام الرياض؛ لأنّ لازمه جواز أخذ الأُجرة مع حفظ الوجوب الغيري و ثبوته، كما لا يخفى.

و منه يظهر بطلان ما عن بعض الأعلام في مقام الجواب عن صاحب الرياض؛ من أنّ تلك الصناعات مع انحفاظ النظام متّحدان في الوجود، كالإلقاء و الإحراق و الضرب و التأديب، و المقدّمة المتّحدة الوجود مع ذيها لا تجب بوجوب مقدّمي، لاستحالة التوصّل بشي ء إلى نفسه «3».

وجه البطلان أنّ الفعل التوليدي يستحيل أن يكون متّحد الوجود مع المتولّد

______________________________

(1) رياض المسائل: 5/ 37 38.

(2) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 210.

(3) راجع حاشية المكاسب للميرزا محمّد تقي الشيرازي: 153، و الحاكي هو المحقّق الأصفهاني في بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 210.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 528

..........

______________________________

منه، و من الواضح مغايرة الخياطة و انحفاظ النظام و كذا غيرها، فهذا الوجه خال عن الإشكال، و إن كان لا يلائم التعبير عن مثل الخياطة حينئذٍ بالواجب النظامي، فإنّ الواجب هو ذو المقدّمة و الخياطة

لا تكون واجبة أصلًا، و في الحقيقة يخرج ذلك عن محلّ البحث؛ و هو أخذ الأُجرة على الواجب كما هو ظاهر.

و منها: غير ذلك من الوجوه المذكورة التي تظهر مع ما يمكن أن يجري فيها من المناقشة للمتتبّع المتأمِّل.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 529

[الإجارة لحفظ المتاع و ضمانه

] مسألة 35: يجوز الإجارة لحفظ المتاع عن الضياع و حراسة الدور و البساتين عن السرقة مدّة معيّنة، و يجوز اشتراط الضمان عليه لو حصل الضياع أو السرقة و لو من غير تقصير منه؛ بأن يلتزم في ضمن عقد الإجارة بأنّه لو ضاع المتاع أو سرق من البستان أو الدار شي ء خسره، فتضمين الناطور إذا ضاع أمر مشروع لو التزم به على نحو مشروع (1).

______________________________

(1) أمّا جواز الإجارة لحفظ المتاع عن الضياع و حراسة الدور و البساتين عن السرقة، فلأنّ الحفظ و الحراسة منفعة عقلائيّة محلّلة مقصودة للعقلاء، و لا يكون أكل المال في مقابله أكلًا للمال بالباطل، فمقتضى العمومات و القواعد الأوّلية هي الصحّة و المشروعية، و يدلّ عليه بالخصوص مفهوم رواية إسحاق بن عمّار، عن جعفر، عن أبيه عليهما السلام أنّ علياً عليه السلام كان يقول: لا ضمان على صاحب الحمّام فيما ذهب من الثياب؛ لأنّه إنّما أخذ الجعل على الحمّام و لم يأخذ على الثياب «1». فإنّ مدلولها جواز أخذ الأُجرة و الجعل على الثياب و حفظها من الضياع و السرقة، فأصل الجواز ممّا لا إشكال فيه.

و أمّا جواز اشتراط الضمان عليه و لو من غير تقصير، فإن كان بنحو شرط الفعل بمعنى تدارك الخسارة و جبرها فلا إشكال فيه أيضاً. و أمّا إذا كان بنحو شرط النتيجة فربما يقال بعدم الصحّة؛ لأنّ

شرط ضمان الأمين مخالف للكتاب «2» الدالّ على عدم ضمانه، و عبارة المتن مشعرة بل دالّة على ذلك أيضاً.

______________________________

(1) التهذيب: 6/ 314 ح 869، وسائل الشيعة: 19/ 140، كتاب الإجارة ب 28 ح 3.

(2) سورة التوبة 9: 91.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 530

..........

______________________________

و سيأتي إن شاء اللّٰه تعالى في مسألة عدم ضمان المستأجر تحقيق الكلام في ذلك فانتظر.

ثمّ إنّ مفاد رواية إسحاق بن عمّار ثبوت الضمان فيما لو أخذ الجعل على الثياب، و ظاهر إطلاقها الثبوت و لو مع عدم اشتراط الضمان و هذا مخالف للإجماع «1»، فلا بدّ من تقييده بصورة الاشتراط، و لكنّ الذي يبعّد التقييد أنّه لا يبقى حينئذٍ فرق بين صورة أخذ الجعل على الحمّام أو على الثياب؛ لعدم الضمان في كلا الفرضين مع عدم الاشتراط و ثبوته فيهما معه، فاللّازم حينئذٍ طرح الرواية، و قد عرفت أنّه لا حاجة إليها في أصل إثبات الجواز.

______________________________

(1) غنية النزوع: 288، الحدائق الناضرة: 21/ 543، رياض المسائل: 6/ 18، مفتاح الكرامة: 7/ 251، جواهر الكلام: 27/ 215.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 531

[لو عمل عملًا لشخص بطلبه استحقّ اجرة المثل إن لم يتبرّع به]

مسألة 36: لو طلب من شخص أن يعمل له عملًا فعمل استحقّ عليه اجرة مثل عمله إن كان ممّا له اجرة و لم يقصد العامل التبرّع بعمله، و إن قصد التبرّع لم يستحقّ اجرة و إن كان من قصد الآمر إعطاء الأُجرة (1).

______________________________

(1) أمّا استحقاق اجرة مثل العمل على الطالب إن كان العمل ممّا له اجرة و لم يقصد العامل التبرّع بعمله فهو المشهور «1» شهرة عظيمة، بل لم ينقل الخلاف فيه. نعم، في الشرائع في كتاب الجعالة: لو استدعى الردّ و

لم يبذل الأُجرة لم يكن للرادّ شي ء؛ لأنّه متبرّع بالعمل «2»، و ظاهره عدم استحقاق الأُجرة مع استدعاء الردّ و عدم بذلها معلّلًا بثبوت التبرّع و لم يعلم المراد من التعليل، فإنّه إن كان المراد ثبوت قصد التبرّع للعامل بعمله الذي هو الردّ فالمفروض عدمه، و إن كان المراد ثبوت التبرّع تعبّداً فلم يقم دليل على هذا التعبّد. و كيف كان، فالظاهر أنّه لا خلاف محقّق في الضمان. و عن مجمع البرهان: يحتمل أن يكون مجمعاً عليه «3».

ثمّ إنّ مقتضى إطلاق المتن ثبوت الاستحقاق، و إن كان من قصد الآمر إتيانه تبرّعاً، كما أنّ مقتضى إطلاقه أنّه لا فرق بين ما إذا كان العامل ممّن شأنه أخذ الأُجرة و معدّاً نفسه لذلك، و بين ما إذا لم يكن كذلك. كما أنّ مقتضى إطلاقه أيضاً ثبوت الاستحقاق مع عدم قصد التبرع و إن لم يقصد أخذ الأُجرة أيضاً، بناءً على ثبوت قسم ثالث و هو عدم قصد التبرّع و لا أخذ الأُجرة.

و الاستحقاق الراجع إلى الضمان بهذه الكيفية المطلقة قد وقع الإشكال في

______________________________

(1) مجمع الفائدة و البرهان: 10/ 83، مفتاح الكرامة: 7/ 274.

(2) شرائع الإسلام: 3/ 164.

(3) مجمع الفائدة و البرهان: 10/ 83.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 532

..........

______________________________

مستنده و وجه ثبوته، نظراً إلى أنّ الضمان إمّا أن يكون بالعقد أو باليد أو بالإتلاف، و الجميع محلّ إشكال.

أمّا العقد، فلأنّ المفروض أنّه لا عقد صحيح في البين لا بعنوان الإجارة و لا بعنوان الجعالة؛ لأنّ الفرض عدم تعيين الأُجرة و الجعل، بل الثابت مجرّد الطلب من الشخص أن يعمل له عملًا بدون تعيين الأُجرة، بل يقصد المجانيّة كما في بعض صور

المسألة، فلا يكون هنا عقد صحيح في البين. نعم، يمكن أن يقال بأنّ مستند الضمان هي قاعدة ما يضمن، نظراً إلى ثبوته في الصحيح فيتحقّق في فاسده أيضاً، إلّا أنّه قد حقّق في محلّه أنّها لا تكون قاعدة مستقلّة موجبة للضمان، بل منشأ الضمان فيها إمّا قاعدة الإقدام أو اليد أو غيرهما كما تقدّم سابقاً «1»، فهي قاعدة اصطيادية مستفادة من القواعد الأُخر الحاكمة بثبوت الضمان في موارد العقود الفاسدة، و قد تقدّم عن الشهيدين «2» القول بعدم ثبوت اجرة المثل فيما إذا كان بطلان الإجارة لأجل عدم ذكر الأُجرة أو اشتراط عدمها، و إن وقع الاختلاف بينهما و بين جامع المقاصد في عدم الفرق في ذلك بين إجارة الأعيان و الإجارة على الأعمال، أو ثبوته، كما اختاره جامع المقاصد «3».

و أمّا قاعدة اليد، فلو قلنا بشمولها للمنافع أيضاً فلا محيص عن اختصاصها بما إذا كان تحت اليد و لو تبعاً، ضرورة أنّه بدونه لا تشمله القاعدة، و مجرّد المطالبة لا يوجب ثبوت اليد على المنفعة بوجه.

و أمّا قاعدة الإتلاف، فغير شاملة أيضاً؛ لأنّ استناد الفعل و هو الإتلاف إلى

______________________________

(1) في ص 328 329.

(2) في ص 326.

(3) جامع المقاصد: 7/ 120 121.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 533

..........

______________________________

الفاعل المباشر أقوى من الطالب الآمر، و مجرّد الطلب لا يصحّح استناده إلى الطالب أصلًا.

و حكي عن المسالك «1» و غيرها «2» أنّ الموجب للضمان استيفاء المنفعة ذات المالية، و هو بعد لزوم تقييده بعدم كون صاحبها قاصداً للتبرّع و المجانيّة لا دليل على اقتضائه للضمان، فإنّ مجرّد الاستيفاء و لو كان مسبوقاً بالطلب و الأمر لا دليل على إيجابه للضمان ما لم

ينطبق عليه شي ء من القواعد الدالّة على الضمان.

و أمّا التمسّك بقاعدة الإقدام، فمضافاً إلى ما مرّ منّا «3» من المناقشة فيها صغرى و كبرى لا تجري في جميع صور المسألة؛ لعدم تحقّق الإقدام فيما إذا كان من قصد الآمر التبرّع و المجانيّة.

نعم، يمكن التمسّك له بقاعدة احترام مال المسلم التي دلّت عليها رواية أبي بصير «4»، و قد تقدّم البحث في هذه القاعدة مفصّلًا و الجواب عن المناقشات التي أُوردت على التمسّك بها «5» فراجع، و أنّه يمكن الرجوع إليها، سواء قلنا: بأنّ المراد من الحرمة المتعلّقة بمال المؤمن هي الحرمة التكليفيّة أو الحرمة الوضعيّة، و استدلّ بها في الجواهر «6» و تبعه السيّد صاحب العروة «7»، و هذا هو الدليل على الضمان في مثل المسألة، و منه يظهر الوجه لعدم الاستحقاق في صورة قصد التبرع للعامل،

______________________________

(1) مسالك الافهام: 5/ 229.

(2) الحدائق الناضرة: 21/ 633، بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 301 302.

(3) في ص 329 332.

(4) تقدّمت في ص 332.

(5) في ص 332 337.

(6) جواهر الكلام: 27/ 335.

(7) العروة الوثقى: 5/ 12 مسألة 19.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 534

..........

______________________________

فإنّه مع هذا القصد لا مجال لاحترام ماله و ثبوت الضمان، كما لا يخفى.

[قال المؤلّف دام ظلّه في كتاب الإجارة الثاني]:

قال في الشرائع: إذا دفع سلعة إلى غيره ليعمل فيها عملًا، فإن كان ممّن عادته أن يستأجر لذلك العمل كالغسّال و القصّار فله اجرة مثل عمله، و إن لم تكن له عادة و كان العمل ممّا له اجرة فله المطالبة؛ لأنّه أبصر بنيّته. و إن لم يكن ممّا له اجرة بالعادة لم يلتفت إلى مدّعيها «1».

أقول: الظاهر أنّ مفروض المسألة ما إذا

لم يكن الدفع إلى الغير بعنوان الاستئجار؛ بأن يكون هناك إجارة معاطاتية حتّى يعتبر في صحّتها جميع ما يعتبر في الإجارة العقدية من تعيين الأُجرة و غيره، ضرورة أنّه على هذا التقدير لا يكون فرق بين من كان من عادته أن يستأجر لذلك العمل، و من لم يكن من عادته كذلك، كما أنّه لا فرق بين أن يكون العمل ممّا له اجرة في العادة، و ما إذا لم يكن كذلك، كما أنّه على هذا التقدير تتعيّن الأُجرة المسمّاة، و لا تصل النوبة إلى أُجرة المثل إلّا إذا فرض بطلانها فتثبت اجرة المثل، كما في جميع موارد بطلان الإجارة على ما تقدّم «2».

و كيف كان، فلا ينبغي الارتياب في أنّ مفروض المسألة ما إذا لم يكن هناك استئجار، بل كان الدفع بعنوان مجرّد الإذن، و حينئذٍ فثبوت اجرة

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 2/ 188.

(2) في ص 325 328.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 535

..........

______________________________

المثل للعامل مع كون العادة فيه أن يستأجر لذلك العمل إنّما هو باعتبار كون العادة قرينة على عدم تحقّق العمل منه تبرّعاً، بل بقصد العوض، و حينئذٍ يرتفع الإشكال في ثبوت اجرة المثل؛ لأنّه بعد ما كان العمل واقعاً بإذن صاحب السلعة و صادراً ممّن لم يقصد بعمله التبرّع بشهادة العادة فهو محترم لا بدّ من أداء عوضه الواقعي؛ لأنّ المفروض عدم تعيين اجرة في مقابله، فلا محيص عن اجرة المثل. نعم، مقتضى إطلاق العبارة عدم الفرق بين أن يكون العمل عائداً نفعه إليه، كما إذا كانت السلعة مملوكة له و العمل يؤثّر فيها أثراً مثل الغسل و القصارة، و بين أن لم يكن كذلك، كما إذا أمره بخياطة ثوب

الغير أو دفعه إليه مع رضا الغير بذلك، فإنّ الأُجرة ثابتة على الآمر أو الدافع؛ لأنّه الذي استوفى عمل العامل و إن رجع نفعه إلى صاحب الثوب.

نعم، ربّما يناقش في أصل الضمان في المسألة بأنّ سبب الضمان كما قلنا إمّا العقد الصحيح أو اليد أو الإتلاف أو التغرير الذي تدلّ عليه قاعدة الغرور، و شي ء منها غير موجود في المقام، أمّا العقد فالمفروض عدم تحقّقه و اليد غير معقول في باب الأعمال إلّا في أعمال العبد، و الإتلاف لا يكاد يكون مستنداً إلى الدافع و الآمر لأنّ المباشر أقوى، و التغرير أيضاً لا يجري في المقام خصوصاً مع العلم بالفساد، و ليس هنا سبب آخر مقتض لثبوت الضمان.

و لكن الذي يدفع المناقشة أنّ ما دلّ على احترام عمل المسلم إذا لم يتحقّق بقصد التبرّع بضميمة كونه صادراً بإذن صاحب السلعة و أمره يكفي في إثبات الضمان و ثبوت الأُجرة على عهدة صاحب السلعة،

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 536

..........

______________________________

و يؤيّده جريان سيرة المتشرّعة و قيامها على مثله، و لا حاجة إلى تجشّم دعوى صدق الإتلاف على الاستيفاء، كما لا يخفى.

هذا فيما إذا كانت له عادة، و أمّا إذا لم يكن ممّن عادته أن يستأجر لذلك و لكن العمل كان له اجرة في العادة، فبحسب مقام الثبوت لا خفاء في ثبوت اجرة المثل له إذا لم يكن متبرّعاً في إيجاده، لعين ما تقدّم من الدليل على استحقاق اجرة المثل. و أمّا بحسب مقام الإثبات فحيث لا يكون هناك عادة منه على أخذ الأُجرة عليه ربّما يمكن أن يتوهّم بأنّه لا دليل على قصد العوض الموجب لثبوت اجرة المثل، و لكن الذي يدفع

التوهّم أنّه لا بدّ في مثل ذلك الرجوع إلى العامل؛ لأنّه لا يعرف إلّا من قبله و هو أبصر بنيّته و أعلم بقصده، فإذا ادّعى عدم نيّة التبرّع يكفي ذلك إثباتاً للاستحقاق و ثبوت اجرة المثل.

و أمّا ما أفاده صاحب الشرائع من عدم الالتفات إلى دعوى مدّعي الأُجرة فيما إذا لم يكن العمل ممّا له اجرة بالعادة فليس المراد منه عدم الالتفات؛ لعدم اتّصاف العمل بالمالية حتّى يكون ذلك من باب السالبة بانتفاء الموضوع، بل الظاهر أنّ المفروض ماليّة العمل من حيث هو، و لكن لم يتحقّق فيه عادة على أخذ الأُجرة عليه، و ذلك كحفظ متاع الغير، فإنّه و إن كان متّصفاً بالمالية و لذا يجوز الاستئجار عليه كما في مورد الرواية الصحيحة المتقدّمة في مسألة عدم ضمان صاحب الحمّام إلّا أنّه لم يعهد نوعاً أخذ الأُجرة عليه و لم تتحقّق عادة على ذلك، بل كانت العادة جارية على إيجاده مجّاناً بعنوان الوديعة و بقصد الإحسان، و عليه فالعمل المفروض له مالية ذاتاً، و العادة جارية على عدم أخذ الأُجرة في مقابله.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 537

..........

______________________________

و حينئذٍ لا بدّ من ملاحظة أنّ جريان العادة هل يكفي في عدم الالتفات إلى دعوى مدّعي الأُجرة في مقام الإثبات بعد ما كان مستحقّاً لها ثبوتاً إذا كان قصده على خلاف العادة، و لم يتحقّق منه التبرّع و الإحسان واقعاً كما هو مختار الشرائع، أو أنّه حيث يكون قول العامل موافقاً للأصل حيث إنّ الأصل عدم قصد التبرّع و الإحسان، و لا تعارضه أصالة عدم قصد العوض؛ لأنّ الاستحقاق لا يتوقّف على قصد العوض، بل عدم قصد التبرّع كاف في ثبوت الاستحقاق

يكون قوله مقدّماً و ملتفتاً إليه كما ربما يحتمل؟ وجهان مبنيّان على أنّ قرينة العادة هل توجب ظهور حال العامل في اقترانه بقصد التبرّع حتّى يكون ذاك الظهور حاكماً على الأصل، و يكون قوله مخالفاً للظاهر لا يلتفت إليه، أو أنّها لا تبلغ تلك المرتبة الموجبة للظهور، فتصل النوبة إلى الأصل و يكون قوله موافقاً له ملتفتاً إليه؟ فمبنى قول الشرائع هو الوجه الأوّل، و مبنى الاحتمال الثاني هو الوجه الثاني، و هو الأظهر فتدبّر. [انتهى كلامه مدّ ظلّه من كتاب الإجارة الثاني].

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 538

[الاستئجار لحيازة المباحات

] مسألة 37: لو استأجر أحداً في مدّة معيّنة لحيازة المباحات كما إذا استأجره شهراً للاحتطاب أو الاحتشاش أو الاستقاء و قصد باستئجاره له ملكيّة ما يحوزه، فكلّ ما يحوز الأجير في تلك المدّة يصير ملكاً للمستأجر إذا قصد الأجير العمل له و الوفاء بعقد الإجارة. و أمّا لو قصد ملكيتها لنفسه تصير ملكاً له و لم يستحقّ الأُجرة، و لو لم يقصد شيئاً فالظاهر بقاؤها على إباحتها على إشكال، و لو استأجره للحيازة لا بقصد التملّك كما إذا كان له غرض عقلائيّ لجمع الحطب و الحشيش فاستأجره لذلك لم يملك ما يحوزه و يجمعه الأجير مع قصد الوفاء بالإجارة، فلا مانع من تملّك الغير له (1).

______________________________

(1) في هذه المسألة فروع:

الأوّل: ما لو استأجر أحداً في مدّة معيّنة لحيازة المباحات و قصد باستئجاره له ملكيّة ما يحوزه الأجير، و كان قصده العمل له و الوفاء بعقد الإجارة. و بعبارة اخرى كان قصد الأجير بحيازته تملّك من استأجره، و قد حكم فيه في المتن بصيرورته ملكاً لمن استأجره بمجرّد الحيازة كذلك.

و يمكن الاستشكال

فيه بأنّ عقد الإجارة يؤثّر أثره من حين العقد؛ و هو في هذا الفرع مجرّد ملكيّة الحيازة التي هي عمل الأجير فيما إذا كانت منفعته الحيازية أو مطلق منافعه ملكاً للمستأجر بنحو الأجير الخاصّ الذي سبق الكلام فيه مفصّلًا «1»، و أمّا ملكيّة ما يحوزه الأجير فلا اقتضاء لعقد الإجارة في ثبوتها، خصوصاً مع أنّه لا ثبوت و لا تعيّن له إلّا معلّقاً على تقدير الحيازة خارجاً.

______________________________

(1) في ص 421 و ما بعده.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 539

..........

______________________________

هذا، مضافاً إلى أنّ مقتضى ما دلّ على أنّ من حاز ملك «1» الذي ورد بمعناه مثل قوله عليه السلام: لليد ما أخذت، و للعين ما رأت «2»، و إن لم يكن منصوصاً بلفظه أنّ الحيازة سبب قهريّ شرعي لملك الحائز و من يتقوّم به الحيازة، من دون مدخلية للقصد فيه أصلًا، فقصد تملّك المستأجر لا يجدي في ثبوت ملكيّته بعد قيام الحيازة بالأجير مباشرة.

و أُجيب عن الإشكال الأوّل بأنّ الحيازة كالخياطة، فكما أنّ أثر الخياطة مملوك بملك الخياطة كذلك أثر الحيازة بعد جعل الشارع إيّاها سبباً مملوك بملك الحيازة، و كون الأثر هيئة تارةً و عيناً اخرى لا يؤثّر في الفرق؛ لأنّ منفعة كلّ شي ء بحسبه و بتناسبه «3».

و أُورد على هذا الجواب بأنّ أثر الخياطة هي الهيئة، بل التعبير بالأثر مسامحة؛ لأنّ الخياطة هي إيجاد الهيئة الخاصّة، و الإيجاد و الوجود متّحدان ذاتاً مختلفان اعتباراً بخلاف الحيازة، فإنّ أثرها بمقتضى سببيّتها شرعاً هو ملك ما يحوزه، و الملك غير قابل لأن يملك بالإجارة «4».

و يدفعه أنّ الملك و إن كان غير قابل لأن يملك بالإجارة، إلّا أنّ ملكيّة المحاز إنّما هو

بسبب ملكيّة الحيازة لا بسبب الإجارة، كما إذا استأجره لأن يبيع و يشتري للمستأجر، فإنّه إذا باع له يملك الثمن من حيث البيع لا من حيث الإجارة، فلا مانع

______________________________

(1) وسائل الشيعة: 25/ 411، كتاب إحياء الموات ب 1، مستدرك الوسائل: 17/ 112، كتاب إحياء الموات ب 1.

(2) الكافي: 6/ 223 ح 6، وسائل الشيعة: 23/ 391، أبواب الصيد ب 38 ح 1.

(3) حكاه المحقّق الأصفهاني في بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 134.

(4) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 134.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 540

..........

______________________________

في المقام من ثبوت ملكيّة المحاز للمستأجر بسبب الحيازة التي هي مملوكة له بالإجارة لا بسبب الإجارة.

و أُجيب عن الإشكال الثاني بأنّ مقتضى الأدلّة الأوّلية و إن كان هو أنّ المحاز ملك للحائز مباشرة و مرجعه إلى عدم جريان النيابة في الحيازة و عدم صحّتها فيها إلّا أنّه بعد ملاحظة ما دلّ على قبول مثل ذلك للنيابة و الجمع بينه و بين الأدلّة الأوّلية يتعيّن البناء على أنّ المحاز ملك لمالك الحيازة لا من قامت به الحيازة، نظير: من أحيى أرضاً مواتاً فهي له «1»، و من بنى مسجداً و لو كمفحص قطاة بنى اللّٰه له بيتاً في الجنة «2». و الدليل على قبول مثله للنيابة مضافاً إلى أنّ الرجوع إلى المرتكز العرفي الذي هو المعيار المائز بين ما تدخله النيابة و الوكالة و ما لا تدخله يقتضي البناء على كون مثل الاحتطاب و الاحتشاش من الأُمور التي تدخله النيابة أنّه لا إشكال في كون القبض قابلًا للنيابة في كلّ مورد كان موضوعاً لحكم شرعي، مع أنّ الحيازة من أنواعه و أنحائه.

الثاني: الصورة المتقدّمة مع قصد الأجير

من الحيازة الملكيّة لنفسه، و قد حكم فيه في المتن بأنّ المحاز يصير ملكاً له. غاية الأمر أنّه لا يستحقّ الأُجرة.

و يمكن الاستشكال فيه بما يستفاد من الجواهر من أنّ حيازة الأجير حيازة المستأجر و يده على المباح يد المستأجر، كما أنّ يد العبد على ما حازه يد مولاه،

______________________________

(1) التهذيب: 7/ 152 ح 673، الاستبصار: 3/ 108 ح 382، وسائل الشيعة: 25/ 412، كتاب إحياء الموات ب 1 ح 5.

(2) الفقيه: 1/ 152 ح 704، وسائل الشيعة: 5/ 204، كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساجد ب 8 ح 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 541

..........

______________________________

و ليس ذلك إلّا لأجل أنّ منافعه و أعماله مملوكة لمولاه، و حينئذٍ فنيّة الخلاف من الأجير كنيّة التملّك من أحد بالنسبة إلى ما حازه غيره «1».

كما أنّه يمكن الاستشكال فيه أيضاً بما عن بعض الأعاظم من أنّ الحيازة سبب شرعيّ قهري لملك مالك الحيازة كائناً من كان، و المالك هنا هو المستأجر دون الأجير الذي لا يملك الحيازة «2».

و أُجيب عن الأوّل:

أوّلًا: بأنّ حقيقة الإجارة لا تقتضي إلّا ملك الحيازة، فالحيازة للمستأجر ملكاً لا أنّها له استناداً و انتساباً بحيث تكون اللام لام الصلة لا لام الاختصاص الملكي، فلو قلنا بأنّ الحيازة سبب قهريّ لملكية ما يحوزه الأجير إلّا أنّه يكون لمن حاز لا أنّه مملوك لمالك الحيازة إلّا مع صدق أنّه حاز، و الإجارة لا تقتضي ذلك.

و ثانياً: أنّ المملوك بالإجارة و إن كان الحيازة للمستأجر فيتضمّن الاستنابة في الحيازة إلّا أنّ حقيقة ذلك ملك الحيازة له، فيملك النيابة لا أنّه محقّق للنيابة، فإذا لم يحز الأجير للمستأجر و حاز لنفسه مثلًا فقد ترك النيابة المملوكة

للمستأجر، كما إذا استنابه بالإجارة في البيع و الاشتراء له و باع و اشترى لغيره، و أمّا قياس الأجير بالعبد فمدفوع بأنّ ما حازه العبد يكون مملوكاً لمولاه لا من حيث إنّ حيازته حيازة مولاه قهراً، بل من حيث إنّ ما يملكه العبد لمولاه «3».

و أُجيب عن الثاني: بأنّه إن اعتبر في السبب حيثيّة المالكيّة و حيثيّة الحائزيّة

______________________________

(1) جواهر الكلام: 27/ 267.

(2) حكاه المحقّق الأصفهاني في بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 136.

(3) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 134 135.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 542

..........

______________________________

فلا تكون الحيازة سبباً لملك الأجير لأنّه غير مالك الحيازة، و لا لملك المستأجر فإنّه غير حائز، مضافاً إلى أنّ المراد بملك الحيازة ليست الملكيّة الشرعية التي هي أحد الاعتبارات، لبداهة أنّ الحائز يملك إذا لم يكن أجيراً لأحد، و عمل الحرّ غير مملوك لنفسه بهذا المعنى من الملك «1».

و يظهر ممّا ذكر صحّة ما أُفيد في المتن من كون المحاز ملكاً للمستأجر في هذه الصورة، و أمّا عدم استحقاقه الأُجرة الذي مرجعه إلى انفساخ عقد الإجارة فالكلام فيه ما مرّ في الأجير الخاصّ إذا كان المفروض في المقام ذلك، و في الأجير العامّ أيضاً إذا كان المفروض أعمّ منه، فراجع «2».

الثالث: ما لو لم يقصد الأجير في الصورة المفروضة شيئاً من ملكيّة نفسه أو المستأجر، و قد استظهر فيه في المتن بقاء المحاز على إباحته الأصليّة مع الإشكال فيه، و توضيحه أنّه لا ينبغي الإشكال في أنّ الحيازة الموجبة لحصول الملك من الأُمور القصديّة التي لا تتحقّق إلّا بالقصد، فإنّ الحيازة ليست مجرّد الاستيلاء على المباح و لو في حال النوم، ضرورة أنّ الاستيلاء في

هذا الحال لا يكون حيازة، كما أنّها ليست مجرّد الاستيلاء عليه و لو لغرض آخر غير احتوائه إيّاه للانتفاع به، فلا بدّ في حصولها من تحقّق قصد الحيازة و كون الغرض الاحتواء للانتفاع، فلو حوّل تراباً أو حجراً عن طريق بقصد التمكّن من العبور عن الطريق لا يكون فعله حيازةً أصلًا.

نعم، وقع الإشكال بعد ذلك في اعتبار نية التملّك زائداً على اعتبار أصل القصد

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 136.

(2) ص 421 و ما بعده، وص 465 و ما بعده.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 543

..........

______________________________

في تحقّق الحيازة، فالمحكي عن صريح المبسوط في كتاب إحياء الموات اعتبارها، حيث قال: إنّ المحيي لا يملك بالإحياء إلّا إذا قصد تملّكه به «1»، و تبعه عليه جماعة، منهم: الشهيد في الدروس «2»، و تردّد فيه في الشرائع «3»، و جزم في الجواهر في كتاب إحياء الموات و غيره بعدم الاعتبار، و قال في كتاب الشركة: يمكن دعوى السيرة بل الضرورة على خلاف ذلك «4» أي القول بالاعتبار. و استدلّ له في جامع المقاصد بما تكرّر في فتوى الأصحاب من أنّ ما يوجد في جوف السمكة ممّا يكون في البحر يملكه المشتري، و لا يجب دفعه إلى البائع «5» نظراً إلى أنّه لو لم تعتبر النية لكان ملكاً للبائع لكونه حائزاً، و لا وجه لأن يكون للمشتري، و منشأ الفتوى جملة من النصوص الدالّة على وفقها المذكورة في الوسائل في كتاب اللقطة «6».

و لكن أُورد على هذا الاستدلال بأنّ الظاهر أنّ البائع باع تمام ما حازه، و إن كان يعتقد أنّه سمكة فقط، فالخطأ يكون في التطبيق لا غير، و قد ظهر من ذلك

أنّ منشأ الإشكال هو الترديد في اعتبار نيّة التملّك؛ لأنّه مع اعتبارها لا مجال لعدم قصد شي ء من ملكيّة نفسه أو المستأجر، ضرورة عدم إمكان تحقّق الملكيّة بدون المالك، و قد عرفت أنّ عدم تحقّق نيّة التملّك لا يلازم عدم تحقّق الحيازة بوجه.

______________________________

(1) المبسوط: 3/ 281.

(2) الدروس: 3/ 61، و كذا الشهيد الثاني في مسالك الأفهام: 4/ 325 328، و فخر المحقّقين في إيضاح الفوائد: 2/ 303، و العاملي في مفتاح الكرامة: 7/ 421.

(3) شرائع الإسلام: 2/ 133.

(4) جواهر الكلام: 38/ 65 67 و ج 26/ 321 324.

(5) جامع المقاصد: 8/ 50.

(6) وسائل الشيعة: 25/ 453، كتاب اللقطة ب 10.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 544

..........

______________________________

الرابع: ما لو استأجره للحيازة لا بقصد التملّك، كما إذا كان له غرض عقلائي لجمع الحطب أو الحشيش فاستأجره لذلك، و قد حكم فيه في المتن بأنّه لا يملك المستأجر ما يحوزه و يجمعه الأجير، و إن كان قاصداً للوفاء بالإجارة، و مرجع ذلك إلى اعتبار نيّة التملّك في كون الحيازة سبباً لحصول الملكيّة و عدم كونها بمجرّدها علّة تامّة لتحقّقها، و إلّا فلا يكون إشكال في حصول الملكيّة للأجير و عدم جواز تملّك الغير له، و ليس الفرق بين هذه الصورة و بين الصورة المتقدّمة إلّا في كون الاستئجار هناك للحيازة بقصد تملّك المستأجر. غاية الأمر أنّ الأجير لم يقصد التملّك و الملكيّة رأساً.

و أمّا في هذه الصورة فالاستئجار يكون للحيازة لا بقصد التملّك، فالصورتان مشتركتان في عدم كون الحيازة واقعة بقصد الملكيّة، و عليه فيمكن الإيراد على ما في المتن بأنّه لا وجه للإشكال في الصورة المتقدّمة و الحكم الجزمي في هذه الصورة بعد

اشتراكهما فيما عرفت، و دعوى كون المراد من الصورة المتقدّمة عدم تعيين المالك مع اقتران الحيازة بقصد الملكيّة، مدفوعة بما مرّ من عدم إمكان التفكيك بين نيّة الملكيّة و عدم تعيين المالك، فتدبّر.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 545

[إجارة الأرض بمقدار من حاصلها

] مسألة 38: لا تجوز إجارة الأرض لزرع الحنطة و الشعير بل و لا لما يحصل منها مطلقاً بمقدار معيّن من حاصلها، بل و كذا بمقدار منها في الذمّة مع اشتراط أدائه ممّا يحصل منها. و أمّا إجارتها بالحنطة أو الشعير أو غيرهما من غير تقييد و لا اشتراط بكونها منها فالأقرب جوازها (1).

______________________________

(1) وجه عدم الجواز في الفرض الأوّل أُمور:

أحدها: ما حكاه صاحب العروة ناسباً له إلى القول؛ من أنّ الوجه في عدم الجواز هو عدم كون مال الإجارة موجوداً حينئذٍ لا في الخارج و لا في الذمّة، و لذا لا يختصّ المنع بخصوص الحنطة و الشعير، بل يعمّ كلّ ما يحصل منها و لو كان من غيرهما، بل يكون لازمه عدم الجواز بما يحصل من أرض أُخرى أيضاً.

و أورد الحاكي على هذا الوجه بأنّ الحنطة و الشعير في نظر العرف و اعتباره بمنزلة الموجود كنفس المنفعة، و هذا المقدار كاف في الصحّة، نظير بيع الثمار سنتين أو مع ضمّ الضميمة، فإنّها لا يجعل غير الموجود موجوداً مع أنّ البيع وقع على المجموع «1».

و يمكن الجواب عنه بوجود الفرق بين المقام و بين المنفعة، فإنّ المنفعة حيث تكون تابعة للعين و من شؤونها تكون متحقّقة بوجود العين و بقائها، و هذا بخلاف المقام الذي لا حظّ له من الوجود أصلًا، كما لا يخفى.

ثانيها: أنّ المنع إنّما هو من جهة الغرر الحاصل

من الشكّ في الوجود أو الشكّ في مقدار الموجود، و من الواضح عدم ارتفاع هذا الغرر المتحقّق بشي ء أصلًا.

______________________________

(1) العروة الوثقى: 5/ 95 97.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 546

..........

______________________________

ثالثها: و هو العمدة، الأخبار الخاصّة الواردة في المسألة، كموثّقة أبي بصير، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: لا تستأجر الأرض بالتمر و لا بالحنطة و لا بالشعير و لا بالأربعاء و لا بالنطاف، قلت: و ما الأربعاء؟ قال: الشرب، و النطاف: فضل الماء، و لكن تقبّلها بالذهب و الفضّة و النصف و الثلث و الربع «1». هذا ما رواه إسحاق بن عمّار، عن أبي بصير. و أمّا ما رواه سماعة، عنه، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام فهو أنّه قال: لا تؤاجر الأرض بالحنطة و لا بالشعير و لا بالتمر و لا بالأربعاء و لا بالنطاف و لكن بالذهب و الفضّة؛ لأنّ الذهب و الفضة مضمون و هذا ليس بمضمون «2».

و رواية الفضيل بن يسار قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن إجارة الأرض بالطعام؟ قال: إن كان من طعامها فلا خير فيه «3».

و مرسلة يونس بن عبد الرّحمن، عن غير واحد، عن أبي جعفر و أبي عبد اللّٰه عليهما السلام أنّهما سُئلا ما العلّة التي من أجلها لا يجوز أن تؤاجر الأرض بالطعام و تؤاجرها بالذهب و الفضة؟ قال: العلّة في ذلك أنّ الذي يخرج منها حنطة و شعير، و لا تجوز إجارة حنطة بحنطة و لا شعير بشعير «4».

و ظاهر الروايات كما ترى هو عدم الجواز، و التعبير بأنّه لا خير فيه كما في رواية الفضيل لا شهادة فيه على عدم النهي؛ لأنّه مضافاً إلى إمكان ادّعاء كونه

أيضاً ظاهراً في النهي و الحرمة تكون الروايات الأُخر شاهدة على أنّ المراد به

______________________________

(1) الكافي: 5/ 264 ح 2، وسائل الشيعة: 19/ 138، كتاب الإجارة ب 26 ح 1.

(2) الكافي: 5/ 264 ح 1، وسائل الشيعة: 19/ 54، كتاب المزارعة ب 16 ح 2.

(3) الكافي: 5/ 265 ح 6، وسائل الشيعة: 19/ 55، كتاب المزارعة ب 16 ح 5.

(4) علل الشرائع: 2/ 518 ب 291 ح 1، وسائل الشيعة: 19/ 56، كتاب المزارعة ب 16 ح 11.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 547

..........

______________________________

ذلك، فلا مجال للمخالفة في أصل المسألة، كما ربما يحكى من ظاهر التبصرة «1» و المختلف «2» تبعاً لما يظهر من النافع «3» على ما قيل.

ثمّ إنّه لا ينبغي المناقشة في ظهور الروايات في أنّ مورد الحرمة هو الطعام الحاصل من الأرض المستأجرة إذا كان مقداره معيناً بحيث لا يحتمل فيه الزيادة و النقصان، و أمّا إذا كان تعيّنه من جهة الثلث و الربع و نحوهما فهو خارج عن باب الإجارة و داخل في المزارعة، و لأجله يحتمل أن تكون رواية أبي بصير واردة في غير باب الإجارة، و إن كان التعبير الوارد فيها ظاهراً في الإجارة، و ذلك لاشتمالها على الحكم بالجواز مع النصف و الثلث على رواية إسحاق، مضافاً إلى ظهور الاستئجار بالتمر في كون المراد به هي المساقاة، فتدبّر.

و كيف كان، فالظاهر أنّ المراد هو التعيّن بغير الكسر المشاع.

و الظاهر اختصاص المنع بما إذا كان بالطعام الحاصل من نفس الأرض المستأجرة، و أمّا الطعام الحاصل من غيرها فلا مانع منه، و إن كان معيّناً من حيث المقدار و من جهة الأرض التي يخرج الطعام منها،

و ذلك لظهور رواية الفضيل في التفصيل و الاختصاص بالطعام الحاصل منها، و إن كانت المرسلة لا يبعد دعوى عمومها لمطلق الطعام، كما أنّ رواية أبي بصير المشتملة على التعليل بالمضمونية ظاهرة في العموم؛ لعدم الفرق في عدم مضمونيّة الطعام بين ما يخرج من الأرض المستأجرة و ما يخرج من غيرها، كما لا يخفى.

______________________________

(1) تبصرة المتعلّمين: 106.

(2) مختلف الشيعة: 6/ 149 150 مسألة 73.

(3) المختصر النافع: 243.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 548

..........

______________________________

ثمّ إنّه هل يختصّ الحكم بخصوص الحنطة و الشعير، أو يعمّ جميع ما يحصل من الأرض المستأجرة، و إن لم يكن من الحنطة و الشعير كما في سائر الحبوب؟ ظاهر المتن هو الثاني، و صرّح السيّد قدس سره في العروة بالأوّل و أنّه لا إشكال في غير الحنطة و الشعير «1»، و عبارات الأصحاب مطلقة. قال في القواعد في كتاب المزارعة: تجوز إجارة الأرض بكلّ ما يصلح أن يكون عوضاً في الإجارة و إن كان طعاماً إذا لم يشترط أنّه ممّا يخرج من الأرض «2»، و قال الشارح في مفتاح الكرامة: لأنّه لا يجوز اشتراط كونه ممّا يخرج منه كما في الخلاف «3» و المبسوط «4» و السرائر «5» و المختلف «6» و التنقيح «7» و جامع المقاصد «8»، و لا يصحّ كما في إيضاح النافع «9» و الكتاب «10»، و يكون حراماً كما في التذكرة «11» .. «12».

و أمّا النصوص فمضافاً إلى إمكان ادّعاء شمول ما تضمّن منها لفظ الطعام لغير الحنطة و الشعير، كما ربما يؤيّده المقابلة بينه و بين الذهب و الفضّة في كثير منها، و إلى

______________________________

(1) العروة الوثقى: 5/ 98.

(2) قواعد الأحكام: 2/ 312.

(3)

الخلاف: 3/ 517 مسألة 3.

(4) المبسوط: 3/ 255.

(5) السرائر: 2/ 444 446.

(6) مختلف الشيعة: 6/ 149 150 مسألة 73.

(7) التنقيح الرائع: 2/ 230.

(8) جامع المقاصد: 7/ 315.

(9) إيضاح النافع في شرح المختصر النافع للفاضل القطيفي غير مطبوع.

(10) قواعد الاحكام: 2/ 314.

(11) تذكرة الفقهاء: 2/ 341.

(12) مفتاح الكرامة: 7/ 302 303.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 549

..........

______________________________

ذكر التمر في رواية أبي بصير بناءً على عدم كونه قرينة على أنّ المراد هي المساقاة دون الإجارة كما عرفت يكون التعليل بعدم المضمونيّة في غير الذهب و الفضّة قرينة على عدم الاختصاص. هذا ما يتعلّق بالفرض الأوّل.

و أمّا الفرض الثاني: و هو اشتراط أداء مال الإجارة ممّا يحصل من الأرض المستأجرة مع كونه في الذمة، فقد حكم فيه أيضاً في المتن بعدم الجواز، و استشكل في جوازه صاحب العروة و احتاط بالعدم «1»، و الوجه في عدم الجواز هو ظهور بعض الروايات المتقدّمة في هذا الفرض كرواية الفضيل، فإنّ التعبير بكلمة «من» في الجواب لعلّه ظاهر في أنّ المراد اشتراط الأداء من حاصل الأرض لا كونه عين مال الإجارة، و إن كان في الاستظهار نظر؛ لأنّ اسم كان في الجواب هو الضمير العائد إلى الطعام المذكور في السؤال الذي هو مال الإجارة، و المراد حينئذٍ إن كان الطعام المجعول مال الإجارة بعضاً من طعامها فلا خير فيه، و من المعلوم عدم شمول هذا العنوان لهذا الفرض كما لا يخفى.

مضافاً إلى رواية الحسن الواردة في البيع: عن رجل اشترى من رجل أرضاً جرباناً معلومة بمائة كرّ على أن يعطيه من الأرض، قال: حرام «2». بناءً على عدم ظهور الفرق بين ثمن المبيع و الأُجرة، و إن

كان هذا الأمر مع فرض كون الحكم على خلاف القاعدة لا مجال له أصلًا، للزوم الاقتصار على مورد التعبّد، و لكن مع ذلك نفى البعد عن الجواز صاحب الجواهر «3» نظراً إلى العمومات، و لكنّ الأقرب ما في

______________________________

(1) العروة الوثقى: 5/ 97.

(2) التهذيب: 7/ 149 ح 661، وسائل الشيعة: 18/ 237، كتاب التجارة، أبواب بيع الثمار ب 12 ح 2.

(3) جواهر الكلام: 27/ 12.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 550

..........

______________________________

المتن لما عرفت.

و أمّا الفرض الثالث: و هي الإجارة بالحنطة أو الشعير من غير تقييد و لا اشتراط بكونها منها، فقد قرّب فيه في المتن الجواز خلافاً لبعضهم «1»، حيث منع منه مع كونها من جنس ما يزرع فيها، لصحيحة الحلبي، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: لا تستأجر الأرض بالحنطة ثمّ تزرعها حنطة «2». و يمكن الاستدلال له بمرسلة يونس المتقدّمة الظاهرة في عدم جواز مؤاجرة الأرض بمطلق الطعام، معلّلًا بأنّه لا يجوز إجارة الحنطة بالحنطة و الشعير بالشعير، و أورد على الاستدلال بالصحيحة صاحب الجواهر بأنّه مع عدم وفائها بتمام المدّعى يمكن حملها على إرادة ما إذا كان منها، بل لعلّه لا يخلو من إيماء إليه، أو يحمل النهي فيها على الكراهة «3».

و تنظّر في الحمل الأخير في المسالك بقوله: و فيه نظر؛ لأنّ النهي مطلق، و لا منافاة بينه و بين تحريم شرطه من طعامها حتّى يجمع بينهما بحمله عليه إلى أن قال: مع أنّه يمكن هنا حمل الخبر الأوّل على الإطلاق كالثاني؛ بأن يريد بكونه من طعامها أي من جنسه، و يؤيّده ظهور الكراهة منه، و لو كان من نفسه لكان اللّازم التصريح بالمنع، فإنّ عدم

الخير لا يبلغ حدّ المنع، فإنّ المباح أو المكروه لا يوصف بالخير و لا بضدّه، و بينه و بين الشرّ واسطة، و أمّا النهي فالأصل فيه التحريم، فحمله على الكراهة بغير دليل آخر غير حسن، و قول ابن البرّاج بالمنع

______________________________

(1) المبسوط: 3/ 255، قواعد الأحكام: 2/ 312، مختلف الشيعة: 6/ 149 150 مسألة 73، مفتاح الكرامة: 7/ 302.

(2) الكافي: 5/ 265 ح 3، وسائل الشيعة: 19/ 54، كتاب المزارعة ب 16 ح 3.

(3) جواهر الكلام: 27/ 13.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 551

..........

______________________________

مطلقاً «1» لا يخلو من قوّة، نظراً إلى الرواية الصحيحة، إلّا أنّ المشهور خلاف قوله «2».

و فيه وضوح المنافاة بين هذه الصحيحة، و بين ما يدلّ على تحريم شرطه من طعامها؛ لوضوح إفادته التفصيل بين الصّورتين و الحكم بالجواز مع عدم الشرط المذكور، و إلّا تلزم لغويّة التقييد مع إطلاق مورد السؤال، فدلالته على الجواز في غير ما إذا كان هناك شرط من طعامها ظاهرة، و بهذه الدلالة تعارض الصحيحة، فلا محيص عن حمل النهي فيها على الكراهة، و بهذا يظهر أنّه لا يمكن حمل الخبر الأوّل على الإطلاق بعد ظهوره في ثبوت الصورتين، و الإطلاق ينافي ذلك، و أمّا عدم الخير فظهوره في التحريم غير قابل للإنكار لمن تتبّع موارد استعماله في الروايات.

مضافاً إلى أنّه كيف يمكن الجمع بين حمل هذه الرواية على الكراهة و إبقاء النهي في الصحيحة على ظاهره من الحرمة، و إلى أنّ مخالفة الصحيحة للشهرة العظيمة توجب خروجها عن الحجّية بعد فرض المعارضة و عدم إمكان الجمع، و إلى أنّ التعليل بعدم المضمونية في الحنطة و الشعير لا يجري في هذا الفرض بوجه،

و إلى معارضة الصحيحة بخبر الهاشمي، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام أيضاً قال: سألته عن رجل استأجر من السلطان من أرض الخراج بدراهم مسمّاة أو بطعام مسمّى ثمّ آجرها و شرط لمن يزرعها أن يقاسمه النصف أو أقلّ من ذلك أو أكثر، و له في الأرض بعد ذلك فضل أ يصلح له ذلك؟ قال: نعم، إذا حفر لهم نهراً أو عمل لهم شيئاً يعينهم

______________________________

(1) المهذّب: 2/ 10.

(2) مسالك الأفهام: 5/ 13 14.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 552

..........

______________________________

بذلك فله ذلك.

قال: و سألته عن الرجل استأجر أرضاً من أرض الخراج بدراهم مسمّاة أو بطعام معلوم فيؤاجرها قطعة قطعة أو جريباً جريباً بشي ء معلوم، فيكون له فضل فيما استأجر من السلطان و لا ينفق شيئاً، أو يؤاجر تلك الأرض قطعاً على أن يعطيهم البذر و النفقة، فيكون له في ذلك فضل على إجارته و له تربة الأرض، أو ليست له؟ فقال له: إذا استأجرت أرضاً فأنفقت فيها شيئاً أو رممت فيها فلا بأس بما ذكرت «1»، فإنّ دلالتها على مفروغيّة جواز إجارة الأرض بطعام مسمّى من غيرها واضحة لا ارتياب فيها، فالأقوى ما في المتن من الجواز في هذه الصورة.

______________________________

(1) الكافي: 5/ 272 ح 2، وسائل الشيعة: 19/ 127، كتاب الإجارة ب 21 ح 3 و 4.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 553

[ضمان الأجير و العامل

] مسألة 39: العين المستأجرة أمانة في يد المستأجر في مدّة الإجارة، فلا يضمن تلفها و لا تعيّبها إلّا بالتعدّي و التفريط، و كذا العين التي للمستأجر بيد من آجر نفسه لعمل فيها كالثوب للخياطة و الذهب للصياغة فإنّه لا يضمن تلفها و نقصها

بدون التعدّي و التفريط. نعم، لو أفسدها بالصبغ أو القصارة أو الخياطة حتّى بتفصيل الثوب و نحو ذلك ضمن و إن كان بغير قصده، بل و إن كان استاذاً ماهراً و قد أعمل كمال النظر و الدقّة و الاحتياط في شغله، و كذا كلّ من آجر نفسه لعمل في مال المستأجر إذا أفسده ضمنه، و من ذلك ما لو استؤجر القصّاب لذبح الحيوان فذبحه على غير الوجه الشرعي بحيث صار حراماً، فإنّه ضامن لقيمته، بل الظاهر كذلك لو ذبحه تبرّعاً (1).

______________________________

(1) يقع الكلام هنا في ثبوت الضمان في العين المستأجرة و عدمه، و تفصيله في ضمن مسائل أربع:

المسألة الأُولى: ضمان العين المستأجرة بالإجارة الصحيحة في مدّة الإجارة و عدمه مع عدم اشتراطه، و الكلام فيه تارةً من حيث اقتضاء القاعدة مع قطع النظر عن الإجماع و النصوص الخاصّة، و أُخرى فيما هو مقتضى النصوص و الإجماع.

أمّا من الجهة الأُولى فمقتضى ظاهر العبارات أنّها أمانة في يد المستأجر، فلا يضمنها إلّا مع التعدّي أو التفريط، و من المعلوم اشتمال هذه العبارات على أمرين: أحدهما صغرى، و الآخر كبرى، أمّا الكبرى؛ و هي عدم استتباع اليد الأمانية للضمان، فالظاهر أنّه لا تنبغي المناقشة فيها، كما يظهر بالتتبع في الموارد الكثيرة المختلفة التي يستشهدون بها، و كما يظهر من الاقتصار في الروايات الكثيرة

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 554

..........

______________________________

الواردة في الموارد المختلفة أيضاً على الحكم بكون الرجل أميناً أو مؤتمناً، الظاهر في مفروغية استتباع الأمانة لنفي الضمان المستفاد من عموم «على اليد ما أخذت ..» «1». فلا محيص عن الالتزام بهذه القاعدة، و هل هي قاعدة شرعية أو عقلائية ممضاة للشارع؟ فيه وجهان،

و لا يبعد ترجيح الوجه الثاني.

و أمّا الصغرى؛ و هي ثبوت الأمانة و تشخيص حقيقتها، ففيها غموض و إشكال، و قبل الخوض فيها نقول: ذكر المحقّق الإصفهاني قدس سره تبعاً لما يستفاد من الفقهاء رضوان اللّٰه عليهم أنّ الأمانة مالكية و شرعية، و التأمين المالكي على قسمين: تأمين عقديّ كالوديعة التي حقيقتها الاستنابة في الحفظ؛ و هي الأمانة بالمعنى الأخصّ، و تأمين بالتسليط على ماله برضاه فتكون أمانة بالمعنى الأعمّ، و بهذا المعنى أُطلقت الأمانة على العين المستأجرة و المرهونة و المستعارة و المضارب بها، و الأمانة الشرعية فيما كان التسليط على المال بحكم الشارع، كما في تسليط الولي على مال القاصر، و كالتسليط على اللقطة و مجهول المالك و غير ذلك.

ثمّ ذكر قدس سره أنّ الأمانة المالكية بالمعنى الأعمّ إنّما يستفاد تحقّقها ممّا ورد في الأبواب المتفرقة من العارية و المضاربة و نحوهما بعنوان أنّ صاحب العارية مؤتمن، و أنّ صاحب البضاعة مؤتمن خصوصاً بعد ضمّه إلى أنّ صاحب الوديعة مؤتمن «2»، مع أنّه ليس في هذه الموارد مصداق للتأمين المالكي إلّا تسليطه على ماله عن رضاه، فيعلم منه أنّ كلّ تسليط عن الرضا ائتمان، و ما يذكر في مقام التقييد من أنّه لا بدّ من أن يكون التسليط بعنوان التسليط منه على ماله لا بعنوان مال مالكه، و عن الرضا

______________________________

(1) تقدّم تخريجه في ص 338.

(2) وسائل الشيعة: 19/ 79، كتاب الوديعة ب 4 ح 1 وص 93، كتاب العارية ب 1 ح 6 وص 142، كتاب الإجارة ب 29 ح 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 555

..........

______________________________

المحض لا عن لابدّية و استحقاق للغير، و أنّه لا يكون مبنيّاً

على أمر غير واقع، كلّ ذلك من المحقّقات للتسليط عن الرضا لا أمر زائد عليه «1»، انتهى موضع الحاجة.

و ربما يستشكل في ثبوت الأمانة الشرعية بابتنائها على القول بالحقيقة الشرعية و هو غير ثابت، و التحقيق عدم الابتناء، ضرورة أنّه ليس المراد بها كون الأمانة في مواردها لها معنى خاصّ عند الشارع؛ و هي حقيقة في ذلك المعنى، بل المراد بعد وضوح كون الأمانة في موارد الأمانة الشرعية يراد بها ما هو معناها بحسب اللغة، أنّ التأمين تارةً يكون من قبل المالك، و أُخرى من قبل الشارع الذي هو المالك الحقيقي، فليس الاختلاف راجعاً إلى معنى الأمانة و حقيقتها، و المصحّح لتقسيمها إنّما هو اختلاف من يقع التأمين من ناحيته، كما لا يخفى.

و ليعلم قبل ملاحظة صدق الأمانة في مثل المقام و عدمه أنّ مقتضى القاعدة في موارد الشكّ في صدقها هل هو الضمان أو عدمه؟ فنقول: عمدة الدليل في موارد ثبوت الضمان و ترتّبه على اليد قوله صلى الله عليه و آله: على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي. و لا يخفى أنّ اعتبار سنده محلّ كلام و مناقشة؛ لأنّ الراوي له ظاهراً هو سمرة بن جندب، و هو مطعون و مرميّ بالفسق جدّاً، و على تقدير اعتبار السند نقول: إنّه لا إشكال في انقسام اليد عند العقلاء بالأماني و غيره، و في أنّ اليد الأمانيّة لا يترتّب عليها الضمان عندهم، و قد عرفت أنّه يستفاد مفروغية ذلك عند الشرع من ملاحظة الموارد الكثيرة التي اقتصر فيها على بيان الموضوع و إفادة الصغرى من دون تعرّض للكبرى.

و دعوى أنّ القدر المتيقّن من ثبوت الأمانة هي الوديعة، و أنّ مثل قوله عليه السلام

______________________________

(1) بحوث في

الفقه، كتاب الإجارة: 30 31.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 556

..........

______________________________

صاحب العارية و الوديعة مؤتمن «1»، لا يدلّ إلّا على ثبوت الأمانة بنحو الحكومة، فلا يستفاد منه إلّا عدم الضمان فقط، فالقاعدة العامّة الثابتة عند العقلاء و هي عدم ثبوت الضمان في جميع موارد الأمانة ممّا لم يثبت عند الشرع لو لم يقال بأنّ عموم «على اليد» دليل على خلافه، و أنّ الشارع قد ردع العقلاء في عموم القاعدة.

مدفوعة مضافاً إلى ما عرفت من استفادة مفروغية ذلك في الشرع بعد التتبع و التأمّل بأنّ الردع عن مثل هذا الأمر يحتاج إلى دليل قويّ، و لا يكتفى فيه بالعموم كما هو ظاهر.

و بالجملة: بعد ثبوت هذه القاعدة عند العقلاء إذا القي عليهم عموم قوله: «على اليد» يمكن أن يقال: بأنّ ثبوتها عندهم قرينة على اختصاص العموم باليد غير الأمانيّة، و عدم انعقاد ظهور للعام إلّا فيه، فيكون كالقرينة المتّصلة التي يشتمل عليها الكلام، و من الواضح أنّه حينئذٍ لا يجوز التمسّك في موارد الشكّ في صدق الأمانة بالعموم؛ لانعقاد ظهوره من أوّل الأمر في اليد غير الأمانيّة، و تحقّقه في موارد الشكّ غير معلوم.

و أمّا لو قلنا بعدم كون هذه القاعدة من قبيل المخصّص المتّصل، بل هو من قبيل المخصّص المنفصل فالظاهر حينئذٍ أنّه لا مانع من التمسّك بالعامّ، بناءً على أنّه لو كان المخصّص المنفصل مجملًا مردّداً بين الأقلّ و الأكثر كما في المقام فلا مانع من التمسّك بالعموم في مورد الشكّ في انطباق عنوان المخصّص عليه، كما عليه أكثر الكتب الأُصولية، و حينئذٍ يصير مقتضى القاعدة ثبوت الضمان في موارد الشكّ، كما أنّ مقتضى أصالة البراءة و استصحاب عدم الضمان

في الفرض الأوّل هو العدم.

______________________________

(1) التهذيب: 7/ 182 ح 798، الاستبصار: 3/ 124 ح 441، وسائل الشيعة: 19/ 93، كتاب العارية ب 1 ح 6.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 557

..........

______________________________

إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم أنّ الأمانة كما صرّح به بعض اللغويّين «1» حقيقة في المعنى المصدري، و استعمالها في العين الخارجيّة مجاز حتّى في الوديعة، و عليه فمرجع اتّصاف الشخص بكونه أميناً ليس إلى كون المال أمانة عنده، كما لعلّه المتفاهم عند العرف، بل إلى كونه متّصفاً بالوثاقة و الاطمئنان و لو لم يجعل مال عنده أصلًا، و حينئذٍ فالمستفاد من الروايات الكثيرة الواردة في الموارد المختلفة مثل قوله عليه السلام في رواية الحلبي: صاحب الوديعة و البضاعة مؤتمنان «2»، و قول أبي جعفر عليه السلام في مرسلة أبان في الجواب عن السؤال عن الذي يستبضع المال فيهلك أو يسرق، أ على صاحبه ضمان؟ فقال: ليس عليه غرم بعد أن يكون الرجل أميناً «3»، و الروايات الكثيرة الواردة في كراهة ائتمان شارب الخمر، و أنّه لا يصلح أن يؤتمن «4» خصوصاً ما اشتمل منها على قصّة إسماعيل ابن الصادق عليه السلام أنّ الملاك و المناط في عدم الضمان هو كون الرجل أميناً و موثوقاً به «5».

و أمّا ما أفاده المحقّق الإصفهاني قدس سره من أنّ ما ورد من الحكم بعدم التغريم إذا كان مأموناً فهو كالحكم بعدم التغريم إذا كان عدلًا مسلماً في رواية أُخرى «6»، فإنّ الملحوظ عدم التغريم من حيث التفريط، يعني إذا كان عدلًا مسلماً مأموناً فهو لا يفرط، و إلّا فالضمان من حيث التلف لا يتفاوت فيه البرّ و الفاجر «7».

______________________________

(1) أقرب الموارد: 1/ 20.

(2) التهذيب:

7/ 183 ح 805، وسائل الشيعة: 19/ 93، كتاب العارية ب 1 ح 6.

(3) الكافي: 5/ 238 ح 4، وسائل الشيعة: 19/ 93، كتاب العارية ب 1 ح 8.

(4) وسائل الشيعة: 19/ 82 84، كتاب الوديعة ب 6.

(5) الكافي: 5/ 299 ح 1، وسائل الشيعة: 19/ 82، كتاب الوديعة ب 6 ح 1.

(6) الكافي: 5/ 238 ذيل ح 1، وسائل الشيعة: 19/ 79، كتاب الوديعة ب 4 ح 3.

(7) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 31.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 558

..........

______________________________

ففيه: أنّه لا وجه لرفع اليد عن ظاهر الرواية من التفصيل بين ما إذا كان مأموناً و ما إذا لم يكن، و الحكم بعدم التغريم فيما إذا كان مسلماً عدلًا قد لوحظ فيه هذا المعنى، ضرورة أنّ المسلم العادل ينبغي أن يوثق و يطمئنّ به كما هو ظاهر.

فانقدح أنّ المناط هو كون الرجل موثوقاً به، و في المقام نقول: إنّ المستأجر إذا كان موثوقاً به فهو غير ضامن من جهة كونه أميناً لا من جهة كونه مستأجراً، و إذا لم يكن كذلك فلا يستفاد من تلك الروايات عدم ضمانه، هذا كلّه فيما تقتضيه القاعدة.

و أمّا الكلام من الجهة الثانية، فنقول: قد ادّعي عدم الخلاف بل الإجماع على عدم ضمان العين المستأجرة إلّا مع التعدّي أو التفريط في محكي «1» التذكرة «2» و التنقيح «3» و الإيضاح النافع «4» و الغنية «5» و الرياض «6»، و لكنّ الظاهر أنّه لا مجال للاتّكال على الإجماع في مثل المقام ممّا يمكن أن يكون مستند المجمعين فيه هي القاعدة أو النصوص الخاصّة، ضرورة أنّه مع هذا الاحتمال يكون اللّازم النظر في المستند، و أنّه هل

يكون قابلًا للاستناد أم لا؟ فالإجماع فيما نحن فيه لا يكون دليلًا مستقلا.

و أمّا النصوص الخاصّة فكثيرة، و مقتضاها أنّه لا ضمان إلّا مع التعدّي

______________________________

(1) الحاكي هو صاحب مفتاح الكرامة: 7/ 251.

(2) تذكرة الفقهاء: 2/ 317 318.

(3) التنقيح الرائع 2: 259.

(4) إيضاح النافع في شرح المختصر النافع للفاضل القطيفي لم نعثر عليه.

(5) غنية النزوع: 288.

(6) رياض المسائل: 6/ 18.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 559

..........

______________________________

أو التفريط:

منها: رواية علي بن جعفر، عن أخيه أبي الحسن عليه السلام قال: سألته عن رجل استأجر دابّة فأعطاها غيره فنفقت، ما عليه؟ قال: إن كان شرط أن لا يركبها غيره فهو ضامن لها، و إن لم يسمّ فليس عليه شي ء «1».

و منها: صحيحة أبي ولّاد الحناط الطويلة الواردة فيمن استأجر دابّة إلى مسافة فتجاوزها و فيها قوله: فقلت له: أ رأيت لو عطب البغل و نفق أ ليس كان يلزمني؟ قال: نعم قيمة بغل يوم خالفته، قلت: فإن أصاب البغل كسر أو دبر أو غمز؟ فقال: عليك قيمة ما بين الصحّة و العيب يوم تردّه عليه «2».

و منها: رواية الحسن الصيقل قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: ما تقول في رجل اكترى دابّة إلى مكان معلوم فجاوزه؟ قال: يحسب له الأجر بقدر ما جاوزه، و إن عطب الحمار فهو ضامن «3».

و منها: رواية الحلبي قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام: عن رجل تكارى دابّة إلى مكان معلوم فنفقت الدابّة؟ قال: إن كان جاز الشرط فهو ضامن، و إن دخل وادياً لم يوثقها فهو ضامن، و إن سقطت في بئر فهو ضامن؛ لأنّه لم يستوثق منها «4». و هذه الرواية تدلّ على الضمان في

صورتي التعدّي و التفريط معاً بخلاف الروايات المتقدّمة، فإنّ مدلولها الضمان في مورد التعدّي.

و منها: رواية الحلبي، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام على ما رواه الشيخ، المشتملة على

______________________________

(1) الكافي: 5/ 291 ح 7، وسائل الشيعة: 19/ 118، كتاب الإجارة ب 16 ح 1.

(2) الكافي: 5/ 290 ح 6، وسائل الشيعة: 19/ 119، كتاب الإجارة ب 17 ح 1.

(3) الكافي: 5/ 289 ح 1، وسائل الشيعة: 19/ 121، كتاب الإجارة ب 17 ح 2.

(4) الكافي: 5/ 289 ح 3، وسائل الشيعة: 19/ 121، كتاب الإجارة ب 17 ح 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 560

..........

______________________________

زيادة: و عن رجل استأجر أجيراً فأقعده على متاعه فسرقه، قال: هو مؤتمن «1». بناءً على أن يكون العمل المستأجر عليه هو الحفظ، و أمّا لو كان أمراً آخر و الإقعاد على المتاع خارجاً عن الإجارة فلا مجال للاستدلال بها للمقام.

و منها: رواية محمّد بن قيس، عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام في حديث: و لا يغرم الرجل إذا استأجر الدابّة ما لم يكرهها أو يبغها غائلة «2».

و منها: ما رواه عليّ بن جعفر عليه السلام في محكي كتابه عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال: سألته عن رجل استأجر دابّة فوقعت في بئر فانكسرت ما عليه؟ قال: هو ضامن إن كان لم يستوثق منها، فإن أقام البيّنة أنّه ربطها فاستوثق منها فليس عليه شي ء «3».

و منها: ذيل رواية الحلبي الأُولى المتقدّمة على ما رواه الصدوق بإسناده عن حمّاد، عنه، و هو قوله عليه السلام: و أيّما رجل تكارى دابّة فأخذتها الذئبة فشقّت كرشها فنفقت فهو ضامن، إلّا أن يكون

مسلماً عدلًا «4». بناءً على أن يكون المراد بالمسلم العدل هو الأمين؛ لأنّه ينبغي أن يكون مؤتمناً، و على أن يكون المفروض صورة عدم التفريط و التعدّي، فيصير المراد عدم ثبوت الضمان على الأمين مع عدمهما.

هذه هي الروايات الواردة في المقام، و مقتضى ما عدا الأخيرة منها عدم ثبوت الضمان على المستأجر مطلقاً إلّا مع التعدّي أو التفريط، و لكن الأخيرة ظاهرة في التفصيل بين الأمين و غيره، و يمكن حمل ما عداها على الأمين أيضاً؛ لأنّ الغالب في

______________________________

(1) التهذيب: 7/ 218 ح 952، وسائل الشيعة: 19/ 142، كتاب الإجارة ب 29 ح 3.

(2) التهذيب: 7/ 182 ح 800، وسائل الشيعة: 19/ 155، كتاب الإجارة ب 32 ح 1.

(3) مسائل علي بن جعفر: 196 ح 415، وسائل الشيعة: 19/ 156، كتاب الإجارة ب 32 ح 4.

(4) الفقيه: 3/ 162 ح 710، وسائل الشيعة: 19/ 155، كتاب الإجارة ب 32 ح 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 561

..........

______________________________

المستأجر أن يكون مؤتمناً لدى المؤجر، و إلّا لا يقدم على إجارة العين منه المستلزمة لتسلّطه عليها، و لم يثبت إطلاق في الروايات؛ لأنّه لم يحرز كونها بصدد البيان من هذه الجهة، و أنّ المستأجر بما هو مستأجر لا يكون ضامناً، فتأمّل.

المسألة الثانية: ضمان العين المستأجرة بعد مدّة الإجارة و عدمه، و الكلام فيها تارةً من حيث الأقوال، و أُخرى من جهة مقتضى القاعدة في مورد الشكّ، و ثالثة من جهة ما تقتضيه القواعد و النصوص في فروع المسألة التي هي كثيرة كما تجي ء.

أمّا من الجهة الأُولى: فقد حكى في الجواهر «1» عن الإسكافي «2» و الطوسي «3» أنّهما أطلقا الضمان بعد المدّة، و

لكن في المفتاح: أنّ في المبسوط و التنقيح «4» الحكم بالضمان نظراً إلى وجوب الردّ بعد انقضاء المدّة، و أنّ الضمان لازم لأبي علي حيث أوجب عليه الردّ، و لازم للقاضي حيث خيّر المؤجر بعد المدّة بين أخذ قيمة ما نقصت، و بين أخذ أُجرة المثل فيما زاد «5». و قال في ذيل كلامه: و من لحظ كلام التنقيح في النقض و الإبرام في المقام عرف أنّه غير منقّح بل و لا صحيح، و قد تسامح جماعة «6» في جعلهم صريح الشيخ صريح أبي علي لكنّه سهل «7».

و كيف كان، فلا إشكال في أنّ الشهرة «8» إنّما هي على عدم الضمان و عدم الفرق في

______________________________

(1) جواهر الكلام: 27/ 216.

(2) حكى عنه في مختلف الشيعة: 6/ 128 مسألة 29.

(3) المبسوط: 3/ 249.

(4) التنقيح الرائع: 2/ 259.

(5) المهذّب: 1/ 483.

(6) مسالك الأفهام: 5/ 176، رياض المسائل: 6/ 19، الحدائق الناضرة: 21/ 543.

(7) مفتاح الكرامة: 7/ 251 252.

(8) رياض المسائل: 6/ 19، الحدائق الناضرة: 21/ 543، بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 32.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 562

..........

______________________________

التلف بين المدّة و بعدها.

و أمّا من الجهة الثانية: فنقول: بعد الفراغ عن كون مقتضى القاعدة الأوّلية المستفادة من عموم: «على اليد» «1» هو الضمان في موارد ثبوت اليد و الاستيلاء على مال الغير، و عدم المناقشة في سند رواية: «على اليد» و لا في دلالتها من جهة قصوره عن الشمول لليد الأمانية، كما قاله بعض على ما حكي «2»، أو من جهة ظهوره في اليد الحادثة الابتدائية، و عدم شموله لمثل المقام ممّا كان حدوث اليد غير مستلزم للضمان، و كان الشكّ في بقائها أنّه

تارة يقال: بأنّ الخارج من عموم «على اليد» هي القضية الكليّة المشتملة على عدم ثبوت الضمان على المستأجر بما هو مستأجر، و أُخرى بأنّ ما خرج عن ذلك العموم إنّما هو عدم ثبوت الضمان على المؤتمن بما هو مؤتمن.

فعلى الأوّل ينحصر الاستصحاب الجاري في المقام بالاستصحاب الحكمي؛ و هو استصحاب عدم الضمان أو عدم وجوب ردّ المثل أو القيمة بعد التلف، و على فرضه لا مجال للاستصحاب الموضوعي بعد العلم بزوال عنوان المستأجر بانقضاء مدّة الإجارة.

لا يقال: إنّه لا مجال هنا للاستصحاب الحكمي أيضاً نظراً إلى أنّ الحكم المستصحب إنّما رتّب على عنوان المستأجر، و المفروض زواله بانقضاء المدّة فكيف يمكن عروض الشكّ في بقاء الحكم مع القطع بزوال موضوعه.

لأنّا نقول: الشكّ في الحكم مع القطع بزوال الموضوع إنّما هو لأجل تردّد

______________________________

(1) تقدّم في ص 338.

(2) راجع بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 38.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 563

..........

______________________________

الموضوع بين أن يكون هو الذات، و يكون وصف المستأجرية دخيلًا في عدم الضمان حدوثاً، و بين أن يكون هو الذات المتّصف بذلك الوصف حدوثاً و بقاءً، و هذا نظير الماء المتغيّر الذي يجري فيه الاستصحاب بعد زوال تغيّره، و السرّ في جريان الاستصحاب في أمثاله أنّ المستصحب ليس هو الحكم الكلّي الذي رتّب على عنوان الموضوع المأخوذ في الدليل الذي قطع بزواله، بل الحكم الجزئي الذي ثبت لمصداقه الخارجي الذي كان معنوناً بعنوان الموضوع ثمّ زال عنه، ففي المقام نقول: إنّ هذا الشخص المستأجر لم يكن ضامناً في مدّة الإجارة فيستصحب بعد المدّة، فلا مجال للإشكال في الاستصحاب الحكمي من هذه الجهة.

نعم، ربما يناقش في مثله بأنّه لا بدّ أن يكون

المستصحب حكماً أو موضوعاً ذا حكم، و عدم الضمان ليس كذلك، و لكن قد حقّقنا في محلّه جريان هذا النوع من الاستصحابات أيضاً.

و العمدة في المقام أنّه مع اقتضاء عموم «على اليد» للضمان بعد المدّة لا مجال لجريان استصحاب حكم المخصّص؛ لتقدّم الإمارة على الأصل كما قرّر في محلّه.

و على الثاني كما يجري الاستصحاب الحكمي المتقدّم، كذلك يجري الاستصحاب الموضوعي أيضاً؛ لعدم القطع بزوال الائتمان، لكن الاستصحاب الحكمي محكوم للعموم على ما عرفت من أنّه مع شمول العام لا مجال لاستصحاب حكم المخصّص، و أمّا الاستصحاب الموضوعي فلا مانع من جريانه؛ لأنّ نتيجته تنقيح موضوع الدليل المخصّص فلا يعارض العامّ، و هذا نظير استصحاب بقاء الفسق في الفاسق الخارج عن عموم «أكرم العلماء» إذا شك في بقاء عدم وجوب إكرامه لأجل الشكّ في بقاء فسقه.

ثمّ إنّ هذا كلّه على تقدير ثبوت عموم «على اليد» الدالّ على الضمان. و أمّا لو

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 564

..........

______________________________

نوقش فيه إمّا من حيث السند و إمّا من جهة الدلالة، فلا إشكال في أنّ مقتضى الاستصحاب حينئذٍ عدم الضمان و براءة الذمّة من وجوب ردّ المثل أو القيمة على فرض التلف. نعم، ظاهرهم أنّه لا إشكال في الضمان مع التعدّي أو التفريط بعد المدّة مع أنّه أيضاً مشكل؛ لأنّ مستند الضمان مع أحدهما لو كان هو الإجماع أو بناء العقلاء عليه مع عدم الردع، فاللّازم ملاحظة ثبوتهما و أنّه هل يكونان ثابتين أم لا.

و أمّا لو كان المستند قاعدة «من أتلف» فيرد عليه مضافاً إلى أنّه لم يثبت كونها قاعدة شرعية دلّ على ثبوتها نصّ أو إجماع أنّ صدق الإتلاف لا يلازم صدق التعدّي

فضلًا عن التفريط، فإنّ مجرّد التعدّي مع فرض كون التلف اتّفاقياً حاصلًا بآفة سماوية أو أرضية غير مترقّبة، لا يوجب تحقّق عنوان الإتلاف كما هو ظاهر، كما أنّه لو كان المستند هي الأولويّة القطعيّة، نظراً إلى أنّ العين في مدّة الإجارة إذا كانت مضمونة بالتعدّي أو التفريط فثبوت الضمان بعد المدّة بسبب أحدهما بطريق أولى، يرد عليه أيضاً منع الأولوية بل منع التسوية؛ لاحتمال كون العين في مدّة الإجارة أمانة شرعية و بعدها أمانة مالكية، كما اختاره المحقّق الرشتي قدس سره «1».

و عليه فإذا كانت العين مضمونة بسبب التعدّي أو التفريط مع الأمانة الشرعية فذلك لا يلازم ثبوت الضمان مع كونها أمانة مالكية؛ لأنّ الأمانة الشرعية حيث يكون الترخيص فيها من الشارع فقد لاحظ الشارع فيها جانب المالك أيضاً بإثبات الضمان مع التعدّي أو التفريط، و أمّا مع ثبوت الترخيص و التأمين من قِبَل

______________________________

(1) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 47.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 565

..........

______________________________

المالك فلا مانع من عدم جعل الضمان الناشئ من رعاية المالك بعد كون الاستيلاء حاصلًا باختياره و عن رضاه، و الغرض من ذلك كلّه ليس إلّا مجرّد نفي الأولويّة القطعية، و إلّا فهذا التفصيل مخدوش عندنا كما لعلّه يجي ء.

نعم، يمكن الاستدلال على الضمان في خصوص صورة التعدّي بما يستفاد من صحيحة أبي ولّاد الحناط الواردة في استئجار البغل مع التعدّي من قوله عليه السلام في مقام بيان التعليل لعدم جواز الرجوع إلى المالك بقيمة العلف: «لأنّك غاصب» «1» فإنّ هذا التعليل ظاهر في أنّ مجرّد التعدّي يوجب انطباق عنوان الغاصب عليه، و من المعلوم أنّ التعدّي بعد المدّة مشترك معه فيها من هذه الجهة، اللّهم إلّا

أن يقال بعدم كون المراد انطباق العنوان عليه حقيقة، بل المراد تنزيله منزلته في الحكم بالضمان، و لكنّه مخالف للظاهر.

و كيف كان، فالظاهر أنّه لا ينبغي المناقشة في الحكم بثبوت الضمان مع التعدّي أو التفريط كما عرفت.

و أمّا من الجهة الثالثة: فنقول: إنّ للمسألة فروعاً متعدّدة؛ لأنّ المستأجر تارةً يعلم ببقاء رضا المالك و عدم انتفائه بانقضاء مدّة الإجارة، و أُخرى يشكّ في بقاء رضاه لاحتمال كونه محدوداً بتلك المدّة، و ثالثة يعلم بغفلته و عدم التفاته إلى الانقضاء، و رابعة يعلم بارتفاع رضاه و عدم كون بقاء العين في يد المستأجر مرضياً عنده بوجه.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ ظاهر القائل بالضمان في المقام أنّه مبنيّ على القول بوجوب الردّ، و يظهر هذا من صاحب مفتاح الكرامة أيضاً، حيث نفى الضمان

______________________________

(1) الكافي: 5/ 290 ح 6، وسائل الشيعة: 19/ 119 120، كتاب الإجارة ب 17 ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 566

..........

______________________________

لأجل منعه عن وجوب الردّ و حكمه بأنّ الواجب بعد الانقضاء تمكينه منها و التخلية بينها و بينه، كالرهن إذا أدّى الراهن الدين، و الوديعة و سائر الأمانات، فإذا فعل ما وجب عليه أو عزم عليه فلا تقصير و لا تعدّياً و لا تفريطاً، و اعترض على المحقّق الثاني «1» حيث جمع بين عدم وجوب الردّ و التسليم للشيخ «2» في أنّها بعد انقضاء المدّة غير مأذون في قبضها، بأنّه كالمتناقض «3».

و بالجملة: يرد عليه أوّلًا: أنّه لم يعلم أنّ القول بوجوب الردّ هل يجري في جميع الفروع المتقدّمة أو في بعضها، و ثانياً: أنّ ابتناء القول بالضمان عليه ممنوع؛ لأنّ الملاك في الضمان هو الاستيلاء مع عدم

الإذن، و مجرّد التخلية لا يخرج العين عن كونها في يده و تحت استيلائه، كما صرّح به سيّدنا العلّامة الأستاذ في تعليقته على العروة «4».

و التحقيق أن يقال:

أمّا في الصورة الاولى: فلا إشكال في عدم الضمان مع عدم التعدّي أو التفريط؛ لما عرفت من أنّ الملاك لعدم الضمان في المدّة هو كون الرجل مؤتمناً لا كونه مستأجراً، و من المعلوم في هذه الصورة بقاء الائتمان بلا افتقار إلى الاستصحاب.

و أمّا في الصورة الثانية: التي يشكّ في بقاء الرضا فلا مانع فيها من إجراء الاستصحاب فيما هو الموضوع للحكم بعدم الضمان، فيقال: إنّ الرجل كان مؤتمناً، و مقتضى الاستصحاب بقاؤه على هذه الصفة فلا يكون ضامناً.

______________________________

(1) جامع المقاصد: 7/ 257 258.

(2) المبسوط: 3/ 249.

(3) مفتاح الكرامة: 7/ 251 252.

(4) العروة الوثقى: 5/ 62، التعليقة 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 567

..........

______________________________

و أمّا الصورة الثالثة: فتارةً يعلم المستأجر بأنّه على فرض الالتفات يكون رضاؤه باقياً، و أُخرى يشكّ، و ثالثة يعلم بارتفاع رضاه، ففي الأوّل يجري حكم الصورة الأُولى، و في الثاني حكم الصورة الثانية من جريان الاستصحاب، و في الثالث حكم الصورة الرابعة التي تجي ء.

و أمّا الصورة الرابعة: التي يعلم بعدم الرضا، فإن كان منظور المالك عدم استيلاء المستأجر على العين بوجه و لو بنحو التخلية التي قد عرفت أنّها أيضاً استيلاء فالواجب على المستأجر رفع اليد عن العين مطلقاً، و مع عدمه يثبت الضمان لعدم ثبوت التأمين المالكي و لا الشرعي. و إن كان المنظور عدم التصرّف و عدم الحيلولة فلا دليل على الضمان مع ثبوت التخلية؛ لعدم ارتفاع الائتمان رأساً، كما أنّه لا دليل على وجوب الردّ، و على فرض

الوجوب لا دليل على الملازمة بينه و بين الضمان بعد ما عرفت من أنّ الملاك في الباب هو الائتمان و عدمه.

ثمّ إنّ هذا كلّه إنّما هو مع التفات المستأجر إلى انقضاء مدّة الإجارة، و أمّا مع الغفلة و عدم الالتفات فيتصوّر بعد زوال غفلته الصور المتقدّمة بالنسبة إلى حال الغفلة و يجري عليها حكمها، و قد عرفت أنّ مقتضى الجميع عدم ثبوت الضمان إلّا مع التعدّي أو التفريط، كما هو المشهور «1».

المسألة الثالثة: اشتراط ضمان العين المستأجرة مع عدم التعدّي و التفريط، و قبل الخوض في الكلام في الصحّة و عدمها ينبغي تقديم أُمور:

الأوّل: إنّ محلّ الكلام إنّما هو اشتراط الضمان في نفس عقد الإجارة، فما يغاير هذا العنوان خارج عن محلّ البحث هنا، و عليه فالتضمين من المؤجر بالنسبة إلى

______________________________

(1) رياض المسائل: 6/ 19، الحدائق الناضرة: 21/ 543، بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 32.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 568

..........

______________________________

المستأجر سواء كان في ضمن المقاولة قبل إيقاع العقد، أو كان بعد وقوعه خارج عن البحث في المقام، كما أنّ اشتراط الضمان في ضمن عقد آخر كالبيع و نحوه أيضاً كذلك، و هكذا اشتراط أداء مقدار معيّن من المال على تقدير التلف لا بعنوان ضمان العين، فإنّه أيضاً لا يكون محلّاً للكلام هنا، فالبحث ممحّض في اشتراط الضمان الذي هو من قبيل شرط النتيجة في نفس عقد الإجارة.

الثاني: إنّ محلّ الكلام أيضاً إنّما هو ضمان المستأجر بالنسبة إلى العين المستأجرة التي هي مورد الإجارة، فما استدلّ به السيّد صاحب الرياض من الخبر الوارد في رجل استأجر سفينة من ملّاح فحملها طعاماً و اشترط عليه إن نقص الطعام فعليه، قال: جائز،

قلت: إنّه ربما زاد الطعام، قال: فقال: يدّعي الملّاح أنّه زاد فيه شيئاً؟ قلت: لا، قال: هو لصاحب الطعام الزيادة، و عليه النقصان إذا كان قد اشترط عليه ذلك «1» «2» خارج عمّا هو محلّ البحث، لأنّ مورده ضمان المستأجر الذي هو معطي الأُجرة، و مورد الخبر ضمان من أخذ الأُجرة، كما هو ظاهر.

الثالث: لا ينبغي الارتياب في تحقّق الشهرة على بطلان اشتراط الضمان في المقام، بل يظهر من المفتاح «3» اتّفاق من عدا السيّد ممّن تعرّض لهذا الفرع على بطلان هذا الشرط، و أنّ ظاهر جامع المقاصد الإجماع عليه، حيث قال: و لو شرط الضمان مع التلف و لو بغير تعدّ فالشرط باطل قطعاً «4»، نظراً إلى أنّ الجزم بالبطلان في معنى الإجماع.

______________________________

(1) الكافي: 5/ 244 ح 4، وسائل الشيعة: 19/ 150، كتاب الإجارة ب 30 ح 5.

(2) رياض المسائل: 6/ 19 20.

(3) مفتاح الكرامة: 7/ 253.

(4) جامع المقاصد: 7/ 258.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 569

..........

______________________________

و لكن حكي عن السيّد في الانتصار أنّه لمّا حكى قول الحسن بن حي: إنّ من أعطى الأُجرة لا ضمان عليه و إن شرط الضمان «1»، ردّه بأنّه يخالف الإمامية؛ لأنّ عندنا إن شرط كان الضمان عليه بالشرط «2»، و ظاهر ذلك الإجماع، و حكم بأظهريّة هذا في الرياض «3»، و احتمل صحّة الشرط المولى الأردبيلي «4»، و تبعه تلميذه المحقّق السبزواري «5»، و حكي أيضاً عن المحقّق الخونساري في حاشية الروضة «6». و يمكن أن يكون مورد كلام السيّد خارجاً عمّا هو محلّ الكلام هنا من ضمان من أخذ الأُجرة لا من أعطاها، فلا بدّ من المراجعة إليه.

و كيف كان، فالشهرة المحقّقة إنّما

هي على بطلان الاشتراط في المقام.

الرابع: أنّه هل يعقل اشتراط الضمان بالنسبة إلى العين المستأجرة أم لا؟ و قد صرّح بعدم المعقولية بعض الأجلّة على ما حكي عنه، و يظهر أيضاً من المحكي من سيّدنا العلّامة الأُستاذ البروجردي قدس سره. و غاية ما يمكن أن يوجّه به هذا القول تقريبات ثلاثة:

الأوّل: ما حكي عن البعض المتقدّم، و حاصله: أنّ التسبّب إلى ثبوت الضمان بالاشتراط تارةً مع حفظ اتصاف يد المستأجر بالأمانية، و أُخرى مع التأثير فيها بنحو لم تحدث إلّا فاقدة لتلك الصفة، و بعبارة اخرى الغرض من الاشتراط هل هو

______________________________

(1) راجع المغني لابن قدامة: 6/ 106 و بدائع الصنائع: 4/ 72.

(2) الانتصار: 467.

(3) رياض المسائل: 6/ 19.

(4) مجمع الفائدة و البرهان: 10/ 69 70.

(5) كفاية الأحكام: 124.

(6) الحواشي على شرح اللمعة الدمشقية: 365.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 570

..........

______________________________

ثبوت الضمان على من كانت يده أمانيّة، أو التصرّف في يده بحيث انقلبت عمّا هي عليه لو لا الاشتراط و صارت غير أمانية؟ و كلا الأمرين غير معقول: أمّا الأوّل: فلوضوح معاندة ثبوت الضمان مع اتّصاف اليد بالأمانية، فإنّ حقيقتها كونها بحيث لا يترتّب عليها الضمان، و أمّا الثاني: فلأنّ الضمان حينئذٍ مستند إلى عدم كون اليد يداً أمانيّة لا إلى اشتراط عدمه، فلا يمكن التوصّل إلى الضمان من جهة الاشتراط المحض.

الثاني: ما يمكن ادّعاؤه بناءً على مبنى البعض المتقدّم؛ و هو كون الإجارة حقيقتها البيع. غاية الأمر أنّها بيع من جهة مخصوصة في زمان محدود، فإنّه يقال حينئذٍ: بأنّه على هذا التقدير لا يعقل اشتراط الضمان؛ لأنّ مرجعه إلى جعل الشخص ضامناً لمال نفسه و هو غير معقول.

الثالث: ما حكي

عن تقريرات بحث الإجارة لسيّدنا الأستاذ قدس سره ممّا يرجع إلى أنّ اشتراط الضمان مناف لما هو الثابت عندهم من بطلان الإجارة بتلف العين المستأجرة؛ لأنّ مرجع اشتراط الضمان إلى ثبوت العين مثلًا أو قيمة في عهدة المستأجر على تقدير التلف، و في هذا التقدير تكون الإجارة باطلة عندهم، و مع فرض البطلان لا يبقى مجال للزوم الشرط لكونه تابعاً لها.

و بعبارة اخرى قبل تلف العين لا معنى للضمان و بعده لا يبقى موضوع الإجارة، فلا معنى للزوم الوفاء بالشرط في ضمنها كما في سائر العقود، أ لا ترى أنّه لو اشترطت الخياطة مثلًا في ضمن عقد البيع ثمّ انفسخ البيع بالتقايل أو بغيره، فهل يجب على المشروط عليه الوفاء بالشرط بفعل الخياطة، أم يكون وجوب الوفاء به تابعاً لوجوب الوفاء بالعقد الذي وقع الشرط في ضمنه؟

________________________________________

لنكرانى، محمد فاضل موحدى، تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، در يك جلد، مركز فقهى ائمه اطهار عليهم السلام، قم - ايران، اول، 1424 ه ق

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة؛ ص: 570

و منه يظهر اندفاع ما ربما يمكن أن يتوهّم من أنّه لا حاجة في لزوم الوفاء

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 571

..........

______________________________

بالشرط إلى ما يدلّ على وجوب الوفاء بالعقد حتّى يتوقّف ذلك على بقاء العقد و عدم انفساخه، بل يكفي قوله صلى الله عليه و آله: «المؤمنون عند شروطهم» «1» في إفادة اللزوم و لو بعد انفساخ العقد. و بعبارة اخرى إفادة الشرط للّزوم إنّما تتوقّف على العقد في الحدوث، و أمّا في البقاء فلا؛ لكفاية ما يدلّ على لزومه مع قطع النظر عن العقد.

وجه الاندفاع ما

عرفت من أنّ لازم هذا التوهّم وجوب العمل بالشرط في المثال المذكور، مع أنّه بعيد عن مذاق العرف و الشرع، و السرّ أنّ الشرط الذي يجب الوفاء به هو الشرط الذي كان متدلّياً في العقد و متعلّقاً به حدوثاً و بقاءً، و لا معنى للزوم الوفاء به مع فرض انفساخ العقد و بطلانه، و إلّا لكان اللّازم وجوب الوفاء بالشروط الابتدائية أيضاً.

فانقدح أنّه لا يمكن اجتماع تأثير اشتراط الضمان في ثبوته مع ما هو الثابت عندهم، المتسالم عليه بينهم من عروض البطلان و الانفساخ للإجارة بسبب التلف، سواء قيل بكون الانفساخ من حين التلف، أو قيل بكون التلف كاشفاً عن بطلان الإجارة من رأس بالنسبة إلى ما بعد التلف من المدّة الباقية؛ بمعنى عدم انعقادها من الأصل بالنسبة إلى تلك المدّة كما هو المختار.

إن قلت: إنّ ما ذكر إنّما يتم فيما إذا تلفت العين المستأجرة بتمامها، و أمّا لو تلف بعض أجزائها فلا منافاة حينئذٍ، لعدم انفساخ الإجارة بتلف البعض، فيجوز أن يؤثّر الشرط في ضمنها في الضمان بالنسبة إلى البعض التالف، و لا يلزم حينئذٍ ما ذكر.

قلت: كما أنّ تلف الجميع يوجب انفساخ الإجارة بالنسبة إليه، كذلك تلف البعض يوجب انفساخ الإجارة أيضاً. غاية الأمر بالإضافة إليه، و حينئذٍ فإن

______________________________

(1) تقدّم في ص 406.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 572

..........

______________________________

أُريد بتأثير الشرط تأثير الحصّة التي تكون في ضمن الحصة المنفسخة من العقد، فهذا عين ما ذكر من بقاء الشرط مع عدم بقاء العقد و وجوب الوفاء به مع عدم وجوب الوفاء بالعقد. و إن أُريد به تأثير ما وقع في ضمن الحصّة الباقية غير المنفسخة من العقد، فمضافاً إلى

أنّ ما وقع في ضمن هذه الحصّة ليس اشتراط الضمان بالنسبة إلى البعض التالف كما هو غير خفيّ، نقول: على تقديره هو خارج عن الفرض؛ لأنّ محلّ الكلام هو اشتراط الضمان في ضمن عقد الإجارة بنفسها لا في ضمن عقد آخر، و هذه الحصّة الباقية بالإضافة إلى الحصّة المنفسخة بمنزلة العقد الآخر، فاشتراط الضمان في ضمنها إنّما هو كاشتراط ضمان العين المستأجرة في ضمن عقد آخر كالبيع و نحوه، و قد عرفت خروجه عن محلّ الكلام.

و دعوى عدم مساعدة العقلاء و الشرع على تبعّض العقد و صيرورته ذا حصص حتّى يبقى بعض حصصه و ينفسخ البعض الآخر، مدفوعة بالمنع لعدم الدليل على خلافه.

هذه هي التقريبات الثلاثة لدعوى الامتناع و عدم المعقولية.

و يرد على الأوّل: أنّ الغرض من تأثير الاشتراط في ثبوت الضمان هو التوصّل إليه من طريق الشرط، و لو بأن يكون مؤثِّراً في أن تحدث اليد غير أمانية حتّى يترتّب عليها الضمان لأجل ذلك، فهذا التقريب يشبه النزاع اللفظي كما لا يخفى.

و على الثاني: أنّ منافاة اشتراط الضمان لهذا النوع من البيع أوّل الكلام، كيف و لو كانت الإجارة بيعاً حقيقيّا غير قابلة لجعل الضمان فيها لكان اللّازم عدم معقولية جعل الضمان مع التعدّي و التفريط أيضاً؛ لأنّ الإنسان لا يضمن مال نفسه و لو مع التعدّي و التفريط. هذا، مضافاً إلى أنّ هذا المبنى فاسد جدّاً؛ لأن الإجارة كما عرفت من الاعتبارات المغايرة للبيع، و لا تكون من أنواعه لدى العقلاء الذين

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 573

..........

______________________________

هم الملاك في باب المعاملات و اعتباراتها على ما مرّ «1».

و أمّا التقريب الثالث الذي حكي عن تقريرات سيّدنا العلّامة الأُستاذ

قدس سره، و مفاده الامتناع و إن كان نظره قدس سره منه إلى عدم الصحّة للمنافاة المذكورة؛ لأنّ لازم تلك المنافاة عدم المعقولية، لكون البطلان بالتلف متسالماً عليه بينهم، و هو لا يجتمع مع الاشتراط، فلا يعقل تأثيره مع حفظ ذلك فقد أُجيب عنه بوجهين:

الأوّل: أنّ ما أفاده من كون ثبوت الضمان لا يعقل إلّا بعد التلف ممنوع؛ لاحتمال كونه من قبيل الواجب المعلّق، بأن يكون ضامناً فعلًا للعين بعد التلف، و عليه فالشرط إنّما أثّر حين بقاء العقد و عدم انفساخه. غاية الأمر أنّ نتيجة الضمان إنّما تظهر بعد التلف.

و يرد على هذا الوجه أنّ مدخلية التلف في الضمان ممّا لا تنبغي الخدشة فيها، فإنّ التلف لدى العرف و العقلاء إمّا أن يكون سبباً لثبوت الضمان في موارده، و إمّا أن يكون موضوعاً لاعتباره بناءً على القول بأنّه لا معنى للسببيّة و المسبّبية في الأُمور الاعتبارية، فاعتبار الضمان قبل حصول التلف ممّا لا يساعد عليه الاعتبار، و تحقيق الكلام على هذا المرام في محلّه.

الثاني: أنّ الشروط على قسمين:

أحدهما: ما يكون منجّزاً غير معلّق على شي ء، كاشتراط الخياطة مطلقاً من دون تعليق على أمر.

ثانيهما: ما يكون معلقاً على شي ء، كاشتراط إكرام زيد على تقدير مجيئه، و المعلّق عليه في هذا القسم قد يكون أمراً خارجيّاً لا ارتباط له بالعقد، كمجي ء

______________________________

(1) في ص 11.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 574

..........

______________________________

زيد في المثال، و قد يكون أمراً مرتبطاً بالعقد، كانفساخه أو التلف الموجب للانفساخ في الإجارة.

لا إشكال في إمكان الاشتراط و صحّته إذا كان المعلّق عليه على النحو الأوّل، و أمّا إذا كان على النحو الثاني، كما إذا اشترط الضمان في الإجارة

على تقدير انفساخها، فالدليل على عدم الإمكان إن كان هو عدم وجوب الوفاء بالعقد في ظرف الانفساخ الذي هو المعلّق عليه فلا معنى لوجوب الوفاء بالشرط الذي هو تبع له و متدلّ فيه، فنقول: لازم ذلك تحقّق الانفكاك بين وجوب الوفاء بالعقد، و بين قوله صلى الله عليه و آله: المؤمنون عند شروطهم «1» في البقاء مع اقترانهما في الحدوث، و حينئذٍ يمكن أن يقال: إنّ القدر المتيقّن من الشروط التي لا يجب الوفاء بها هي الشروط الابتدائية، غير المقترنة بالعقد، و أمّا ما كان منها مقروناً بالعقد حادثاً معه فلا يحتاج في البقاء إليه، بل يكفي العموم في لزوم الوفاء به و إن لم يجب الوفاء بالعقد، خصوصاً لو كان المشروط هي النتيجة دون الفعل كما في المقام.

و بعبارة اخرى الاشتراط في حين وقوعه لا يكون مجرّداً غير مرتبط بالعقد، بل الالتزام بالشرط وقع في ضمن الالتزام العقدي، و قبل حصول المعلّق عليه لا معنى لتأثيره لكونه تعليقياً على ما هو المفروض، و بعد حصوله يترتّب عليه الملتزم به قهراً من دون حاجة إلى بقاء العقد حينئذٍ؛ لأنّه مقتضى الالتزام الواقع في ضمن العقد.

ثمّ إنّه لو سلّم عدم إمكان اشتراط شي ء معلّقاً على انفساخ العقد فيمكن أن يقال بأنّ ذلك لا يلازم عدم الإمكان في المقام؛ و هو اشتراطه معلّقاً على التلف و إن كان

______________________________

(1) تقدّم في ص 406.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 575

..........

______________________________

موجباً للانفساخ، و الوجه أنّ التعليق على الانفساخ مرجعه إلى تأثير الاشتراط في الرتبة المتأخّرة عن الانفساخ، و هذا لا يجتمع مع كونه متدلّياً في العقد معدوداً من توابعه، و أمّا التعليق على التلف فلا

يرجع إلى ذلك؛ لأنّ تأثير الاشتراط لا يكون متأخّراً عن زوال العقد، بل مرجعه إلى تقارن زوال العقد و حصول المعلّق على التلف بمجرّده، فتأثير الاشتراط في رتبة الانفساخ لا متأخّر عنه و لا دليل على امتناع ذلك.

هذا، مضافاً إلى أنّ ما أفاده من تبعّض العقد فيما إذا تلفت العين ببعض أجزائه محلّ نظر؛ لأنّ لازم ذلك بطلان البعض و بقاء البعض الآخر على اللزوم، مع أنّ اللّازم من تلف بعض العين هو الخيار بالنسبة إلى المجموع لا التبعّض بالنحو المذكور، كما هو ظاهر.

و إلى أنّ دعوى التبعّض إنّما تتمّ على تقديره فيما إذا تلف بعض الأجزاء، و أمّا لو تبدّل بعض أوصاف العين فلا وجه لهذه الدعوى، و في هذه الصورة يمكن اشتراط ضمان الوصف المتبدّل، و لا يقتضي الوجه المتقدّم عدم جوازه؛ لعدم عروض التبعّض و بقاء العقد على النحو الحادث، فالاشتراط الواقع في ضمنه لا مانع من تأثيره، أضف إلى ذلك أنّ دعوى التبعّض في نفسها مخدوشة بل ممنوعة؛ لعدم مساعدة العرف عليها.

و يمكن الإيراد على هذا الجواب أيضاً بأنّه كما أنّ الشرط يحتاج في لزوم الوفاء به إلى كونه في ضمن العقد متّكئاً عليه حدوثاً، كذلك يحتاج في البقاء إلى بقاء العقد. و بعبارة اخرى؛ إمّا أن يقال: بأنّ العموم في قوله: المؤمنون عند شروطهم يشمل الشروط الابتدائية فلا يحتاج في الحدوث إلى العقد أيضاً، و إمّا أن يقال لعدم الشمول فيفتقر في البقاء إليه أيضاً؛ لأنّ مرجع ذلك إلى أنّ الشرط لا يؤثّر مستقلا،

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 576

..........

______________________________

بل يحتاج إلى ما يستند إليه، فالتفصيل بين الحدوث و البقاء ممّا لا نعرف له وجهاً، و

عليه فلا معنى لاشتراط شي ء معلّقاً على انفساخ العقد عند من لا يرى شمول ذلك العموم للشروط الابتدائية، و منه يظهر أنّه لا يجدي في ذلك دعوى اتّحاد رتبة الانفساخ و تنجّز الشرط فيما لو علّق الضمان على التلف، فإنّ مجرّد اتّحاد الرتبة و عدم تأخّر تنجّز المشروط عن زوال العقد و بطلانه لا يفيد، بناءً على عدم كون الشرط قابلًا للتأثير مستقلا.

هذا، مضافاً إلى أنّ هذه الدعوى إنّما تتمّ على القول بتأخّر الانفساخ عن التلف و كونه موجباً له، و أمّا على القول بأنّ التلف يكشف عن عدم كون الإجارة مؤثّرة من الأصل بالنسبة إلى ما بعد التلف من المدّة الباقية ففي الحقيقة يكون أمد الإجارة إلى حين التلف من الأوّل، فلا وجه لهذه الدعوى؛ لعدم تأخّر الانفساخ عن التلف بل هو كاشف عن الانقضاء حينه، فالضمان على هذا التقدير يكون متأخّراً عن الانفساخ، و هذا القول هو الذي اختاره صاحب هذا التقريب كما مرّ، كما أنّه لو قيل بكون التلف كاشفاً عن بطلان الإجارة من رأس بالنسبة إلى جميع المدّة تصير حال تلك الدعوى أسوأ، إلّا أن يقال بلزوم الشروط الابتدائيّة، أو يقال بكفاية الصحّة الظاهريّة في لزوم العمل بالشرط و لو بعد انكشاف الخلاف و ظهور البطلان من الأوّل، و كلاهما ممنوعان. هذا تمام الكلام فيما يتعلّق بإمكان هذا النحو من الاشتراط.

إذا عرفت هذه الأُمور الأربعة يقع الكلام بعد فرض إمكان هذا النحو من الاشتراط ثبوتاً في حاله بالنظر إلى مقام الإثبات، و منشأ الإشكال في ذلك أحد أُمور سبعة:

الأوّل: قصور عموم دليل الشرط عن الشمول لمثل هذا الشرط، و قد صرّح

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 577

..........

______________________________

بذلك صاحب الجواهر قدس سره، حيث قال: قد يمنع شمول الثاني يعني عموم دليل الشرط لذلك باعتبار ظهوره في كونه ملزماً، كالنذر و العهد لا شارعاً جديداً نحو الصلح، فإثبات الضمان به حينئذٍ مع أنّ أسبابه إنّما تستفاد من الشرع لا يخلو عن منع، و حصوله في العارية بدليل خاصّ لا يقتضي ثبوته في المقام بعد حرمة القياس، و إلّا لاقتضى جواز اشتراط ضمان الوديعة و نحوها من الأمانات التي يمكن دعوى معلومية خلافه من مذاق الشرع «1».

و أورد عليه المحقّق الإصفهاني قدس سره بعد ما ذكر أنّ مرجع ذلك إلى عدم سببيّة الشرط بأنّه خلاف المعهود منهم في غير المقام، و قد نصّ على نفوذه في العارية و ليس هذا قياساً، فإنّ الضمان قابل للتسبّب إليه وجوداً و عدماً، و الشرط لا يعقل أن يكون سبباً تارةً و غير سبب اخرى مع وحدة المسبّب «2».

و يرد عليه: أنّ قيام النصّ على النفوذ في العارية لا دلالة له على أنّ الشرط بما هو شرط يمكن أن يتسبّب به إلى الضمان، فلعلّ الشرط في ضمن العارية كانت له خصوصية لدى الشرع من جهة كون العارية مرجعها إلى التسليط مجّاناً للانتفاع، أو من جهة أُخرى، و ليس الكلام في السببيّة و المسببيّة الحقيقية حتّى لا يعقل أن يكون الشرط سبباً تارة و غير سبب اخرى، فالنص القائم على النفوذ في العارية لا يستفاد منه حكم غيرها أصلًا.

نعم، يرد على صاحب الجواهر أنّ ما أفاده من ظهور كون دليل الشرط ملزماً مبنيّ على عدم دلالته إلّا على الإلزام فقط بعد مفروغية الصحّة بدليل خارج. و أمّا

______________________________

(1) جواهر الكلام: 27/ 217.

(2) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 38.

تفصيل الشريعة

في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 578

..........

______________________________

على القول بثبوت الملازمة بين اللزوم و الصحّة، و عدم الافتقار إلى ثبوت الصحّة و مفروغيّتها، مع قطع النظر عن دليل الشرط كما يقول به جماعة «1» في آية وجوب الوفاء بالعقود «2»، حيث يستدلّون بها على الصحّة و اللزوم معاً، فلا يتمّ ما أفاده كما هو غير خفيّ.

لثاني: منافاة هذا الشرط لمقتضى ما دلّ على عدم ضمان الأمانة الشامل بعمومه لحال الشرط، فيكون التعارض بينه و بين «المؤمنون» من وجه، و لا ريب في أنّ الترجيح للأوّل بالشهرة و الأصل و غيرهما، صرّح بهذا أيضاً صاحب الجواهر قدس سره «3».

و أورد عليه المحقّق الإصفهاني قدس سره أيضاً بأنّه لا وجه لدعوى المنافاة بينهما؛ لما حرّر في محلّه من تقدّم أدلّة العناوين الثانوية على أدلّة العناوين الأولية، إمّا بالحكومة و إمّا بالجمع العرفي أو بوجه آخر «4».

و يرد عليه أنّه لم ترد آية و لا رواية على التقدّم المذكور، بل التقدّم إنّما هو لأجل ثبوت ملاكه، و من الواضح ثبوته في غير المقام، لأجل كون دليل العنوان الثانوي ناظراً إلى دليل العنوان الأوّلي صادراً بلحاظه، فإنّ ما يدلّ على نفي الضرر أو الحرج مثلًا إنّما يكون ناظراً إلى أدلّة الأحكام التي يكون مقتضى عمومها أو إطلاقها الشمول لحال الضرر أو الحرج، و يكون مفادهما تضييق دائرة الحكم و تخصيصها بغير ما يستلزم الضرر أو الحرج، و أمّا في مثل المقام فلم يثبت ملاك التقدّم؛ لأنّ

______________________________

(1) كصاحب السرائر: 2/ 461 و 469 و مفتاح الكرامة: 7/ 346 و جامع المدارك: 3/ 453 و 457.

(2) سورة المائدة 5: 1.

(3) جواهر الكلام: 27/ 217.

(4) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة:

38.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 579

..........

______________________________

دليل الشرط الدالّ على لزوم الوفاء به قد قيّد ذلك بما إذا لم يكن الشرط مخالفاً لشي ء من الأحكام المكتوبة، فقد لوحظ فيه التأخّر عن الأدلّة الأُخرى، و أنّ نفوذه إنّما يختصّ بما إذا لم يكن مشمولًا لدليل آخر، و عليه فلا يبقى مجال لتقدّم دليل الشرط على سائر الأدلّة، بل لازمه تقدّم تلك الأدلّة عليه، و من هنا يمكن أن يورد على صاحب الجواهر بمنع المعارضة و ظهور تقدّم الأدلّة الأُخر على دليل الشرط، فلا وجه لإعمال قواعد التعارض بينهما، و سيجي ء توضيحه.

ثمّ لو سلّم ثبوت المعارضة فلا وجه لدعوى الترجيح بالأصل، لما قد قرّر في محلّه من أنّ الأصل الذي هو وظيفة للشاك في الحكم الواقعي كيف يمكن أن يصير مرجّحاً لما هو طريق إلى الحكم الواقعي و كاشف عنه، و أمّا الترجيح بالشهرة فيتوقّف على شمول أدلّة المرجّحات الواردة في المتعارضين أو المختلفين للتعارض بنحو العموم من وجه.

الثالث: ما أشار إليه في الجواهر أيضاً بقوله: من منافاته لمقتضى الأمانة «1»، و غرضه أنّ الأمانة لا تجتمع مع التضمين لكونها آبية عنه.

و أورد عليه المحقّق الإصفهاني قدس سره أيضاً بأنّ التأمين تارة عقديّ كالوديعة التي هي استنابة في الحفظ، فيد الودعي يد المالك، و لا معنى لكون الإنسان ضامناً لنفسه، و أُخرى تأمين خارجيّ بتسليطه للغير على ماله عن رضاه؛ لاستيفاء المنفعة أو للانتفاع به أو للاتّجار به، فقد اتّخذه في هذه الموارد أميناً على ماله، و هذا إنّما يكون مع تجرّد التسليط عن كلّ شي ء، و أمّا إذا سلّطه على نحو جعل ماله في عهدته فهذا ضدّ التأمين، فلا يكون التسليط تأميناً

بنفسه حتّى ينافي التضمين، بل

______________________________

(1) جواهر الكلام: 27/ 216.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 580

..........

______________________________

مع تجرّده.

نعم، إذا كانت العين أمانة شرعية فشرط ضمانها شرط مناف للأمانة، إلّا أنّ المبنى غير صحيح كما تقدّم، بل يمكن أن يقال: إنّ ترخيص الشارع في وضع اليد على العين ليس ترخيصاً أصلياً نفسياً ليتمحّض في التأمين على أيّ حال، بل ترخيص على طبق تسليط المالك، فإذا سلّطه بقول مطلق كان ترخيص الشارع تأميناً، و إذا سلّطه بجعل العين في عهدته كان ترخيصه على طبق تسليط المالك لفرض التبعية في الترخيص «1»، انتهى.

و يرد عليه أوّلًا: منع عدم معقولية جعل الضمان في التأمين العقدي، فإنّ مجرّد كونه استنابة في الحفظ لا يقتضي ذلك، خصوصاً إذا تعلّق غرض الودعي بكون المال أمانة عنده لترتّب بعض الآثار عليه، فمجرّد ذلك لا يوجب عدم المعقولية.

و ثانياً: أنّ ما أفاده من أنّ المقتضي للتأمين هو التسليط المجرّد، و إلّا فهو مع التضمين لا يكون مقتضياً له لكونه ضد التأمين، يرجع إلى خلاف ما هو الغرض؛ لأنّه على هذا التقدير يكون المقتضي للضمان هي اليد مع عدم ثبوت الأمانة لا الاشتراط، مع أنّ الغرض إنّما تعلّق بذلك، فتدبّر.

نعم، يرد على صاحب الجواهر أيضاً ما تقدّم من أنّ ما يترتّب عليه عدم الضمان كون الشخص مؤتمناً لدى صاحب المال، و هذا لا يلازم الاستئجار، فإنّ المؤجر قد يسلّط المستأجر على ماله بالتسليم مع عدم رضاه به باطناً و عدم تحقّق التأمين منه، و عليه فمرجع الاشتراط أيضاً إلى ذلك.

الرابع: ما أشار إليه أيضاً صاحب الجواهر قدس سره في تقريب الوجه الأوّل المتقدّم من

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 39.

تفصيل الشريعة

في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 581

..........

______________________________

أنّ أسباب الضمان إنّما تستفاد من الشرع «1»، و غرضه قدس سره أنّ الفقهاء قد عدّوا للضمان أسباباً مذكورة في محلّه من اليد و الإتلاف و غيرهما، و لم يعدّوا الاشتراط من جملة الأسباب، و هذا دليل على عدم تأثيره في ثبوته، و إلّا لم يكن وجه لإهماله.

و يرد عليه أنّ القول بثبوت الضمان بسبب الاشتراط لا يكون مستنداً إلى غير الشرع؛ لأنّ المستند له هو عموم «المؤمنون عند شروطهم» «2». فهذا السبب أيضاً كسائر الأسباب إنّما يكون مستفاداً من الشرع، و أمّا عدم كونه معدوداً من جملة الأسباب في الكتب الفقهية فهو بمجرّده لا ينفي السببية عن الاشتراط، خصوصاً لو كان غرضهم من الأسباب هي الأُمور التي كانت بعناوينها الأوّلية سبباً للضمان دون الأُمور التي قد تصير سبباً لا بعنوانها الأوّلي، فتدبّر.

نعم، لو قام دليل على انحصار السببية بالأسباب المعدودة لكان مقتضى الجمع بينه و بين عموم دليل الشرط تخصيصه بسببه لو فرض دلالة العموم على الصحّة و اللزوم معاً، و أمّا لو فرض دلالته على اللزوم فقط فيما كانت صحّته مفروغاً عنها فلا منافاة بين الدليلين أصلًا، كما لا يخفى.

الخامس: مخالفة هذا الشرط لمقتضى القعد، و قد صرّح به العلّامة قدس سره في محكي التذكرة «3»، و لكن في الجواهر «4» تبعاً للرياض «5» عدم كونه منافياً لمقتضى العقد، و هو الحقّ، و ذلك لأنّ المراد بمقتضى العقد إن كان هو ما يقتضيه العقد بحقيقته و ماهيّته فلا ريب في أنّ اشتراط الضمان في الإجارة لا يكون منافياً لمقتضى العقد بهذا

______________________________

(1) جواهر الكلام: 27/ 217.

(2) مرّ في ص 406.

(3) تذكرة الفقهاء: 2/ 318.

(4) جواهر

الكلام: 27/ 217.

(5) رياض المسائل: 6/ 19.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 582

..........

______________________________

المعنى، ضرورة أنّ الإجارة لا تكون حقيقتها إلّا تمليك المنفعة بإزاء الأُجرة، و اشتراط الضمان لا ينافي هذه الحقيقة، بل المنافي بهذا المعنى إنّما هو مثل اشتراط عدم التملك في باب البيع مثلًا، فإنّ هذا الشرط يخالف حقيقة البيع المقتضية للتمليك و التملّك.

و إن كان المراد به هو ما يقتضيه العقد لا بمعنى كونه مقتضاه بحقيقته و ماهيّته، بل بمعنى كونه من لوازم تلك الحقيقة عند العرف و العقلاء، و كونه من اللوازم غير المفارقة كاقتضاء البيع لجواز التصرّف مثلًا، فلا ينبغي الإشكال في أنّ الإجارة لا تكون مقتضية لعدم الضمان بهذا المعنى حتّى يكون اشتراطه منافياً لها.

كما أنّه لو كان المراد به هو ما يقتضيه إطلاق العقد بمعنى ترتّب ذلك الشي ء على العقد لو خلّي و طبعه، فإن كان ترتّبه مستنداً إلى الاقتضاء فلا ريب في أنّ الاشتراط لا يكون مخالفاً لمقتضى عقد الإجارة بهذا المعنى أيضاً؛ لعدم ثبوت اقتضاء لعدم الضمان في باب الإجارة، و إن كان من جهة قيام الدليل الخارجي على الترتّب، فهذا يرجع إلى المخالفة لذلك الدليل لا لمقتضى العقد، و سيجي ء التحقيق فيه.

فانقدح أنّ اشتراط الضمان في باب الإجارة لا يكون مخالفاً لمقتضى العقد بشي ء من المعاني الثلاثة الراجعة إلى اقتضاء العقد بماهيّته و اقتضائه له؛ لكونه من اللوازم غير المفارقة و اقتضائه لترتبه بنفسه، لا من جهة قيام الدليل عليه.

السادس: مخالفة هذا الشرط للكتاب و السنّة، و قد قام الدليل على أنّ الشرط المخالف للكتاب باطل «1» أو زخرف «2»، و أنّ لزوم الوفاء بالشرط إنّما هو فيما إذا لم يخالف كتاب

اللّٰه و نحو ذلك من التعبيرات الواردة، و حيث كانت الآراء و المباني في باب

______________________________

(1) التهذيب: 7/ 67 ح 289، وسائل الشيعة: 18/ 16، كتاب التجارة، أبواب الخيار ب 6 ح 3.

(2) وسائل الشيعة: 18/ 17، كتاب التجارة، أبواب الخيار ب 6 ح 4 و ج 27/ 110 و 111، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب 9 ح 12 و 14

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 583

..........

______________________________

المخالفة و بيان معناها مختلفة، فلا بدّ من الإشارة إليها و ملاحظة أنّ اشتراط الضمان في المقام هل يكون مخالفاً لكتاب اللّٰه الذي هو بمعنى الأحكام المكتوبة، و إن كانت ثابتة بالسنّة على جميع تلك الآراء، أو هي مختلفة في هذه الجهة، فنقول:

قد يقال: بأنّ المراد بالمخالفة التي يضرّ اتّصاف الشرط بها هي المخالفة لشي ء من الأحكام التكليفيّة، أعمّ ممّا ينطبق على مخالفتها عنوان المعصية، و عليه فالمخالفة للأحكام الوضعية لا يوجب كون الشرط زخرفاً أو باطلًا، فاشتراط الضمان في المقام لا يكون مخالفاً للكتاب بهذا المعنى؛ لأنّ الحكم بعدم الضمان للعين المستأجرة حكم وضعيّ و ليس من الأحكام التكليفية.

و قد يقال: بأنّ المراد بها هي المخالفة لخصوص شي ء من الأحكام التكليفية التي يترتّب على مخالفتها تحقّق عنوان المعصية، الموجب لاستحقاق الإثم و العقوبة، و عدم كون اشتراط الضمان في المقام مخالفاً للكتاب بهذا المعنى أولى و أوضح من الفرض الأوّل.

و ربما يقال: بأنّ المراد بالمخالفة هي المخالفة لشي ء من الأحكام المكتوبة أعمّ من التكليفيّة و الوضعية، و لا فرق في التكليفيّة بين ما يترتّب على مخالفتها استحقاق العقوبة، و بين ما لا يترتّب على مخالفتها ذلك، و من الواضح أنّ اشتراط الضمان في

المقام مخالف للكتاب بهذا المعنى؛ لأنّ الحكم بعدم الضمان هنا من الأحكام المجعولة الشرعية، و لكن تفسير المخالفة بهذا المعنى في غاية البعد؛ لاقتضائه عدم نفوذ اشتراط المباحات فعلًا أو تركاً لكونه مخالفاً بهذا المعنى، اللّهمّ إلّا أن يقال بخروج المباحات فراراً عن اللغويّة في دليل الشرط، أو لقيام الدليل من السيرة أو الإجماع على الجواز و النفوذ فيها.

و قد يقال كما قيل بأنّ المراد بالمخالفة التي يضرّ اتّصاف الشرط بها هي المخالفة

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 584

..........

______________________________

للأحكام المكتوبة الاقتضائية؛ بمعنى أنّ الحكم المجعول في الواقعة الذي يكون الشرط مخالفاً له إن كان حكماً ناشئاً عن الاقتضاء المتحقّق في تلك الواقعة و نظائرها فالشرط المخالف له باطل أو زخرف، و إن لم يكن اقتضائيّاً بهذا المعنى فلا تضرّ مخالفة الشرط له. و عليه فلا بدّ من ملاحظة أنّ اشتراط الضمان في المقام هل يكون من الشروط المخالفة للأحكام الاقتضائية أم لا؟ و أنّ الحكم بعدم ضمان العين المستأجرة هل يكون من الأحكام الاقتضائية أم هو لأجل عدم وجود المقتضى للضمان في العين المستأجرة؟ فنقول:

قال المحقّق الرشتي قدس سره: إنّ الإجارة تقتضي عدم ضمان العين المستأجرة، فاشتراط الضمان مناف لمقتضى العقد فيخالف الكتاب. و دعوى الجماعة كون ذلك من لوازم مطلق الإجارة لا الإجارة المطلقة تحكّم، من أين ثبت لهم هذا، و أيّ دليل دلّ عليه في مقابل إطلاق ما دلّ على كونها أمانة؟ و النقض بالعارية بعد النص و الإجماع قياس مع الفارق؛ لأنّ دليل صحّة هذا الشرط هناك يكشف عن كون عدم الضمان لازم للعارية المطلقة لا مطلق العارية «1».

و قال المحقّق العراقي قدس سره في شرح التبصرة:

و مبنى المسألة أنّ الأمانة ممّا تقتضي عدم الضمان، أو أنّه لا تقتضي الضمان قبال سائر الأيادي المقتضية له، و لعلّ مقتضى الجمع بين أدلّة أيادي الأمانيّة مع عموم «على اليد» «2» الحكم ببقاء اليد على اقتضائه، و أنّ الأمانية مانعة عن الاقتضاء المزبور، و لازمه كونه موجباً و مقتضياً لعدمه. فدليل الشرط حينئذٍ غير صالح لمزاحمة ما يكون مخالفاً؛ لأنّ نفي مخالفته

______________________________

(1) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 65.

(2) تقدّم في ص 337 338.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 585

..........

______________________________

حينئذٍ فرع عدم مانعيّة الأمانة، و هذه الجهة منوطة بصحّة الشرط فيدور، فيصير الشرط حينئذٍ مخالفاً للسنة قهراً.

نعم، لو كان لدليل الأمانة نظر إلى تحديد اقتضاء اليد بغيرها كان لصحّة الشرط مجال؛ لعدم مخالفة مضمون الشرط لمقتضى الأمانة، إذ هما من قبيل الاقتضاء و اللااقتضاء و لا مزاحمة بينهما، و لكن أنّى لنا بإثباته، إذ الأمر يدور بين رفع اليد عن ظهور عموم «على اليد» في فعلية تأثيره مع بقائه على اقتضائه، أو رفع اليد عن ظهوره في اقتضائه أيضاً.

و لئن شئت قلت: إنّ المقام من باب التخصيص أو التزاحم و الأصل هو الثاني، فلازمه بطلان الشرط. و لكن الذي يوهنه ورود النصّ «1» بالضمان بالشرط في العارية مع أنّه يد أمانة أيضاً، فذلك يؤيّد كون المقام من باب التخصيص لا من باب التزاحم، كيف و على التزاحم يلزم الالتزام بتخصيص عموم مخالفة الشرط للسنّة، و هو أبعد من الالتزام بالتخصيص في عموم «على اليد» و لا أقلّ من تصادم الظهورين، فيجري عليها حكم المجمل، و المرجع في المقام أصالة عدم مخالفة الشرط للسنّة فتصحّ، و حينئذٍ فالمسألة في غاية الإشكال «2»،

انتهى.

و التحقيق أنّه إمّا أن يقال بعدم شمول عموم «على اليد» لمثل الاستيلاء على العين المستأجرة، نظراً إلى اختصاصها بالأيادي القاهرة الحادثة عن غير رضا المالك؛ إمّا لأجل ظهورها في نفسها في ذلك، أو لأجل استلزام الشمول لكثرة التخصيص، و إمّا أن يقال بالشمول و عدم الاختصاص بتلك الأيادي المخصوصة.

______________________________

(1) الكافي: 5/ 238 ح 1، وسائل الشيعة: 19/ 91، كتاب العارية ب 1 ح 1.

(2) شرح تبصرة المتعلّمين: 5/ 436 437.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 586

..........

______________________________

فعلى الأوّل: لا دليل على كون الحكم بعدم ضمان العين المستأجرة حكماً اقتضائياً صادراً عن وجود المقتضي له لو لم نقل بامتناعه، نظراً إلى أنّه لا يعقل التأثير في الأمر العدمي، و عليه فلا مانع من تأثير الاشتراط بمقتضى عموم دليله في ثبوت الضمان.

و على الثاني: فلا ريب في أنّ اليد المستولية على العين المستأجرة مقتضية للضمان بمقتضى عموم دليلها، و عليه فلا بدّ أن يكون الحكم بعدم الضمان ناشئاً عن وجود مقتض له أقوى من اليد المقتضية للضمان، و إن شئت فقل بوجود المانع عن تأثير اليد في ثبوت مقتضاها، و عليه فيتّجه في بادئ النظر أن يقال بكون اشتراط الضمان مخالفاً لكتاب اللّٰه؛ لثبوت الحكم الاقتضائي على خلافه، فيترتّب عليه البطلان و عدم النفوذ، و لكنّ التدقيق يقضي بأنّ الحكم بعدم الضمان إنّما هو لأجل الائتمان المتحقّق في الإجارة و مثلها، فالمانع عن تأثير اليد في مقتضاها إنّما هو الائتمان، و حينئذٍ نقول: إنّ تحقّق الائتمان إنّما هو مع إطلاق عقد الإجارة، و أمّا مع اشتماله على اشتراط الضمان فلا يكاد يتحقّق الائتمان حتّى يمنع عن تأثير اليد، فموضوع المانع ينتفي مع وجود

الاشتراط.

و ما أفاده المحقّق الرشتي قدس سره فيما تقدّم من كلامه من أنّه أيّ دليل دلَّ عليه في مقابل إطلاق ما دلّ على كونها أمانة، إن أراد بكون العين المستأجرة أمانة كونها أمانة حقيقة مطلقاً فنحن نمنع ذلك؛ لأنّ الأمانة بمقتضى ما هو المتفاهم منها في السنّة العرف و العقلاء تختصّ بالوديعة، و قد عرفت أنّ استعمالها فيها أيضاً لا يخلو عن شوب المجازية و رعاية العلاقة. و إن أراد بذلك تحقّق الائتمان بالنسبة إلى العين المستأجرة فهو مسلّم، و لكنّه فيما إذا كانت الإجارة خالية عن اشتراط الضمان، و أمّا معه فنمنع تحقّق الائتمان كما عرفت، كيف و من الواضح أنّه لا فرق من هذه الجهة بين

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 587

..........

______________________________

الإجارة و العارية، فجواز اشتراط الضمان في الثانية دليل على انتفاء موضوع الائتمان بمجي ء الاشتراط، و إلّا فيصير من الشروط المخالفة للكتاب، مع أنّ عموم ما دلّ على أنّ الشرط المخالف باطل غير قابل للتخصيص، كما عرفت من المحقّق العراقي قدس سره.

فانقدح من جميع ما ذكرنا أنّه بناءً على هذا المبنى في تفسير المخالفة لا يكون اشتراط الضمان متّصفاً بذلك، مع أنّ المبنى أيضاً لا يخلو عن المناقشة؛ لأنّ مقتضاه عدم جواز إسقاط الخيار بالشرط في ضمن العقد؛ لأنّ الحكم بثبوت الخيار للبيّعين حكم اقتضائيّ بمقتضى قوله عليه السلام: «البيّعان بالخيار» «1». و كذا عدم جواز إثبات الخيار بالاشتراط في العقد اللّازم؛ لأنّ اللزوم إنّما هو مقتضى العقد، نظراً إلى عموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ «2» و غيره من أدلّة اللزوم، فاشتراط الخيار مخالف لدليل اللزوم الذي هو من الأحكام الاقتضائية لا محالة، كما لا يخفى.

و قد يقال في

تفسير المخالفة بأنّ المخالفة المضرّة إنّما هي المخالفة للأحكام المكتوبة، و الحكم العدمي لا يطلق عليه الحكم؛ لأنّ ما يتعلّق به الجعل إنّما هو الأحكام الوجودية، مثل الوجوب و الحرمة و نظائرهما من الأحكام الوجودية التكليفية و الوضعية. و أمّا الحكم العدمي فليس حكماً مكتوباً إلهيّاً، و عليه فليس الحكم بعدم الضمان في العين المستأجرة من الأحكام المكتوبة الإلهية حتّى يكون اشتراط خلافه مخالفاً لكتاب اللّٰه.

و يرد عليه منع عدم كون الحكم العدمي من الأحكام الإلهية، ضرورة أنّه ليس

______________________________

(1) وسائل الشيعة: 18/ 5 7، كتاب التجارة، أبواب الخيار ب 1.

(2) سورة المائدة 5: 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 588

..........

______________________________

المراد من الحكم إلّا ما اعتبره الشارع من مجعولاته التكليفية و الوضعية، من دون فرق بين أن يكون وجودياً أو عدميا. نعم، قد ينتزع من الحكم الوجودي بعض الأحكام العدمية، كما أنّه قد ينتزع من الحكم بالوجوب عدم الحرمة، و كذلك نظائره، و لكنّه ليس بحكم لعدم اعتبار الشارع له، كما هو ظاهر.

و قد يقال في تفسير المخالفة كما قاله الشيخ الأعظم العلّامة الأنصاري قدس سره: بأنّ المراد بحكم الكتاب و السنّة الذي يعتبر عدم مخالفة المشروط أو نفس الاشتراط له هو ما ثبت على وجه لا يقبل تغيّره بالشرط لأجل تغيّر موضوعه بسبب الاشتراط، و قال في توضيح ذلك: إنّ حكم الموضوع قد يثبت له من حيث نفسه و مجرّداً عن ملاحظة عنوان آخر طارئ عليه، و لازم ذلك عدم التنافي بين ثبوت هذا الحكم، و بين ثبوت حكم آخر له إذا فرض عروض عنوان آخر لذلك الموضوع، و مثال ذلك أغلب المباحات و المستحبّات و المكروهات بل جميعها، حيث

إنّ تجويز الفعل و الترك إنّما هو من حيث ذات الفعل، فلا ينافي طروّ عنوان يوجب المنع عن الفعل أو الترك كأكل اللحم، فإنّ الشرع قد دلَّ على إباحته في نفسه، بحيث لا ينافي عروض التحريم له إذا حلف على تركه أو أمر الوالد بتركه، أو عروض الوجوب له إذا صار مقدّمة لواجب أو نذر فعله مع انعقاده، و قد يثبت له لا مع تجرّده عن ملاحظة العناوين الخارجة الطارية عليه، و لازم ذلك حصول التنافي بين ثبوت هذا الحكم، و بين ثبوت حكم آخر له. و هذا نظير أغلب المحرّمات و الواجبات، فإنّ الحكم بالمنع عن الفعل أو الترك مطلق لا مقيّد بحيثيّة تجرّد الموضوع إلّا عن بعض العناوين كالضرر و الحرج، فإذا فرض ورود حكم آخر من غير جهة الحرج و الضرر، فلا بدّ من وقوع التعارض بين دليلي الحكمين، فيعمل بالراجح بنفسه

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 589

..........

______________________________

أو بالخارج.

ثمّ قال: الشرط إذا ورد على ما كان من قبيل الأوّل لم يكن الالتزام بذلك مخالفاً للكتاب، إذ المفروض أنّه لا تنافي بين حكم ذلك الشي ء في الكتاب و السنّة، و بين دليل الالتزام بالشرط و وجوب الوفاء به، و إذا ورد على ما كان من قبيل الثاني كان التزامه مخالفاً للكتاب و السنّة «1»، انتهى موضع الحاجة من كلامه زيد في علوّ درجاته و مقامه.

و قد انقدح أنّه بمقتضى هذا التفسير يكون اشتراط عدم الضمان في المقام من الشروط غير المخالفة للكتاب و السنّة؛ لأنّ مقتضى أدلّة عدم ضمان الأمين عدم ضمانه في نفسه من غير إقدام عليه، فلا ينافي إقدامه على الضمان من أوّل الأمر، و لذا

استشكل هو قدس سره فيما بعد هذا الكلام في الفرق بين الإجارة و العارية، نظراً إلى قيام الشهرة على العدم في الأُولى و الاتفاق على الجواز في الثانية «2».

و كيف كان، فاللّازم بناءً على ذلك نفوذ اشتراط الضمان في المقام، و لكن قد أُورد على هذا المبنى بعض الإيرادات:

منها: أنّ عروض العنوان المغيّر للحكم في باب المباحات و المستحبّات و المكروهات لا يقتضي أن يكون الموضوع للحكم الثاني الطارئ هو ما كان موضوعاً للحكم الأوّل، بل الموضوع للحكم الثاني هو عنوان آخر يغاير العنوان المأخوذ في موضوع الحكم الأوّل من جهة المفهوم، مثلًا إذا كانت صلاة الليل موضوعة للحكم بالاستحباب بعنوانها، فلا تصير هذه موضوعة للوجوب إذا

______________________________

(1) كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري: 6/ 26 27.

(2) كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري: 6/ 30.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 590

..........

______________________________

تعلّق النذر بها، بل الموضوع للوجوب حينئذٍ إنّما هو الوفاء بالنذر بعنوانه، من دون أن يسري الوجوب من موضوعه إلى عنوان آخر، بل هو مستحيل كما حقّق في محلّه.

و عليه فكما أنّ عروض عنوان آخر في باب المحرّمات و الواجبات لا يقتضي خروج الموضوع بعنوانه الأوّلي عن الحكم المتعلّق به، فكذلك عروضه في باب غيرهما، فصلاة الليل مستحبة مطلقاً تعلّق بها النذر أم لا. غاية الأمر أنّه مع تعلّق النذر يتعلّق التكليف بوجوب الوفاء به على عهدته، فلم يكن فرق بين الأحكام من هذه الجهة أصلًا، كما لا يخفى.

و منها: أنّ معنى الإطلاق كما قد حقّق في الأُصول لا يكون راجعاً إلى ملاحظة المتكلّم جميع القيود و المشخّصات التي يمكن أن تتّحد في الخارج مع الماهية المطلقة، بل معناه يرجع إلى ملاحظة ذات المطلق موضوعاً

للحكم من غير لحاظ شي ء آخر معه، و مرجع ذلك إلى أنّ تمام الموضوع لهذا الحكم هو هذا العنوان المأخوذ في الموضوع، و لا دخالة لشي ء آخر في ذلك أصلًا، و لذا اشتهر بين المحقّقين من الأُصوليّين أنّ الإطلاق عبارة عن رفض القيود لا جمعها، و عليه فلا يبقى فرق بين أدلّة مثل المباحات و أدلّة الواجبات و المحرّمات أصلًا، بمعنى أنّه كما أنّ دليل وجوب الصلاة مثلًا مطلق، و مرجعه إلى أنّ الموضوع للوجوب إنّما هي نفس الصلاة من غير دخالة شي ء آخر فيه، كذلك الموضوع لاستحباب صلاة الليل مثلًا إنّما هي نفس صلاة الليل من دون مدخلية شي ء آخر، فالفرق بين الأدلّة من الجهة المذكورة ممّا لا يرجع إلى محصّل، و إن نفى قدس سره الإشكال عنه، و التحقيق موكول إلى محلّه.

السابع: ما أشار إليه في الجواهر أيضاً من قصور عموم دليل الشرط لمثل المقام

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 591

..........

______________________________

ممّا تكون شرط النتيجة «1»، و الوجه في القصور إمّا دعوى انصراف العموم إلى شرط الفعل و عدم شموله لشرط النتيجة و إن كان هو أيضاً شرطاً، و إمّا ما ذكره بعض الأعلام من المعاصرين في شرحه على العروة من بطلان شرط النتيجة؛ لأنّ النتائج لا تقبل أن تكون مضافة إلى مالك فلا تكون شرطاً؛ إذ التحقيق أنّ الشرط مملوك للمشروط له، فإذا امتنع أن تكون مملوكة امتنع أن تشترط ملكيّتها. نعم، إذا كانت في العهدة جاز أن تكون مملوكة؛ لكنّها حينئذٍ تخرج عن كونها شرط نتيجة، بل تكون من قبيل شرط الفعل، و ليس هو محلّ الكلام إلى أن قال: هذا، مضافاً إلى أنّ مفاد صيغة الشرط

مجرّد جعل التمليك بين المشروط له و الشرط لا جعل الشرط المملوك، فإنّ الصيغة لا تتكفّله، فإذا لم يكن مجعولًا لم يكن ثابتاً، فلا يكون شرط النتيجة موجباً لتحقّق النتيجة، و لا يصحّ حينئذٍ ترتيب الأثر عليها، و ليس المراد من بطلان شرط النتيجة إلّا هذا المعنى؛ أعني عدم ترتّب النتيجة عليه.

ثمّ قال: إنّ الإشكالين المذكورين في شرط النتيجة إنّما يمنعان عنه إذا كان مفاد الشرط في العقد تمليك الشرط للمشروط له كما هو الظاهر، و يقتضيه مناسبته بباب شرط الفعل و باب الإقرار و نحوهما. أمّا لو كان مفاده مجرّد الالتزام للمشروط له بالشرط فمرجعه إلى إنشاء شرط النتيجة في ضمن العقد، و لا بأس به عملًا بعموم نفوذ الشرط إلّا إذا كان مفهومه لا ينشأ إلّا بسبب خاصّ، فإنّ عموم الشرط حينئذٍ لا يصلح لتشريع صحّة إنشائه بدون ذلك السبب؛ لأنّه يكون مخالفاً للكتاب فيدخل في الشرط الباطل «2».

______________________________

(1) جواهر الكلام: 27/ 217.

(2) مستمسك العروة الوثقى: 12/ 71 72.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 592

..........

______________________________

أقول: إن كان الوجه في القصور هو دعوى انصراف العموم عن مثل المقام فيرد عليه منع ذلك؛ لعدم ثبوت الشاهد على هذه الدعوى بعد انسباق العموم من دليل الشرط.

و إن كان الوجه فيه عدم انطباق عنوان الشرط على شرط النتيجة لما أفاده البعض المذكور من أنّ الشرط ما كان مملوكاً للمشروط له، و النتائج لا تقبل أن تكون مضافة إلى مالك فلا تكون شرطاً، فيرد عليه أيضاً المنع من عدم كون شرط النتيجة شرطاً، فإنّه قد اشتهر بينهم تقسيم الشرط إلى قسمين: شرط الفعل و شرط النتيجة، و من المعلوم ظهور ذلك في كون المقسم

حقيقة في القسمين، فلا بدّ أن يكون المراد بالشرط أمراً متحقّقاً في شرط النتيجة أيضاً، و ليس ذلك إلّا مجرّد الالتزام بثبوت المشروط أعمّ من أن يكون فعلًا أو نتيجة.

نعم، يمكن أن يقال بالفرق بين شرط النتيجة، و بين نذرها بأنّ دليل الشرط يعمّ شرط النتيجة؛ لأنّ شموله يدور مدار عنوان الشرط، و أمّا نذر النتيجة فدليله أيضاً و إن كان عاما إلّا أنّ صيغة النذر ظاهرة في ثبوت المنذور على عهدة الناذر، و ملكيّته تعالى ذلك على عهدته كما هو الظاهر من كلمتي «عليّ، و اللّام». و من الواضح أنّ الثابت على العهدة إنّما هو الفعل الصادر عن اختيار و إرادة، و أمّا النتائج فلا يعقل أن تكون ثابتة على العهدة لعدم ارتباطها بالناذر.

و كيف كان، فلا وجه لتخصيص عنوان الشرط بخصوص شرط الفعل بعد كونه على قسمين.

هذا، مضافاً إلى إمكان منع الصغرى في المقام و القول بعدم كون اشتراط الضمان من شرط النتيجة؛ لأنّ القدر المتيقن من شرط النتيجة ما إذا كانت النتيجة مورداً للشرط، من دون أن تكون مقدّمة للفعل الذي هو باختيار المشروط عليه، كما إذا

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 593

..........

______________________________

شرط في البيع مملوكية شي ء آخر له بمجرّد الاشتراط من دون توسّط التمليك، فإنّ شرط المملوكية بهذا النحو شرط للنتيجة قطعاً، و أمّا في مثل المقام فالغرض من اشتراط الضمان هو التوصّل به إلى الفعل الذي يكون باختيار المشروط عليه؛ و هو أداء المثل أو القيمة، و لم يعلم كون مثله من شرط النتيجة بعد كونها مقدّمة للفعل الخارجي، كما أنّه في النتائج التي لا يمكن تحقّقها بدون توسّط الفعل لكونه من المقدّمات الوجودية لها

يمكن جريان هذا الإشكال؛ مثل ما إذا شرط في البيع كون ثوبه مخيطاً، إذ من الواضح عدم إمكان اتصاف الثوب بذلك الوصف إلّا بعد توسّط الخياطة التي هي فعل للمشروط عليه.

فانقدح ممّا ذكرنا أنّه هنا فرضان ظاهران في كونهما من شرط النتيجة و لكنّهما ليسا متمحضين في ذلك، و لأجله يمكن إجراء حكم شرط الفعل عليهما، و لتحقيق الكلام زائداً على ما ذكر محلّ آخر.

و قد تحصّل من جميع ما ذكرنا في هذه المسألة أنّه لم يقم دليل على بطلان اشتراط ضمان العين المستأجرة بعد الفراغ عن إمكانه و عدم استحالته، و أنّ شيئاً من الأُمور السبعة المتقدّمة التي كانت العمدة منها هي مخالفة الشرط للكتاب أو السنّة لم ينهض لإفادة البطلان، إلّا أنّه يبقى هنا شي ء؛ و هو أنّ مجرّد عدم قيام الدليل على البطلان لا يجدي، بل اللّازم إقامة الدليل على الصحّة و لزوم الوفاء بهذا الشرط، و حينئذٍ نقول:

تارةً يُقال بأنّ دليل الشرط و هو قوله صلى الله عليه و آله: «المؤمنون عند شروطهم» «1» مسوق لبيان إفادة اللزوم فقط. غاية الأمر أنّه تستكشف الصحّة بقاعدة التلازم؛ لعدم

______________________________

(1) مرّ في ص 406.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 594

..........

______________________________

معقولية اللزوم من دون الصحّة، و أُخرى يقال بإفادته مجرّد الصحّة و أنّ كلّ شرط صحيح من دون دلالة له على اللزوم بوجه.

فعلى الأوّل: يكون مقتضى عمومه لزوم الوفاء بالشرط في المقام، و قد عرفت عدم انفكاك اللزوم عن الصحّة فيفيد الصحّة بقاعدة التلازم، إلّا أنّه يرد على هذا الوجه أنّ مقتضاه كون الشرط المخالف للكتاب و السنّة مستثنى من اللزوم الذي هو المدلول المطابقي لقوله صلى الله عليه و

آله: «المؤمنون عند شروطهم». فلا دلالة حينئذٍ إلّا على أنّ الشرط المخالف لأحدهما غير لازم الوفاء به، و هذا لا ينافي اتّصافه بالصحّة لافتراقها عن اللزوم في بعض الموارد، و حمل الاستثناء على كونه استثناءً عن الصحّة التي هي المدلول الالتزامي بناءً على هذا الفرض خلاف الظاهر جدّاً، و لا يرد مثل هذا الاشكال على آية وجوب الوفاء بالعقود «1» بناءً على القول بإفادته لمجرّد اللزوم بحسب مدلوله المطابقي، و ذلك لخلوّه عن مثل هذا الاستثناء.

و بالجملة: فالظاهر أنّ الحكم المنفيّ في المستثنى هو الحكم الثابت في المستثنى منه بالدلالة المطابقية، فحمله على اللزوم يوجب كون المنفي في الشرط المخالف أيضاً هو اللزوم، و هذا لا ينافي الصحّة مع أنّه لا ريب في بطلانه.

و على الثاني: يكون مقتضى التمسّك بعموم دليل الشرط ثبوت وصف الصحّة للاشتراط في المقام، و يكفي في لزومه دليل وجوب الوفاء بالعقد؛ لظهوره في أنّ ما يجب الوفاء به هو العقد مع توابعه و خصوصياته، أو يقال: بأنّه لا حاجة إلى إقامة الدليل على اللزوم في مثل المقام من شرط النتائج؛ لأنّ مجرّد إثبات الصحّة فيه كاف، فتدبّر جيّداً.

______________________________

(1) سورة المائدة 5: 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 595

..........

______________________________

تتمة قد ظهر لك ممّا تقدّم أنّه مضافاً إلى عدم قيام الدليل على بطلان اشتراط ضمان العين المستأجرة يكون مقتضى عموم دليل الشرط الصحّة و اللزوم؛ لعدم كون مثله من الشروط المخالفة للكتاب و السنّة، و يقع الكلام هنا في فرض الشكّ في اتّصاف الشرط في المقام بالمخالفة و عدمه تارةً في جواز التمسّك بالعموم مع وجود هذا الشكّ، و أُخرى في إمكان إثبات عدم كونه مخالفاً من طريق

الاستصحاب.

أمّا الأوّل: فالظاهر أنّه لا يجوز التمسّك بعموم دليل الشرط مع الشكّ في كونه مخالفاً، و ذلك لما قرّرنا في محلّه من أنّ الخاصّ إذا كان مردّداً بين الأقلّ و الأكثر، و كان متّصلًا بالعام كقوله: «أكرم العلماء إلّا الفساق منهم» و تردّد الفاسق بين أن يكون مختصّاً بمن يرتكب الكبيرة فقط، أو شاملًا لمن يرتكب الصغيرة أيضاً، فلا شبهة في عدم جواز الرجوع إلى العامّ بالنسبة إلى المورد المشكوك؛ لأنّ الخاصّ المتّصل بالكلام يصير مانعاً عن انعقاد ظهور للعام في العموم، و المقام من هذا القبيل، و ذلك لأنّ إخراج الشرط المخالف للكتاب إنّما وقع بنحو الاستثناء المتّصل بالكلام، و وضوح كون المستثنى على هذا التقدير مردّداً بين الأقلّ و الأكثر؛ لصدق المخالفة قطعاً في بعض الموارد و الشكّ في صدقها في مثل المقام على ما هو المفروض.

و دعوى أنّ دليل الشرط بمقتضى بعض الروايات يكون خالياً عن الاستثناء وارداً بنحو العموم، و إن كان بمقتضى بعضها الآخر يكون مشتملًا عليه، و عليه فيمكن ادّعاء عدم كون المقام من قبيل التخصيص بالمتّصل.

مدفوعة بأنّ التعرّض للمستثنى منه أيضاً في بعض الروايات دليل على عدم كون ما ورد بنحو العموم مع كونه خالياً عن الاستثناء من قبيل سائر العمومات التي يكون من شأن التقنين المتداول بين العقلاء إلقاؤها ثمّ إخراج بعض المصاديق

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 596

..........

______________________________

بعنوان التخصيص.

و بالجملة: فالظاهر أنّ العقلاء الذين هم المراجع في مثل المقام لا يعاملون معه معاملة المخصّص المنفصل، و عليه فالقاعدة تقتضي عدم جواز التمسّك بعموم دليل الشرط لما ذكرنا.

و أمّا الثاني: فربما يقال بإمكان إجراء استصحاب العدم الأزلي في المقام، نظراً إلى عدم

تحقّق المخالفة في الأزل فيما لم يكن حكم و لا شرط، و قد انقلب اليقين بعدم الحكم و الشرط إلى اليقين بوجودهما مع الشكّ في انقلاب عدم المخالفة إلى وجودها، فلا مانع من إثبات بقائه بالاستصحاب.

و قد أُورد على جميع الاستصحابات الأزلية كاستصحاب عدم قرشيّة المرأة و عدم قابلية الحيوان للتذكية و نحوهما؛ بأنّ أمرها دائر بين المثبتيّة و بين عدم ثبوت الحالة السابقة؛ لأنّه إن كان المستصحب هو اتّصاف الموضوع المفروض الوجود بعدم ذلك الوصف، و بعبارة اخرى كان المستصحب هو عدم وجود تلك الصفة بنحو وجودها الربطي، فيرد عليه عدم وجود الحالة السابقة له؛ لأنّه من أوّل وجوده كان مشكوك الاتّصاف بهذه الصفة، و لم يمض عليه زمان كان فاقداً لها ثمّ شكّ في اتّصافه بها حتّى يكون مقتضى الاستصحاب بقاءه على حال الفقدان.

و دعوى أنّه يمكن أن يقال: بأنّ المستصحب هو اتّصاف المهيّة بعدم تلك الصفة، إذا المهيّة قبل تلبّسها بلباس الوجود كانت خالية من تلك الصفة؛ لكونها من عوارض الوجود دون الماهية، فيمكن أن يقال: هذه المرأة مثلًا مشيراً إلى ماهيّتها لم تكن قبل الوجود قرشيّة، فيستصحب ذلك إلى زمان الوجود.

مدفوعة بأنّ الإشارة إلى الماهية مساوقة لوجودها، إذا الماهية قبل وجودها ليست بشي ء حتّى يمكن أن يشار إليها، كما هو أوضح من أن يخفى.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 597

..........

______________________________

و إن كان المستصحب هي القضية السّالبة المحصّلة الصادقة مع انتفاء الموضوع أيضاً، فيرد عليه أنّ استصحاب تلك القضية و جرّها إلى زمان وجود الموضوع و إن كان صحيحاً من حيث وجود الحالة السابقة، إلّا أنّ تطبيق تلك الحالة التي تكون أعمّ من وجود الموضوع على الحالة اللّاحقة

المشروطة بوجود الموضوع يكون بحكم العقل، فهو يكون حينئذٍ مثبتاً؛ لأنّ الأثر الشرعي مترتّب على الخاصّ و إثباته انّما هو بحكم العقل.

فانقدح من ذلك أنّه لا يجري الاستصحاب في مثل المقام، سواء كان المستصحب عدم كون الشرط مخالفاً بنحو وجوده الربطي، أو كان عدم كونه كذلك بنحو السالبة المحصّلة لعدم وجود الحالة السابقة في الأوّل و كونه مثبتاً في الثاني.

إلّا أن يقال: بأنّ التخصيص بالشرط المخالف لا يوجب تعنون العامّ بحيث كان الموضوع لوجوب الوفاء هو الشرط المعنون بعدم كونه مخالفاً، بل الدليل على لزوم الوفاء بالشرط عام شامل لكلّ شرط. غاية الأمر أنّ المخالفة مانعة عن تأثير الشرط في لزوم الوفاء به، كما لو فرض كون المخصّص منفصلًا عن العامّ، فإنّه لا مانع حينئذٍ من إجراء استصحاب عدم المخالفة بنحو السالبة المحصّلة التي هي أعمّ من وجود الموضوع، و لا حاجة إلى تطبيقها على الحالة المشروطة بوجود الموضوع؛ لأنّ مقتضى عموم دليل الشرط لزوم الوفاء بكلّ شرط، و ثبوت المانع لأجل احتمال المخالفة مندفع بالاستصحاب.

و بالجملة: فالحاجة إلى الاستصحاب إنّما هي لنفي العنوان المانع، و أمّا الحكم بوجوب الوفاء فيدلّ عليه العموم، و هذا نظير إجراء استصحاب عدم المانع في الصلاة مع الشكّ في تحقّقه فيها، فإنّه لا مانع منه لعدم الحاجة إلى أزيد من عدم المانع و لو تعبّداً، كما لا يخفى.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 598

..........

______________________________

و بالجملة: جريان الاستصحاب في المقام و عدمه مبنيّ على أنّ التخصيص بالشرط المخالف هل صار موجباً لتعنون موضوع العامّ و تقيّده بما عدا مورد التخصيص، أم لم يصر موجباً له؟ فإن قلنا بالأوّل نظراً إلى كون التخصيص بنحو الاستثناء كما لا

يبعد بل هو الظاهر فلا مجال لإجراء الاستصحاب كما عرفت، و إن لم نقل بالأوّل نظراً إلى وجود العمومات الخالية عن الاستثناء، أو عدم كون الاستثناء موجباً له فلا مانع من جريانه، كما مرّ.

و دعوى أنّه على هذا التقدير أيضاً يمكن المناقشة في جريانه؛ لأنّ غاية ما يثبت بالاستصحاب عدم كون الشرط مخالفاً بنحو السالبة المذكورة، و لم يترتّب في الشريعة أثر على ذلك؛ لأنّ الأثر المترتّب فيها بين النفوذ المترتّب على كلّ شرط، و بين البطلان و الزخرفيّة المترتّبة على الشرط المخالف، و ليس هنا أثر ثالث مترتّب على ما ذكر.

مدفوعة بأنّ ظاهرهم التسالم على جريان مثل هذا الاستصحاب كاستصحاب عدم المانع في الصلاة، و السرّ أنّ نفي الحكم الشرعي بنفي موضوعه يكفي في جريان الاستصحاب، و لا حاجة إلى ترتّب أثر شرعي على نفس المستصحب، كما قرّر في محلّه.

و ممّا ذكرنا يظهر النظر في بعض ما أفاده المحقّق الإصفهاني قدس سره في هذا المقام، حيث إنّه بعد تصحيح جريان الاستصحاب فيما نحن فيه بعدم كون المستصحب هو عدم المخالفة بنحو العدم المحمولي ليرد المحذور، بل المستصحب عدم كون الشرط مخالفاً و لو بعدم الموضوع قال: إنّ هذا التصحيح صحيح فيما إذا كانت سالبة منطوقيّة، و أمّا إذا كانت بالمفهوم فهي لها شأن آخر، فإنّ المفهوم تابع للمنطوق سعةً و ضيقاً و من جميع الجهات إلّا في النفي و الإثبات، و إذا كان المنطوق متضمِّناً لمحمول مرتّب على

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 599

..........

______________________________

موضوع محقّق فمفهومه سلبه عن موضوعه، فيتمحّض في السالبة بانتفاء المحمول و مفاد الاستثناء إلّا شرطاً خالف كتاب اللّٰه، و ليس في الأدلّة كلّ شرط لا

يخالف كتاب اللّٰه فهو نافذ حتّى يحقّق هذا المعنى، و لو بنحو السالبة بانتفاء الموضوع بالاستصحاب، إلّا أنّه فيما أرسله في الغنية هكذا: الشرط جائز بين المسلمين ما لم يمنع منه كتاب و لا سنّة «1». فيمكن إثبات عدم المنع منه في الكتاب و أنّه شرط لم يمنع منه الكتاب و لو بنحو السالبة بانتفاء الموضوع، لكنّه لا وثوق بكونه غير ما ورد في سائر الأخبار «2».

فإنّه يظهر منه أنّ منشأ الإشكال و عدم إمكان التصحيح بما أفاده هو كون القضية السالبة في المقام مفهومية تابعة للمنطوق من حيث ترتّب المحمول على موضوع محقّق، فيجب أن يكون المفهوم سلبه عن نفس ذلك الموضوع، و إلّا فلو فرض كون القضية السالبة منطوقية غير تابعة لارتفع الإشكال و أمكن التصحيح بما ذكر، مع أنّه على هذا التقدير أيضاً لا يمكن، ضرورة أنّه لا يعقل أن يجعل عدم كون الشرط مخالفاً و لو بعدم الموضوع موضوعاً للحكم بالنفوذ و الصحّة و وجوب الوفاء، ضرورة أنّ الحكم بمثل ذلك لا بدّ و أن يكون له موضوع محقّق مفروض، و هل يمكن أن يكون موضوعه ما كان أعمّ من عدم الموضوع، و كون السالبة المحصّلة صادقة مع انتفاء الموضوع و إن كان ممّا لا ارتياب فيه، إلّا أنّ جعلها مع عمومها موضوعة لأمر وجوديّ ممّا لا يعقل، فإنّه يصحّ و يصدق قوله: «زيد ليس بقائم» مع انتفاء زيد في الخارج، و لكنّه لو قيل: زيد الذي ليس بقائم

______________________________

(1) غنية النزوع: 219، التهذيب: 7/ 22 ح 94، الفقيه: 3/ 127 ح 5.

(2) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 41.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 600

..........

______________________________

ضاحك مثلًا لا

يجوز أن يكون نفي كونه قائماً أعمّ من عدمه كما هو واضح، فعدم المخالفة و إن أُخذ بنحو السالبة المحصّلة أيضاً لا يجدي في تصحيح جريان الاستصحاب، فالتحقيق ما ذكرناه.

و قد انقدح من جميع ما ذكرناه في هذه المسألة صحّة اشتراط ضمان العين المستأجرة في عقد الإجارة، و منه تظهر الصحّة فيما لو اشترط في عقد لازم آخر كالبيع و نحوه، كما أنّه تظهر الصحّة بطريق الأولوية فيما لو اشترط أداء مقدار مخصوص من المال على فرض التلف أو التعيّب لا بعنوان الضمان، و أمّا التضمين خارج العقد قبله أو بعده فتتوقّف صحّته على شمول عموم دليل الشرط للشروط الابتدائية الاستقلالية غير المذكورة في ضمن العقد، أو على شمول عموم دليل وجوب الوفاء بالعقد لها لو فرض انطباق عنوان العقد عليها، كما لا يخفى. و عليه فيمكن المناقشة فيما ذكره العلّامة قدس سره في القواعد بقوله: و لو ضمنه المؤجر لم يصحّ، فإن شرطه في العقد فالأقرب بطلان العقد «1».

و ما يظهر من مفتاح الكرامة في شرح العبارة من كون المراد بالتضمين في العبارة هو اشتراط الضمان في العقد «2»، و لذا حكم بأنّ عبارة التحرير «3» المصرّحة باشتراط ضمان العين على المستأجر أحسن من هذه العبارة و من التذكرة «4» التي هي مثلها، فيه: أنّ التضمين في العبارة أعمّ من الاشتراط في متن العقد، و إلّا لكان قوله

______________________________

(1) قواعد الأحكام: 2/ 304.

(2) مفتاح الكرامة: 7/ 252.

(3) تحرير الأحكام: 3/ 117.

(4) تذكرة الفقهاء: 2/ 318، و فيه: لو شرط المؤجر على المستأجر ضمان العين لم يصحّ الشرط؛ لأنّه مناف لمقتضى العقد.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 601

..........

______________________________

«فإن شرطه في العقد»

زائداً غير محتاج إليه، بل العدول عن التعبير بالتضمين بالتعبير بالاشتراط في الجملة الثانية لعلّه ظاهر في اختصاص الجملة الأُولى بالتضمين الذي وقع خارج العقد، كما حكي عن الشهيد رحمه الله أنّه استظهر من العبارة أنّه ضمّنه بعد العقد «1».

و كيف كان، فالأمر سهل و العمدة بيان حكم التضمين، و قد عرفت إمكان الحكم بصحّته، كما أنّك عرفت صحّة اشتراط ضمان العين في متن العقد، و أمّا الملازمة بين فساد الشرط على تقديره، و فساد المشروط الذي هو العقد فهي أيضاً ممنوعة كما حقّق في محلّه.

فتلخّص أنّ الأحكام الثلاثة التي تظهر من عبارة القواعد كلّها مخدوشة بل ممنوعة، و اللّٰه أعلم بأحكامه و هو الهادي إلى سواء السبيل.

المسألة الرابعة: ضمان العين المقبوضة بالإجارة الفاسدة، و الأقوال في هذه المسألة بين التصريح بعدم الضمان كما في القواعد «2» و عن التذكرة «3»، حيث حكم فيهما بالتسوية بين الإجارة الصحيحة و الفاسدة، و هكذا عن جامع المقاصد «4»، و استظهر من إطلاق الباقين، و اختاره صاحب مفتاح الكرامة «5» و بعض تلامذته «6»، و لكن حكي عن مجمع البرهان لمولانا المقدس الأردبيلي قدس سره أنّ المفهوم

______________________________

(1) حكى عنه في مفتاح الكرامة: 1/ 252.

(2) قواعد الاحكام: 2/ 304.

(3) تذكرة الفقهاء: 2/ 318.

(4) جامع المقاصد: 7/ 258.

(5) مفتاح الكرامة: 7/ 252.

(6) جواهر الكلام: 27/ 251 253.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 602

..........

______________________________

من كلمات الأصحاب الضمان مع الجهل «1»، و كذا عن الرياض «2» في هذا المقام من غير تقييد بالجهل، معلّلًا له بعموم «على اليد» «3» مع الإشكال في صورة العلم، و لكن عنهما «4» في موضع آخر عدم الضمان.

و كيف كان، فالكلام يقع

في مقامين:

المقام الأوّل: في حكم المسألة مع فرض الجهل بالفساد، لا ريب أنّ مقتضى الأصل الأوّلي مع قطع النظر عن عموم «على اليد» عدم الضمان؛ لأنّ الأصل براءة الذمّة منه.

و أمّا مع ملاحظة ذلك العموم، فإن قلنا بقصور دليل اليد عن الشمول لغير اليد القاهرة العادية، إمّا لاختصاصه في نفسه بها، أو لأجل استلزام الشمول لكثرة التخصيص، فيبقى مقتضى الأصل بحاله، و لا حاجة إلى إقامة الدليل على عدم الضمان.

و إن قلنا بالشمول للأيادي غير القاهرة العادية أيضاً فيصير مقتضى الأصل الثانوي المستفاد من دليل اليد الضمان، و لا بدّ في الحكم بعدمه في مورد من إقامة الدليل عليه.

و التحقيق حينئذٍ أن يقال: إن كان المناط للحكم بعدم الضمان في الإجارة الصحيحة هو تحقّق التأمين المالكي الذي كان ملاكه التسليط على المال عن رضى المالك فلا شبهة في تحقّق هذا المناط في الإجارة الفاسدة أيضاً؛ لأنّ افتراقهما في

______________________________

(1) مجمع الفائدة و البرهان: 10/ 50.

(2) رياض المسائل: 6/ 40.

(3) تقدّم في ص 337 338.

(4) مجمع الفائدة و البرهان: 10/ 69، رياض المسائل: 6/ 40 41.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 603

..........

______________________________

ثبوت الاستحقاق و عدمه لا يؤثّر في الفرق من هذه الجهة لو لم نقل بكون عدم الاستحقاق واقعاً أوفق بتحقّق التأمين، كما لا يخفى.

و إن كان المناط للحكم بالعدم فيها كون الرجل أميناً و مورداً للوثوق على ما اخترناه فاللّازم هنا أيضاً التفصيل بين كون المستأجر مؤتمناً لدى الأجير فلا يضمن، و عدم كونه كذلك فيضمن؛ لما عرفت من أنّ الحكم بعدم ضمان الأمين حكم كلّي لا اختصاص له بباب الإجارة فضلًا عن الصحيحة منها.

و إن كان المناط له هو قيام

الدليل من النصّ و الإجماع على عدم ثبوت الضمان بالنسبة إلى العين المستأجرة فلا ريب أنّ ظاهر ذلك الدليل هي الإجارة الصحيحة، و يمكن أن يستفاد منها بنحو الإشعار، الاختصاص الذي لازمه ثبوت الضمان في الإجارة الفاسدة.

و كيف كان، فلا بدّ في مقابل عموم «على اليد» المقتضي للضمان من إقامة الدليل على عدمه، كما هو الشأن في الإجارة الصحيحة أيضاً.

و يمكن أن يستدلّ له بقاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» بناءً على ثبوت العكس لها و قيام الدليل عليه، نظراً إلى أنّ الإجارة الصحيحة لا يكون فيها الضمان ففي فاسدها أيضاً كذلك.

و ربما يورد على الاستدلال بهذه القاعدة للمقام بأنّ موردها ما إذا لم يكن في صحيحه الضمان، و الضمان متحقّق في جميع المعاوضات؛ لأنّ المعاوضة الصحيحة توجب ضمان كلّ منهما ما وصل إليه بعوضه الذي دفعه، و يكون مع الفساد مضموناً بعوضه الواقعي الذي هو المثل أو القيمة، و ليس في المعاوضات ما لا يضمن العوض بصحيحه حتّى لا يضمن بفاسده.

و بالجملة: فالإجارة إن لوحظت بالنسبة إلى العوضين اللذين هما الأُجرة و المنفعة

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 604

..........

______________________________

ففي صحيحها الضمان، و لازمه أن يكون في فاسدها أيضاً كذلك. و إن لوحظت بالإضافة إلى العين التي هي خارجة عن العوضين، فهي و إن لم يكن في صحيحها الضمان إلّا أنّ قاعدة «ما لا يضمن» لا يشمل مثلها؛ لأنّ موردها ما هو طرف للعقد و هو واقع عليه، و إن شئت قلت: إنّ مورد القاعدة أصلًا و عكساً ما إذا كان العقد موجباً و مقتضياً للضمان أو لعدمه، و ليس الحكم بعدم الضمان في الإجارة الصحيحة مقتضى نفس العقد كما

هو غير خفيّ، بل مقتضاه الضمان بالنسبة إلى العوضين فقط.

و الجواب عن هذا الإيراد: أنّه يتمّ لو كان طرفا المعاوضة في الإجارة هما الأجرة و المنفعة، مع أنّك عرفت «1» في تعريف الإجارة و بيان حقيقتها أنّ متعلّق الإجارة هي العين، و أنّها إضافة خاصّة بالنسبة إلى العين المستأجرة و نتيجتها نقل المنفعة، فأحد العوضين في الإجارة هي نفس العين دون المنفعة. و حينئذٍ يصحّ أن يقال: إنّ الإجارة مع كونها معاوضة لا يكون فيها الضمان بالنسبة إلى صحيحها، ففي فاسدها أيضاً كذلك، و يؤيّد ما ذكرنا استدلال غير واحد «2» للحكم بعدم الضمان في المقام بهذه القاعدة، فتدبّر جيّداً.

ثمّ إنّه ربما يقال: بأنّ هذه القاعدة و إن كانت مقتضية لعدم الضمان في الإجارة الفاسدة، إلّا أنّ النسبة بينها و بين دليل اليد بناءً على عدم الاختصاص باليد القاهرة العادية هي العموم من وجه، فيتعارضان في مثل المقام الذي هو مادّة الاجتماع.

و يرد على ذلك أنّ كون النسبة بين القاعدتين عموماً من وجه مبتنية على ثبوت مادّتي الافتراق لهما، و في المقام تكون مادّة الافتراق بالنسبة إلى دليل اليد متحقّقة،

______________________________

(1) في ص 8 10.

(2) تذكرة الفقهاء: 2/ 318، مجمع الفائدة و البرهان: 10/ 69، جواهر الكلام: 27/ 252، مستمسك العروة الوثقى: 12/ 73، مستند العروة الوثقى، كتاب الإجارة: 223.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 605

..........

______________________________

ضرورة أنّ موارد ثبوت الضمان كالعين المغصوبة و نحوها خارجة عن قاعدة «ما لا يضمن». و أمّا بالنسبة إلى هذه القاعدة فلم يعرف لها مورد الافتراق أصلًا.

و دعوى كون مورده العقد الذي ليس في صحيحه الضمان قبل تحقّق القبض و الإقباض؛ لخروجه حينئذٍ عن عموم دليل اليد

بعد عدم تحقّق التسلّط و الاستيلاء بعد.

مدفوعة بأنّ الحكم بالضمان أو بعدمه إنّما هو فيما إذا تحقّق استيلاء و تسلّط، ضرورة أنّ الحكم بعدم الضمان بالنسبة إلى مال الغير قبل وقوعه تحت استيلاء من يحكم له بعدم الضمان ممّا لا يعقل، فإنّه لا معنى للحكم بعدم ضمان المستأجر بالنسبة إلى العين المستأجرة قبل وقوع القبض و الإقباض و تحقّق السلطة و الاستيلاء، و الحكم بضمان البائع المبيع إذا تلف قبل قبضه إنّما هو لأجل انتقاله بالبيع إلى المشتري و زوال علقة البائع عنه بمجرّد العقد، مضافاً إلى أنّه ليس في الحقيقة حكماً بالضمان، و إلّا لكان اللّازم أداء المثل أو القيمة، بل هو كناية عن بطلان البيع و تلف المبيع في يد مالكه، و اللّازم حينئذٍ رجوع الثمن إلى المشتري. و كيف كان، فالظاهر أنّ قاعدة «ما لا يضمن» أخصّ من دليل اليد و يجب تخصيصه بها.

ثمّ إنّه يظهر من المستمسك في شرح العروة الاستدلال على عدم الضمان في الإجارة الفاسدة بوجه آخر، قال في ذيل الاستدلال على عدم الضمان بما دلّ على عدم ضمان المستأمن، نظراً إلى أنّ موضوع عدم الضمان هو الأمين العرفي و هو حاصل في الصحيحة و الفاسدة: و دعوى أنّ الاستئمان مبنيّ على الإجارة فإذا تبيّن فسادها فقد تبيّن انتفاؤه. يدفعها أنّ ظاهر نصوص «1» عدم الضمان مع الاستئمان

______________________________

(1) وسائل الشيعة: 19/ 79 81، كتاب الوديعة ب 4.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 606

..........

______________________________

عموم الحكم لصورة التلف المؤدّي إلى فساد العقد من أوّل الأمر، فتدلّ تلك النصوص على نفي الضمان مع الاستئمان و لو كان في العقد الفاسد، فلاحظ تلك النصوص العامّة و الخاصّة في

مواردها، فإنّها تدلّ على ما ذكرنا من أنّ الاستئمان المبنيّ على العقد موضوع لعدم الضمان و إن تبيّن بطلان العقد «1».

و قد أُورد عليه بأنّه قد وقع في كلامه الخلط بين كون مبنى الاستدلال هو الاستئمان المتحقّق في الإجارة، و بين كون المبنى هي النصوص الدالّة على عدم الضمان في الإجارة من دون لحاظ الاستئمان، و اللّازم هو التفكيك بين الأمرين، ضرورة أنّه إن كان الملاك في عدم الضمان في الإجارة الصحيحة هو تحقّق الاستئمان فلا شكّ في وجود هذا الملاك في الإجارة الفاسدة أيضاً كما عرفته منّا، و إن كان الملاك فيه هي النصوص الدالّة على عدم الضمان، نظراً إلى عمومها لصورة التلف المؤدي إلى فساد العقد من أوّل الأمر، فيمكن أن يورد عليه بابتناء ذلك على كون التلف موجباً للفساد من أوّل الأمر مع أنّ الشهرة على خلافه، كما سيأتي في محلّه.

هذا، مضافاً إلى أنّه على تقدير تسليم ذلك يمكن أن يقال: بأنّ ورود تلك النصوص في مورد الإجارة مع ظهورها في الإجارة التي تكون موصوفة بوصف الصحّة الواقعية يمنع عن شمولها لصورة التلف المؤدّي إلى الفساد من الأوّل، الموجب لكون الإجارة موصوفة بوصف الصحّة الظاهرية.

و لو قيل: بأنّ ذلك إنّما يتمّ فيما إذا أُريد استفادة حكم صورة التلف من العموم، مع أنّ غير واحد من تلك النصوص وارد في خصوص صورة التلف و متعرّض لحكم هذه الصورة فقط.

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقى: 12/ 74.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 607

..........

______________________________

فيمكن أن يقال في الجواب: بأنّ غاية الأمر دلالتها على عدم الضمان فيما إذا تبيّن البطلان من ناحية تلف العين، و المدّعى أعمّ من ذلك؛ لأنّ الكلام في مطلق الإجارة

الفاسدة، سواء كان منشأ الفساد هو التلف، أو خللًا آخر في العقد، أو المتعاقدين، أو العوضين. هذا ما يمكن أن يورد على مثل هذا الاستدلال، و إن كان لا يخلو عن المناقشة بل المنع، فتدبّر.

و قد انقدح من جميع ما ذكرنا أنّ مقتضى قاعدة «ما لا يضمن» في المقام هو عدم الضمان، و أنّ الملاك لعدم الضمان في الصحيحة إن كان هو اتّصاف المستأجر بكونه مؤتمناً فاللّازم في الفاسدة أيضاً التفصيل بمقتضى هذا الملاك، و أمّا النصوص الواردة في مورد الإجارة مع قطع النظر عن الائتمان فلا يستفاد منها حكم المقام؛ لعدم كون التلف موجباً للفساد من أوّل الأمر كما مرّ.

المقام الثاني: في حكم صورة العلم بالفساد، و الكلام فيه هو الكلام في المقام الأوّل إلّا أنّ الحكم بعدم الضمان هنا أولى؛ لعدم جريان بعض الإشكالات الجارية هناك في هذا المقام، كالإشكال بكون التسليط على العين مبنيّاً على تخيّل الصحّة، و لأجله لا يكون في الواقع راضياً بكون العين في يد المستأجر و إن كان في الظاهر كذلك؛ لأجل اعتقاد صحّة الإجارة، فإنّ مثل هذا الإشكال لا يجري في صورة العلم، و لذا استشكل في هذه الصورة بعض من حكم بالضمان في الصورة المتقدّمة كصاحب الرياض «1»، و قد تقدّم «2» أنّ المحكي عن الأردبيلي نسبة الحكم بالضمان في صورة الجهل إلى المفهوم من كلمات الأصحاب، و إن اختار هو عدم الضمان «3» فيما

______________________________

(1) رياض المسائل: 6/ 40 41.

(2) في ص 601 602

(3) مجمع الفائدة و البرهان: 10/ 69.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 608

..........

______________________________

حكاه عنه في شرح العروة في مسألة عدم ضمان المستأجر، مستدلّاً بالأصل و قاعدة «ما لا

يضمن» «1».

و ممّا ذكرنا ظهر أنّه لا يكون في مسألتنا هذه شهرة أصلًا لا في المقام الأوّل و لا في المقام الثاني، فلا وجه لما في شرح العروة من نسبة عدم الضمان إلى المشهور «2».

[قال المؤلّف دام ظلّه في كتاب الإجارة الثاني]:

إذا تعدّى في العين المستأجرة، قال المحقّق في الشرائع: ضمن قيمتها وقت العدوان، و لو اختلفا في القيمة كان القول قول المالك إن كانت دابّة. و قيل: القول قول المستأجر على كلّ حال و هو أشبه «3»، انتهى.

و الظاهر كون الظرف قيداً للقيمة، و أنّ المضمون هي القيمة الموجودة حال العدوان لا أنّه قيد للضمان، كما فسّر العبارة بهذا النحو في الجواهر، حيث قال: معناها دخولها في ضمانه من حين العدوان لا ضمان قيمة يومه «4»، و هذا أي كونه مخالفاً للظاهر هو الذي يمكن أن يُجاب به عن صاحب الجواهر، و إلّا فمذهب المحقّق في المقبوض بالبيع الفاسد «5» حيث اختار ضمان قيمة يوم القبض لا يصير قرينة على كون الظرف في هذه العبارة قيداً للقيمة؛ لأنّه اختار في باب الغصب «6» ضمان أعلى القيم،

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقى: 12/ 74.

(2) مستمسك العروة الوثقى: 12/ 73.

(3) شرائع الإسلام: 2/ 187.

(4) جواهر الكلام: 27/ 316.

(5) شرائع الإسلام: 2/ 17.

(6) شرائع الإسلام: 3/ 240.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 609

..........

______________________________

كما أنّ دعوى كون الضمان بالتعدّي لا يعقل أن يكون في غير وقت التعدّي، مدفوعة بمنع عدم المعقولية؛ ضرورة أنّه يمكن أن يكون التعدّي كاشفاً عن ثبوت الضمان قبله من حين القبض، و عليه فالقيد إنّما أتي به لأجل دفع هذا الاحتمال، و أنّ التعدّي سبب لتحقّق الضمان لا أنّه كاشف عنه، و

دعوى أنّه لا يعقل الكشف في الضمان المتّصف بكونه ناشئاً عن التعدّي، مدفوعة بأنّه و إن كان غير معقول إلّا أنّ المحقّق علّق مطلق الضمان على التعدّي، لا الضمان الموصوف.

و كيف كان، يكفي في مقام الجواب عن استظهار صاحب الجواهر مجرّد كونه خلافاً لما هو المستفاد من الكلام عند العرف.

و بالجملة: فهذه المسألة من جزئيات ضمان المغصوب القيمي، و يجري فيها جميع الأقوال و الوجوه المذكورة هناك من قيمة يوم العدوان «1»، و قيمة يوم التلف كما نسب إلى المشهور «2»، و أعلى القيم من يوم العدوان إلى يوم التلف «3»، و أعلى القيم من حين العدوان إلى حين دفع القيمة و أدائها «4»، و خصوص قيمة يوم الدفع و الأداء كما اختاره غير واحد من محقّقي المتأخّرين «5».

نعم، هنا قولان آخران يختصّ أحدهما بباب المقبوض بالبيع الفاسد؛ و هو أنّ الاعتبار بقيمة يوم البيع فيما كان فساده من جهة التفويض إلى

______________________________

(1) المختصر النافع: 368، شرائع الإسلام: 3/ 240.

(2) الدروس الشرعية: 3/ 113، مختلف الشيعة: 6/ 81 82 مسألة 67.

(3) المبسوط: 3/ 72 و 75، السرائر: 2/ 481.

(4) حكاه الشهيد الثاني عن المحقّق في الروضة البهية: 7/ 40، و السيّد الطباطبائي عن العلّامة في رياض المسائل: 8/ 345.

(5) العروة الوثقى: 5/ 65 مسألة 2، و راجع بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 273.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 610

..........

______________________________

حكم المشتري «1»، و ثانيهما بهذا المقام أي الإجارة؛ و هو ما عن الوسيلة «2» من التفصيل في عدوان المستأجر بين التعدّي و التفريط، بثبوت أكثر القيم من يوم العدوان إلى يوم التلف في الأوّل، و يوم التلف في الثاني. و العمدة في

هذا الباب صحيحة أبي ولّاد المعروفة الواردة في التعدّي في العين المستأجرة، و لا بدّ من نقلها و النظر فيما يستفاد منها للحكم على طبقها، أعمّ من أن يكون على وفق القواعد في باب الضمان أو على خلافها، فإنّه على كلا التقديرين لا محيص عن الأخذ بها كما لا يخفى، فنقول:

روى الكليني في الكافي عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد. و روى الشيخ في كتابيه بإسناده عن أحمد بن محمّد و سنده إليه صحيح عن ابن محبوب، عن أبي ولّاد الحنّاط قال: اكتريت بغلًا إلى قصر ابن هبيرة ذاهباً و جائياً بكذا و كذا، و خرجت في طلب غريم لي، فلمّا صرت قرب قنطرة الكوفة خبّرت أنّ صاحبي توجّه إلى النيل، فتوجّهت نحو النيل، فلمّا أتيت النيل خبّرت أنّ صاحبي توجّه إلى بغداد، فأتبعته و ظفرت به و فرغت ممّا بيني و بينه و رجعنا إلى الكوفة، و كان ذهابي و مجيئي خمسة عشر يوماً، فأخبرت صاحب البغل بعذري، و أردت أن أتحلّل منه ممّا صنعت و أُرضيه، فبذلت له خمسة عشر درهماً فأبى أن يقبل، فتراضينا بأبي حنيفة فأخبرته بالقصّة و أخبره الرجل، فقال لي: ما صنعت بالبغل؟ فقلت: قد دفعته إليه سليماً، قال: نعم بعد خمسة عشر يوماً.

قال: فما تريد من الرجل؟ فقال: أُريد كراء بغلي فقد حبسه عليَّ خمسة عشر يوماً، فقال: ما أرى لك حقّا؛ لأنّه اكتراه إلى قصر ابن هبيرة، فخالف

______________________________

(1) المقنعة: 593، و نسب هذا القول إلى القاضي و الحلبي الشيخ الأنصاري في كتاب المكاسب: 3/ 255.

(2) الوسيلة: 267.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 611

..........

______________________________

و ركبه إلى النيل و إلى بغداد فضمن

قيمة البغل و سقط الكراء، فلمّا ردّ البغل سليماً و قبضته لم يلزمه الكراء.

قال: فخرجنا من عنده و جعل صاحب البغل يسترجع فرحمته ممّا أفتى به أبو حنيفة، فأعطيته شيئاً و تحلّلت منه، و حججت تلك السنة فأخبرت أبا عبد اللّٰه عليه السلام بما أفتى به أبو حنيفة، فقال: في مثل هذا القضاء و شبهه تحبس السماء ماءها، و تمنع الأرض بركتها، قال: فقلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: فما ترى أنت؟ فقال: أرى له عليك مثل كراء بغل ذاهباً من الكوفة إلى النيل، و مثل كراء بغل راكباً من النيل إلى بغداد، و مثل كراء بغل من بغداد إلى الكوفة توفّيه إيّاه، قال: فقلت: جعلت فداك قد علّفته بدراهم فلي عليه علفه؟ فقال: لا، لأنّك غاصب، قال: فقلت له: أ رأيت لو عطب البغل و نفق أ ليس كان يلزمني؟ قال: نعم قيمة بغل يوم خالفته، قلت: فإن أصاب البغل كسر أو دبر أو غمز؟ فقال: عليك قيمة ما بين الصحّة و العيب يوم تردّه عليه.

فقلت: من يعرف ذلك؟ قال: أنت و هو، إمّا أن يحلف هو على القيمة فيلزمك، فإن ردّ اليمين عليك فحلفت على القيمة لزمه ذلك، أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أنّ قيمة البغل حين اكترى كذا و كذا فيلزمك، قلت: إنّي كنت أعطيته دراهم و رضي بها و حلّلني، فقال: إنّما رضي بها و حلّلك حين قضى عليه أبو حنيفة بالجور و الظلم، و لكن ارجع إليه فأخبره بما أفتيتك به، فإن جعلك في حلّ بعد معرفته فلا شي ء عليك بعد ذلك، قال أبو ولّاد: فلمّا انصرفت من وجهي ذلك لقيت المكاري فأخبرته بما أفتاني به أبو عبد اللّٰه

عليه السلام، و قلت له: قل ما شئت حتّى أعطيكه، فقال: قد حبّبت إليّ جعفر بن محمّد، و وقع في قلبي له التفضيل و أنت في

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 612

..........

______________________________

حلّ، و إن أحببت أن أردّ عليك الذي أخذت منك فعلت «1».

و قد استدلّ بهذه الصحيحة تارةً على اعتبار أعلى القيم من يوم العدوان إلى يوم التلف، كما هو المحكي عن الشهيد الثاني قدس سره في الروضة «2»، و أُخرى على اعتبار خصوص يوم الغصب كما عليه أكثر المستدلّين بالحديث «3».

و تقريب الاستدلال بها على الثاني على ما أفاده الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره، أنّه يدلّ على اعتبار يوم الغصب فقرتان:

الاولى: قوله عليه السلام: «نعم، قيمة بغل يوم خالفته» إلى ما بعد، قال: فإنّ الظاهر أنّ اليوم قيد للقيمة، إمّا بإضافة القيمة المضافة إلى البغل إليه ثانياً؛ يعني قيمة يوم المخالفة للبغل، فيكون إسقاط حرف التعريف من البغل للإضافة، لا لأنّ ذا القيمة بغل غير معيّن حتّى توهم الرواية مذهب من جعل القيمي مضموناً بالمثل، و القيمة إنّما هي قيمة المثل، و إمّا بجعل اليوم قيداً للاختصاص الحاصل من إضافة القيمة إلى البغل.

و أمّا ما احتمله جماعة «4» من تعلّق الظرف بقوله عليه السلام: «نعم» القائم مقام قوله عليه السلام: «يلزمك» يعني يلزمك يوم المخالفة قيمة بغل فبعيد جدّاً. بل غير ممكن؛ لأنّ السائل إنّما سأل عمّا يلزمه بعد التلف بسبب المخالفة بعد العلم بكون زمان المخالفة زمان حدوث الضمان، كما يدلّ عليه: «أ رأيت لو

______________________________

(1) الكافي: 5/ 290 ح 6، التهذيب: 7/ 215 ح 943، الاستبصار: 3/ 134 ح 483، وسائل الشيعة: 19/ 119، كتاب الإجارة ب

17 ح 1.

(2) الروضة البهية: 7/ 43 44.

(3) راجع رياض المسائل: 6/ 42 و مفتاح الكرامة: 7/ 254.

(4) كالسيّد العاملي في مفتاح الكرامة: 6/ 244، و المحقّق النراقي في مستند الشيعة: 14/ 290، و الشيخ النجفي في جواهر الكلام: 37/ 101 102.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 613

..........

______________________________

عطب البغل أو نفق أ ليس كان يلزمني؟» فقوله: «نعم» يعني يلزمك بعد التلف بسبب المخالفة قيمة بغل يوم خالفته، و قد أطنب بعض في جعل الفقرة ظاهرة في تعلّق الظرف بلزوم القيمة عليه «1»، و لم يأت بشي ء يساعده التركيب اللغوي و لا المتفاهم العرفي.

الثانية: قوله عليه السلام: «أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أنّ قيمة البغل يوم اكترى كذا و كذا» فإنّ إثبات قيمة يوم الاكتراء من حيث هو يوم الاكتراء لا جدوى فيه؛ لعدم الاعتبار به، فلا بدّ أن يكون الغرض منه إثبات قيمة يوم المخالفة، بناءً على أنّه يوم الاكتراء؛ لأنّ الظاهر من صدر الرواية أنّه خالف المالك بمجرّد خروجه من الكوفة، و من المعلوم أنّ اكتراء البغل لمثل تلك المسافة القليلة إنّما يكون يوم الخروج، أو في عصر اليوم السابق، و معلوم أيضاً عدم اختلاف القيمة في هذه المدّة القليلة «2»، انتهى موضع الحاجة من كلامه رفع اللّٰه في الجنان مقامه.

و الظاهر أنّ مراده قدس سره من التقريب الأوّل للاستشهاد بالفقرة الاولى هو ترامي الإضافات و تتاليها، لا إضافة القيمة تارةً إلى البغل، و أُخرى إلى يوم المخالفة حتّى يورد عليه بعدم جواز إضافة الشي ء المضاف إلى شي ء إلى آخر ثانياً، كما اختاره بعض المحشّين «3»، أو بامتناع ذلك و استحالته، كما اختاره بعض آخر من محقّقيهم «4»، و

الدليل على ما ذكرنا ما أفاده من أنّ إسقاط حرف التعريف من البغل إنّما هو لأجل الإضافة، و ذلك لأنّه على تقدير عدم كون البغل مضافاً إلى اليوم، و كونه مضافاً إليه

______________________________

(1) راجع جواهر الكلام: 37/ 102.

(2) كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري: 3/ 247 249.

(3) كالمامقاني في غاية الآمال: 314.

(4) كالآخوند في حاشيته على المكاسب: 41، و المحقّق الأصفهاني في حاشيته على المكاسب: 1/ 101.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 614

..........

______________________________

للقيمة فقط لا وجه لإسقاط حرف التعريف، فإنّ ما يسقط حرف التعريف منه إنّما هو المضاف لا المضاف إليه، و عليه فيكون المراد ترامي الإضافات و إضافة البغل إلى يوم المخالفة، كإضافة القيمة إلى البغل. و دعوى أنّ ذلك لا يقتضي اختصاص القيمة بيوم المخالفة، مدفوعة بأنّ بغل يوم المخالفة لا معنى له إلّا قيمته في ذلك اليوم. نعم، ربّما يورد على ما أفاده من عدم إمكان تعلّق الظرف بقوله عليه السلام: «نعم» القائم مقام قوله عليه السلام: «يلزمك» بأنّه يحتمل أن يكون اعتقاد السائل أن يكون البغل في ضمانه حين دخل تحت يده جهلًا منه بأمانة المستأجر مطلقاً، أو في خصوص الدابّة إذا لم يكن صاحبها معها حسبما هو المتعارف بين المكارين، و عليه فلا مانع من جعل «يوم» ظرفاً لقوله عليه السلام: «نعم» بل استظهر هذا و استقربه السيّد الطباطبائي قدس سره في حاشيته على متاجر الشيخ الأعظم قدس سره «1».

هذا، و الاستظهار ممنوع، بل لو كان قوله عليه السلام: «يوم خالفته» متّصلًا بقوله عليه السلام: «نعم» و لم يكن بينهما فصل لما كان الظاهر هو هذا المعنى، فإنّ مجرّد كون كلمة «نعم» قائمة مقام الفعل و مفيدة لمعناه

لا يسوّغ إجراء أحكام الفعل عليها، و تعلّق الظرف بنفسها مع قطع النظر عن إقامة الفعل مقامها ممّا لا ينبغي، و هذا بخلاف تعلّق الظرف بالقيمة كما لا يخفى. و بالجملة فالظاهر دلالة هذه الفقرة على أنّ الاعتبار بيوم الغصب و المخالفة.

و أمّا الفقرة الثانية، فربما يستشكل على تقريب الاستدلال بها لما ذكر كما مرّ في كلام الشيخ قدس سره بمنع كون الغرض من يوم الاكتراء إثبات قيمة يوم المخالفة نظراً إلى اتّحادهما، و ذلك لاحتمال ابتنائه على اتّحاد قيمة البغل من يوم الاكتراء إلى يوم الردّ، كما هو الغالب بالنظر إلى

______________________________

(1) حاشية المكاسب للسيّد الطباطبائي اليزدي: 1/ 104.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 615

..........

______________________________

مجاري العادات على اتّحاد الأسعار و قيمة الأشياء في الأعصار المتقدّمة، خصوصاً في مثل خمسة عشر يوماً كما هو المفروض في الرواية، فيكون تخصيص يوم الاكتراء بالذكر من بين سائر الأيّام لتعذّر إقامة الشهود أو تعسّرها في غيره.

هذا، و لكن هذا الاحتمال في غاية الضعف، و الظاهر ابتناؤه على اتّحاده مع يوم المخالفة، و الوجه في العدول عنه إليه إنّما هو التنبيه على سهولة إقامة الشهود على قيمته في زمان الاكتراء، لكون البغل فيه غالباً بمشهد من الناس و جماعة المكارين، بخلاف زمان المخالفة من حيث إنّه زمان المخالفة، فتغيير التعبير إنّما هو لأجل ذلك لا لكون العبرة بزمان الاكتراء من حيث هو، فالإنصاف تماميّة دلالة الرواية على أنّ الاعتبار بيوم المخالفة كما أفاده الشيخ قدس سره، لكنّه بضميمة أمر آخر؛ و هو أنّ المراد بيوم المخالفة الواقع في الرواية يوم حدوث المخالفة و العدوان، فإنّه على تقدير أن يكون المراد به أعمّ من يوم الحدوث

و أيّام البقاء كما يحتمل فيه؛ لأنّه يصدق على كلّ منهما أنّه يوم المخالفة، ضرورة أنّ اليوم الثاني و الثالث و هكذا يتّصف كلّ واحد منهما بأنّه يوم المخالفة تكون الرواية دالّة على اعتبار أعلى القيم من يوم حدوث المخالفة إلى يوم التلف.

فإنّ الرواية على هذا التقدير تكون بصدد دفع توهّم أن يكون الاعتبار بالقيمة التي أدّاها صاحب البغل حين اشترائه له، و بيان أنّ الاعتبار بقيمة العين و ماليّتها في زمن كونها تحت استيلاء اليد العادية، من غير دخالة للحدوث بما هو حدوث فيه، فمقتضى الرواية حينئذٍ أنّ الاعتبار بقيمة البغل حين كونه مغصوباً و باختيار اليد العادية، و عليه فيصدق على أعلى القيم في تلك المدّة أنّه قيمة العين في يوم المخالفة و يصدق على أدائها أداء قيمة العين في ذلك اليوم، و هذا بخلاف ما لو لم يؤدّ أعلى القيم، بل

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 616

..........

______________________________

اقتصر على بعض القيم النازلة، فإنّه لا يصدق على أدائه أداء قيمة العين في ذلك اليوم، كما لا يخفى.

هذا، و يرد على هذا التقريب أنّ الظاهر من يوم المخالفة إنّما هو يوم حدوثها لا الأعمّ منه و من أيّام البقاء، مضافاً إلى أنّه على هذا التقدير أيضاً لا دلالة للرواية على اعتبار خصوص أعلى القيم، فإنّه يصدق على القيم النازلة أيضاً أنّها قيمة العين في يوم المخالفة، فيكفي أداؤها، و لا وجه لتعيّن خصوص اليوم الذي تكون قيمة العين فيه أعلى القيم، ثمّ على تقدير تسليم كون المراد من يوم المخالفة هو المعنى الأعمّ، و أنّه لا بدّ من رعاية أعلى القيم، يمكن أن يمنع كون الغاية يوم التلف، بل يحتمل

أن تكون يوم الأداء، و عليه فاللّازم رعاية أعلى القيم من يوم المخالفة إلى يوم الأداء. و دعوى أنّه لا يصدق على ما بعد التلف عنوان يوم المخالفة و لو بقاءً، مدفوعة بأنّ ما لا يصدق على ما بعد التلف إنّما هو وصف العين التالفة، و أمّا وصف الغاصب و اتّصافه بهذه الصفة فهو بعد باق، و لذا يجب عليه أداء قيمتها فتأمّل.

و قد انقدح ممّا ذكرنا أنّ الرواية ظاهرة في أنّ الاعتبار بخصوص يوم حدوث المخالفة و العدوان، و عليه فلا محيص من الأخذ بها و الحكم على طبقها، سواء كان موافقاً للقاعدة الأوّلية في باب ضمان المضمونات أو مخالفاً لها. نعم، يشكل الأمر على تقدير كون مفاد «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي» «1» هو العبرة بيوم التلف، أو بيوم الدفع و الأداء كما لعلّه الأنسب بملاحظة الغاية، فإنّه يقع التعارض بين الدليلين و الاختلاف بين الروايتين، فإنّ رواية قاعدة اليد متلقّاة بالقبول عند الأصحاب، و يستدلّون

______________________________

(1) تقدّم في ص 337 338.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 617

..........

______________________________

بها في كثير من المقامات. نعم، على تقدير كون مفادها هو العبرة بيوم القبض و وضع اليد على العين كما ربّما يحتمل يقع بينهما التوافق و يرتفع الاختلاف.

هذا، و لا وجه للجمع بينهما بحمل الصحيحة على مورد خاصّ؛ و هو العين المستأجرة التي تعدّى فيها أو الدابّة المستأجرة كذلك، و حمل رواية اليد على ما عدا ذلك المورد، و ذلك لظهور الصحيحة في أنّ ذلك إنّما هو حكم الغصب مطلقاً لا خصوص العين المستأجرة الكذائية. نعم، لا ينبغي الارتياب في أنّ ظهور الصحيحة في اعتبار يوم المخالفة أقوى من ظهور الرواية

في غيره، خصوصاً بعد جريان احتمال اعتبار يوم المخالفة فيها أيضاً، فتدبّر جيّداً.

بقي الكلام في حكم اختلاف المالك و المستأجر، الذي تعرّض له المحقّق قدس سره في عبارته المتقدّمة في صدر المسألة، و المحكيّ عن الشيخ قدس سره «1» أنّه يقدّم قول المالك إذا كانت العين المستأجرة دابّة، و ذهب المشهور «2» إلى تقديم قول المستأجر مطلقاً، و الظاهر أنّ مستند الشيخ قدس سره إنّما هي صحيحة أبي ولّاد المتقدّمة، المشتملة على قوله: فقلت: من يعرف ذلك؟ قال عليه السلام: «أنت و هو، إمّا أن يحلف هو على القيمة فيلزمك، فإن ردّ اليمين عليك فحلفت على القيمة لزمه ذلك» فإنّها صريحة في أنّ الحلف وظيفة المالك، و أنّه إذا حلف على أيّة قيمة تلزم على المستأجر، و حيث إنّ هذا الحكم مخالف للقاعدة المعروفة؛ و هي أنّ البيّنة على المدّعى و اليمين

______________________________

(1) النهاية: 446.

(2) السرائر: 2/ 465، شرائع الإسلام: 2/ 187، مختلف الشيعة: 6/ 114 مسألة 11، مسالك الأفهام: 5/ 221- 222.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 618

..........

______________________________

على من أنكر، و يؤيّده قول الإمام عليه السلام بعد ذلك: «أو يأتي صاحب البغل بشهود» إلخ، اقتصر في الحكم المخالف للقاعدة على خصوص مورد الصحيحة؛ و هي الدابّة المستأجرة، و لم يتعدّ عنه إلى غيره.

أقول: هنا مطلبان قابلان للبحث:

أحدهما: الجمع بين اليمين و البيّنة بالإضافة إلى المالك في الصحيحة في الفقرة التي نقلناها آنفاً.

ثانيهما: أنّ يمين المالك هل تكون موافقة لقاعدة «اليمين على من أنكر» أم لا تكون كذلك؟ فعلى تقدير الموافقة لا يبقى مجال لتخصيص الحكم بخصوص الدابّة المستأجرة. نعم، على تقدير المخالفة للبحث فيه مجال واسع.

أمّا المطلب الأوّل: فهو و

إن كان مرتبطاً بباب الإجارة الذي هو محلّ بحثنا، إلّا أنّه حيث يكون المفروض صورة فقدان البيّنة نحيل البحث في ذلك إلى مقام آخر، و إن وقع التعرّض له في كلام الشيخ الأعظم «1» و جمع من الأعلام قدّس اللّٰه أسرارهم «2».

و أمّا المطلب الثاني: فالذي تقتضيه القاعدة في بادئ النظر أنّ يمين المالك مخالفة للقاعدة؛ لأنّه مدّع و المستأجر منكر، و ذلك لأنّ المالك يدّعي الزيادة المخالفة للأصل و المستأجر ينكرها. نعم، لو كانت القيمة الزائدة ثابتة للعين سابقاً، و ادّعى المستأجر نقصانها عن تلك القيمة يوم حدوث المخالفة يكون قول المالك موافقاً للأصل.

______________________________

(1) كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري: 3/ 251.

(2) منهم: المحقّق الرشتي في كتاب الإجارة: 323 324، و المحقّق الآشتياني في كتاب الإجارة: 232- 233، و المحقّق الإيرواني في حاشيته على المكاسب: 1/ 102.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 619

..........

______________________________

هذا، و لكن يمكن أن يقال كما قاله المحقّق الإصفهاني قدس سره: تارةً بأنّ موافقة قول المالك للأصل إنّما يبتني على ما إذا قلنا في باب الضمان ببقاء نفس العين المضمونة في العهدة و أنّها لا تسقط إلّا بأداء بدلها، فإنّه حينئذٍ لا يحصل القطع بسقوط العهدة المتيقّنة مع أداء الأقلّ، و الأصل بقاؤها حتّى يحصل القطع بالسقوط بأداء الأكثر، و أمّا إذا قلنا في باب الضمان بأنّ الثابت مجرّد وجوب دفع القيمة على تقدير التلف، أو قلنا بتبدّل عهدة العين بعد تلفها بذمّة المثل أو القيمة، فقول المالك مخالف للأصل؛ لأنّ مقتضى الأصل البراءة عن وجوب دفع القيمة الزائدة، كما أنّ الأصل عدم اشتغال الذمّة بأزيد من المتيقّن.

و أُخرى بأنّه على جميع المباني الثلاثة المذكورة يكون قول المالك موافقاً

للأصل، و ذلك لأنّ المالية لها اعتبارات ثلاثة؛ و هي اعتبار بشرط شي ء، و بشرط لا، و لا بشرط، و الأوّلان و إن كانا متضمّنين لخصوصية وجودية أو عدميّة يجب التنبيه عليها دون المطلق و اللابشرط القسمي، فإنّه يكفيه عدم الدالّ على إحدى الخصوصيتين، إلّا أنّه قد اعتبرت في باب القيميات بشرط لا؛ لأنّ كلّ ماهية بالإضافة إلى ماهية اخرى بشرط لا و إن كانت طولية، فماهيّة الشجر مثلًا لها جهة وجدان الجسميّة و القوّة النباتية و جهة فقدان سائر الأشياء، و لذا لا يدخل الشجر في حدّ الإنسان، و الداخل فيه جهة وجدانها فقط؛ و هي الجسميّة و النموّ، و عليه فالمالية القائمة بماهية هي بشرط لا بالإضافة إلى ما عداها هي التالفة و هي المتداركة، و ليس في الخارج ما يتمحّض في المالية، و لا حيثية له إلّا حيثيّة المالية، إلّا النقود المجعولة أعواضاً لمجرّد ماليّتها، لكن الذمّة لا تشتغل بالدينار و الدرهم أو غيرهما من النقود الرائجة في المعاملات؛ لعدم تعيّن شي ء منها، و لاستحالة الاشتغال بأحدها المردّد، و لا جامع إلّا

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 620

..........

______________________________

المالية؛ و هي أمر بسيط ليس له قلّة و كثرة و زيادة و نقص إلّا باعتبار ما يتحقّق به في الخارج؛ و هي أنواع النقود، فما تشتغل به الذمّة أو يجب شرعاً تداركه ليس فيه قلّة و كثرة حتّى يجري فيه الأصل، بل القلّة و الكثرة فيما يتحقّق به ما اشتغلت به الذمّة، و عليه فحال الضمان بمعنى وجوب دفع القيمة و بمعنى اشتغال الذمّة حال العهدة في أنّ الأصل فيها الاشتغال و بقاء تلك المالية إلى أن يتحقّق في

الخارج قطعاً، و الأصل حينئذٍ على جميع المباني مع المالك «1»، انتهى.

و محصّل ما أفاده أنّ المقام من قبيل الشكّ في المحصّل و المحقّق الذي هو مجرى أصالة الاشتغال، و لكنّه يمكن الإيراد عليه بأنّه ليست المالية أمراً وراء هذه الأُمور بحيث تكون هذه الأُمور محصّلة لها، بل هي أمر جامع بينها، و يتصوّر فيها الزيادة و النقيصة و الكثرة و القلّة، و إلّا يلزم أن لا يكون بين المحقّقات اختلاف من الجهة الراجعة إلى حيثية المالية، مع وضوح الاختلاف بينها من هذه الجهة، فلعشرة دراهم شأن مخصوص من هذه الجهة و لمائة درهم شأن آخر.

و بعبارة اخرى الماليّة المتحقّقة في الأُولى تغاير المالية المتحقّقة في الثانية من حيث القلّة و الكثرة، و عليه لا يكون قول المالك موافقاً للأصل بناءً على المبنيين من المباني الثلاثة المتقدّمة؛ لأنّ الأصل براءة الذمّة عن وجوب دفع المالية الزائدة على المقدار المتيقّن، كما أنّ الأصل عدم اشتغال ذمّة المستأجر بأزيد من ذلك المقدار، فتدبّر جيّداً. [انتهى كلامه دام ظلّه من كتاب الإجارة الثاني].

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 276 278.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 621

[الختّان ضامن لو تجاوز الحدّ]

مسألة 40: الختّان ضامن لو تجاوز الحدّ و إن كان حاذقاً، و في ضمانه إذا لم يتجاوزه كما إذا أضرّ الختان بالولد فمات إشكال، أظهره العدم (1).

______________________________

(1) قال المحقّق في الشرائع: إذا أفسد الصانع ضمن و لو كان حاذقاً؛ كالقصّار يحرق الثوب أو يخرق، أو الحجّام يجني في حجامته، أو الختّان يختن فيسبق موساه إلى الحشفة أو يتجاوز حدّ الختان، و كذا البيطار؛ مثل أن يحيف على الحافر، أو يفصد فيقتل، أو يجني ما يضرّ الدابّة و لو

احتاط و اجتهد، أمّا لو تلف في يد الصانع لا بسببه من غير تفريط و لا تعدّ لم يضمن على الأصح، و كذا الملّاح و المكاري و لا يضمنان إلّا ما يتلف عن تفريط «1».

أقول: في هذه المسألة مقامان:

المقام الأوّل: في ضمان الصانع إذا كان مفسداً مطلقاً، سواء كان حاذقاً أم لم يكن كذلك، و الكلام فيه تارةً فيما تقتضيه قاعدة الإتلاف العامّة الحاكمة بثبوت الضمان على من أتلف مال الغير، و أُخرى فيما تفيده النصوص الخاصّة الواردة في الباب.

أمّا الأوّل: فالظاهر أنّ مقتضى القاعدة هو الضمان لصدق الإتلاف و الإفساد على عمل الصانع؛ لأنّه لا يعتبر في تحقّقه صدوره عن قصد و عمد، ضرورة أنّ إتلاف مثل النائم موجب للضمان، و كذا لا تعتبر في تحقّقه صدوره عن مباشرة، بل يكفي صدوره بنحو التوليد أو التسبيب، فإلقاء مال الغير في النار الموجب لتلفه بسبب الإحراق إتلاف له، و إن كان الإحراق يعدّ فعلًا للنار و لكنّه لا ينافي الاستناد إلى الملقي أيضاً.

و بالجملة: لا ينبغي الارتياب في تحقّق عنوان الإتلاف في الأمثلة المذكورة في

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 2/ 187.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 622

..........

______________________________

عبارة الشرائع، و عليه فيترتّب عليه الضمان الذي هو مقتضى قاعدته.

نعم، فيما إذا كان التلف المترتّب على أعمال الصنعة مستنداً إلى عدم قابلية المحلّ كعدم قابلية الثوب للقصارة على الوجه المتعارف لا إلى خطأ الصانع و سبق يده ربما يقال: بأنّه و إن كان يصدق عليه أنّه متلف، إلّا أنّ الأمر في مثل هذه الإجارة دائر بين صحّتها و عدم الضمان، و بين فسادها و الضمان؛ لأنّ قصارة الثوب إذا كانت ملازمة عادة لخرقه فهو إتلاف

مأذون فيه من قِبَل مالكه، و كذا ختان الطفل الضعيف إذا كان جائزاً بحسب الظاهر لأبيه و جاز له الاستئجار شرعاً فهو إتلاف مأذون فيه شرعاً و من قِبَل الولي، و إن كان مع العلم بكون الختان مضرّاً لم يجز للولي ختانه و لما جاز شرعاً الاستئجار له.

و كذا في الطبيب الحاذق المباشر، فإنّه تارةً يقال فيه: بأنّه مكلّف بحفظ النفس المحترمة بعلاج المريض، فمثل هذا يستحيل أن يستلزم الضمان، فإنّ التلف لا يكون إلّا بخطإ منه، فالموضوع و هو علاج المريض منتف فيه، و أُخرى بأنّه مكلّف باستعمال ما يراه علاجاً لا بما هو علاج واقعاً، و في مثله لا ضمان معه، و عليه ينزّل أخذ البراءة من المريض أي الإذن في العلاج على نحو لا ضمان معه.

هذا، و لكنّ الظاهر أنّه لا بدّ من ملاحظة أنّ الإذن في عمل يلازم التلف عادة هل يكون إذناً في الإتلاف حتّى لا يكون هناك ضمان، أو أنّ الإتلاف المأذون فيه هو الذي يكون نفس الإتلاف بعنوانه متعلّقاً للإذن و مأذوناً فيه؟ و الظاهر هو الثاني.

و أمّا الثاني: و هو مقتضى الأخبار الواردة في المقام، فنقول: إنّ ما يرتبط منها بما هو محلّ البحث و هو إفساد الصانع و جنايته في صنعته لا يتجاوز عن عدّة روايات:

منها: صحيحة الحلبي أو حسنته، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: سئل عن القصّار

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 623

..........

______________________________

يفسد؟ فقال: كلّ أجير يعطى الأُجرة على أن يصلح فيفسد فهو ضامن «1».

و منها: صحيحته أو حسنته أيضاً عنه عليه السلام في الرجل يعطى الثوب ليصبغه فيفسده، فقال: كلّ عامل أعطيته أجراً على أن يصلح فأفسد

فهو ضامن «2».

و منها: رواية أبي الصباح قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن القصّار هل عليه ضمان؟ فقال: نعم، كلّ من يعطى الأجر ليصلح فيفسد فهو ضامن «3».

و منها: رواية إسماعيل بن أبي الصباح، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: سألته عن الثوب أدفعه إلى القصّار فيخرقه؟ قال: أغرمه فإنّك إنّما دفعته إليه ليصلحه و لم تدفع إليه ليفسده «4».

و في رواية أُخرى عنه نحوه إلّا أنّه قال: عن القصّار يسلّم إليه المتاع فيخرقه أو يحرقه أ يغرمه؟ قال: غرّمه بما جنت يده «5».

و منها: رواية السكوني، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام أنّ أمير المؤمنين عليه السلام رفع إليه رجل استأجر رجلًا يصلح بابه فضرب المسمار فانصدع الباب، فضمّنه أمير المؤمنين عليه السلام «6».

و هذه الروايات مضافاً إلى دلالتها على ثبوت الضمان في مفروض المقام يدلّ أكثرها على إعطاء قاعدة كليّة، و قد عرفت أنّ مقتضى دليل الإتلاف أيضاً ذلك.

______________________________

(1) الكافي: 5/ 241 ح 1، وسائل الشيعة: 19/ 141، كتاب الإجارة ب 29 ح 1.

(2) الفقيه: 3/ 161 ح 704، وسائل الشيعة: 19/ 147، كتاب الإجارة ب 29 ح 19.

(3) التهذيب: 7/ 220 ح 963، الاستبصار: 3/ 132 ح 476، وسائل الشيعة: 19/ 145، كتاب الإجارة ب 29 ح 13.

(4) الكافي: 5/ 242 ح 7، الفقيه: 3/ 161 ح 705، وسائل الشيعة: 19/ 143 144، كتاب الإجارة ب 29 ح 8.

(5) الكافي: 5/ 242 ح 7، الفقيه: 3/ 161 ح 705، وسائل الشيعة: 19/ 143 144، كتاب الإجارة ب 29 ح 8.

(6) الكافي: 5/ 243 ح 9، وسائل الشيعة: 19/ 144، كتاب الإجارة ب 29 ح 10.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير

الوسيلة - الإجارة، ص: 624

..........

______________________________

نعم، في الفرض الذي احتملنا خروجه عن القاعدة الأوّلية و هو ما لو لم يكن الإفساد مستنداً إلى العامل و الأجير، بل إلى عدم قابليّة المحلّ و عدم صلاحيّته لعروض الإصلاح له لا يبعد أن يقال بعدم دلالة الروايات أيضاً على ثبوت الضمان فيه؛ لأنّ موردها الثوب القابل للإصلاح و إعطاء الأُجرة عليه، و مع عدم قابلية المحلّ للإصلاح لكونه عتيقاً يخرق بمجرّد الفرك و الدلك المعتاد لا تشمله الروايات أصلًا.

ثمّ إنّ هنا رواية ربما يستفاد منها خلاف ما ذكرنا من الحكم بضمان الصانع مطلقاً؛ و هي رواية أبي بصير ليث المرادي، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام، و قد ورد في ذيلها قوله: و في رجل استأجر جمّالًا فيكسر الذي يحمل أو يهريقه، فقال: على نحو من العامل، إن كان مأموناً فليس عليه شي ء، و إن كان غير مأمون فهو ضامن «1».

و دلالتها على عدم ضمان مطلق الصانع إذا أفسد إمّا من جهة كون الجمّال الذي يستأجر للحمل من مصاديق الصانع. غاية الأمر أنّ عمله و صنعته عبارة عن حمل المتاع من مكان إلى آخر، خصوصاً مع نسبة الكسر و الإهراق إليه الظاهرة في صدور الجناية منه و إن لم تكن عن عمد و اختيار. و أمّا من جهة أنّ الجمّال و إن لم يكن من مصاديق عنوان الصانع، إلّا أنّ قوله عليه السلام في الجواب: «على نحو من العامل ..» ظاهر في أنّ الحكم بالضمان في العامل ليس على نحو الإطلاق، بل في خصوص ما إذا لم يكن مأموناً، و قد أفتى بمضمون هذه الرواية الشيخ قدس سره، حيث إنّ المحكيّ عنه أنّه في التهذيب حكم بعدم ضمان

الأمين «2».

______________________________

(1) التهذيب: 7/ 218 ح 951، وسائل الشيعة: 19/ 144، كتاب الإجارة ب 29 ح 11.

(2) التهذيب: 7/ 220.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 625

..........

______________________________

و ربما يقال: بأنّه يتعيّن حملها على الاستحباب، نظراً إلى اندراج الجمّال في القاعدة الكلّية المستفادة من الروايات السابقة، و هي أنّ كلّ من أخذ مال الناس للإصلاح فأفسد فهو ضامن، و إلى أنّه لم يعمل بها الأصحاب.

و يرد على الوجه الأوّل: أنّ اندراج الجمّال في تلك القاعدة لا يوجب تعيّن حمل الرواية على الاستحباب؛ لأنّه يمكن تخصيصها بخصوص الجمّال، و لم يقم دليل على عدم قابلية تلك القاعدة للتخصيص. هذا، مضافاً إلى أنّك عرفت أنّ الرواية تدلّ بمقتضى التشبيه على ثبوت قاعدة أُخرى؛ و هو التفصيل في الضمان في مطلق العامل، ففي الحقيقة مفاد الرواية أنّ القاعدة السارية في العامل هو الفرق بين المأمون و غيره، و لا دليل على ترجيح تلك القاعدة بوجه.

و على الوجه الثاني: مضافاً إلى ما مرّ من عمل الشيخ قدس سره به في محكي التهذيب أنّه لم يثبت بعد إعراض الأصحاب عن الرواية حتّى يكون قادحاً في اعتبارها بناءً على كون الإعراض قادحاً على اختلاف فيه، و التحقيق في محلّه.

المقام الثاني: في الفرع الذي ذكره المحقّق قدس سره في ذيل المسألة؛ و هو أنّه إذا تلف ما في يد الصانع لا بسببه من غير تفريط و لا تعدٍّ لم يضمن على الأصحّ «1»، و البحث في هذا الفرع أيضاً تارةً من جهة مقتضى القاعدة، و أُخرى من جهة الروايات الواردة فيه.

أمّا من الجهة الأُولى: فقد تقدّم «2» أنّ العين التي هي مورد عمل الأجير و بيده أمانة عنده مدفوعة إليه

برضا مالكه و باختياره، فلا يكون ضامناً له مع التلف فيما

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 2/ 187.

(2) في ص 553.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 626

..........

______________________________

إذا لم يكن هناك تعدّ و لا تفريط كما هو المفروض، بل كما أفاده المحقّق الإصفهاني قدس سره ثبوت الأمانة في المقام أولى من ثبوتها في العين المستأجرة؛ لأنّ التسليط على العين المستأجرة ممّا لا بدّ منه مقدّمة لاستيفاء المنفعة، و مع اللابديّة لا يمكن استكشاف الرضا بعد العقد إلّا بدعوى أنّ إقدامه على الإجارة المقتضية للتسلّط بعد العقد كان عن رضاه، و الظاهر بقاؤه، و هذا بخلاف المقام فإنّ المستأجر هنا مالك للعمل، فدفع العين إلى الأجير مع عدم اللابديّة يكشف قطعاً عن الرضا «1».

و أمّا من الجهة الثانية: فالروايات الواردة في محلّ البحث مختلفة:

فمنها: ما هي ظاهرة في عدم الضمان مطلقاً، كرواية معاوية بن عمّار، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: سألته عن الصبّاغ و القصّار؟ فقال: ليس يضمنان «2». و السؤال إمّا ظاهر في أنّ مورده خصوص ما إذا تلف في يدهما بأيّ نحو من أنحاء التلف و لا يشمل صورة الإفساد و الإتلاف، و إمّا يكون صورة التلف هي القدر المتيقّن من مورده لاحتمال العموم و الشمول، و على أيّ تدلّ الرواية على عدم الضمان في محلّ البحث.

و منها: ما يظهر منه التفصيل في الضمان و عدمه بين صورتي الأمن و الاتّهام، كصدر رواية أبي بصير المتقدّمة الدالّة على قول أبي عبد اللّٰه عليه السلام: أنّه لا يضمن الصائغ و لا القصّار و لا الحائك إلّا أن يكونوا متّهمين «3». و رواية محمّد بن الحسن الصفّار قال: كتبت إلى الفقيه عليه السلام

في رجل دفع ثوباً إلى القصّار ليقصره، فدفعه

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 285 286.

(2) التهذيب: 7/ 220 ح 964، الاستبصار: 3/ 132 ح 477، وسائل الشيعة: 19/ 145، كتاب الإجارة ب 29 ح 14.

(3) التهذيب: 7/ 218 ح 951، وسائل الشيعة: 19/ 144، كتاب الإجارة ب 29 ح 11.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 627

..........

______________________________

القصّار إلى قصّار غيره ليقصره فضاع الثوب، هل يجب على القصّار أن يردّه إذا دفعه إلى غيره و إن كان القصّار مأموناً؟ فوقّع عليه السلام: هو ضامن له إلّا أن يكون ثقة مأموناً إن شاء اللّٰه «1».

و منها و هو الأكثر-: ما يدلّ على الضمان مطلقاً، كرواية يونس قال: سألت الرضا عليه السلام عن القصّار و الصائغ أ يضمنون؟ قال: لا يصلح إلّا أن يضمنوا «2».

و رواية الحلبي، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: كان أمير المؤمنين عليه السلام يضمّن القصّار و الصائغ احتياطاً على الناس، و كان أبي يتطوّل عليه إذا كان مأموناً «3».

و في رواية السكوني، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: كان أمير المؤمنين عليه السلام يضمّن الصبّاغ و القصّار و الصائغ احتياطاً على أمتعة الناس، و كان لا يضمّن من الغرق و الحرق و الشي ء الغالب، الحديث «4».

و الظاهر أنّ المراد من التطوّل الذي تدلّ عليه رواية الحلبي هو التطوّل في مقام العمل مع جواز التغريم الذي هو متفرّع على ثبوت الضمان، و عليه فلا ينافي التضمين من ناحية أمير المؤمنين عليه السلام مطلقاً، و يؤيّده بل تدلّ عليه مرسلة الصدوق أنّ أبا عبد اللّٰه عليه السلام قال: كان أبي عليه السلام يضمّن الصائغ و القصّار ما أفسدا، و

كان عليّ بن الحسين عليه السلام يتفضّل عليهم «5». مع أنّ موردها المسألة المتقدّمة التي يكون الحكم فيها

______________________________

(1) التهذيب: 7/ 222 ح 974، وسائل الشيعة: 19/ 146، كتاب الإجارة ب 29 ح 18.

(2) الكافي: 5/ 243 ح 10، التهذيب: 7/ 219 ح 958، الاستبصار: 3/ 132 ح 473، وسائل الشيعة: 19/ 144، كتاب الإجارة ب 29 ح 9.

(3) الكافي: 5/ 242 ح 3، وسائل الشيعة: 19/ 142، كتاب الإجارة ب 29 ح 4.

(4) الكافي: 5/ 242 ح 5، التهذيب: 7/ 219 ح 956، الاستبصار: 3/ 131 ح 471، وسائل الشيعة: 19/ 142، كتاب الإجارة ب 29 ح 6.

(5) الفقيه: 3/ 161 ح 706، وسائل الشيعة: 19/ 147، كتاب الإجارة ب 29 ح 20.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 628

..........

______________________________

الضمان بمقتضى القاعدة و النصوص، فالتفضّل و التطوّل لا ينافي الضمان.

ثمّ إنّ مقتضى قاعدة الجمع بين الروايات المتعارضة في مثل المقام و إن كان هو التصرّف في المطلقات منها، و الحمل على الرواية المفصّلة التي يكون مقتضاها في المقام ثبوت الضمان مع التهمة و عدم كونه مأموناً، و عدمه مع كونه كذلك. و عليه فيصير مفاد الروايات مخالفاً للقاعدة المقتضية لعدم الضمان، نظراً إلى ثبوت الأمانة، حيث إنّ مفادها التفصيل و مقتضى القاعدة الإطلاق، إلّا أنّ الظاهر أنّ الروايات الدالّة على الضمان خارجة عن محلّ البحث؛ لأنّ موردها صورة الشكّ في تحقّق التلف في يد الصائغ و القصّار و مثلهما، و الدليل عليه مضافاً إلى التعليل بكون تضمين أمير المؤمنين عليه السلام إنّما هو لأجل الاحتياط على الناس و على أمتعتهم ذيل رواية السكوني الدالّ على أنّه لم يكن يضمّن من الغرق

و الحرق و الشي ء الغالب، فإنّ مقتضاه أنّه مع العلم بثبوت التلف و استناده إلى أمر آخر دون مثل الصائغ لم يكن هناك تضمين أصلًا، فالتضمين الثابت في الصدر إنّما هو في مورد الشكّ في تحقّق التلف، أو الشكّ في الاستناد إلى العامل و احتمال كونه هو المتلف.

و من هذا يظهر أنّ مورد الرواية المفصّلة أيضاً إنّما هو خصوص صورة الشكّ، و يؤيّده بل يدلّ عليه أنّ نفس هذا التفصيل لا يلائم إلّا مع هذه الصورة، فإنّ الاتّهام و عدمه لا يرتبط إلّا بما إذا كان هنا شكّ، و إلّا فمع العلم بثبوت التلف و عدم الاستناد إلى العامل لا يكون فرق بين المتّهم و غيره و التعبير في رواية الصفّار بضياع الثوب لا دلالة فيه على كون الضياع الذي هو أمر غير اختياريّ امرأً مسلّماً حتّى ينافي ما ذكرنا، فتدبّر.

فالإنصاف أنّ الروايات الدالّة على عدم الضمان محكّمة في المقام، و قد عرفت أنّ مقتضى القاعدة أيضاً ذلك. نعم، يبقى على غيرها من الروايات المفصّلة أو الدالّة

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 629

[الطبيب ضامن إذا باشر بنفسه العلاج]

مسألة 41: الطبيب ضامن إذا باشر بنفسه العلاج، بل لا يبعد الضمان في التطبيب على النحو المتعارف و إن لم يباشر. نعم، إذا وصف الدواء الفلاني و قال: إنّه نافع للمرض الفلاني، أو قال: إنّ دواءك كذا من دون أن يأمره بشربه فالأقوى عدم الضمان (1).

______________________________

على الضمان المخالفة للقاعدة من جهة أُخرى، و هي سماع دعوى الأمين في تحقّق التلف و عدم الحاجة إلى إقامة البيّنة و نحوها، مع أنّ مقتضاها عدم السماع مطلقاً أو مع الاتّهام، و لكن هذا أمر آخر غير ما نحن بصدده من

ثبوت الضمان و عدمه عند التلف الواقعي، فتدبّر جيّداً.

(1) أقول: قد مرّ في المسألة المتقدّمة أنّه ربما ينفى الضمان في الطبيب الحاذق المباشر، نظراً إلى أنّه مكلّف بحفظ النفس المحترمة بعلاج المريض، و مثله يستحيل أن يستلزم الضمان، فإنّ التلف لا يكون إلّا بخطإ منه، فالموضوع و هو علاج المريض منتف فيه، أو إلى أنّه مكلّف باستعمال ما يراه علاجاً لا بما هو علاج واقعاً، و في مثله لا ضمان معه.

و قد عرفت أيضاً استظهار أنّ الإذن في عمل يلازم التلف عادةً لا يكون إذناً في الإتلاف حتّى لا يكون هناك ضمان، بل الإتلاف المأذون فيه هو الذي يكون نفس الإتلاف بعنوانه متعلّقاً للإذن و مأذوناً فيه، فالقاعدة تقتضي الضمان، و منه يظهر الجواب عن الحلّي القائل بعدم الضمان استناداً إلى ثبوت الإذن «1»، فإنّ الإذن في العلاج لا يلازم الإذن في الإفساد و الإتلاف.

هذا، و يؤيّد القاعدة رواية السكوني، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: قال

______________________________

(1) انظر السرائر: 3/ 373.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 630

[لو عثر الحمّال فانكسر ما كان على ظهره أو رأسه مثلًا ضمن]

مسألة 42: لو عثر الحمّال فانكسر ما كان على ظهره أو رأسه مثلًا ضمن، بخلاف الدابّة المستأجرة للحمل إذا عثرت فتلف أو تعيب ما حملته، فإنّه لا ضمان على صاحبها إلّا إذا كان هو السبب؛ من جهة ضربها أو سوقها في مزلق و نحو ذلك (1).

______________________________

أمير المؤمنين عليه السلام: من تطبّب أو تبيطر فليأخذ البراءة من وليّه، و إلّا فهو له ضامن «1».

و يدلّ على ذلك أيضاً الروايات الواردة في المسألة المتقدّمة «2» الدالّة على أنّ إفساد الأجير الذي أُعطي أجراً على أن يصلح موجب لضمانه، فإنّ مناطه هو الإفساد بدل الإصلاح

لا ثبوت الأُجرة.

و ممّا ذكرنا يظهر أنّ الملاك في الضمان هو استناد الإفساد و الإتلاف إلى الطبيب و إن لم يتحقّق منه المباشرة، كما في التطبيب على النحو المتعارف، فإنّ الإسناد إلى الطبيب فيه أمر عرفيّ. نعم، لا يتحقّق الاستناد في توصيف الدواء و مثله، فالأقوى فيه كما في المتن من عدم الضمان.

(1) أمّا الضمان في الفرض الأوّل فمستنده كما في الجواهر هي قاعدة الإتلاف، التي قد عرفت «3» أنّ جريانها لا ينحصر بما إذا كان هناك عمد و قصد، بل الملاك فيها صدق الاستناد و هو متحقّق في الفرض، مضافاً إلى صحيحة داود ابن سرحان، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في رجل حمل متاعاً على رأسه فأصاب

______________________________

(1) الكافي: 7/ 364 ح 1، وسائل الشيعة: 29/ 260، كتاب الديات، أبواب موجبات الضمان ب 24 ح 1.

(2) في ص 622 623.

(3) تقدّم في ص 298 و 621.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 631

..........

______________________________

إنساناً فمات أو انكسر منه شي ء فهو ضامن «1». و ربما يتأمّل في شمولها للفرض، فتأمّل.

و لكنّ الظاهر أنّ القاعدة بنفسها كافية في الحكم بالضمان في المقام، فلا وجه لما حكي عن كشف اللثام من عدم الضمان إلّا مع التفريط، أو كونها عارية مضمونة «2» لجريان القاعدة مع انتفاء الأمرين أيضاً، كما عرفت.

ثمّ إنّه ذكر في «المستمسك»: أنّه إذا كانت سلسلة أسباب بعضها اختياري و بعضها غير اختياري نسب الفعل إلى الفاعل المختار، كما لو عمد إلى نائم فنخسه فانقلب على إناء ثالث فكسره نسب الكسر إلى الناخس. أمّا لو كانت كلّها غير اختيارية نسب الفعل إلى المباشر، كما لو انقلب النائم على نائم آخر فانقلب الثاني على

إناء فكسره نسب الفعل إلى الثاني. و لو كانت كلّها اختيارية، كما لو ضرب زيد عمراً فغضب عمرو و كسر إناء بكر نسب الكسر إلى عمرو، و من ذلك تعرف أنّ الاختيار ليس شرطاً في صحّة النسبة إلّا إذا كان موجوداً في سلسلة العلل، فإنّه يستند الفعل إلى السبب الاختياري لا غير «3».

و منه يعرف الوجه في عدم الضمان في الفرض الثاني إلّا إذا كان صاحب الدابّة هو السبب، فإنّه مع عدم التسبّب لا وجه لضمان صاحبها؛ لعدم استناد التلف إليه بوجه؛ لأنّ السبب هو العثور و هو لا يكون مستنداً إليه. نعم، إذا كان منشؤه الضرب أو السوق في المزلق أو نحوها يتحقّق الاستناد و يتبعه الضمان، كما هو ظاهر.

______________________________

(1) التهذيب: 7/ 222 ح 973، وسائل الشيعة: 19/ 152، كتاب الإجارة ب 30 ح 11.

(2) كشف اللثام: 2/ 483.

(3) مستمسك العروة الوثقى: 12/ 81 82.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 632

[لو استأجر دابّة للحمل لم يجز أن يحمّلها أزيد ممّا اشترط]

مسألة 43: لو استأجر دابّة للحمل لم يجز أن يحمّلها أزيد ممّا اشترط، أو المقدار المتعارف لو أطلق، فلو حمّلها أزيد منه ضمن تلفها و عوارها. و كذلك إذا سار بها أزيد ممّا اشترط (1).

______________________________

(1) الوجه في الضمان في حمل الأزيد أو السير بها كذلك واضح، و النصّ و الفتوى متطابقان عليه. نعم، وقع الخلاف في مقداره و أنّه هل هو التمام أو النصف؟ فالمشهور «1» هو الأوّل، و عن الإرشاد الثاني «2»؛ لأنّ الحمل بعضه مأذون فيه و بعضه غير مأذون فيه، و أُجيب عنه بأنّ الموجب للضمان هو العدوان الحاصل بحمل ما لم يأذن به المالك.

كما أنّه وقع الخلاف في مقدار الأُجرة الثابت عليه مع عدم التلف،

و أنّه هل هو اجرة مثل المجموع كما حكي عن الأردبيلي «3»، أو اجرة مثل الزائد مع المسمّى كما عن المشهور «4»، أو ثبوت المسمّى مع أُجرة الزيادة بحساب المسمّى كما عن المقنعة «5»، أو أنّ في المسألة تفصيلًا؟ و هو أنّه لو كان ذلك على وجه التقييد فالثابت هي أُجرة المثل؛ لأنّ العقد لم يقع على هذا المقدار من الحمل، و لو لم يكن على وجه التقييد ثبت عليه المسمّاة و أُجرة المثل بالنسبة إلى الزيادة، و اختاره صاحب العروة «6»، و هنا احتمال خامس و هو وجوب المسمّى و أُجرة المثل للمجموع، أمّا الأُولى فبالإجارة لعدم الموجب لفسادها، و أمّا الثانية فلاستيفاء المنفعة غير

______________________________

(1) رياض المسائل: 6/ 41، بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 241، مستمسك العروة الوثقى: 12/ 84.

(2) إرشاد الأذهان: 1/ 423.

(3) مجمع الفائدة و البرهان: 10/ 22 23.

(4) رياض المسائل: 6/ 41، بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 235 236، مستمسك العروة الوثقى: 12/ 85.

(5) المقنعة: 642.

(6) العروة الوثقى: 5/ 71 مسألة 12.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 633

[لو استؤجر لحفظ متاع فسرق لم يضمن]

مسألة 44: لو استؤجر لحفظ متاع فسرق لم يضمن إلّا مع التقصير أو اشتراط الضمان (1).

______________________________

المأذون فيها، و اختاره صاحب العروة فيما لو استأجر دابّة لحمل متاع معيّن على وجه التقييد فحمّلها غير ذلك المتاع أو استعملها في الركوب «1»، و قد تقدّم منّا التحقيق في هذا الباب في ضمان المنافع المتضادّة، فراجع «2».

(1) الوجه في عدم الضمان مع عدم التقصير أو اشتراطه مضافاً إلى كونه أميناً، و يدلّ على عدم ضمانه ما يدلّ على عدم ضمانه ما روي في الصحيح عن رجل استأجر أجيراً فأقعده على متاعه

فسرقه؟ قال: هو مؤتمن «3». و نوقش في الاستدلال بها بعدم وضوح ظهورها في كونه أجيراً على الحفظ، مضافاً إلى أنّ المستفاد من التعليل الوارد في رواية إسحاق بن عمّار الواردة في الحمّامي الدالّة على عدم ضمانه ثبوت الضمان في المقام؛ لأنّه قد علّل فيها العدم بأنّه إنّما أخذ الجعل على الحمّام و لم يأخذ على الثياب «4»، و مقتضاه أنّه لو كان أخذ الجعل على الثياب لكان اللّازم ضمانه، و الوجه فيه أنّه حينئذٍ مكلّف بالحفظ فتركه تفريط موجب للضمان. نعم، لو كان ذهاب المتاع غير مستند إلى ترك التحفّظ، بل إلى أمر آخر لا دخل لحفظه فيه كآفة سماويّة قهريّة، فالظاهر عدم ثبوت الضمان لعدم تحقّق التفريط بوجه.

______________________________

(1) العروة الوثقى: 5/ 87 مسألة 6.

(2) في ص 483 485.

(3) التهذيب: 7/ 218 ح 952، وسائل الشيعة: 19/ 142، كتاب الإجارة ب 29 ح 3.

(4) التهذيب: 6/ 314 ح 869، وسائل الشيعة: 19/ 140، كتاب الإجارة ب 28 ح 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 634

[صاحب الحمّام لا يضمن الثياب و غيرها إن سرقت]

مسألة 45: صاحب الحمّام لا يضمن الثياب و غيرها إن سرقت، إلّا إذا أُودعت عنده و فرّط أو تعدّى (1).

______________________________

(1) عدم ضمان صاحب الحمّام مع أنّ مقتضى دليل اليد هو الضمان أنّ التسليط أي تسليط الغير على المال عن إرادة و رضى خارج عن دليل اليد؛ لاتّحاد ملاكه مع ملاك الوديعة من هذه الجهة، و إن كان بينهما فرق من جهة وجوب الحفظ عليه في الوديعة دون المقام؛ لأنّه لم يقم دليل على وجوب حفظ المال المحترم من حيث هو، فالقاعدة تقتضي عدم الضمان.

و يدلّ عليه أيضاً روايات كثيرة، كرواية غياث بن إبراهيم، عن أبي

عبد اللّٰه عليه السلام أنّ أمير المؤمنين عليه السلام اتي بصاحب حمّام وضعت عنده الثياب فضاعت فلم يضمّنه، و قال: إنّما هو أمين «1».

و رواية أبي البختري، عن جعفر، عن أبيه، عن علي عليهم السلام أنّه كان لا يضمّن صاحب الحمّام، و قال: إنّما يأخذ الأجر على الدخول في الحمام «2».

و رواية إسحاق بن عمّار، عن جعفر، عن أبيه أنّ علياً عليه السلام كان يقول: لا ضمان على صاحب الحمّام فيما ذهب من الثياب؛ لأنّه إنّما أخذ الجعل على الحمّام و لم يأخذ على الثياب «3».

و تعليل عدم الضمان في الرواية الأُولى بأنّه أمين إمّا محمول على الأمانة بمعنى الوديعة، بناءً على كون قوله: «وضعت عنده الثياب» ظاهراً في إيداعها عنده، و إمّا على الأمانة بالمعنى الأعمّ، بناءً على عدم كون القول المذكور ظاهراً فيما ذكر، بل في

______________________________

(1) الكافي: 5/ 242 ح 8، وسائل الشيعة: 19/ 139، كتاب الإجارة ب 28 ح 1.

(2) قرب الإسناد: 152 ح 553، وسائل الشيعة: 19/ 140، كتاب الإجارة ب 28 ح 2.

(3) التهذيب: 6/ 314 ح 869، وسائل الشيعة: 19/ 140، كتاب الإجارة ب 28 ح 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 635

[حصول آفة مفسدة للزراعة

] مسألة 46: لو استأجر أرضاً للزراعة فحصلت آفة أفسدت الحاصل لم تبطل الإجارة و لا يوجب ذلك نقصاً في الأُجرة. نعم، لو شرط على المؤجر إبراءه من الأُجرة بمقدار ما نقص أو نصفاً أو ثلثاً منه مثلًا صحّ و لزم الوفاء به (1).

______________________________

استيلائه عليها من دون إيداع، و أمّا التعليل في الروايتين الأخيرتين فهو ظاهر في أنّه لم يأخذ الأُجرة على حفظ الثياب حتّى يكون مكلّفاً بالحفظ بمقتضى وجوب العمل

على طبق الإجارة، بل يكون من هذه الجهة أمين لا يضمن، فاستئجاره و إعطاء الأُجرة إنّما هو لنفس الدخول في الحمّام و الاستفادة من مائه، فلا وجه لضمانه. حصول آفة مفسدة للزراعة

(1) أمّا عدم بطلان الإجارة فإنّه لا موجب له بعد تحقّق الشرائط المعتبرة في صحّة الإجارة بأجمعها كما هو المفروض، و أمّا عدم كون ذلك موجباً للنقص في الأُجرة فلعدم كون المنفعة التي بذل المال بإزائها متبعّضة؛ لأنّ المفروض حصول آفة سماوية مفسدة للحاصل غير مرتبطة بالعين و منفعتها، فلا موجب لنقص الأُجرة.

و أمّا صحّة اشتراط الإبراء فلأنّه من الشروط الجائزة، و لا يجري فيه المناقشة في صحّة شرط النتيجة على تقدير تماميتها؛ لأنّه من شرط الفعل؛ لأنّ الفرض تعلّقه بالإبراء و لا يقدح فيها التعليق؛ لعدم معلومية حصول النقص، و الإبراء إنّما هو على تقدير حصوله لمنع قدح التعليق في باب الشروط، كما أنّه لا يقدح فيها الجهالة في الفرض الأوّل، و هو ما إذا كان الشرط الإبراء بمقدار ما نقص، و كذا في الفرضين الآخرين بناءً على كون الضمير راجعاً إلى مقدار ما نقص كما هو الظاهر لا إلى

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 636

..........

______________________________

الأُجرة؛ لعدم كون مثلها قادحاً في باب الشروط التي هي من توابع العقد، و لا يلزم منه التسرية إلى نفس العقد.

نعم، في باب التعليق ذكر الشيخ الأعظم قدس سره «1» أنّه قد يتوهّم ذلك؛ أي بطلان التعليق في الشرط لرجوعه إلى التعليق في العقد؛ لأنّ الشرط يرجع إلى جزء من أحد العوضين، و لكن فساد التوهّم ظاهر.

كما أنّه ربما يستدلّ على مانعيّة التعليق في العقود و الإيقاعات بمنافاة التعليق للإنشاء، و أنّه

لا يكاد يجتمع الإنشاء معه، و لازم ذلك جريانه في باب الشروط أيضاً؛ لعدم الفرق بينها و بين العقود و الإيقاعات من هذه الجهة.

و لكن الاستدلال غير تامّ لمنع المنافاة، و الشاهد ثبوت التعليق في بعض الإنشاءات بالأصل كالوصية التمليكية و التدبير و نحوهما.

هذا، و لو كان الشرط في الصورة المفروضة بنحو شرط النتيجة، بأن اشترط البراءة على تقدير النقص بمعنى تحقّق البراءة قهراً حين حصوله، فالصحّة و عدمها مبنيّان على صحّة شرط النتيجة و عدمها، و قد تقدّم الكلام في ذلك مفصّلًا فراجع «2».

[قال المؤلّف دام ظلّه في كتاب الإجارة الثاني]:

قال في الشرائع: إذا أسقط الأُجرة بعد تحقّقها في الذمّة صحّ، و لو أسقط المنفعة المعيّنة لم تسقط؛ لأنّ الإبراء لا يتناول إلّا ما هو في الذمّة «3».

أقول: لا خفاء في أنّ الإبراء لا يتعلّق إلّا بالكلّي الذمّي، و لا معنى لتعلّقه

______________________________

(1) كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري: 6/ 57.

(2) في ص 591 594.

(3) شرائع الإسلام: 2/ 188.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 637

..........

______________________________

بالأمر الجزئي الخارجي، من دون أن يكون هنا فرق بين الأُجرة و المنفعة، فإذا كانت الأُجرة كليّة متحقّقة في الذمّة صحّ إبراؤها، كما أنّ المنفعة إذا كانت كليّة كما إذا كان مورد الإجارة دابّة كلّية، أو عبداً كلّياً، أو كان عملًا من الأعمال، سواء تعلّق ذلك العمل بعين شخصية، كما إذا استؤجر على خياطة ثوبه المعيّن أم لا، كما إذا استؤجر على خياطة ثوب كلّي يصحّ إبراؤها، و دعوى أنّ تعلّق العمل بالعين الشخصية الخارجية يوجب جزئيّته و عدم إضافته إلى الذمّة، مدفوعة بأنّ تعلّقه بها لا يصيّره جزئيّاً و هو بعد باق على الكلّية، و الاشتغال به

ثابت في العهدة. غاية الأمر أنّ ذلك يوجب ضيق دائرة الكلّي و انحصاره بفرد خاصّ. و من المعلوم أنّ الملاك في الكليّة لا يدور مدار الأفراد كثرة و قلّة، بل المناط إنّما هو ثبوته في الذمّة و اشتغالها به القابل للإبراء و نفي الاشتغال.

و أمّا إذا كانت الأُجرة شخصية، كما إذا كان مال الإجارة عيناً مشخّصاً من الأعيان الخارجية، أو منفعة عين جزئيّة فلا معنى لتعلّق الإبراء بها و إسقاطها من المؤجر، كما أنّه إذا كانت المنفعة كذلك كالدار المعيّنة المستأجرة لا يصحّ إبراؤها من المستأجر.

و قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ التقابل بين الأُجرة و المنفعة الذي ربما يشعر به أو يدلّ عليه عبارة الشرائع المتقدّمة في غير محلّه، فإنّه لا تقابل بينهما من هذه الجهة أصلًا، ففي كلّ منهما قد يصحّ الإبراء لكونه كلّياً ذمّيا، و قد لا يصحّ لكونه أمراً شخصياً خارجيّاً.

كما أنّه قد ظهر الفرق بين الأجير المشترك أو العامّ، و بين الأجير الخاصّ، فإنّ الأوّل يصحّ أن يكون طرفاً للإبراء لثبوت العمل على عهدته، و الثاني لا يصحّ أن يكون كذلك؛ لأنّ منفعته المملوكة للمستأجر منفعة

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 638

[جواز جعل الأُجرة تعمير الأرض

] مسألة 47: تجوز إجارة الأرض للانتفاع بها بالزرع و غيره مدّة معلومة و جعل الأُجرة تعميرها، من كري الأنهار، و تنقية الآبار، و غرس الأشجار، و تسوية الأرض، و إزالة الأحجار و نحو ذلك، بشرط أن يعيّن تلك الأعمال على نحو يرتفع الغرر و الجهالة، أو كان تعارف مغنٍ عن التعيين (1).

______________________________

عين شخصية خارجيّة كمنفعة الدار المعيّنة، فلا معنى لتعلّق الإبراء به، فتدبّر جيّداً. [انتهى كلامه دام ظلّه من كتاب الإجارة الثاني].

(1) الجواز

في هذه المسألة إنّما هو على طبق القاعدة؛ لأنّ الأعمال تصلح لأن تجعل عوضاً في المعاوضات بيعاً كان أو إجارة أو نحوهما، و المفروض تعيينها أو وجود تعارف يرتفع به الغرر و الجهالة.

و قد حمل على هذا الفرض في العروة «1» الروايات الواردة في القبالة التي منها:

صحيحة الحلبي، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: إنّ القبالة أن تأتي الأرض الخربة فتقبّلها من أهلها عشرين سنة أو أقلّ من ذلك أو أكثر فتعمّرها و تؤدّي ما خرج عليها فلا بأس به «2».

و صحيحة يعقوب بن شعيب، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في حديث قال: و سألته عن الرجل يعطي الأرض الخربة و يقول: أعمرها و هي لك (ملك ظ) ثلاث سنين أو

______________________________

(1) العروة الوثقى: 5/ 135 136.

(2) الكافي: 5/ 268 ح 3، وسائل الشيعة: 19/ 46، كتاب المزارعة ب 11 ح 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 639

..........

______________________________

خمس «أربع خ ل» سنين أو ما شاء اللّٰه، قال: لا بأس «1».

و صحيحة أُخرى للحلبي، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: سألته عن الأرض يأخذها الرجل من صاحبها فيعمرها سنتين و يردّها إلى صاحبها عامرة و له ما أكل منها؟ قال: لا بأس «2».

و غير ذلك من الروايات الواردة في هذا الباب، و لكن يجري فيها احتمالات أُخر غير ما احتمله في العروة من كون المراد منها هي الإجارة بالنحو المذكور في المسألة، و هو أن يكون من قبيل إجارة الأعيان: مسائل تتعلّق بالإجارة منها: أن يكون المراد منها الإجارة بنحو تكون الاجرة منفعة الأرض، و المستأجر العامل، و المستأجر عليه هو العمل، فيكون من باب الإجارة على الأعمال.

و منها:

أن يكون المراد منها هي الجعالة على العمل، و كان الجعل هي المنفعة.

و منها: أن يكون معاملة مستقلّة غير مرتبطة ببابي الإجارة و الجعالة. و لكنّ الظاهر ما اختاره في العروة.

هذا تمام الكلام فيما يتعلّق بشرح كتاب الإجارة من كتابنا الموسوم ب «تفصيل الشريعة» في شرح «تحرير الوسيلة». و نسأل من اللّٰه تبارك و تعالى أن يوفّقني لإتمام هذا الشرح المنيف، و يجعله ذخيرة لي ليوم لا ينفع فيه مالٌ و لا بنون، و قد وقع الفراغ منه في أوائل شهر جمادى الثانية من شهور سنة 1398 من الهجرة النبويّة، على مهاجرها آلاف الثناء و التحيّة، و مع أنّه لم يمض من هذا الشهر إلّا أيّام قلائل

______________________________

(1) الكافي: 5/ 268 ح 2، وسائل الشيعة: 19/ 46، كتاب المزارعة ب 11 ح 1.

(2) التهذيب: 7/ 205 ح 903، وسائل الشيعة: 19/ 55، كتاب المزارعة ب 16 ح 8.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 640

..........

______________________________

و لكنّه اتّفق فيه حوادث محزنة من أوّل الشهر ينبغي أن يجري عليها بدل الدموع دماً، فقد قتل فيه نفوس كثيرة في بلدة قم المحمية دار العلم و الإيمان و حرم أهل البيت عليهم السلام، و منشأه الدفاع عن حريم القرآن و الحماية لقوانين الإسلام، التي صارت مورداً لتجاوز الحكومة الجائرة الإيرانية التي هي من عمّال الاستعمار و حماة اليهود و المنصوبة من قِبلهم، المأمورة من جانبهم لهظم الشعب و إطفاء نور الإسلام و التشيّع، ليسهل له بذل ما أعطاه اللّٰه و منحه للشعب إليهم، و كم ارتكب فجائع في هذه الشهور الأخيرة، و في هذه السنوات يأبى التاريخ من ضبطها انفعالًا، و لا يقدر اللسان و القلم

على بيانها و إفهامها، و أهمّها إيراد الضرب و الجرح على جملة غير قليلة من طلّاب العلم و الفضيلة، و قتل بعض نفوسهم الشريفة و الحبس و نفي البلد لجملة من أفاضلهم و أعيانهم، و السبّ و الشتم و الإهانة بوجوه كثيرة، و قد هجموا على بيوت بعض المراجع و قتلوا فيها بعض النفوس، و هتكوا حرمة الدين و الروحانية و المرجعية، و لم يكتفوا بمثل ذلك، بل اتّهموهم في الإذاعة و المطبوعات بما يتبرّأ منه كلّ متديّن فضلًا عن الروحاني و العالم، و الآن بلدة قم تحت احتلالهم و مملوءة من المسلّحين و الوسائل الحربية من الدبابات و غيرها، فإليك يا ربّ المشتكى و عليك المعوّل في الشدّة و الرخاء.

اللّهمَّ إنّا نرغب إليك في دولةٍ كريمة تعزُّ بها الإسلام و أهله، و تذلّ بها النفاق و أهله.

اللّهمَّ إنّا نشكو إليك فقد نبيّنا، و غيبة وليّنا، و كثرة عدوّنا، و قلّة عددنا، و شدّة الفتن بنا، و تظاهر الزمان علينا، فعجِّل في فرج مولانا المنتظر، المنتقم بحقّه و بحقّ آبائه الطاهرين، صلواتك عليه و عليهم أجمعين.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 641

[مسائل أربع تعرّض لها المؤلّف دام ظلّه في كتاب الإجارة الثاني متفرّقةً،

اشارة

و نحن نذكرها مجتمعةً]: مسائل أربع

الأُولى: قال المحقّق في الشرائع: و يجوز استئجار الأرض لتعمل مسجداً «1»،

________________________________________

لنكرانى، محمد فاضل موحدى، تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، در يك جلد، مركز فقهى ائمه اطهار عليهم السلام، قم - ايران، اول، 1424 ه ق

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة؛ ص: 641

و عن قواعد العلّامة: يجوز استئجار الدار لتعمل مسجداً يصلّى فيه «2». و قد ادّعي نفي الخلاف فيه «3» منّا في قبال أبي حنيفة «4» المانع عن ذلك، نظراً إلى أنّ الصلاة لا تستحقّ بالإجارة فلا تجوز الإجارة لذلك، و ذكر المحقّق الرشتي رحمه الله أنّ هذا مبنيّ على أصلهم من بطلان الاستئجار للنيابة في الصلاة و لو من الأموات «5». و أورد عليه المحقّق الإصفهاني رحمه الله بعدم الابتناء على ذلك، نظراً إلى أنّ المستأجر هناك يملك النيابة عنه في الصلاة، و هنا يستحقّ فعل صلاة الناس لأنفسهم التي أمرها بيدهم، فلا يقاس أحدهما بالآخر «6».

و كيف كان، ففي المسألة فروض ثلاثة: أحدها: استئجار الأرض لأن يصلّي الناس فيها من دون غرض و نظر إلى المسجدية. ثانيها: استئجارها لتعمل مسجداً، ثالثها: استئجارها لتعمل مسجداً يصلّي الناس فيه.

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 2/ 185.

(2) قواعد الاحكام: 2/ 302.

(3) جواهر الكلام: 27/ 301، كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 264.

(4) الخلاف: 3/ 508 مسألة 36، المغني لابن قدامة: 6/ 132.

(5) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 264.

(6) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 190.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 642

أمّا الفرض الأوّل: فالإشكال في صحّته تارةً من الوجه الذي استند إليه أبو حنيفة، و أُخرى من حيث السفهيّة. و ثالثة من جهة الإشكال الجاري في مثل استئجار الدرهم و الدينار، و استئجار التفّاح للشمّ و

الطعام لتزيين المجلس و الشمع كذلك، و هو عدم كون مثل ذلك معدوداً من المنافع، أو عدم ثبوت المالية له على تقدير كونه منها.

أمّا الإشكال من الجهة الأُولى: فقد ذكر المحقّق الإصفهاني رحمه الله في مقام الجواب عنه ما ملخّصه: أنّه بناءً على ما اخترناه في حقيقة المنفعة من أنّها حيثيّة للعين موجودة بوجودها على حدّ وجود المقبول بوجود القابل مندفع من أصله؛ لأنّ حيثيّة الدار مسكنيّتها و قبولها لهذا المبدأ؛ و هي المملوكة، دون السكنى الذي هو عرض من أعراض الساكن، و أمّا على مسلك المشهور من جعل المنفعة نفس السكنى فاندفاع الإشكال إنّما هو بأنّ السكنى و إن كان عرضاً للساكن و لا يملكه بما هو مالك الدار، لكن إيجاده فيها ليس تحت اختياره بل بيد صاحب الدار، و بالإجارة يصير الساكن مالكاً لإيجاد السكنى فيها، و في المقام يكون أمر فعل صلاة الناس بيدهم، إلّا أنّ إيجادها في الدار بيد المستأجر فعلًا، كالمؤجر قبلًا «1».

و أمّا من الجهة الثانية: فواضح المنع؛ لأنّه يكفي في الخروج عن دائرة السفاهة عود نفع أُخرويّ من هذه الجهة إلى المستأجر، و إن لم ينتفع بنفس العين المستأجرة إلّا من يصلّي فيها من الناس.

و أمّا من الجهة الثالثة: فالظاهر أنّه أيضاً ممنوع، خصوصاً في مثل المقام؛ لأنّ كون الأرض مصلّى للناس منفعة عقلائية لها، و لا مانع عند العقلاء من بذل المال في قبالها، و هذا يكشف عن ثبوت المالية لهذه

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 190 191.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 643

المنفعة، و دعوى أنّ المنفعة القابلة لبذل المال بإزائها لا بدّ و أن تكون منفعة غالبيّة للشي ء، و المنفعة

الغالبية للأرض ليست هي الصلاة فيها، مدفوعة بأنّ عدم كون المنفعة غالبيّة إنّما يقدح مع عدم تعلّق القصد بها و كونها غير مقصودة، و أمّا مع التصريح بذلك و بذل المال بإزائها فلا دليل على عدم الكفاية مع شمول العمومات و الإطلاقات، كما هو غير خفيّ.

و بهذا يظهر الجواب عن الإشكال في الاستئجار في الأمثلة المذكورة، فإنّ الظاهر هو الجواز، و أنّ دعوى عدم كون مثل ذلك من المنافع، أو عدم كونه ممّا يبذل بإزائه المال و لو كان معدوداً من المنافع، مدفوعة جدّاً، فالظاهر في جميع ما يشابه المقام هو الحكم بالجواز، فتدبّر.

و أمّا الفرض الثاني: الذي لا يرد فيه اعتراض أبي حنيفة فالإشكال فيه إنّما هو من جهة أنّه هل يعتبر في تحقّق عنوان المسجد أن تكون الأرض موقوفة مؤبّدة لذلك، و المنفعة لا يمكن أن تكون موقوفة كما استظهر من كلماتهم في الصلاة الاتّفاق على اعتبار التأبيد، و عليه فالأرض المستأجرة بما هي كذلك لا تكون لها هذه المنفعة، فلا مجال لاستئجار الأرض لتعمل مسجداً إلّا أن يكون راجعاً إلى الفرض الأوّل؛ و هو صيرورتها مصلّاة للناس من غير تحقّق عنوان المسجد، أو أنّه لا يعتبر ذلك، بل هو أعمّ من الموقوف مؤبّداً و غيره، كما هو المحكيّ عن الأردبيلي قدس سره «1»؟ و عليه فلا مانع من جواز استئجارها لذلك، خصوصاً إذا كانت المدّة طويلة كمائة سنة، و يؤيّد هذا الوجه بل يدلّ عليه ثبوت المساجد في الأراضي المفتوحة عنوة مع أنّها ملك لجميع المسلمين، و لا تكون صالحة للوقفية أصلًا، مضافاً إلى أنّه لم يقم دليل على اعتبار ذلك

______________________________

(1) مجمع الفائدة و البرهان: 10/ 21 22.

تفصيل الشريعة في شرح

تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 644

في تحقّق هذا العنوان، و إن كان ربّما يستبعد المتشرّعة خروج المسجد عن عنوان المسجدية بانقضاء وقته المؤقّت، و يشتدّ استبعادهم إذا كانت المدّة قليلة كسنة أو أقلّ.

ثمّ إنّه على تقدير جواز استئجار الأرض لتعمل مسجداً هل يترتّب عليه بعد أن عملت مسجداً الأحكام و الآثار الثابتة للمساجد؛ من حرمة التلويث و دخول الجنب و الحائض و الفضيلة المترتّبة على الصلاة في المسجد أم لا؟

حكي الأوّل عن الأردبيلي «1» نظراً إلى أنّه بعد عدم اعتبار الوقفيّة في صيرورة الأرض مسجداً لا مانع من ثبوت أحكامه في مثل المقام، و لكن صاحب العروة بعد اختياره جواز أصل الاستئجار قوّى عدم ثبوت آثار المسجد، ثمّ قال: نعم إذا كان قصده عنوان المسجدية لا مجرّد الصلاة فيه و كانت المدّة طويلة كمائة سنة أو أزيد لا يبعد ذلك؛ لصدق المسجد عليه حينئذٍ «2».

و أورد عليه بعض المحقّقين من المحشّين بقوله: لا قوّة فيه بعد فرض أنّها عملت مسجداً «3».

و أورد عليه أيضاً بعض الشارحين بقوله: إنّه إذا اعتبر الدوام في المسجدية فلا مجال للإجارة المذكورة، و إن لم يعتبر لا حاجة إلى اعتبار أن تكون المدّة طويلة «4».

و كيف كان، فالظاهر أنّ ترتّب الأحكام و الآثار يدور مدار الاسم، فإن

______________________________

(1) مجمع الفائدة و البرهان: 10/ 21 22.

(2) العروة الوثقى: 5/ 99 مسألة 2.

(3) العروة الوثقى: 5/ 99، التعليقة 2.

(4) مستمسك العروة الوثقى: 12/ 119 120.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 645

قيل باعتبار الوقفيّة في تحقّقه لا مجال لدعوى ترتّب الآثار على مثل الأرض المستأجرة لذلك، إذ على تقدير الشكّ فيه يكون المرجع أصالة عدم ترتّب تلك الآثار،

لكن الذي يبعّد ذلك عدم ثبوت الحقيقة الشرعية لمثل المسجد، فاعتبار الوقفيّة و الدوام على ذلك ليس في تحقّق المسمّى و صدق الاسم، بل هو أمر خارج عن الحقيقة، كاعتبار بعض الأُمور الزائدة على الحقيقة في مثل الصلاة بناءً على عدم ثبوت الحقيقة الشرعية له أيضاً، إلّا أن يقال: إنّ مثل الوقفيّة و الدوام و إن لم يكن معتبراً في صدق الاسم و تحقّق المسمّى، إلّا أنّ اعتباره في ترتّب الأحكام و الآثار ممّا لا مجال لإنكاره، و إلّا تلزم اللغوية كما لا يخفى. و عليه فلا يتحقّق الشكّ أصلًا حتّى يرجع إلى أصالة عدم ترتّب الأثر، فتدبّر.

و كيف كان، فالمسألة محتاجة إلى مزيد التتبّع و التأمّل.

و أمّا الفرض الثالث: فإن كان الغرض عبارة عن مجرّد الصلاة في الأرض المستأجرة من غير نظر إلى صيرورتها مسجداً بعملها لذلك، فهو يرجع إلى الفرض الأوّل الذي مرّ الكلام فيه، و إن كان الغرض عبارة عن عملها مسجداً و ذكر الصلاة فيها إنّما هو لأجل كونه غاية للمنفعة التي استؤجرت الأرض لها، فهو يرجع إلى الفرض الثاني كما هو واضح.

الثانية: قال في الشرائع: يجب على المستأجر سقي الدابّة و علفها،

و لو أهمل ضمن «1».

ينبغي التكلّم في هذه المسألة في مقامين:

المقام الأوّل: في وجوب سقي الدابّة و علفها على المستأجر، و الذي

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 2/ 187.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 646

يكون محلّ البحث و الكلام في هذا المقام هو وجوبهما على المستأجر بما أنّه مستأجر، لا بعنوان وجوب حفظ النفس المحترمة من الهلاك الذي لا يختصّ بالمستأجر بوجه على تقدير ثبوت هذا الحكم في الحيوانات أيضاً، و إلّا فربّما يقال كما قيل: بأنّ احترام نفس الحيوان لا يقتضي أزيد من حرمة الإيذاء

قتلًا أو ضرباً، و أمّا وجوب المحافظة و المعالجة لدفع الأمراض المهلكة و العوارض المردية على حدّ وجوب حفظ الآدمي فغير ثابت حتّى على المالك فضلًا عن غيره. نعم، على المالك الإنفاق، فإنّه من الحقوق الواجبة من اللّٰه عليه، و هذا غير وجوب حفظ النفس.

و بالجملة: ليس الكلام في المقام في الوجوب من هذه الحيثيّة، و كذا ليس الكلام في الوجوب بعنوان كون الدابّة أمانة مالكيّة بيد المستأجر حتّى يجب عليه ما يجب على كلّ أمين من وجوب حفظ الأمانة مطلقاً، سواء كانت من ذوات الأنفس المحترمة أم لا، بل الكلام في الوجوب من جهة خصوصية كونه مستأجراً.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ المحكي عن الأكثر «1» عدم الوجوب، خلافاً للمحكيّ عن جماعة «2»، حيث قالوا بوجوب السقي و العلف على المستأجر مجّاناً تنزيلًا لهما منزلة نفقة الأجير المنفذ في حوائج المستأجر، كما يأتي.

هذا، و الظاهر أنّه لا دليل على الوجوب من ناحية اقتضاء نفس عقد الإجارة، فإنّ مفاده مجرّد تمليك المنفعة أو انتقال حقّ الانتفاع بالعين، و لم

______________________________

(1) كصاحب جامع المقاصد: 7/ 95 و مسالك الأفهام: 5/ 223 و مجمع الفائدة و البرهان: 10/ 71 و غيرهم، و الحاكي هو صاحب مفتاح الكرامة: 7/ 95 و جواهر الكلام: 27/ 321.

(2) النهاية: 446، السرائر: 2/ 465، إرشاد الأذهان: 1/ 425.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 647

ينهض دليل على وجوب السقي و العلف على من ملك منفعة الدابّة أو كان له حقّ الانتفاع بها. نعم، لو كانت الإجارة عبارة عن تمليك نفس العين في مدّة خاصّة و جهة معيّنة بحيث كان مرجعها إلى صيرورة المستأجر مالكاً لنفس العين بهذه الكيفية، يمكن أن

يقال بوجوب الإنفاق عليه من جهة كونه مالكاً لو لم نقل بانصراف دليل وجوب الإنفاق على المالك عن مثل هذا المالك، الذي تكون ملكيّته من أوّل الأمر موقّتة محدودة و في جهة خاصّة، كما لا يخفى.

و بالجملة: لم يقم دليل على ثبوت وجوب السقي و العلف بالإضافة إلى المستأجر. نعم، فيما إذا كانت الدابّة بيد المستأجر و لم يكن المالك مصاحباً لها كما إذا استأجر الدابّة لأن يسافر بها بنفسه من دون مصاحبة المالك أو من هو بمنزلته لا يبعد أن يقال باقتضاء الشرط الضمني في عقد الإجارة للسقي و العلف، كاقتضاء الشرط الضمني من ناحية المستأجر كون الدابّة صحيحة غير معيوبة.

بقي في هذا المقام جهتان:

الجهة الاولى: أنّه على تقدير القول بوجوب السقي و العلف على المستأجر إمّا مطلقاً، أو في خصوص الصورة المذكورة هل يستحقّ الأُجرة على نفس هذين العملين مع عدم قصد التبرّع و المجّانية أم لا؟ الظاهر هو الأوّل؛ لأنّ مجرّد الوجوب لا ينفي استحقاق الأُجرة مع احترام العمل و عدم قصد التبرّع كما هو المفروض. نعم، تختصّ الوديعة التي حقيقتها الاستنابة في الحفظ بعدم ثبوت الأُجرة على الحفظ فيها لكون طبعها آبياً عن ذلك، بل ربّما احتمل ثبوت الأُجرة فيها أيضاً لقاعدة الاحترام لو لم يكن مخالفاً للإجماع.

الجهة الثانية: أنّه هل يستحقّ المستأجر عوض ما بذله في مقام حفظه

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 648

من العلف و الماء لو بذل في مقابله مالًا أم لا؟ الظاهر هو الاستحقاق؛ لأنّه مضافاً إلى أنّه لم ينهض دليل على المجّانية يدلّ عليه الصحيحة المتقدّمة «1» المشتملة على قوله: فقلت: جعلت فداك فقد علفته بدراهم فلي عليه علفه؟ فقال عليه

السلام: لا، لأنّك غاصب، فإنّ المستفاد من هذا التعليل أنّ غير الغاصب يجوز له الرجوع بما أنفق على الدابّة، و أنّ التعدّي و العدوان يمنع عن ثبوت حقّ الرجوع.

المقام الثاني: في ثبوت الضمان على المستأجر لو أهمل و ترك السقي و العلف مع وجوبهما عليه و عدمه، و الظاهر عدم ثبوت الضمان من الجهة التي قد عرفت أنّها محلّ البحث؛ و هو الوجوب على المستأجر بما هو مستأجر، فإنّ مجرّد مخالفة حكم تكليفي ثابت عليه لا يوجب ثبوت حكم وضعي عليه، كما أنّ وجوب حفظ النفس المحترمة أو مال المسلم المحترم لا يقتضي ثبوت الضمان مع المخالفة و عصيان التكليف، من دون فرق في المستأجر بين أن يكون الوجوب مستفاداً من ناحية نفس عقد الإجارة أو الشرط الضمني الواقع فيه، فإنّ مخالفة الحكم التكليفي المدلول عليه بنفس العقد أو بالشرط الضمني فيه لا تلازم ثبوت حكم وضعي.

نعم، لو كان الوجوب في المقام من جهة وجوب حفظ الأمانة الثابت في جميع الأمانات لكانت مخالفته موجبة للضمان؛ لأنّه بها يثبت عنوان الخيانة و يرتفع موضوع الأمانة الرافعة للضمان، فتدبّر جيّداً.

الثالثة: قال في الشرائع: من استأجر أجيراً لينفذه في حوائجه

كانت

______________________________

(1) في ص 611.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 649

نفقته على المستأجر إلّا أن يشترط على الأجير «1».

و الكلام في هذه المسألة أيضاً تارةً من جهة ما تقتضيه القاعدة، و أُخرى من جهة النصّ الذي استدلّ به عليها.

أمّا من الجهة الأُولى: فالظاهر أنّه لا يكون في البين قاعدة مقتضية لثبوت النفقة على المستأجر في مفروض المسألة، فإنّ عقد الإجارة من حيث هو لا اقتضاء له من جهة الاستحقاق، فإنّ مقتضاه ثبوت مال الإجارة على المستأجر إذا كان كلّياً، و أمّا نفقة مدّة

الاستئجار فهي خارجة عمّا هو مفاده. نعم، لو كان هناك عادة مستمرّة مستقرّة على كون نفقة الأجير المفروض على عهدة المستأجر، فإنّه مع ثبوت هذه العادة تصير بمنزلة الالتزام الضمني بالنفقة، و عليه ففي أيّ زمان أو مكان ثبتت هذه العادة يكون مقتضى الالتزام الضمني الناشئ من ثبوتها ما ذكر، و بدونها لا وجه لثبوتها على المستأجر.

و ربّما يدّعى ثبوت الالتزام الضمني من طريق آخر غير العادة لا في جميع صور المسألة، بل في خصوص ما إذا لم تكن الأُجرة وافية بمؤنة الأجير و استغراق أوقاته للعمل المنفذ فيه و عدم التمكّن من النفقة و لو من طريق الاستدانة، فإنّ اجتماع هذه الخصوصيات يصير قرينة محقّقة للالتزام الضمني.

هذا، و لكن الدّعوى ممنوعة و القرينية غير محقّقة، فإنّه يمكن أن يكون رضاه بمثل هذا العقد لأجل أنّه يصير سبباً لتحصيل بعض النفقة في مقابل العدم المحض، فيرضى به لأجل هذه الجهة، و المستأجر ربّما لا يكون راضياً بغير هذا النحو.

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 2/ 188.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 650

نعم، ربّما يقال كما قاله المحقّق الإصفهاني قدس سره: بأنّ اللّازم في مثل الفرض أن لا يؤجر نفسه مطلقة بل مشروطة بالنفقة، بحيث يشكل صحّة الإجارة المطلقة منه لا من حيث وجوب التكسّب لوجوب تحصيل النفقة فتحرم الإجارة المطلقة؛ لابتنائه أوّلًا على مسألة الضدّ و لا نقول بها، و ثانياً على اقتضاء حرمة الإجارة لبطلانها، و لا نقول باقتضاء مجرّد الحرمة المولوية المتعلّقة بنفس الإجارة لبطلانها مع استجماعها لشرائط النفوذ حتّى ملك التصرّف، إذ لا تزول بالحرمة إلّا السلطنة التكليفية؛ و هي إباحة الإجارة دون السلطنة الوضعية التي لا تزول إلّا بفقد شرط

من شروط الصحّة، بل من حيث إنّه لا يتمكّن في خصوص المقام من تسليم العمل في تمام المدّة خارجاً حيث لا قوّة على العمل، بل لا حياة للعامل إلّا بما يتقوّت به، و المفروض عدم ما يتقوّت به من جميع الوجوه «1»، انتهى ملخّصاً.

و يرد عليه مضافاً إلى أنّه لم يكن المفروض عدم وفاء الأُجرة بالنفقة التي يتوقّف عليها حياته، و كذا لم يكن المفروض ما إذا لم يتمكّن من النفقة و لو بالسّرقة و الغصب و أمثالهما من الوجوه و الطرق غير الشرعيّة، بل المفروض عدم وفاء الأُجرة بالنفقة العادية و عدم التمكّن من النفقة بوجه شرعي كالاستدانة و نحوها، و في هذه الصورة لا يتحقّق خلل في شرائط صحّة الإجارة بوجه أنّ عدم القدرة على تسليم تمام العمل خارجاً لم يثبت كونه قادحاً في صحّة الإجارة، بل يحتمل التبعيض باختيار الصحّة في المقدور. غاية الأمر ثبوت الخيار للمستأجر مع الجهل.

مع أنّه يمكن فرض تحقّق القدرة على تسليم تمام العمل من ناحية

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 288.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 651

وجوب حفظ النفس المحترمة من الهلاك، و عليه فيجب على المستأجر عيناً الأُجرة بمقتضى عقد الإجارة و كفاية تكميل النفقة من جهة وجوب حفظ النفس المحترمة، و الكلام إنّما هو في وجوب النفقة زائدة على الأُجرة من جهة نفس الاستئجار لا عنوان آخر غيره، فلم يقم دليل على بطلان الإجارة المطلقة في مفروض المسألة، و لا على وجوب النفقة على المستأجر من جهة كونه مستأجراً.

و أمّا من الجهة الثانية: فالنصّ الوارد في المقام هي رواية سليمان بن سالم قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن رجل

استأجر رجلًا بنفقة و دراهم مسمّاة على أن يبعثه إلى أرض، فلمّا أن قدم أقبل رجل من أصحابه يدعوه إلى منزله الشهر و الشهرين فيصيب عنده ما يغنيه عن نفقة المستأجر، فنظر الأجير إلى ما كان ينفق عليه في الشهر إذا هو لم يدعه فكافأه به الذي يدعوه، فمن مال مَنْ تلك المكافأة؟ أ من مال الأجير أو من مال المستأجر؟ قال: إن كان في مصلحة المستأجر فهو من ماله و إلّا فهو على الأجير. و عن رجل استأجر رجلًا بنفقة مسمّاة و لم يفسّر (يعيّن يب) شيئاً على أن يبعثه إلى أرض أُخرى، فما كان من مؤنة الأجير من غسل الثياب و الحمّام فعلى مَنْ؟ قال: على المستأجر «1».

و البحث في الرواية تارةً من حيث السند، و أُخرى من جهة الدلالة.

أمّا من حيث السند، فهي غير قابلة للاعتماد عليها؛ لجهالة الراوي و هو سليمان بن سالم و عدم كونه مذكوراً في كتب الرجال، و ليس في البين ما يكون جابراً.

و أمّا من جهة الدلالة، فربما يقال بدلالة صدرها و ذيلها على وجوب

______________________________

(1) الكافي: 5/ 287 ح 2، وسائل الشيعة: 19/ 112، كتاب الإجارة ب 10 ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 652

النفقة في مفروض المسألة؛ أمّا الصدر فقوله عليه السلام في الجواب: «إن كان في مصلحة المستأجر فهو من ماله و إلّا فهو على الأجير» ظاهر في أنّه إن كان البقاء عند الرجل الذي دعاه في مصلحة المستأجر، و لغرض الاشتغال بالعمل الذي فيه صلاحه فهو مستحقّ للنفقة، و يجوز له أن يحسب ما دفعه بعنوان عوض ما ينفق عليه على المستأجر، فالمكافأة من ماله، و إن لم

يكن البقاء عنده في مصلحة المستأجر بل لغرض آخر لا يرجع إليه فالمكافأة من ماله، و لا يجوز له الحساب على المستأجر بوجه.

و يرد على هذا الاستدلال أمران:

الأوّل: أنّ الظاهر من مورد السؤال كون النفقة ثابتة على المستأجر إمّا بعنوان الجزئية للأُجرة، كما يدلّ عليه جعلها في عرض الدراهم المسمّاة و إدخال باء العوض عليها، و إمّا بعنوان الشرطية كما هو المتداول في التعبير عن الشرط، و على أيّ فمورد السؤال صورة التعرّض للنفقة و التصريح بها، و محلّ البحث إنّما هو ما إذا لم يكن مذكوراً في العقد لا شطراً و لا شرطاً، فالرواية أجنبيّة عن المقام.

الثاني: أنّ التفصيل بهذه الكيفية المذكورة في الجواب بناءً على المعنى الذي ذكره المستدلّ مخالف لمورد السؤال، فإنّه لا ينبغي الارتياب في أنّ المفروض في السؤال أنّ بقاء الأجير عند رجل من أصحابه شهراً أو أكثر لم يكن إلّا لغرض الاشتغال بالعمل الذي فيه صلاح المستأجر و لغاية قضاء حاجته و الإتيان بالعمل المستأجر عليه، و يدلّ عليه قول السائل: «فيصيب عنده ما يغنيه من نفقة المستأجر». فإنّ ظاهره أنّه مع عدم وجود الرجل الذي دعاه لم يكن بدّ من نفقة المستأجر، و كذا قوله: «فنظر الأجير إلى ما كان ينفق عليه في الشهر». و عليه فلا معنى للتفصيل بأنّه إن كان البقاء عنده لمصلحة المستأجر فكذا و إلّا فكذا.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 653

و من هنا استقرب المحقّق الإصفهاني قدس سره أن يرجع الضمير المستتر في «كان» إلى المكافأة، فيصير حاصل المعنى أنّ هذه المكافأة بعد فرض عدم استحقاق النفقة في مفروض المسألة إن كانت مصلحة للمستأجر كانت من المال المصروف في

مصالح المستأجر فيحتسب عليه، و إلّا كان إحساناً محضاً من الأجير بلا ارتباط بالمستأجر. قال: و لعلّه أقرب إلى المفهوم من العبارة من السابق، فلا يرتبط بمسألة النفقة أصلًا «1».

و أنت خبير بأنّ حمل الجواب على هذا المعنى أيضاً بعيد لو لم يكن أبعد من السابق، ضرورة أنّه بعد فرض كون عدم استحقاق النفقة مسلّماً عند السائل لإصابته عند الرجل ما يغنيه عن نفقة المستأجر لا يبقى مجال لكون المكافأة مصلحة للمستأجر، فإنّ حساب النفقة عليه مع عدم ثبوتها عليه لا يرجع إلى صلاحه بما هو مستأجر و بالإضافة إلى هذه الإجارة كما هو المفروض، ضرورة أنّ المراد بناءً عليه صلاحه من جهة كونه مستأجراً و بالنسبة إلى شخص هذه الإجارة.

هذا، و يحتمل أن يكون المراد بالجواب و التفصيل الذي يشتمل هو عليه أنّ قبول الدعوة من الرجل الذي هو من أصحابه، و القدوم إلى منزله و الورود عليه إن كان فيه مصلحة المستأجر و له دخل في تحقّق غرضه و قضاء حاجته، فالمكافأة من ماله، و إلّا فهو من مال الأجير لا يرتبط بالمستأجر بوجه، و الذي يسهّل الخطب ما عرفت من عدم صلاحية الرواية للاستناد أوّلًا، و كون النفقة دخيلة في الإجارة فيها شطراً أو شرطاً ثانياً.

فتحصّل ممّا ذكرنا أنّ صدر الرواية لا يكون صالحاً للاستدلال به

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 289 290.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 654

على ما هو خلاف القاعدة من عدم ثبوت النفقة على المستأجر، و أمّا ذيلها فربّما يقال: بأنّ الحكم في الجواب بثبوت نفقة غسل الثياب و الحمّام على المستأجر يدلّ بطريق أولى على ثبوت نفقة المآكل و الملابس عليه؛ لأنّه

إذا كان مثل اجرة الحمّام الذي قد يقع الابتلاء به ثابتاً على المستأجر فمثل المآكل مع تحقّق الابتلاء به دائماً داخل قطعاً و ثابت عليه كذلك.

هذا، و لكن حيث إنّ دخالة النفقة مفروضة في مورد السؤال و إن لم تكن مفسّرة، فذيل الرواية أيضاً لا يرتبط بالمقام، و السؤال فيه إنّما هو عن أنّ النفقة التي التزم بها المستأجر هل تشمل نفقة غسل الثياب و الحمّام أيضاً أم لا؟

مسألة: قال في الشرائع: إذا تسلّم أجيراً ليعمل له صنعة فهلك لم يضمنه، صغيراً كان أو كبيراً، حرّا كان أو عبداً «1».

أقول: غير خفيّ أنّ المراد بالهلاكة هو الهلاكة غير المرتبطة إلى المستأجر مباشرةً أو تسبيباً، بل ارتباطها إليه إنّما هو بمقدار كونه أجيراً له قد تسلّمه ليعمل له العمل، كما أنّ المراد بالضمان المنفيّ هو الضمان الغرامي الثابت في موارد الإتلاف و بعض موارد التلف، و حينئذٍ يقع الكلام في مقامين:

المقام الأوّل: في الحرّ صغيراً كان أو كبيراً، و الوجه في عدم ثبوت الضمان فيه عدم دليل يدلّ على الضمان فيه؛ لأنّ دليل الضمان في باب التلف هو قوله صلى الله عليه و آله: على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي «2»، و هو لا يشمل الحرّ أصلًا، لا لعدم تعلّق الأخذ به و عدم تحقّق الاستيلاء بالنسبة إليه؛ لأنّ

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 2/ 188.

(2) تقدّم في ص 337- 338.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 655

الاستيلاء لا يفرق فيه بين العبد و الحرّ، فكما أنّ العبد يقع تحت الاستيلاء فكذلك الحرّ، و الإضافة الملكيّة لا دخل لها في هذا الباب أصلًا، و لا لأنّ اليد المضمنة بلحاظ غايتها لا تعمّ الاستيلاء على الحرّ

فإنّه لا تأدية له، فالغاية تدلّ على اختصاص اليد بما كان مضافاً إلى غيره و كان أدائيّاً، كما أفاده المحقّق الإصفهاني قدس سره «1»، و ذلك لأنّ اختصاص الغاية ببعض أفراد المغيّا لا يوجب ضيقاً في دائرة تلك الأفراد و لا تخصيصاً للحكم بخصوصها، مضافاً إلى أنّ تأدية كلّ شي ء بحسبه، فتأدية المملوك إنّما هي بأدائه إلى مالكه، و تأدية الحرّ إنّما هي برفع اليد عنه و سلب الاستيلاء الثابت عليه.

بل لأنّ الظاهر من الموصول في دليل اليد و المنصرف إليه غير الحرّ الذي لا يتّصف بالمالية و لا بالملكية، و من هذه الجهة نفصّل بين نفس الحرّ و بين منافعه التي لها مالية و قابلة للتمليك بالإجارة و غيرها. نعم، إتلاف الحرّ له دية مقرّرة شرعاً، و لكن الكلام في الضمان لا في الدية.

المقام الثاني: في العبد كذلك، أي صغيراً كان أو كبيراً، و الوجه في عدم الضمان فيه أنّ حاله حال الدابّة المستأجرة، و قد عرفت أنّ تلفها لا يوجب الضمان؛ لكونها أمانة، مضافاً إلى الروايات الواردة في عدم ضمان الدابّة قبل التعدّي، منها رواية أبي ولّاد المفصّلة «2».

الرابعة: قال في الشرائع: كلّ ما يتوقّف عليه توفية المنفعة فعلى المؤجر،

كالخيوط في الخياطة و المداد في الكتابة، و يدخل المفتاح في

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 300 301.

(2) الكافي 5: 290 ح 6، التهذيب 7: 215 ح 943، الاستبصار 3: 134 ح 483، الوسائل 19/ 119، كتاب الإجارة ب 17 ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 656

إجارة الدار لأنّ الانتفاع لا يتمّ إلّا بها «1».

أقول: الإجارة من حيث هي لا تقتضي إلّا ملك المنفعة و استحقاق العمل من دون أن يكون فيها اقتضاء لأمر آخر زائد على ما

ذكر، و لكنّه حيث يكون الواجب تسليم المنفعة و العمل، و هو قد يكون متوقّفاً على بعض المقدّمات، فلذا يجب من باب وجوب مقدّمة الواجب و لزوم تحصيلها، فالكلام ليس في مفاد عقد الإجارة و ما هو مقتضاها، كما أنّ الظاهر خروج ما إذا كان هناك عادة متّبعة على ثبوت المقدّمات على المؤجر أو المستأجر عن محلّ البحث و الكلام، فإنّه إذا كان في البين عادة كذائية يكون مقتضى الالتزام الضمني لزوم رعايتها، فالبحث متمحّض فيما إذا لم يكن في البين عادة في مقدّمة التسليم الواجب في باب الإجارة، و حينئذٍ يقع الكلام في مقامين:

المقام الأوّل: في مقدّمات تسليم العمل في باب الإجارة على الأعمال كالخياطة و الكتابة، و أنّه هل يكون مقدّماتهما على المؤجر أو المستأجر، و المحكي عن الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره التفصيل بين ما إذا كانت بمنزلة الآلة للعامل كيده و بين غيره، فيجب الأوّل على المؤجر و الثاني على المستأجر «2»، و قد حقّقه المحقّق الإصفهاني قدس سره بما حاصله: أنّ الخياطة و الكتابة تنحلّ إلى هيئة و مادّة، فهيئة الخياطة هي الهيئة الاتّصالية بين بعض أجزاء الثوب و بعضها الآخر، و مادّتها هو الثوب و الخيوط، و من البيّن أنّ العمل المستأجر عليه نفس إيجاد الهيئة، و مقدّماته بما هو إيجاد الهيئة ما هو الدخيل في صدوره لا ما هو الدخيل في حلوله، فمثل الإبرة

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 2/ 188.

(2) حكى عنه المحقّق الرشتي في كتاب الإجارة: 352.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 657

و نحوها من مقدّمات الصدور، و مثل الخيط كالثوب من مقدّمات الحلول. قال: و ما ذكرناه ليس تفصيلًا في مقدّمات الواجب المطلق،

بل من باب نفي مقدّميّة الثوب و الخيط لما هو الواجب على الأجير «1».

و الظاهر يساعد هذا التفصيل و إن كان مخالفاً لما هو ظاهر عبارة الشرائع، خصوصاً مع التمثيل بالمداد في الكتابة، فتدبّر.

المقام الثاني: في مقدّمات تسليم المنفعة في باب إجارة الأعيان المقتضية لتمليك المنفعة، و الظاهر أنّه كما يجب تسليم المنفعة بتسليم العين و إبقائها في يد المستأجر إلى انقضاء مدّة الإجارة، كذلك يجب تسليم ما يتوقّف عليه الانتفاع بالعين المستأجرة على النحو الذي قصد من استئجاره، ففي مثل الدار كما يجب على المؤجر تسليمها كذلك يجب عليه تسليم مفتاح الباب كما في عبارة الشرائع لتوقّف الانتفاع بها عليه، و كذلك يجب عليه سائر ما يتوقّف عليه السكنى بحسب العادة، كبيت الخلاء و البالوعة، فيجب عليه إحداثهما على فرض العدم، و تنقيتهما على فرض الوجود و عدم إمكان الاستفادة منهما، و منه يظهر لزوم التنقية على المؤجر في أثناء الإجارة؛ لعدم الفرق فيما ذكر بين الحدوث و البقاء، كما أنّه يظهر أنّ تخلية السقف من الثلج و كذا تعمير السطح إنّما يكون على عهدة المؤجر، و أمّا تخلية الدار من الكثافات و الرماد الحاصلة بعمل المستأجر فهي على المستأجر، و هكذا.

______________________________

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 303.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 658

[فروع في التنازع ذكرها المؤلّف دام ظلّه في كتاب الإجارة الثاني]

فروع في التنازع

______________________________

الأوّل: إذا تنازعا في أصل وقوع الإجارة، ففي الشرائع أنّ القول قول المالك مع يمينه «1»، و التحقيق أنّه إن كان الاختلاف قبل استيفاء المنفعة أو شي ء منها فالقول قول منكر الإجارة، سواء كان هو المالك أو الطرف الآخر لأصالة عدم تحقّق الإجارة، و إن كان بعد الاستيفاء المقتضي للأُجرة المسمّاة على تقدير الإجارة

و أُجرة المثل على تقدير عدمها، فالظاهر في مثل ذلك أنّه إن كانت الأُجرة المسمّاة زائدة على اجرة المثل يكون المدّعى للإجارة هو المالك طلباً للزيادة، و إن كانت الأُجرة ناقصة عن اجرة المثل يكون المدّعى للإجارة هو الطرف المستوفي للمنفعة، و مقتضى القاعدة في كلتا الصورتين تقديم قول المنكر مع يمينه أيضاً، سواء كان هو المالك أو المستوفي؛ لما ذكر من أصالة عدم تحقّق الإجارة.

الثاني: لو اختلفا في قدر المستأجر مثل الدار و نحوها من المركّبات الخارجية؛ بأن قال المالك: «آجرتك نصفها» مثلًا، و قال المستأجر: «آجرتني جميعها». ففي الشرائع: أنّ القول قول المالك مع يمينه أيضاً «2»، و المحكي عن المحقّق الثاني في حاشية الشرائع «3» و في جامع المقاصد القول بالتحالف «4»، و لعلّه مبنيّ على مقايسة الاختلاف في المقدار على الاختلاف في متعلّق الإجارة، كما إذا قال المالك: «آجرتك الدار» و قال

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 2/ 189.

(2) شرائع الإسلام: 2/ 189.

(3) حكاه المحقّق الرشتي في كتاب الإجارة: 355.

(4) جامع المقاصد: 7/ 296 297.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 659

..........

______________________________

المستأجر: «آجرتني الدابّة» مثلًا، فكما أنّه يثبت التحالف هناك لوجود التداعي فكذا هنا، لكن المقايسة في غير محلّها، ضرورة عدم وجود القدر المتيقّن هناك بخلاف المقام، فإنّ كون النصف متعلّقاً للإجارة لا بشرط مسلّم بين المتخاصمين، و النزاع في النصف الآخر، و الحقّ مع المنكر الذي هو المالك، و دعوى مغايرة النصف مع المجموع كمغايرة الدار مع الدابّة واضحة الفساد، ضرورة أنّ المغايرة تبتني على كون النصف مأخوذاً بشرط لا، و أمّا إذا كان مأخوذاً لا بشرط كما في المقام ظاهراً فلا يكون هناك مغايرة أصلًا، كما لا يخفى.

و

ممّا ذكرنا ظهر أنّه لو كان الاختلاف في قدر الأُجرة يكون القول قول المستأجر بيمينه.

الثالث: لو اختلفا في ردّ العين المستأجرة فالحقّ كما في الشرائع «1» مع المالك الذي ينكر ردّها؛ لأصالة عدم تحقّق الردّ الذي هو من الحوادث، و هو المعروف في نظائر المسألة، كردّ العين المرهونة، و ردّ العارية، و ردّ مال المضاربة، و ردّ ما بيد الوكيل من مال الموكّل. نعم، في خصوص الوديعة يقبل قول المستودع في دعوى الردّ، و قياس مثل المقام على باب الوديعة مع أنّه قياس يكون مع الفارق أيضاً؛ لأنّ تمام المصلحة في باب الوديعة يرجع إلى المالك، و المستودع محسن محض، بخلاف مثل المقام الذي يكون قبض العين من المالك لمصلحة ترجع إلى القابض، كما هو واضح.

ثمّ إنّه قد استشكل في تقديم قول المالك في عدم الردّ بناءً على كون العين المستأجرة بعد انقضاء مدّة الإجارة أمانة بيد المستأجر غير

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 2/ 189.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 660

..........

______________________________

مضمونة عليه، كما في مدّة الإجارة بأنّ دعوى التلف مسموعة منه فكيف لا تسمع منه دعوى الردّ، و لا يرى فرق بين التلف و الردّ، فكما أنّ مقتضى الائتمان سماع دعوى التلف منه، و إلّا يتحقّق عنوان الاتّهام المنهي عنه في المؤتمن، فكذلك مقتضاه سماع دعوى الردّ منه، و كذا في نظائر الإجارة، فإذا كان قول المستعير مقدّماً في باب التلف و مقبولًا فكيف لا يقبل قوله في دعوى ردّ العارية، إلّا أن يقال: إنّ أثر الأمانة عدم الضمان مع التلف عند الأمين، و أمّا سماع دعواه في التلف و نحوه فليس لأجل الأمانة و متفرّعاً عليها، و يؤيّد ذلك أنّ قول

الولي في الإنفاق على المولّى عليه مقبول، و أمّا قوله في دعوى القرض و البيع فغير مقبول على الأشهر، مع أنّه على تقدير كون مستند القبول هي الأمانة لا فرق بين الفرضين.

الرابع: قال في الشرائع: إذا ادّعى الصانع أو الملّاح أو المكاري هلاك المتاع و أنكر المالك كلّفوا البيّنة، و مع فقدها يلزمهم الضمان، و قيل: القول قولهم مع اليمين؛ لأنّهم أُمناء و هو أشهر الروايتين، و كذا لو ادّعى المالك التفريط فأنكروا «1».

قد مرّ «2» البحث في ضمان هؤلاء مع هلاك المتاع عندهم واقعاً لا بسببهم، و عرفت أنّ مقتضى القاعدة و التأمّل في الروايات الواردة في خصوص هذه الجهة عدم الضمان مع إحراز التلف، عندهم كذلك، و البحث هنا يتمحّض في صورة الشكّ الناشئ عن تخاصم الطرفين، و ثبوت المدّعى و المنكر في البين، و أنّه هل القول قولهم في دعوى التلف أو قول

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 2/ 189.

(2) في ص 621 629.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 661

..........

______________________________

المالك في إنكارها؟ و المحكي عن المفيد في المقنعة «1» و السيّد «2» بل المنسوب إلى المشهور «3» بين القدماء هو التكليف بالبيّنة، و جلّ المتأخّرين «4» بل كلّهم، بل المحصّلون من القدماء أيضاً ذهبوا إلى ترجيح قول هؤلاء «5»، و منشأ الاختلاف اختلاف الروايات الواردة في المسألة، و لا بدّ من نقلها أوّلًا ثمّ بيان وجه الجمع بينها أو الترجيح لو لم يمكن الجمع، فنقول:

أمّا الروايات الدالّة على ترجيح قول المالك:

فمنها: صحيحة الحلبي أو حسنته، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال في الغسّال و الصبّاغ: ما سرق منهم من شي ء فلم يخرج منه على أمر بيّن أنّه قد سرق

و كلّ قليل له أو كثير فإن فعل فليس عليه شي ء، و إن لم يقم البيّنة و زعم أنّه قد ذهب الذي ادّعى عليه فقد ضمنه إن لم يكن له بيّنة على قوله «6». و في التهذيب بعد قوله: أو كثير قوله: فهو ضامن، و هو الظاهر، و دلالة الرواية على الضمان و الحاجة إلى البيّنة لا تقبل الخدشة بوجه.

و منها: رواية أبي بصير، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: سألته عن قصّار دفعت إليه ثوباً فزعم أنّه سرق من بين متاعه؟ قال: فعليه أن يقيم البيّنة أنّه سُرق من بين متاعه و ليس عليه شي ء، فإن سُرق متاعه كلّه فليس عليه شي ء «7».

و منها: صحيحة أُخرى للحلبي أو حسنة له، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال

______________________________

(1) المقنعة: 643.

(2) الانتصار: 466.

(3) مسالك الأفهام: 5/ 233.

(4) كصاحب جامع المقاصد: 7/ 298 و مسالك الأفهام: 5/ 233 و جواهر الكلام: 27/ 342.

(5) السرائر 2/ 470.

(6) الكافي: 5/ 242 ح 2، التهذيب: 7/ 218 ح 952، وسائل الشيعة: 19/ 141، كتاب الإجارة ب 29 ح 2.

(7) الكافي: 5/ 242 ح 4، وسائل الشيعة: 19/ 142، كتاب الإجارة ب 29 ح 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 662

..........

______________________________

سُئل عن رجل جمّال استكرى منه إبلًا، و بعث معه بزيت إلى أرض فزعم أنّ بعض زقاق الزيت انخرق فأهراق ما فيه؟ فقال: إن شاء أخذ الزيت، و قال: إنّه انخرق و لكنّه لا يصدَّق إلّا ببيّنة عادلة «1».

و منها: رواية ثالثة للحلبي، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في حمّال يحمل معه الزيت فيقول: قد ذهب أو أُهرق أو قطع عليه الطريق، فإن جاء

ببيّنة عادلة أنّه قطع عليه أو ذهب فليس عليه شي ء، و إلّا ضمن «2».

و منها: جملة من النصوص الدالّة على ضمان القصّار و الصانع معلّلًا في بعضها بالاحتياط في أموال الناس، و قد مرّ أنّ موردها صورة الشكّ في تحقّق التلف عند المستأجر على ما يدلّ عليه التعليل، و ذيل رواية السكوني الدالّ على أنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان لا يضمّن من الغرق و الحرق و الشي ء الغالب «3».

و بالجملة: لا تنبغي الخدشة في دلالة مثل هذه الروايات على الضمان في فرض الشكّ، و لازمه إقامة البيّنة لإثبات التلف و رفع الضمان.

و أمّا الروايات الدالّة على تقديم قول المستأجر بيمينه، فمنها؛ و هو أصرح ما في الباب على ما قيل.

رواية بكر بن حبيب قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: أعطيت جبّة إلى القصّار فذهبت بزعمه، قال: إن اتّهمته فاستحلفه، و إن لم تتّهمه فليس عليه شي ء «4».

و منها: خبره الآخر عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: لا يضمّن القصّار إلّا ما

______________________________

(1) الكافي: 5/ 243 ح 1، التهذيب: 7/ 217 ح 950، وسائل الشيعة: 19/ 148، كتاب الإجارة ب 30 ح 1.

(2) الفقيه: 3/ 161 ح 707، وسائل الشيعة: 19/ 153، كتاب الإجارة ب 30 ح 16.

(3) الكافي: 5/ 242 ح 5، التهذيب: 7/ 219 ح 956، الاستبصار: 3/ 131 ح 471، وسائل الشيعة: 19/ 142، كتاب الإجارة ب 29 ح 6.

(4) التهذيب: 7/ 221 ح 966، وسائل الشيعة: 19/ 146، كتاب الإجارة ب 29 ح 16.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 663

..........

______________________________

جنت يداه، و إن اتّهمته أحلفته «1».

و منها: مصحّحة معاوية بن عمّار، عن أبي عبد اللّٰه

عليه السلام قال: سألته عن الصبّاغ و القصّار؟ فقال: ليس يضمنان «2».

هذا، و الظاهر أنّ موردها صورة العلم بتحقّق التلف عندهما غير مستند إليهما، فلا ارتباط لها بالمقام.

ثمّ إنّ هنا رواية أُخرى استدلّ بها على كلّ من القولين؛ و هي رواية أبي بصير يعني المرادي، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: لا يضمن الصائغ و لا القصّار و لا الحائك إلّا أن يكونوا متّهمين فيخوف (فيجيئون خ ل) بالبيّنة و يستحلف لعلّه يستخرج منه شيئاً، الحديث «3».

و وجه الاستدلال بها ما فيها من الجمع بين البيّنة و الحلف، فإنّ البيّنة تدلّ على الضمان لولاها، و الحلف يدلّ على عدمه.

قال المحقّق الرشتي قدس سره بعد نقل الرواية: و الحقّ أنّه بالإجمال و السقوط رأساً أجدر من الاستدلال به على شي ء منهما، ثمّ قال: و إن كان دلالته على الضمان أقرب؛ لأنّ التخويف بالبيّنة، و الحلف في فرض واحد لا معنى له، فلا بدّ أن يكون الجمع بينهما بملاحظة فرضين من فروض المسألة، فإمّا أن يكون التخويف بالبيّنة في دعوى الإتلاف و الاستحلاف في دعوى التلف أو العكس، و الأوّل باطل بالإجماع فتعيّن الثاني و هو المدّعى، ثمّ قال: و يحتمل الحمل على التخويف الصوري، فلا يستفاد منه شي ء من الميزان المعتبر الشرعي «4».

______________________________

(1) التهذيب: 7/ 221 ح 967، وسائل الشيعة: 19/ 146، كتاب الإجارة ب 29 ح 17.

(2) التهذيب: 7/ 220 ح 964، الاستبصار: 3/ 132 ح 477، وسائل الشيعة: 19/ 145، كتاب الإجارة ب 29 ح 14.

(3) التهذيب: 7/ 218 ح 951، وسائل الشيعة: 19/ 144، كتاب الإجارة ب 29 ح 11.

(4) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 356.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة،

ص: 664

..........

______________________________

هذا، و أمّا وجه الجمع بين هذه الروايات فالمستفاد من كلمات الأعلام في هذا المقام أُمور لا بأس بذكرها و النظر فيها:

منها: حمل الروايات الدالّة على الضمان على دعوى الإتلاف و الأخذ بقاعدة الأمانة المؤيّدة بالروايات الخاصّة، اختار هذا الوجه صاحب الجواهر «1» تأييداً للمتأخّرين، و لكنّك خبير بأنّ مورد جلّها خصوص النزاع في التلف كالسرقة و نحوها، فما أفاده لا يرجع إلى الجمع بل إلى الطرح و الترجيح.

و منها: ما حكي عن الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره من الجمع بينهما بالتفصيل بين دعوى التلف و دعوى التفريط، فحمل ما يدلّ على الضمان على الثاني و ما يدلّ على عدمه على الأوّل، و هذا منه مبنيّ على صراحة الأخبار المعلّلة بالاحتياط في خروج المقام عن قاعدة الأمانة، و بعد الخروج يرجع الأمر إلى قاعدة «البيّنة على المدّعى و اليمين على المنكر». فيحمل ما دلّ على الحلف على ما إذا كان الصانع منكراً كما في دعوى التفريط، و ما دلّ على البيّنة على ما لو كان مدّعياً كما في دعوى التلف، قال: و هذا الجمع و إن كان مخالفاً لجملة من هذه الأخبار إلّا أنّه أقرب ما قيل أو يقال في الجمع بين هذه الأخبار «2».

و منها: ما أفاده المحقّق الرشتي قدس سره من أنّ الأظهر ما عليه الأكثر من العمل بمقتضى قاعدة الأمانة؛ لأنّ الطائفة الأُولى يعني ما يدلّ على تقديم قول الأجير صريحة في ذلك و إن كانت واحدة؛ لكونها موافقة للقاعدة و الشهرة، و الثانية ليس شي ء منها صريحاً في عدم الاقتصار على الحلف،

______________________________

(1) جواهر الكلام: 27/ 342 344.

(2) حكى عنه المحقّق الرشتي في كتاب الإجارة: 357.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير

الوسيلة - الإجارة، ص: 665

..........

______________________________

بل في أنّه مع عدم البيّنة يضمن الصانع عند التهمة أي الشكّ، فيقيّد إطلاقه بما إذا لم يحلف «1».

و منها: ما أفاده المحقّق الإصفهاني قدس سره من وجود خصوصية في المقام موجبة لجواز كلا الأمرين: البيّنة و الاستحلاف؛ لأنّ الأصل الذي أسّسه أمير المؤمنين عليه السلام من باب الاحتياط على أمتعة الناس ليس من باب تضمين الأجير لما يتلف في يده على خلاف قاعدة الأمانة بالمعنى الأعمّ، بل تأسيس أصل في باب دعوى التلف، و أنّ المتّهم يضمن لولا أحد الأمرين من إقامة البيّنة كما هو مقتضى الأصل الأوّلي، و مقتضى جملة من أخبار الباب أو الحلف كما هو مقتضى الأصل الثانوي، و مقتضى جملة أُخرى من أخبار الباب، قال:

و يمكن أن يقال: إنّ مقتضى الاحتياط على أمتعة الناس لخفّة مؤنة دعوى التلف صحّة مطالبة البيّنة من مدّعي التلف، كما أنّه يجوز الاقتصار على التحليف كما في غيره من موارد الأمانة، و إلّا فتعيّن الحلف ليس احتياطاً على أمتعة الناس، كما أنّ جواز الاقتصار على الحلف لا ينافي جواز مطالبة البيّنة، كما أنّ التفضّل على الأجير المأمون بعدم تحليفه فضلًا عن مطالبة البيّنة منه لا ينافي جواز كلّ منهما. ثمّ أيّد ما أفاده برواية أبي بصير المتقدّمة المشتملة على الجمع بين الأمرين «2».

و الأظهر عندي ما أفاده الشيخ الأنصاري قدس سره. و في بعض الروايات الدالّة على الضمان قرينة على كون موردها دعوى التفريط، كرواية السكوني المتقدّمة الدالّة على أنّ أمير المؤمنين عليه السلام لم يكن يضمّن من

______________________________

(1) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 357.

(2) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 306.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 666

..........

______________________________

الغرق

و الحرق و الشي ء الغالب، فتدبّر جيّداً.

الخامس: قال في الشرائع: لو قطع الخيّاط ثوباً قباءً، فقال المالك: أمرتك بقطعه قميصاً، فالقول قول المالك مع يمينه، و قيل قول الخيّاط، و الأوّل أشبه، و لو أراد الخيّاط فتقه لم يكن له ذلك إذا كانت الخيوط من الثوب أو من المالك، و لا اجرة له لأنّه عمل لم يأذن فيه المالك «1»، انتهى.

و القول بتقديم قول الخيّاط محكيّ عن وكالة المبسوط «2» و الخلاف «3»، و المحكي عن الشيخ قدس سره «4» في هذا الباب الموافقة للقول الأوّل الذي هو المشهور «5»، بل لم يعرف الخلاف فيه من أحد كما في الجواهر «6» إلّا من الشيخ في الباب المزبور، و قد حكي عن الشافعي «7» و بعض أصحابنا كالمحقّق الأردبيلي «8» القول بالتحالف.

و التحقيق أنّه إن كان الاختلاف بينهما بعد تحقّق الإجارة و الاستئجار و تملّك المنفعة، بأن كان استئجار الخيّاط مسلّماً بينه و بين المالك، و لكن الاختلاف في تعيين العمل المستأجر عليه، و أنّه هل هو القطع قميصاً و خياطته كذلك، أو قباءً و خياطته كذلك؟ فلا محيص عن التحالف؛ لتباين الأمرين و عدم وجود القدر المتيقّن في البين، و المخالفة للأصل لكلّ من القولين، فلا مجال لترجيح إحدى الدعويين. هذا، و الظاهر عدم كون هذه

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 2/ 189.

(2) المبسوط: 2/ 383.

(3) الخلاف: 3/ 348 مسألة 11.

(4) الخلاف: 3/ 506 مسألة 34، المبسوط: 3/ 248.

(5) مفتاح الكرامة: 7/ 290.

(6) جواهر الكلام: 27/ 345.

(7) الخلاف: 3/ 506 مسألة 34، المجموع للنووي: 15/ 439.

(8) مجمع الفائدة و البرهان: 10/ 84.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 667

..........

______________________________

الصورة مفروضة في عبارة الشرائع.

و إن

كان الاختلاف بينهما فيما أمر المالك به الخيّاط من دون أن يكون هناك تمليك و تملّك، بل دفع المالك الثوب إلى الخيّاط و أمره بشي ء مردّد بين قطعه قميصاً كما يدّعيه المالك، أو قباءً كما يدّعيه الخيّاط كما هو ظاهر عبارة الشرائع، فالظاهر أنّه حينئذٍ لا وجه للتحالف بل القول قول المالك؛ لأنّ ما يترتّب عليه الأثر هو تحقّق العمل و إيجاده في الخارج بأمر المالك، فما يدّعي المالك الأمر به خارج عن دائرة النزاع؛ لعدم تحقّقه في الخارج و لم يكن هنا استحقاق و تملّك للمنفعة بوجه؛ لما عرفت من أنّ المفروض عدم وجود إجارة في البين، فالنزاع يتمحّض في العمل المتحقّق في الخارج، و أنّه هل كان مأموراً به من المالك أم لا؟ و حينئذٍ يكون قول المالك موافقاً للأصل؛ لأصالة عدم تحقّق أمر من المالك بهذا العمل الواقع في الخارج، و لا يعارضه أصالة عدم تحقّق الأمر بما يدّعيه بعد عدم ترتّب الأثر عليه إلّا على القول بالأصل المثبت الذي لا نقول به.

ثمّ إنّه ظهر ممّا ذكرنا أنّه في فرض التحالف لا يكون فرق بين ما إذا كان التخاصم و التنازع قبل القطع أو بعده؛ لأنّ النزاع في العمل المستأجر عليه و المنفعة المملوكة للمالك، فلا فرق بين تحقّق القطع و عدمه، و أمّا في هذا الفرض فالظاهر ثبوت الفرق؛ لأنّ مجرّد الأمر من المالك لا يوجب استحقاقاً للخيّاط بالإضافة إلى الأُجرة، بل لا بدّ من تحقّق العمل المأمور به حتّى يثبت الأُجرة، فإذا كان النزاع قبل القطع لا يترتّب على شي ء من الدعويين أثر، و لا على شي ء من الأصلين فائدة، فالنزاع المؤثّر إنّما هو فيما إذا تحقّق العمل و تردّد

بين أن يكون مأموراً به أم لا، و لهذه الجهة قد فرض في عبارة الشرائع تحقّق القطع من الخيّاط.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الإجارة، ص: 668

..........

______________________________

و ممّا ذكرنا ظهر أنّ ما يشعر به عبارة الجواهر «1» بل تدلّ عليه من أنّ اتّجاه التحالف و انفساخ الإجارة فيما إذا كان نزاعهما في تعيين العمل المستأجر عليه، إنّما هو إذا كان قبل قطع الثوب ممّا لا وجه له، إلّا أن يكون مراده عدم الاختصاص بما إذا تحقّق القطع، فيرجع إلى ما ذكرنا.

ثمّ إنّه في فرض يمين المالك إذا حلف يكون أثره عدم استحقاق الخيّاط لُاجرة القطع لعدم كونه مأموراً به، بل يثبت عليه أرش النقص و التفاوت بين كونه مقطوعاً قميصاً، و عدم كونه مقطوعاً لو كان تفاوت في البين و كان التفاوت من ناحية ما يدّعيه المالك، بمعنى ثبوت النقص بالإضافة إليه.

بقي الكلام فيما تعرّض له الشرائع في ذيل العبارة المتقدّمة من إرادة الخيّاط فتقه، و أنّه إذا كانت الخيوط من المالك أو من الثوب ليس له ذلك، و الوجه فيه مضافاً إلى عدم وجدان الخلاف فيه بين المتعرّضين كما في الجواهر أنّه تصرّف في مال الغير لا يجوز إلّا بإذنه، ضرورة أنّ الفتق ليس عبارة عن العمل الذي أوجده الخيّاط من دون أمر، بل هو تصرّف جديد يحتاج إلى الإذن، فهو حينئذٍ كما لو نقل ملك الغير من موضع إلى آخر عدواناً و بدون الإذن، فإنّه حينئذٍ يحتاج جواز نقله إلى الموضع الأوّل إلى إذن المالك، لأنّه تصرّف جديد في مال الغير.

نعم، لو كانت الخيوط للخيّاط يجوز الفتق و أخذها لقاعدة السلطنة، و ثبوت عدوانه بمقتضى حلف المالك لا يسلب احترام ماله

و لا يمنع عن جريان القاعدة. نعم، لو استلزم الأخذ نقصاً في الثوب يجب عليه الأرش كما هو ظاهر.

______________________________

(1) جواهر الكلام: 27/ 345.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.